علم الاجتماع الريفي والسوسيولوجيا القروية

علم الاجتماع الريفي والسوسيولوجيا القروية

إشكالية التنمية وأهمية الرصد المجتمعي

رامي ناصر*   

 

مقدمة

يعتبر هوغ لامارش : ” أن “الضيعة” القرية لم تعد ضيعة زراعية، بالنظر إلى أن الساكنة الزراعية لم تعد هي الفئة الغالبة بين القرويين” ((Lamarche, 1994؛ لكن على الرغم من أن الزراعة لم تعد تشكل المصدر الأساسي والوحيد للمعيش في القرية، لا يمكننا القول ان الحياة القروية التقليدية لم تعد موجودة.

صحيح أنه يتوجب على الباحث تركيز الاهتمام على تحولات نمط الإنتاج الزراعي التقليدي لمجتمع القرية، إلا أنه يجب تحليل ابعادها الإجتماعية والثقافية مقارنة بمدى إرتباطها بالتبدلات في المجتمع ككل؛ لأن ” ثقافة المجتمع الريفي والذي تكون القرية وحدته الاساسية، أصبحت بشكل أو بآخر تشكل جزءً من ثقافة أكبر مرتبطة بأحد التجمعات المدينية “.( Sorokin, 1980)

لقد نتج عن إرتباط القرية بالمدينة سياسياً واقتصادياً، تأثيراً متبادلاً بينهما؛ تضاعفت آلياته بفعل التثاقف المتسارع الناتج عن تزايد النزوح و/أو الهجرة  من القرية الى المدينة، وعدم فقدان الصلة بين  القرويين النازحين و/او المهاجرين مع القرية، بالنظر الى توفر سهولة المواصلات، ووسائل الاتصال والتواصل، التي شكلت أهم أسباب التحولات التي تشهدها القرية اليوم.

فإذا كان المجتمع  ينٌتج  بنفسه  وحدته وتحولاته، بحسب تعبير ميشٌالٌ فريتٌاغ[1] Michael Freitag؛ فإن اختلاف الواقع المعيشي بين مجتمع القروي وآخر، مردّه تمايز خصوصيات هذه المجتمعات، والذي ينعكس على درجة التبدل والتحول الذي يطالها. لذلك لازلنا نجد بعضها لا تزال تحتفظ بخصوصياتها الزراعية التقليدية وبناها القرابيّة العائلية المرتبطة بهذا النمط الإنتاجي، وهي القرى التي لم تتعرض كغيرها لحركات نزوح وهجرة، ولا لفعل التثاقف المعولم الداخل كل منزل دون حدود أو قيود.

 

حدود مقاربتنا البحثية

تناقش هذه الورقة البحثية أهميةٌ البحث في تحولات القرية، من خلال قراءة لأهم الإتجاهات السوسيولوجية التي درست المجتمعات القروية. فإذا كانت بعض المجتمعات القروية لا تزال تحافظ على أنماط بناها التقليدية رغم التحولات المتسارعة التي تطالها، كيف يمكننا دراسة تلك المتحولة منها؟

هل ستؤدي التغييرات والتحولات التي يشهدها الريف عامة والقرية خاصة، إلى إعادة رسم ميدان تخصص كل من علمي الاجتماع الريفي والقروي(السوسيولوجيا القروية) ؟

هل تفتح إعادة النظر في آليات ومنهجيات مقاربة وتحليل الميدان، مجالاً لمستويات مختلفة من الملاحظة تساهم في التكامل المعرفي مع العلوم الأخرى؟

نطمح من خلال الاجابة على هذه الأسئلة، إلى تقديم طرحاً نقدياً، يشكل  جزءً من المقدمات الساعية نحو تكوين الأسس المعرفية للباحثين في المجتمعات القروية.

سنقسم الاجابة على أسئلة هذه الورقة البحثية إلى ثلاثة محاور :

المحور الأول : مدخل معرفي إبستيمولوجي نسلط فيه الضوء على مفهومي الريف والقرية، وماهية علمي إجتماع الريف والقرية (السوسيولوجيا القروية)، وما الذي نبتغيه  فعلا من هذه المعرفة التي تعلن الإنتماء المجالي لكل ما هو ريفي وقروي.

المحور الثاني : نتطرق فيه إلى أهمية دراسة القرية، وأهم المناهج التي إعتمدها الباحثون في دراستها.

المحور الثالث : نعرض فيه أشكالية التنمية وأهمية الرصد المجتمعي المستمر، بإعتباره  اساساً حيوٌياٌ من اجل فهم التحولات، وبناء سياٌسات تنمويةٌ  مستدامة،  تحافظ على الخصوصيات الثقافية التي تتفرد بها كل قرية.

المحور الأول (مدخل معرفي)

تشكل القراءة الإبستيمولوجية/المعرفية لعلم الإجتماع الريفي، وعلم الاجتماع القروي(السوسيولوجيا القروية)، ولمفهومي الريف والقرية بإعتبارهما ميداني النشاط البحثي لهذين العلمين، المدخل الطبيعي الذي يؤسس للإجابة على الأسئلة المطروحة في هذه الورقة، ويساهم في فهمنا وتحديدنا لمهامهما الحالية ورهاناتهما المستقبلية.

  • الريف والقرية.

أشار الدكتور ياسر محجوب إلى إختلاف مصطلحي الريف والقرية، فالريف كمصطلح يشار به غالباً إلى نمط المعيش التقليدي المعتمد على الزراعة، والذي تشكل القرية  جزءً منه، على إمتداد جغرافي محدد له إسم معين، تستقر عليه مجموعة من الناس( محجوب، 1999).

 

1-1 الريف

اختلف علماء الاجتماع فيما يتعلق بتحديد مفهوم واحد متعارف عليه للريف، ويرجع ذلك إلى اختلاف الخصائص البيئية والديمغرافية والاقتصادية في كل دولة. ” فالريف كمصطلح لغوي، يُطلَق على أرض فيها زرعٌ وخِصَب، أو على ما عدا المدن من القرى والكفور، ويعني أيضاً السعة في المأكل والمشرب (معجم المعاني/ معجم لغوي عربي-عربي).

أما في إعلان توصيات اجتماع منظمة الأسكوا الذي عقد في القاهرة في مايو 2006، فقد اتفقت الدول على مجموعة من المعايير الأساسية لتمييزه وأهمها:

  • التقسيم الإداري.
  • الكثافة السكانية.
  • النشاط الاقتصادي الممارَس.
  • مدى تجانس السكان وتباينهم.

تعطي هذه المعايير أهمية خاصة، لنوع وخواص العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع والقائمة بين أفراده.  فالمنطقة الريفية هي تلك المنطقة التي يعرف الكثير من أفرادها بعضهم بعضاً معرفة شخصية، والتي تسود بها العلاقات الإنسانية القوية، والتي تتصف بوجود ضبط اجتماعي يتمثل في التقاليد والعادات والأعراف السائدة. (توصيات مؤتمر الاسكوا، أيار 2006)

1-2 القرية

ما المعنى الذي تحيل عليه القرية، والمجتمع القروي؟ هل نعرفها إستناداً للمنهج الإحصائي الكمي، بإعتبارها المجال التي يقل فيه مجموع السكان عن 2500 نسمة؟ أم نعتمد التعريــف المهني  والذي يميز المدينة عن القرية،  بأنها تضم ما يفوق  5000 وظيفة غير زراعية؟ أم نأخذ بالتعريف الإداري القائم على التقسيمات المجالية التي يقترحها علينا مهندسو التنظيم المدني؟

تعرف القرية من وجهة النظر الاجتماعية بأنها تجمعاً سكانياً في منطقة جغرافية محددة، حيث يقيم السكان في مساكن متجاورة وتربطهم ببعض علاقات اجتماعية قوية، ويعمل نسبة كبيرة منهم بالزراعة. ويعرّفها الدكتور شاكر مصطفى سليم، بأنها “مجموعة من المساكن تكوّن وحدة محلية صغيرة، تشكل إقليماً محدداً في الريف، كما قد تعتمد في حياتها على المزارع المحيطة بها، وهي في الأغلب صغيرة المساحة، بحيث يعرف سكانها كافة بعضهم بعضاً معرفة شخصية، وتشكل أساس المجتمع الريفي، ويكون سكانها في أغلب الحالات وحدة اقتصادية لاشتراكهم في حيازة الأرض والانتفاع بها. (سليم،1981).

أما المجتمع القروي فيعتبره ديفيد ميرسر”  Mercer”  جزءً من مجتمع الريف الأوسع والاكبر، ويعرّفه بأنه “جمعٌ أو حشدٌ من الناس يتعارفون وظيفياً، ويعيشون في منطقة جغرافية محددة في زمن معيّن، ويشاركون أنماطاً ثقافية عامة. إنه بناء اجتماعي خاص، يبدي فيه الناس وعياً وإدراكاً كاملين بوحدتهم وتميّزهم بسمات منفردة كجماعات مستقلة، يتفاعل أفراده من خلال التمسك بقواعد السلوك والقيم والأنظمة التقليدية في المؤسسات الاجتماعية” (أنصاري، 1997).

المجتمع القروي إذاً، يشكل مجموع من الأفراد الذين تؤلف بينهم روابط واحدة تثبتها الأوضاع والمؤسسات الاجتماعية، إنه وفقا لهذا الفهم عبارة شبكة من العلاقات الاجتماعية بين الفاعلين الاجتماعيين. ويوظف هذا المصطلح غالباً، كمجال جغرافي تعتمل في رحابه علاقات اجتماعية، في مقابل المجتمع المديني”( العطري، 2006).

 

  • علم إجتماع الريف وعلم إجتماع القروي (السوسيولوجيا القروية)

ماذا نعني بعلم الاجتماع الريفي وعلم الاجتماع القروي (السوسيولوجيا القروية) وما الفرق بينهما؟ ما هي حدودهما وامتداداتهما المعرفية وميدان إنشغالهما؟ وماهي تقاطعاتهما مع الفروع السوسيولوجية الأخرى ومع العلوم الأخرى من خارجها؟

2-1 علم إجتماع الريف

علم الاجتماع الريفي (Rural Sociology)، هو أحد الفروع التطبيقية لعلم الاجتماع، نشأ بداعي الحاجة العملية إليه في الولايات المتحدة الأمريكية. ففي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين،  واجهت أمريكا مشاكل كبيرة في ريفها المتنامي، لم تستطع السياسات والتنظيمات الإدارية القائمة آنذاك فهم أسبابها وإيجاد حلول لها (Nelson,1969).

يهتمُ هذا العلم بدراسةِ العوامل التي تؤدي إلى تطوّرِ المجتمعات الريفية، ويسعى لمتابعةِ التحوّلات التي ظهرت في مجتمع الريف. مناهجه وتقنياته ساعدت في تمكين الباحثين من إدراكِ طبيعة البناء الاجتماعيّ لسكانه، وما تربطهم من صلات فيما بينهم وتلك التي تربطهم مع غيرهم من السكان غير الريفيين. (Ibid)

جذب هذا النوعُ من العلوم المهتمين بدراسةِ الحياة الريفية، إذ تعودُ أولى دراسات الباحثين في علم الاجتماع الريفي إلى القرن التاسع عشر الميلادي، حيث قدّم مجموعةٌ من علماء الاجتماع مثل: ألوفشن، ومورير، ووالتون، وغيرهم ملاحظاتهم الأولى حول أصولِ المجتمعات الريفية، والتأثيرات الحضاريّة الصناعيّة، والاقتصاديّة التي أثّرت على الحياة الاجتماعية لسُكانِ الريف. ( Galo, 2008).

ويعتبر كتاب “علم الاجتماع الريفي”، لعالم الاجتماع جون جيلتي John Gillitte (نشر في عام 1916م)، أول كتابٍ مُخصص لدراسةِ حياة سكان الأرياف، والتغيّرات التي طرأت على المجتمعات في الريف، والمشكلات التي تواجه سكانه، وتم اعتماده كمرجعٍ لتدريس علم الاجتماع الريفي في العديدِ من المعاهد، والجامعات(Buttel,. 1997).

بدأ هذا الفرع من علم الاجتماع بالتطور، ليصبح منذ العام 1935 من فروع العلوم الإنسانية المُهمّة. فقد صدرت مجلةٌ خاصةٌ بمواضيعه، كما انشئت جمعيةٍ للمحافظة على الوثائق، والدراسات الخاصة في ميدانه. كما إعتبرته العديدُ من المنظمات العالميّة، كمنظمة اليونسكو العالميّة للتراث[2]، بصفته أحد أنواع العلوم المُهمّة، والمُؤثّرة، في دراسة الخصائص الثقافية، التي يتفرد بها كل مجتمع ريفي عن غيره من المجتمعات الأخرى.

2-2 علم الاجتماع القروي(السوسيولوجيا القروية)

إن علم الاجتماع القروي(السوسيولوجيا القروية) هو قبل كل شيء فرع من فروع علم الاجتماع (السوسيولوجيا)، لذلك فإنه يندرج في التطورات العامة لمواضيع ومناهج ونظريات هذا العلم. سواء كان دوركايمياً وظيفياً، أو ثقافوياً ماركسياً، أم بنيوياً ماكس فيبرياً. هذا يعني أنه لا توجد مدرسة واحدة لعلم الاجتماع القروي، إنما توجد تحليلات ذات نفحات نظرية متنوعة تقترح طرقاً مختلفة لإدماج الأبعاد السوسيولوجية للعالم القروي والنشاط الفلاحي الزراعي (العطري، م. س).

أما البداية العلمية لظهور السوسيولوجيا القروية كفرع تخصصي ضمن خارطة السوسيولوجيا العامة، فتعود إلى منتصف القرن الماضي، بعيد الحرب العالمية الثانية. فبعد الحرب العالمية الثانية صارت الحاجة أكثر إلحاحاً إلى فروع سوسيولوجية تخصصية تفيد في فهم وتحليل أسئلة “الاجتماعي”; ففي ظل الأزمة المجتمعية بدأت مفاهيم عديدة من قبيل العالم القروي ((le monde Rural والوسط القروي(le milieu Rural) والمجتمعات أو الجماعات القروية les communautés et les sociétés Rurales)) تستحــوذ على جــانب مـــهم من الـــنقاش الــسـياسـي والاجتماعي الدائر آنئذ. (Gurvith, 1974).

وفي إطار مسعى البحث عن البدايات التأسيسية لهذا العلم، قام مارسيل جوليفي (Marcel Jollivet) برصد كرونولوجي لمساهمات الرواد الأولية في هذا الميدان، واهتدى من خلاله إلى أن الأثر الأول في الدرس السوسيولوجي القروي في فرنسا، يعود إلى جان ستوتزل(Jean Stœtzel) الذي كان يدرس هذه المادة بمعهد الدراسات السياسية بباريس خلال سنتي 1948و 1949  (Jollivet, 1997)

أما فيليب لو كابان وجان فرانسوا دورتييه (Philippe le Cabin et Jean Francois Dortier) ، فيعتبران أن المؤسس الفعلي للسوسيولوجيا القروية هو هنري  مندراس Henri Mendras، وذلك كونه من أوائل الباحثين الذين كرسوا جهودهم المعرفية للشأن القروي. فقد حاول منذ البدء أن يقدم نموذجاً نظرياً لتحليل المجتمعات الفلاحية، مستلهماً نتائج الأنثروبولوجيا الأمريكية التي انشغلت بالجماعات الريفية منذ عشرينيات القرن الماضي .(Le Cabin et Dortier , 2000)

2-2 فيما يفيد علمي الاجتماع الريفي والقروي(السوسيولوجيا القروية)؟  

لما كانت الأزمة المجتمعية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، هي التي حتمت ظهور السوسيولوجيا القروية، فإن ذات الأزمة مضافاً إليها الحس المشترك حول القرية والقروي (le Rural)، دعت علماء الاجتماع للإشتغال على القرية أملا في تطوير قدرات التغيير في هذا المجتمع. وترجم هذا الاشتغال عبر مسارين أساسيين تمثلا في السوسيولوجيا الأمريكية التي سارت في الاتجاه الأمبريقي، والسوسيولوجيا الفرنسية التي اختارت درب المونوغرافيات.

لقد حسم هذان الاتجاهان لحظة التأسيس العلمي للسوسيولوجيا القروية، هذا مع التأكيد على أن كلا الاتجاهين لم ينقطعا عن استثمار خلاصات علوم أخرى كالجغرافيا  والأنثروبولوجيا بدرجة أولى.  وقد إعتبر بعض العلماء أن السوسيولوجيا القروية تعود في نشأتها، إلى السوسيولوجيا الفرنسية،  والأنثروبولوجيا الأمريكية، أي نتيجة لتشبيك أو إندماج بينهما (Lagrave, 1991)

هذه التقاطعات فيما بينهما وبين العلوم الاخرى، دفعت عالم الاجتماع ستيفين ساندرسون Stephen K. Sanderson  إلى التأكيد، على أن علم الاجتماع الريفي هو علم الحياة في البيئة الريفية ويتضمن ذلك وصفا دقيقا للتجمعات البشرية و العلاقات المختلفة القائمة بينها، والعوامل المؤثرة فيها.( Sanderson , 2012).

يؤكد لنا هذا العرض على أن دوائر الانشغال العلمي للعلم اجتماع الريف لا يمكن حصرها في مجال القرية، ولا في موضوع الإنسان القروي وحده، فهو يطال في ميدان اشتغاله، دراسة المجتمعات الريفية التقليدية في كليتها، ويهدف إلى مستوى عال من الفهم والتفهم للوسط الريف الذي تشكل القرية نواته الصغيرة. وهذا ما يعني بالضرورة علائق التشبيك  والتداخل التي تؤسس لهذا العلم.

أما السوسيولوجيا القروية فتضع ضمن استراتيجياتها العلمية مطمحا تخصصياً هو دراسة المجتمع القروي، تعلن من خلاله عن حدودها وامتداداتها.

في هذا الصدد يشير ميشيل روبير(Michel Robert) إلى أن السوسيولوجيا القروية تعرف بالنسبة إلى حقل اشتغالها(القرية) الذي يمنحها تعريفها(السوسيولوجيا القروية)،  ويكشف عن توجهاتها وطموحاتها العلمية. (Robert, 1986)

ولما كان المجتمع عموما يشير في مبناه ومعناه إلى مجموعة من العلاقات والمؤسسات والأدوار والظواهر، فإن السوسيولوجيا القروية ومن منطلق انشغالها المعرفي، تجد ذاتها مدعوة إلى الاشتغال على ملاحقة تركيبة بناه، تفاصيل وتفاعلات الأبعاد العلائقية والمؤسسية والمجتمعية التي تعتمل في رحاب القرية.

إنها تقترح نفســها، من خلال ملاحظتها وتحليلها تبلور أنماط العيش والنظم الاجتماعية والعلاقات المجتمعية في القرية،  كمشروع معرفي لتحليل وفهم مشاكل هذا الوسط بإعتباره  جزء من مجتمع ريفي أكبر وأعم.

  • مجال ترابطهما

لما كانت القرية هي وحدة المجتمع الريفي،  نفهم منشأ الارتباط بين مواضيع ووجهة تحليل كل من علم الاجتماع الريفي وعلم الاجتماع القروي(السوسيلوجيا القروية). والتي يمكننا تلخيصهما بخمسة أسئلة رئيسية هي :

السؤال الأول :  يتعلق بالعلاقات والتعارض أو التوافق بين المدن وقرى الريف، في إطار التكيف مع التغيّرات الضرورية بالنسبة للمدينة، أو حضارة الغزو المديني كما يعرفها  Ferdinand Braudel فرديناند بروديل (Braudel, 1986).

السؤال الثاني :  يطال تحولات الزراعة والضيعات الزراعية وعمل المزارع، والعلاقة الوطيدة بين الضيعة والأسرة، كون الزراعة شغلت مكانة مركزية في الحياة الاجتماعية (Mendras , 1968) .

السؤال الثالث : يناقس مسألة مكانة الفلاحين ثم المزارعين المالكين (Ibid) .

السؤال الرابع : يتعلق بالتنمية المحلية وسياسات إعداد المجال القروي. (Mathieu et jolliviet, 1989)

السؤال الخامس : يهتم بالبيئة الريفية والقروية والعلاقة المتشكلة معها (Ibid).

من خلال هذه المحاور الخمسة يسعى القروانيون[3] إلى التكامل المعرفي[4] في مقاربة الميدان، من خلال إدماج  الأبعاد الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية للحياة القروية.

يحيلنا هذا المدخل الابستيمولوجي إلى القول بأن علم إجتماع الريف هو ماكرو سوسيولوجيا، لأنه يطال الريف بكليته ومجموع القرى التي يتشكل منها، أما علم اجتماع القروي (السوسيولوجيا القروية) فهو ميكرو سوسيولوجيا، كونه يتتطرق بالدراسة إلى كل قرية على حدى في خصوصيات تشكلاتها.

2-4 تقاطعاتهما وتكاملهما مع الانثروبولوجيا والعلوم الاخرى

يتقاطع علمي اجتماع الريف والقرية(السوسيولوجيا القروية) مع كـــثير من المعارف كالجـــغـــرافيا، والاقـــتصــاد، والتاريخ، والأثنوجرافيا، والأنثروبولوجيا.

2-4-1 تقاطعهما مع الانثروبولوجيا

تهدف الانثروبولوجيا في دراستها للمجتمعات القروية، إلى الإحاطة بكل نواحي الحياة الاجتماعية، والثقافية فيها، بإعتبار كل جزء يدخل في علاقة تساندية (وظيفية) مع الاجزاء الاخرى. لذلك فإن دراسة بعض الاجزاء منفصلة عن المجموع، لن يؤدي الى فهمها خصوصاً في مجتمعات صغيرة ذات ثقافة محددة. (غيث 1968،1984)

لقد مثلت دراسة القرية اتجاهاً جديداً في الانثروبولوجية الاجتماعية، منذ بدأ الانثروبولوجيون يدرسون مجتمعاتهم الصغيرة على انها اجزاء من كل. من هنا مبدأ حرص الباحثين في الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، على ادراك المجتمع المدروس في ضوء العلاقات التي ينسجها القرويون مع كثير من مراكز القوة التي تقع خارجها .( Sahlins, 1987)

نلاحظ أن اعتماد دراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية ودراسات علمي الاجتماع الريفي والقروي(السوسيولوجيا القروية)، على نفس تقنيات جمع المعطيات من الميدان(كالإحصاءات والوثائق والمقابلة، وجداول الحصر وغيرها)، حصر الاختلاف بينها في طريقة ووجهة قراءة وتحليل هذه المعطيات.

2-4-2 تقاطعهما مع العلوم الاخرى
تتبدى لنا أهمية التكامل المعرفي الذي يجب أن يتوافق مع مستويات مختلفة من الملاحظة تحتمها ضرورة الانفتاح على العلوم الاخرى، لأن الحدود المعرفية للسوسيولوجيا وحدها غير قادرة على الإجابة عن مختلف أسئلة و إشكاليات المطروحة.( (Jollivet,1997

يهتم التاريخ الاجتماعي حسب رأي هنري مندراس Henri Menderas، بالماضي الذي كانت الفلاحة/الزراعة تشكل نشاط أكبر عدد من الناس، إذ يولي أهمية كبيرة لوصف الحياة الفلاحية (vie Paysanne). وتتركز مهمته على دراسة التغير الاجتماعي الذي ينقل المجتمعات القروية من حالتها كمجتمعات ذات استقلالية خاصة، إلى مجتمعات مندمجة اندماجا كلياً في المجتمع الكلي; وذلك من خلال دراسة تحول الفلاحين Paysans إلى مزارعين Agriculteurs الذين أصبحوا مجموعة مهنية يشكلون قطاعاً اقتصادياً وطبقة اجتماعية. (Menderas,1995). ويلاحظ الباحث المتابع لدراسات مندراس أن اعتماده على تقنيات ومناهج العلوم الأخرى كالتاريخ والاقتصاد والسياسة وغيرها، ساعده في تحليل وفهم أشمل وأعمق لتفاصيل المشهد القروي.

 

المحور الثاني

  • هل يمكن الحديث عن نموذج قروي واحد؟

على مشارف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تسجل كلمة “قرية” كمقولة ثقافية/ رمزية عودة قوية، مازال معناها لم يتحرر من مضمونه الزراعي التقليدي، فهل يؤدي تشابه نمط الانتاج، إلى نموذج قروي واحد؟

إن  التشابه في الحياة الاقتصادية بين القرى، بالنظر للاشتغال بالزراعة وقيام العائلة كوحدة اساسية في تنظيم المجتمع الزراعي التقليدي، هو اساس التشابه في بعض النواحي الاجتماعية والثقافية للقرويين، رغم وجود الاختلافات بينهم.

يخلص محمد عاطف غيث أن أهم الخصائص المتشابهة بين القرى هي : ” الارتباط بالأرض، وغلبة العائلة الممتدة على العائلة النواتية، والزواج القرابي، وأفضلية علاقة القرابة من خلال سلسلة الأب(رابطة الدم) على تلك التي تنشأ من سلسلة الام(رابطة النسب) ، والتقسيم العائلي الممتد للأحياء وتوزع السكان فيها، والمحافظة على التقاليد المحلية”. (غيث، م. س)

لكن تقارب هذه الخصائص بين القرى، لم يلغ واقع تمايز كل قرية عن غيرها، والذي يصبح أكثر وضوحاً عند مقاربتنا للهوية الثقافية القروية، التي تمكننا من تحديد ما يسٌمى بالمجال الثقافي القروي، وفهم  إختلاف واقع تحولاتها الدينٌاميةٌ، كونها ترتبط بكافة اشكال العلاقات التفاعليةٌ الداخلية منها والخارجية.

 

  •  أهمية دراسة الريف والقرية

ما سبب تزايد الاهتمام البحثي  بدراسة الريف بشكل عام والقرية بشكل خاص؟

تبرز أهمية فهم الأنا المتغيرة كمقدمة لفهم الآخر المختلف، من خلال الإنتقال من الميكرو(الدراسات الإفرادية للتحولات في القرى) إلى الماكرو(دراسة التحولات الريفية بشكل عام) وبالعكس، فاختلاف تأثير عوامل التغير يصبح أكثر وضوحاً، عندما ننتقل في قراءتنا البحثية بين هذين المستويين. ويتيح لنا رصد التحولات تعاقبياً ومجالياً، فهم ظروف هذا الاختلاف ووعي أسبابها المتعددة، لا سيما وأننا نتحدث عن مجتمعات متقاربة في نمط تكوينها البنيوي المعيشي والإنتاجي.

هذا الانتقال في قراءة التحولات، يساهم في وعي اكبر لحقيقٌة  تحولات قرانا، والتي تبرز في وواقع التحولات الاقتصاديةٌ، وتشكل النظام الأسري والقرابي وتغيرٌاته، إلى حد بات كل قرية  تجسد اجتماع ثقافي يعكس ما تشهده من تغير على المستوى المادي وغير المادي، من خلال مدى الحراك المجتمعي، ومدى تأثير فعل التثاقف مع  المجتمع المديني.

  • المنهج البنيوي – الوظيفي ونظرية الميدان

تتعدد الآراء والمناهج التي إعتمدها الباحثون في دراساتهم للمجتمعات الريفية والقروية. سنتطرق في هذه الورقة إلى الاتجاه البنيوي الوظيفي ونظرية الميدان لبيار بورديو.

3-1 الاتجاه البنيوي – الوظيفي

تبنى هذا الاتجاه او هذا المنهج المعرفي العديد من علماء الاجتماع، اهمهم كارل ماركس، وماكس فيبر، وإيميل دوركايم، الذين نظروا إلى المجتمع الريفي عامة والقروي خاصة بإعتبارهما مجموعة من البنى (اقتصادية، واجتماعية، وثقافية) تترابط فيما بينها ويلعب كل منها دور ووظيفة؛ بالتالي فإن أي تغير يطال أحدى هذه البنى، سيؤدي بدوره إلى تغير في البنى الاخرى، على حسب مستوى ودرجة الارتباط فيما بينها.

فعلى سبيل المثال إعتبر كارل ماركس أن البنية الاقتصادية هي الاكثر تأثيراً في البنى الاخرى، لذلك بنى نظريته على أن تحولات البنية الاقتصادية للمجتمع هي محرك التغير المؤثر بالدرجة الاولى.

3-2 نظرية الميدان

تأثر بيار بورديو في تكوينه  الإبستيمولوجي النظري بمن سبقه، لكنه على الرغم من تبنيه الاتجاه البنيوي، إلا أنه يقر في ما أسماه “نظرية الميدان” بأهمية دور الفرد بصفته فاعلاً اجتماعياً في إعادة تأكيد النظم الثقافية الرمزية، من خلال إعادة إنتاج البنى الاجتماعية التقليدية نفسها، التي يرى على عكس من سبقه، أنها لا تقوم وفقاً لأسس المنطق البنيوي – الوظيفي.

  • الدراسات المقارنة للنماذج الممثلة والنموذج المونوغرافي 

يحتاج تفسير الارتباط بينٌ الميكٌرو والماكرو إلى الكثيرٌ من الدراسات الافقيةٌ المقارنة للقرى، والمرتبطة بزمان ومكان محددين.

4-1 الدراسات المقارنة للنماذج الممثلة

يشير أوسكار هاندلن  Oscar Handlinفي كتابه the uprooted،  أن غالبية الباحثين الذين أولوا اهتماهم لدراسة الحياة القروية، اتفقوا، أن دراسة القرى في كل انحاء العالم امراً صعب بل يستحيل تحقيقه، لذلك اعتبروا أن افضل طريقة لدراسة المجتمعات القروية، هي طريقة النماذج الممثلة.

أما سبب وجود عدة نماذج من المجتمعات القروية، فيرجع للاختلاف فيما بينها، على أساس واحد أو أكثر من المقاييس التالية:

  1. خصوبة الأرض الزراعية : تؤثر خصوبة الأراضي على أصناف ونوعية المزروعات، وإنتاجية الأرض ومردوديتها، وبالتالي على مدى إمكانية الاعتماد عليها كمصدر أساسي لتأمين احتياجات العيش.
  2. توزيع الملكية : تلعب العلاقة بين كبر مساحة الارض وكمية الانتاج، دوراً محورياً في استمرارية نمط الانتاج الزراعي. فالحيازات الكبيرة ذات المردودية المرتفعة تعطي مالكيها إمكانية أكبر، تسمح لهم بالاعتماد على ريعها الزراعي، على عكس صغار الملاك منهم. أما فعل التوريث، فهو يؤدي إلى تفكك الملكيات وتجزؤها، وبالتالي إلى تجزء وتوزع  ريعها الانتاجي.
  3. تزايد عدد السكان : يؤدي تزايد عدد السكان إلى تزايد الاعتماد على الارض وإنتاجها، فتقل حصة الافراد، وبالتالي إلى عدم كفاية إنتاج الأرض كمصدر أساسي لتأمين معيشهم.
  4. العائلة باعتبارها اساس التنظيم القروي : تتميز القرى بوجود نموذجين من العائلات المؤثرة. النموذج الأول : العائلات التي تمتد بأجبابها وفروعها وتمتلك القسم الأكبر من الأراضي الزراعية، ولاتزال بغالبيتها تحافظ على وحدة الملكية والاستفادة المشتركة منها، وبالتالي حافظت الى حد كبير على النموذج العائلة الممتدة التقليدية. أما النموذج الثاني : فيتمثل في نموذج العائلة النواتية الحديثة البرجوازية غير المالكة، أو ذات الملكيات الصغيرة التي تهتم بريع الارض العقاري، وتعتمد في تأثيرها على رأسمالها النقدي.
  5. القرب من المدينة وسهولة المواصلات : يساهم قرب القرية من المدينة وتوفر طرق المواصلات اليها، في زيادة مستوى التثاقف بينهما; لذلك يعتبر اختلاف مداه ووجهته، من أهم العوامل التي تؤدي الى وجود عدة نماذج من المجتمعات القروية.( Handlin, 1988)

4-2 الاتجاه المونوغرافي الوصفي

تميز علم اجتماع القروي الفرنسي بهيمنة الدراسات المونوغرافية عليه، واشهر من استخدم هذا المنهج هو عالم الاجتماع هنري مندراس.

يمكننا تصنيف ثلاث اتجاهات أو وجهات نظر، لهذا المنهج الذي يعرف أيضاً بالدراسة الوصفية للحالة ذات الطابع الاثنوجرافي.

 

3-2-1 وجهة النظر الأولى أو الاتجاه الأول (الاتجاه المتحفي او الساكن للفونوغرافيا) :

يستند هذا الاتجاه من المونوغرافيات على جمع المعطيات المرتبطة بميدان أو موضوع الدراسة، وتقسيمها إلى خانات وفصول مختلفة; إذ يتميز هذا النوع  بأنه يضم نفس تقسيمات الفصول، التي تتضمن المواد المختلفة المجموعة من ميدان الدراسة. لكن هذا الاتجاه يقف على عتبة الجمع، دون التطرق إلى الواقع الاجتماعي بالتحليل المنهجي.

3-2-2 وجهة النظر الثانية أو الاتجاه الثاني (الاتجاه الظاهرتي/الفينومينولوجي) :

يركز هذا الاتجاه على الخبرات والتجارب المعاشة للأفراد والجماعات، ويحاول أن يستخلص نمط العيش الخاص بها ووجهات النظر تجاهه. وفق هذا الاتجاه يعيش الباحث كفرد في المجتمع او مع المجموعة موضوع الدراسة، إذ يرمي من خلال مشاركتهم تجاربهم ومعيشهم اليومي والعلاقات المنسوجة معهم، فهم دلالات تصرفاتهم وفك رموزها.

  • نموذج مندراس

حاول  هنري مندراس صياغة نموذج  تحليلي إجرائي للدراسة المقارنة للتغير في المجتمعات الريفية، وذلك من خلال تقسيم بناها إلى سبعة أنظمة[5]،  يضاف اليها نظام أعلى هو بمثابة التركيب أو التوليف لها.

يسمح هذا النموذج  بتجاوز مرحلة الوصف للوصول التي مرحلة التحليل العلمي للتحولات.  وقسم الأنظمة السبع على الشكل التالي :

 

1.3.3 النظام الأول : النظام الديمغرافي (السكاني) :  Le Systeme Demographique

يمكن تعريف هذا النظام من خلال مجموعة من الطرائق(مؤشرات (Indicateurs ، التي ترتبط فيما بينها بعلاقات محددة. فتوزع السكان بحسب الجنس (النوع)، والعمر، كذلك إختلاف معدل الولادات والوفيات والزيجات، تشكل كلها نظاماً تكون عناصره متضامنة وذات تأثير علائقي مع بعضها البعض.

2.3.3 النظام الثاني : نظام القرابة Le Systeme de Parente

يتشكل نظام القرابة من علاقات النسب (القائمة على رابطة الدم والإنجاب)، والمصاهرة(القائمة على رابطة الزواج). كما يحلل مدى ضيق أو أتساع دائرتها(زواج من داخل الجب، من العائلة الممتدة، من عائلات أخرى من خارج القرية، من مذاهب أخرى في نفس الطائفة، من طوائف أخرى،….).

3.3.3 النظام الثالث : النظام الأسري Le systeme de groupe domestique

تعتبر  الأسرة كمجموعة من الأدوار والعلاقات بين هذه الأدوار(العلاقة بين الأهل والأبناء، العلاقة بين الزوجين، العلاقة بين الأولاد.

4.3.3 النظام الرابع : النظام الاقتصادي le systeme Economique

يقسم هذا النظام إلى نظام فرعيين((deux sous systemes الأول يتعلق بالانتاج الزراعي، والثاني بالانتاج غير الزراعي، وتعتبر درجة ارتباط أو استقلالية كل من النظامين الفرعيين مقياساً مهماً في التحليل.

4.3.3 النظام الخامس : نظام الحياة اليومية Le systeme de la vie quotidienne

يسميه ” مندراس” أيضاً نظام المعيشة والحضارة، وهو يشتمل على مختلف طرق الغذاء (الأكل) واللباس (الملبس)، والسكن وقواعد اللياقة والتهذيب والأعياد والفولكلور وغير ذلك.

 

 

5.3.3 النظام السادس : النظام الإيديولوجي Le systeme Idiologique

يشتمل هذا النظام على الأدوات الذهنية للسكان القرويين، وتصوراتهم عن العالم كذلك من نظام قيمهم. فقد يسيطر في بعض الحالات نظام إيديولوجي واحد في القرية، وفي الحالات الأخرى قد نلاحظ وجود عدة أنظمة إيديولوجية، تكون في حالة صراع فيما بينها.

6.3.3 النظام السابع : نظام المؤسسات والمنظمات Le systeme des organisations ou des institutions

يتألف النظام السابع لنموذج ” مندراس” التحليلي، من مجموع الجماعات، والشرائح، والمنظمات، أي كل ما هو منظم إلى حد ما ويضم الأفراد وتحدده بشكل أساسي الأنظمة الأخرى. فنظام القرابة، والحياة اليومية، والنظام الأسري والإيديولوجي، تقدم العديد من المعايير التي تحدد سلوك الجماعات والوحدات الاجتماعية المنظمة، ودرجة تنظيمها.

7.3.3 النظام الأعلى : نظام السلطة Le systeme de pouvoir

يتوج نظام الأعلى الأنظمة الأخرى كلها، لأنه عبارة عن إعادة تركيب أو توليف للأنظمة السبعة والسابقة. إنه يمثل نظام السلطة، التي تتيح بشكل أفضل من غيرها إعادة ربط مختلف جوانب المجتمع.

إن وجود المجتمع المحلي، يرتبط بقدر ما يملكه من قدرة وآليات تمكنه من إتخاذ القرارات الخاصة به، وذلك من خلال الهيئات الاجتماعية والمدنية المتخصصة مثل البلدية، مجلس الأعيان أو كبار السن، الخ….). ( ترجمة علي الموسوي،1970).

من خلال هذا العرض يمكننا القول، بأن الدراسات المقارنة للنماذج الممثلة تتكامل مع الدراسات الفونوغرافية وغيرها من الدراسات. فإذا أردنا المقارنة بين النماذج المختلفة للقرى، لفهم عمق التحولات التي تطالها، لا بد لنا أن ندرس خصائص كل قرية على حدى أولاً. لأن التحولات التي يشهدها الريف بمجموع قراه، والتي تطال بناها المجتمعية كافة، تختلف حتى بين القرى المتقاربة مجالياً، ومورفولوجياً، وإنتاجياً، بتأثير جملة عوامل داخلية وأخرى خارجية.

المحور الثالث :

  • إشكالية العلاقة بين التنمية المستدامة والدور الراهن للسوسيولوجيا القروية

تعودنا  في الكثير من النقاشات الاكاديمية والمؤتمرات وورش العمل ذات الطابع التنموي والانمائي،  أن يصنف الباحثون تحولات المجالينٌ الريفٌي والمدينٌي، تحت عنوانين رئيسين هما “تريفٌ المدينٌة”  وتمدين الريفٌ”.

  • ثنائيةٌ القرية – المدينٌة من العلاقة التكامليةٌ إلى العلاقة المأزومة

اعتبر القروي ابن المدينة هو من المخلوقات التي تتعب بسرعة، ولا تتحمل جهد العمل في الارض. الزراعة بالنسبة له كانت من أشرف الاعمال، لذلك خلا قاموس معيشه اليومي من بهرجة ورفاهية العيش المديني. بالمقابل نجد نظرة ابن المدينة إلى القروي دونية، وإلى العمل الزراعي في الأرض، بإعتباره مرادفاُ للكرحته والعمل الشاق “من الفجر للنجر”[6]. مع ذلك نشأت بينهما علاقة تبادلية تكاملية، فالريفٌ بمجموع قراه شكل الرافد الاكبر الذي يؤمن إحتياجات المدينة من الغذاء، التي بدورها لعبت الدور التجاري، الصناعي،ً والخدماتي الذي يحتاجه هذا الريف.

لكن في ظل تزايد إعتماد القرية على المدينة وتزايد الانفتاح عليها، ما هي أسباب هذا الواقع المأزوم بينهما؟

لا شك أن هذا الواقع هو نتاج تداخل  جملة من الأسباب والعوامل،  أبرز هذه الأسباب وأشدها تأثيراً  هي الحروب لما تسببت به من تدمير للريف، وموجات هجرة ونزوح إلى المراكز المدينية زادت من الكثافة السكانيةٌ فيها، ومن توسعها مجالياً على حساب الارياف.

إفراغ الريف من السكان وتدمير البنية التحتية، تسبب في انكماش الزراعة، وتواتر عمليات بيع الاراضي، وتعميق أزمات البطالة والفقر.

نتيجة هذا الواقع، تحولت القرى تدريجياً إلى كتل عمرانيةٌ، تعاني من التشظي المجالي، والثقافي والمعيشي/الاقتصادي، وتعاني من استلاب في الهوية.

لذلك يفرض درس الهوية نفسه، باعتباره أولى خطوات رسم أي خطة تنموية ناجحة، التي تبدأ في بناء ثقافة تنموية تعيد بناء الانسان المتثبت بأرضه والمحافظ على بيئته، وتؤسس لرؤية ترسم معالم وقواعد التنظيم المدني للدولة، وسياٌساتها العمرانيةٌ والمجاليةٌ، في إطار علاقة تشبيك وتكامل بين الريف بقراه والمدينة بضواحيها.

تحافظ هذه الخطة على الريف وقراه، بناسه وزرعه ومساحاته الخضراء، إذ توفر لأبنائه إمكانية الاستمرار والعيش فيه، دون أن تحوله إلى ضاحية ملحقة بإحدى المدن تفرغ فيه إكتظاظها السكاني، أو مجرد مجموع قرى اصطياف تضم عدداً من بيوت الضيافة، معدة بغرض الاستجمام والسياحية التجارية.

يساهم ذلك في كسر حدة المشهد المديني، الذي بات يظٌهر تناقضات كبيرٌة بينٌ حراك حضري، وآخر تقليدي أتى مع ووافدينٌ، جاؤوا طلباً للعلم و/أو العمل، حاملٌين معهم تقاليدٌهم واعرافهم وطرقهم في السكن والعيشٌ.

إن غياٌب السياٌسات التنموية والادارات الرشيدٌة، افسح المجال لتكريس وتجذير هذه الثنائيةٌ بين مشهدين، تقليدٌي في حراكه وحداثي في دينٌامية تطلعاتهـا، انعكست في صورة تكوينٌ هجيني” قرومديني”، بات وجهاً متشابهاً  في معظم قرى ريف العالم الثالث.

هذا يحيلنا إلى السؤال الرئيس لهذه الورقة، ما هو دور علم الاجتماع القروي في فهم تحولات هذا النموذج “القرومديني” الآخذ بالتشكل، الذي يتيح لنا إمكانية رسم السياسات التنموية الصحيحة، التي تسمح بإنماء متوازن يعيد العلاقة بين الريف والمدينة إلى مسارها الصحيح؟

 

  • إشكالية تنمية الريف والقرية والدور الراهن لعلم الاجتماع القروي

يتطلب تحليل سيرورة التجديد في المجتمع القروي، مع تجدد الأسئلة حول التكنولوجيات ونموذج التنمية والسياسات والبرامج الزراعية، مقاربة منهجية نقدية لأسس علم الاجتماع القروي “السوسيولوجيا القروية”، تؤسس لآلية جديدة في فهمنا للتطورات المعاصرة للزراعة والمجتمعات القروية.

ففي هجانة الفكر الذي نعيشه بين واقع بناؤه الثقافي تقليدي المكونات ومستورداته الثقافية، لا بد لنا من التساؤل عن المستقبل القرية بعد هذه التحولات التي يعيشها اليوم.

تجد السوسيولوجيا الـــقروية ذاتها في عــمقها ومشروعها المعرفي، مدعوة بل مضطرة في كثير من الأحايين إلى إستلهام مناهج التاريخ و الجغرافيا وغيرها من نتائج العلوم الأخرى التي تهتم بدراسة القرية، بما يعرف بتعدديةٌ المجالات التخصصيةٌ (interdiciplinarite).

مطلب إنتقال السوسيولوجيا القروية في قراءتها للحيزٌ القروي من منطق المنهجيةٌ  التعدديةٌ pluridisciplinarité ، إلى منطق الدراسات عبر المناهجيةٌ transdisciplinarité  يصبح أكثر إلحاحاُ يوما بعد يوم، كونه  يمٌّكننا من قراءة هذه الاخيرٌة كتشكل بنيوٌي له خصوصياٌته في دينٌاميةٌ تحولاته الماديةٌ واللاماديةٌ نتيجٌة لتفاعله وتثاقفه مع تكوينٌات مجتمعيةٌ أخرى.

لقد عرف عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل جوليفي Marcel Jollivet كثيرا بمفهوم التداخل التخصصي l’interdisciplinarité الذي كان يستعيض عنه أحيانا بالتعدد التخصصي “ pluridisciplinarité ou multidisciplinarité”، إذ كان يشير في دراساته، على أن السوسيولوجي القروي ينفرض عليه، أن يكون مؤرخا، وجغرافيا واقتصادياً، وديموغرافيا، وأثنوجرافيا وعالم نفس أيضاً، لكي يتمكن من دراسة تحليل طبيعة الميدان القروي وفهم تحولاته.(jolivet,Ibid)

بناء على ما تقدم تعيد أسئلة الوقت الراهن في مجتمعاتنا القروية المتحولة، تأكيد أهمية ووجاهة علم الاجتماع القروي(السوسيولوجيا القروية) والاشكاليات التي يجب طرحها من جديد في مجتمع يقل فيه المزارعون، ويكثر فيه الفارون من المدينة أو مأجورو المناطق القروية المصنعة التي يغلب عليها القطاع الوظيفي.

وجاهة هذا المطلب تؤكد أيضاً ضرورة إعادة صياغة الاسئلة المفاتيح التي أسست لهذا الاختصاص،  لتصبح قادرة على تدرس انتقال المجتمع المحلي الزراعي إلى مجتمع غير زراعي، أو من دون أسس زراعية.

  • أهمية رصد التحولات

لا يهدف الرصد إلى وصف تحولات التي تطال المجتمعات القروية، بل يهدف أيضاً إلى مقاربة وفهم النموذج القرومديني الجديد الآخذ بالتشكل انطلاقاً من قراءة تحولات نمط المعيش، وما أدى إليه من تغييرات ثقافية واجتماعية.

لقد فرض دخول الدول في مسار الاستراتيجيات التنموية المعولمة، ضرورة الاهتمام بتعميقٌ المعرفة العلميةٌ بكافة المؤاشرات والدلالات، خصوصاً وأن الاستراتيجٌات التنموية المحلية الناجحة، لا بد وأن تبنى على اسس قدرات المجتمع، واحتياجاته، وتطلعاته.

لذلك يفرض الرصد المجتمعي نفسه، كاحد اهم اسس بناء هذه الاستراتيجيات، لأنه يساعدنا على تكوين مخزون معرفي، مرفق بمؤشرات وآلياٌت لقياٌس التغيرٌ وفهمه. كما يمكننا من قياس واقع تأثيرٌاتها المجتمعيةٌ، لتصحيحٌ أو تعديلٌ أو متابعة مسارها الدائم والهادف من أجل تنمية متكاملة ومستدامة.

إن انتماء كثير من الباحثين إلى المجتمعات القروية يعطينا إمكانية توسيع رقعة رصد تحولاتها سينكرونيا ودياكرونياًSynchronic et Diachronic . لكن بناء الشبكات البحثية، والأكاديمية، والتواصليةٌ في مٌا بينٌهم، هي الخطوة التي  تأسس للقياٌم بالدراسات المقارنة بينٌ القرى العربيةٌ، وتسهل عمليةٌ تحليلٌ المؤشرات للوصول الى رسم دقيقٌ للمشترك بينٌ الواقع البنيوٌي للريف العربي والذي من خلاله نستطيعٌ أن نتبينٌ ملامح النموذج القروي المتحول، أو ما أسميناه بالنموذج القرومديني.

 

خاتمة

في الختام نعيد نطرح السؤال مجددا : ما هي السوسيولوجيا القروية ؟ وما هو ميدان اهتمامها المعرفي؟  وما الذي نبتغيه من هكذا تخصص سوسيولوجي؟

كان التأكيد منذ البدء على أن ما سنطرحه في هذه الورقة، هو مقدمة تمهيدية تحرض على التساؤل والتفكير النقدي.  فمع الحديث عن البدء والامتداد والانشغال المعرفي، والريف والقرية أولا والرواد بعداً، لم نكن نهفو لا إلى تقديم جواب جاهز عن ماهية السوسيولوجيا القروية،  ولا إلى أي تحديد صارم لانشغالاتها وآليات اشتغالها، بقدر سعينا إلى إضافة رؤية نقدية دينامية لهذا الفرع من السوسيولوجيا، تواكب وتيرة التحولات المتسارعة التي نشهدها اليوم في مجتمعاتنا القروية التقليدية.

لقد بيّينا من خلال المحاور الثلاث التي تطرقنا إليها في هذه الورقة، أهميةٌ السوسيولوجيا القروية   كمجال بحثي، تفرضه ضرورات وظيفٌيةٌ واقتصاديةٌ، وحاجات وتركيبٌات وخدمات مجتمعية، بعد أن تخطى المجال شكل التكامل الوظائف الريفٌي /المدينٌي الذي عرفته المجتمعات الانسانيةٌ في تكوينٌاتها المجتمعيةٌ التقليدٌيةٌ.

إن السوسيولوجيا القروية وفقا لتطورها التاريخي، هي سوسيولوجيا مسكونة بأسئلة المجتمع القروي في جميع حركاته وسكناته، تفاعلاته، وتحولاته، واتساقه، واختلاله. لكنها في بداية القرن الحادي والعشرين، تجد نفسها مدعوة لأن تصبح معرفة متعددة المداخل والمشارب، تؤمن بالتخصص العلمي واستثمار خلاصات ومناهج كثير من العلوم، في سبيل فهم أفضل للواقع الاجتماعي، وكيف يمكننا أن نبدأ في التفكير من منظور إجتماعي حول ما يعابر القروي والريفي. لكن مع ذلك أو ذاك، فإن سبر أغوار أسئلة وإجابات السوسيولوجيا القروية، لا يكون ممكنا إلا بالنزول إلى الميدان، لأنها معرفة ميدانية بامتياز.

قائمة المصادر :

  • بحث ماجستير منشور في دورية علمية

أنصاري ، زهيدة. (1997).  “الريف في التلفزيون الجزائري”،  دراسة تحليلية لحصة الأرض والفلاح (1970-1995) ،  معهد علوم الإعلام والإتصال، جامعة الجزائر :  229.

العطري، محمد. (2006). مقدمة في علم الاجتماع القروي, مجلة الحوار المتمدن، (1717)- 28 تشرين الاول.

  • كتاب مؤلف

سليم، شاكر مصطفى. (1981). قاموس الأنثروبولوجيا, جامعة الكويت، ط 1، ص 107.

غيث، محمد عاطف (1984). علم الاجتماع القروي، دار النهضة، بيروت، طبعة ثالثة، ص 10.

محجوب ، ياسر عثمان. (1999). القرية المصرية قديماً وحديثاً، جامعة عين شمس، القاهرة، ص 49.

فصل من كتاب محرر

المرجع نفسه، ص 22-29.

  • كتاب مترجم

مندراس، هنري (1970)، المونوغرافيا،  ترجمة علي الموسوي، منشورات الجامعة اللبنانية : لبنان .

  • تقارير

منظمة الأمم المتحدة. (2006)، توصيات مؤتمر الإسكوا 20 May ، موقع الإسكوا الإلكتروني (css.escwa.ogr.lb/meetings/20may06urban-rural)

 

List of reference     

  1. Braudel, F. (1986). civilization et capitalism, Paris, press universitaire de france, pp 77-80.
  2. Buttel, F. H.(1997). Rural Sociology. In Encyclopedia of Rural America: The Land and People. Vol. 2.
  3. Galo, T. (2008). International Encyclopedia of social science- rural sociology.
  4. Gurvith, G (1974). la vocation actuelle de la sociologie : vers une sociologie differentielle , Paris, press universitaire de france, pp 37-40.
  5. Handlin, O. (1988). the uprooted, Boston university press, third edition, pp 27-30.
  6. Jollivet.M .(1997)” la vocation acctuelle de la sociologie rurale”, Ruralia numero 1.
  7. ibid, p 97.
  8. ibid, PP 112-113.
  9. Lagrave, R, M. ( Mars 1991). “discours communs, discours savants sur le rural” dans les cahiers de l’IMPSA, numero 3, 22-45.
  10. Lamarche, H ( 1994). l’Agriculture Familiale; Comparaison international, Paris, l’Harmattan, p 27.
  11. Le Cabin, P et Dortier, J,F. (2000). : histoire et idées, éditions sciences humains , Auxerre,77-82.
  12. Mathieu, N et jolliviet, M (1989). du rural a l’environement, la question de la nature aujourd’hui, L’Harmattan , Paris, p 352.
  13. Ibid, p 355.
  14. Mendras, H (1968) la sociologie rurale, institut d’etudes politique- Paris, Amicale des eleves, p 66.
  15. Ibid, p 68.
  16. Menderas, H (1995). les societtes paysannes, Paris, press universitaire de france, p 95.
  17. Nelson, L(1969). Rural Sociology: Its Origins and Growth in the United States, p 42.
  18. Ibid, p 47.
  19. Robert, M (1986). Sociologie rurale, Que sais-je ? n° 2297, Paris, Presses universitaires de France, pp 5-6.
  20. Sahlins, M (1987). culture and practical reasons, university of Chicago press, p 32.
  21. Sanderson, S, K (2012). Rethinking sociological theory “Introducing and Explaining a Scientific Theoretical Sociology(Studies in Comparative Social Science), Retrieved from www.Amazon.com.
  22. Sorokin, P(1980) Society, Culture, and Personality, NY, Fifeth edition, p 696.

[1]  ميشال فريتاغ( 1935 – 2009) سوسيولوجي وفيلسوف كندي من أصل سويسري مؤسس نظرية السوسيولوجيا الديالكتيكية.

[2]  أنشأت اللجنة الدولية للمحافظة على التراث  في منظمة الاونيسكو.

[3]  القروانيون (les Ruralistes) الباحثين في الشأن القروي والريفي.

[4]  هذا التكامل المعرفي هو مصدر فلسفة جمعية القروانيين الفرنسيين.

[5]  النظام هو جملة العناصر التي تقوم بينها علاقات بحيث إذا طرأ اي تغير في إحدى هذه العناصر، أو العلاقات القائمة  بينها، يؤدي ذلك إلى تغير في العناصر والعلاقات الأخرى.

[6]  أي من طلوع الشمس حتى مغربها وبداية  الليل.

 

  • رامي ناصر،أنثروبولوجي،الجمعيةاللبنانيةلعلمالاجتماع،

    [email protected]

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.