وباء كورونا بين التأثير والتدبير والإستجابة: (قراءة سوسيوـ أنثروبولوجية ـ المغرب أنموذجا)

كورونا والاخلاق

 

 

 

كاميليا الورداني*

لا يخفى على أحد ما تصنعه الأوبئة في تاريخ البشرية من تغيرات وتحولات جذرية، تصنع تاريخا جديدا بقطعها الصلة بين ما كان وما سيكون؛ وبالموازاة مع هذا، فلا يخفى أيضا الدورُ الفعال الذي يُنتظر من العلوم الإنسانية، تجاه هذه التغيرات والتحولات.

ولما كان الوباء كذلك فرصة لتجديد الفكر، فيفترَض أن تكون العلوم الإنسانية الرهانَ الأول لتفعيل هذا النقاش والبحث العلمي ـ الفكري بكل أنواعها، سواء تعلق الأمر بالأنثروبولوجيا، أو السوسيولوجيا، أو الأدب، أو الفلسفة، أو غيرها . ومن هنا جاءت فكرة هذا المقالة أن تقدم قراءة لبعض القضايا التي طرحها الوباء للنقاش العلمي والثقافي، وهي قراءة تنضوي تحت المظلة السوسيوـ أنثروبوبلوجية، كونها تبدو الأوسع لاحتواء الموضوع. ولأن التعالق والتكامل والترابط من سمات العلوم الإنسانية، فإنه يصعب أن تُرسَم حدودٌ للرؤى المطروحة بين محور وآخر؛ وهذه بحد ذاتها ميزة تُحسب للعلوم الإنسانية ولا تؤخَذ عليها، لكونه “لم يعد صالحاً إنتاج معرفة أحاذية البعد” (على حد تعبير الانثروبولوجي منذر كيلاني).

1)ـ “كورونا” والقرية الكونية: من عولمة الوباء إلى عولمة الإنسانية

أـ عالمية المأساة بين المحلية والكونية:

في ظل هذا الوضع “القروي” الذي أصبح عليه العالم ـ بما يحمله المصطلح من معنى الترابط والوحدة واللحمة العالميةـ وعلى غرار السهولة التي أصبح عليها التنقل في هذه “القرية”، تقاس مدى سهولة انتشار الأمراض فيها؛ فصار من البديهي الحديث عن عولمة الأمراض والأوبئة؛ وذلك ما أثبته وباء كورونا العالمي.

ولطالما كانت الأمراض والأوبئة في تاريخ الإنسان مادة بحثية خصبة للدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية؛ إذ انطلاقا من تغيرات يعيشها العالم اليوم جراء وباء كورونا، يمكن أن يقاس عليها حجم التغير والتحول الاجتماعي الذي كان يصاحب كل جائحة عرفها التاريخ البشري. أما في السياق التاريخي الحالي ـ سياق العولمةـ فقد بات المبحث الأنثروبولوجي الجديد هو مبحث المحلية والكونية. وبإخضاع هذا الوباء لهذا المبحث الأنثروبولوجي الجديد، فإنه لا يمكن فهم التغيرات التي يعيشها أي مجتمع محليا دون وضعها في سياق عالمي كوني؛ وذلك بفهم كيف يؤثر الكوني على المحلي، والمحلي على الكوني، فضلا عن دراسة الأبعاد الثقافية والاجتماعية المحددة لتدبير الجائحة محليا وعالمياـ وإن كان في سياق تدبير العالم لجائحة كورونا في زمن العولمة، قد بدا العزاء واحدا والمأساة مشتركة، وتحولت مظاهر المعاناة إلى نسخ تكاد تكون متطابقة بين بلدان العالم المتضررة. فمثالا على هذا الطرح أن أجواء البؤس والخوف من المجهول التي ألقتْ بها الجائحة على بلدان العالم، أذكتْ ارتفاع نسبة الانتحار في العديد من بلدان العالم خلال فترة الإغلاق، حيث كان فقدان العمل والإفلاس وحظر التجول مولدا لضغوط اقتصادية واجتماعية، والتي بدورها ولَّدت ضغوطا نفسية، أدت بالكثير من الأشخاص في العالم إلى وضع حد لحياتهم، وذلك للتخلص من “جاثوم” الحجر وتضييقاته الاقتصادية خاصة؛ بما في ذلك المغرب، حيث ظهرت فيه حالات انتحار أشخاص بسبب إغلاق محلاتهم وتأزم أوضاعهم الاجتماعية، (خصوصا مع تأخر صرف الإعانات للمواطنين من صندوق تدبير جائحة كورونا). وعلى المستوى الصحي فقد لوحظ ارتفاع في حالات الشلل النصفي، والإغماءات وارتفاع الضغط الدموي…

وربما جاز القول بأنه إذا كانت ثمة تمايزات محلية بين مجتمع وآخر، فإنها تكون على مستوى التدبير والاستجابة، سواء تعلق الأمر بالدولة والمؤسسات، أو تعاطي المواطنين مع الوضع الجديد، دون أن نغفل الجانب التنظيمي لهذه المجتمعات ومدى قدرتها على استيعاب الأزمات. فبالنظر، مثلا، إلى تجربة المغرب في تدبيره للجائحة، فإنه كان أنموذجا يحتذى به في التدبير والاستجابة؛ فمهما بلغ تأزم الوضع المغربي في ظل الجائحة، إلا أنه يبقى وضعا لا يقارن بوضع بلدان قيادية وذات الاقتصاد الوازن عالميا. وبقطع النظر عن المحلي (المغرب)، فقد انتشر مقال طويل على نطاق واسع للناشطة السياسية والصحافية الهندية “آرونداتي روي”، بعنوان “الجائحة بوابة”، (أُصدِر في كتاب عن دار “غاليمار” بعد ترجمته إلى الفرنسية)، والذي تقول فيه: “إننا نتابع المعلومات الإحصائية، وقصص مستشفيات الولايات المتحدة التي ضاقت بمراجعيها، وحكايات الممرضات المتدنيات الأجور، اللواتي أرهقتهنّ ساعات العمل الطويلة، يصنعن الأقنعة من بطانات سلال القمامة، ومعاطف المطر القديمة، مخاطراتٍ بحياتهنّ من أجل إنقاذ المرضى. نسمع عن الولايات المختلفة تضارب على بعضها بعضاً للحصول على أجهزة تنفس، عن الأطباء الذين يواجهون معضلة أن يقرروا أيّاً من المرضى يمكن أن يُترَك ليموت؟ نسمع ذلك كله ونهمس لأنفسنا: “يا إلهي! أهذه أميركا؟”[1].

وفي المقال نفسه، الذي كان نتاج تجربة صحافية ميدانية نقلَتْ فيها أوضاعَ بلدها الهند، فإن “أرونداتي روي” تصف كيف تم التخلص من العمال بتعرضهم للطرد من قبل أرباب العمل ومالكي البيوت، وبالتالي وجد الملايين من الأفراد أنفسهم مشردين دون مأوى، ليبدأوا الرحلة مشيا في مسيرة طويلة من المدن إلى القرى، بما في ذلك المرضى والمقعدين وجميع الفئات العمرية، “وبعضهم مات في الطريق”، فيما تلقى المسافرون المشاة الضرب بوحشية من قبل الشرطة، ورشهم بمواد كيماوية، ليتم في النهاية إغلاق الحدود؛ وبالتالي “فإن من مشوا أياماً وليالٍ، جرى إيقافهم وأُجبروا على العودة إلى مخيمات في المدن التي دُفعوا إلى مغادرتها قبل فترة قصيرة”[2].

عموما، فمنهجية تدبير الجائحة بين كيان جغرافي وآخر في العالم، تتدخل فيها عدة اعتبارات، والتي يجري تطبيقها ولو بأخلاقيات ذات القطيعة الكاملة مع المبادئ الإنسانية. فوباء كورونا فضح أخلاقيات نظام العولمة كاملا وهمجيته، التي ربما لم تجرؤ عليها أشد أطوار البشرية بدائية، وكما يقول المفكر المغربي د.المهدي المنجرةـ رحمة الله عليه ـ في كتابه “عولمة العولمة”: “إن أولئك الذين يريدون منا أن نثق “بالعولمة” بنوع من السذاجة، لم يكتشفوا بعد ما يربطهم بشعبهم وبالإنسانية بصفة عامة”[3]؛ حيث إن تدبير الجائحة كان يقتضي مبدئيا احترام حقوق الإنسان، فانتشار الجائحة جعل العالم يبدو كما لو كان خارجا لِتَوِّهِ من عرض مسرحي عن حقوق الإنسان؛ وكما يقول الدكتور الإيراني عباس خامه يار، في مقال له: “السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم هو: ما قيمة الحرية وما تأتي بها ومفهومها، عندما يتم دفع أفواج الناس إلى حُفر المقابر، أو يتركون في جانب الأرصفة والشوارع في واشنطن وروما وباريس ليموتوا، وهم محرومون من الحد الأدنى من الخدمات الصحية والعلاجية، والكرامة الإنسانية أيضاً؟!”[4]. وفضلا عن هذا، فالبلدان التي تعَد معقلَ مؤسسات الدفاع عن حقوق الانسان، هي نفسها التي تدفعها العنصرية لقتل المواطنين السود في الشارع العام بوحشية أعادت تمثيل أحداث رواية “كوخ العم توم”، وهي التي تترك المسنين بين أنياب الوباء ليموتوا لأنهم عالة على المجتمع ـ أو كما يقول د.عباس خامه يارـ “حتی يبقی الأصغر سناً والأكثر قدرة على قيد الحياة، وينجو من المرض، ويحصل لديهم المناعة، لكي يكونوا قادرين على تحريك العجلة الاقتصادية الرأسمالية، فماذا يعني هذا؟ غير أنه يكون قانون الغابات وقانوناً ضد البشرية في صراع البقاء الحديث (…) [فقد] أظهر هذا الوباء وجود مرضٍ متجذّرٍ في النسيج العقلي وخللٍ عميقٍ في النظام الرأسمالي اللاإنساني، وهو أكثر خطورة ورعباً بكثير من فيروس كورونا نفسه”[5].

ومن زاويةٍ مقارِنة في تاريخ الأوبئة، فمن المؤكد أن وباء كورونا ليس من الفظاعة التي كان عليها مثلا “الموت الأسود”، لكن حين يجري الحديث عن “الموت الأسود” فإن ذلك حديث عن العصور الوسطى ـ تلك العصور التي كانت لها أرضيتها التاريخية الخصبة حتى يحل بها ما حل، فتسمى بذلك “عصورا مظلمة”؛ أما القرن الواحد والعشرون ـ أوج “الرقي” الحضاري والتقدم العلمي والتكنولوجي ـ اللذَين طالما كانا مصدر اغترار إنسان العصر ـ فكيف يمكن تفسير وضع العالم وقد توقف في غضون ساعات دفعة واحدة، بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية، مخلفا أوضاعا اجتماعية أشد فظاعة مما خلفه “الموت الأسود” الأشد فتكا؟ إنه من الجيد النظرُ إلى هذا الوباء كونه اختبارا كشف ضعف العالم الرأسمالي المتغول، وهياكله وهيآته التي تَبينَ أنها مجرد مسميات بلا أدوار ـ الرأسمالية التي لا تحظى بالترحاب والرضى العالميَيْن أصلاـ فربما كانت هذه إشارة لبدء التفكير في نظام جديد. إضافة إلى هذا، فلعله كان من حسنات هذا الوباء كونه دافعا ليغير الأفراد من نظرتهم النمطية تجاه مجتمعاتهم، والخروج من الحدود الطبقية الوهمية للعالم (دول الشمال، دول الجنوب، الدول العظمى، العالم الثالث…)، ويعيدوا مراجعة معايير التقييم بالتحضر والتخلف. وكما جاء في خاتمة كتاب “رأسمالية الكوارث”(2015)، لمؤلفه الصحافي “أنتوني لوينشتاين”: “رأسمالية الكوارث هي أيديولوجيا عصرنا لأننا سمحنا لها بأن تكون كذلك. ولكن بوسعنا تغيير ذلك. ينبغي أن يكون هدفنا هو إيجاد نظام اقتصادي أكثر مساواة وديموقراطية تمثلنا تمثيلا حقيقيا. والآن هو الوقت.”[6]

ب ـ وباء كورونا في ضوء فلسفة الأخلاق:

يقول الفيلسوف الانجليزي “برتراند راسل”:

“يمكن تقسيم مساوئ الخطر التي تصيب الكائنات البشرية إلى صنفين: الأول: الذي يصيبهم من البيئة غير البشرية، والثاني، الذي يصيبهم من [البيئة البشرية نفسها]. فحين تقدمت البشرية في المعرفة والتقنية أصبح الصنف الثاني الذي أشرنا إليه يزداد بصورة مستمرة”[7]، بل ويقول إنه ما كان سابقا يعد في عداد مساوئ البيئة غير البشرية، أصبح اليوم يطال الإنسان لأسباب بشرية. يُساق كلام “راسل” هنا لأنه ما لم تُضبَط الأمور العلميةـ التقنية ضبطا أخلاقيا، فسيكون مصير البشرية إلى الهاوية؛ فالعلم إن لم ترافقه الأخلاق انقلب شرا على الإنسان ذاته، وهذه المرة لن تكون حربا دموية تكلف فيها عملية قتل الانسان أسلحةً تضعف ميزانية الدول العظمى، فالتفكير في حرب بيولوجية يشكل فكرة صائبة للقضاء على البشرية بأبخس تكلفة، وأقل فترة ممكنة. ولعل ضيق حيز الورقة لا يسمح بالتفصيل في علاقة الأخلاق بالعلم فلسفيا. فبصرف النظر عن طبيعة القوى التي توجه تطور العلم والتقنية (قوى الشر أم قوى الخير)، وتخطي الإنسان لحدود “الممكن من المستحيل”، وبقطع النظر عن نظرية المؤامرة وعما إذا كان الفيروس مُصنعا، ليصطف بذلك إلى جانب القنبلة الهيدروجينية، فإن المقصود هنا هو الحديث عن الأخلاق الاجتماعية. إذ لا يخفى على أحد كون جائحة كورونا كشفتْ عن أزمة أخلاق اجتماعية كبيرة تنخر كيان الإنسانية؛ وكما يقول ابن المقفع في “حاجة الرعية إلى الإصلاح” في “رسالة الصحابة”: “إن بالناس من الاستجراح والفساد (…)، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها”[8]. فانطلاقا من العائلة النووية وما عرفَتْه من ارتفاع في مستويات العنف الأسري ضد النساء وبين الآباء والأبناء، يلاحَظ أن الجائحة كشفَتْ عن أزمة حقيقية في التربية الأسرية وأزمة تواصل أسري؛ ففي الوقت الذي كان فيه التحام الكتلة العائلية تحت سقف واحد، فرصة لتقوية الروابط الأسرية لدى بعض البيوت، فقد تحولتْ بيوت أخرى غير قليلة إلى ساحات حروب طاحنة. ففقدان الانسان مصدر عيشه وحركته وحريته ورفاهيته، وبالتالي عودته إلى نمط عيش “تقشفي” معزول، بين جدران أربع تقيه شر العالم الخارجي، هو بمثابة فرض لحياة إنسان الكهوف على إنسان عصر العولمة.

إن “الطبيعة تخشى الفراغ”: هذا ما يقرره “أرسطو”. وهذا قانون طبيعي يسري على كل الموجودات في الطبيعةـ بما في ذلك الانسان طبعاـ وهو المخلوق الاجتماعي أصلا. فأن تُقْذَفَ أسرةٌ في دوامة الفراغ مع غد مجهول وخليط من الفُجاءة والفقر وقلة الوعي، كفيل بأن يجعلنا نشاهد عرضا ساديا شبيها بعروض الحلبة الرومانية.

وبالانتقال إلى العائلة الإنسانية الممتدة، يأتي الفيلسوف الألماني “فيورباخ” ليقول: “الإنسان يأكل قبل أن يفكر”[9]؛ كلام يُفهمُ منه أن هذا المخلوق تحركه غريزة الحيوان قبل أن يحركه عقل الإنسان. وكما جاء في فيلم “هاربون إلى البرية”: “رأيت المشهد فتنبأت بالبقية”؛ فلعل الملاحظ للسلوكيات الأنانية في التهافت الهائج والتضارب على التبضع وتخزين المواد الغذائية والطبية، يستطيع أن يتنبأ بأنه إذا قامت الساعة وفي يد أحدنا فسيلة (كما جاء في الحديث النبوي)، فلن يسارع إلى غرسها، وإنما سيحاول أن يهرع بها إلى بيته. وحتى لا يُلعبُ دور الضحية دوما ويُلقى اللوم على السياسات والدولة، فإن أفظع مشاكلنا هي مشاكل “بينية” (أي بين الإنسان وأخيه الإنسان)، مصدرها قلة تقدير ما يجمعنا ببعضنا. فإن السلطة لم تصدر أمرا بأن يكون ثمن الكمامة الواحدة هو 13 درهما، مع العلم أن الكمامة ستغير بعد كل أربع ساعات في اليوم مضروبة في عدد أفراد الأسرة، ولم تصدر أمرا بأن يكون ثمن أصغر حجم من عبوات محلول الكحول هو 150 درهما، كما لم تكن قد أصدرت أمرا في زلزال الحسيمة الذي ضرب في شتاء 2004 بأن يكون 200 درهم، هو ثمن المتر الواحد من الشراع البلاستيكي، ليصنع منها المواطن خيمة يحتمي بها مع أولاده في قمم الجبال من كارثة الزلزال وأمطار الشتاء.. وهلمجرا. مع العلم أن أخانا المواطن قد فقد مصدر عيشه في مثل هذه الأوقات العصيبة (مصائب قوم عند قوم فوائد). وبرؤية أكثر إنصافا، فحتى لو افتُرِضَ أن الفيروس جرى تصنيعه، فإن “شرّانية” مُصَنّعيه من المؤكد أنها لم يصل بها الذكاء لتجعل للفيروس جينات تدفع المصابين للبصق العمد في الأماكن العامة، ولعق المنتجات الغذائية في المحلات التجارية، ليحل بإخوانهم ما حل بهم عملا بمبدأ “إذا عمّت هانت”… إنها سلوكيات قال عنها “راسل”: “وإني لأحسب بأن الشرور التي يرتكبها الناس بحق بعضهم بعضا، وبالانعكاس على ذواتهم، تصدر بصورة رئيسية من العواطف الشريرة أكثر من صدورها عن الأفكار والعقائد”[10]؛ وللتخلص منها ينبغي العمل على تنقية النفوس من مثل هذه العواطف الشريرة، وذلك بأن تسود ثقافة اجتماعية إنسانية مفادها الوعي بأن “الآخر” هو “أنا” بملامح وجه آخر. ولعل ما جعل المجتمع الصيني يسيطر على الوضع هو الثقافة الصينية العريقة النبيلة في الإحساس بالمسؤولية تجاه اللحمة المجتمعية، و”تقديس” العلاقات الاجتماعية. وفي هذه الثقافة يقول عالِم النفس “جيروم كيغان” في كتابه “الثقافات الثلاث”: لقد “جعل الصينيون من جماع الوظائف والأدوار الاجتماعية للفرد ومن التزاماته الأخلاقية الوثيقة تجاه الآخرين جوهر ولب الذات الفردية. ولأن كل فرد في المجتمع الصيني يؤدي دورا اجتماعيا (…) فإن كل فرد يعرف أصول عمله وقواعد سلوكه وهو بمنجاة من أي شكوك حول مدى مصداقية وأهمية تكامله وتآزره مع غيره من أعضاء المجتمع”[11]. ويكفي تصفح أقوال المثقفين الصينيين في الصحف والمدونات، عما حل بمدينتهم “ووهان” جراء هذا الوباء.

وبما أن الأنترنت كانت بمثابة “الأغورا” في زمن كورونا، فإنه من الغريب أن لُوحِظَتْ نقاشات حادة تُسَوِّغُ التضحية بكبار السن وإعطاء الأولوية في تقديم العلاج للفئات العمرية الأصغر سنا؛ فمن المؤسف أنه ـ وكما يقول “جيروم كيغان”: “جيل الشباب الحالي (…) يواجه [مشكلة] تعذر الإيمان بأي مبادئ أخلاقية تدعو إلى الاهتمام الحميم بالآخرين من المعوزين والفقراء؛ لأن وسائل الإعلام لا تمل من نشر وإشاعة مقولات الاقتصاديين وعلماء النفس من أصحاب النزعة الداروينية التطورية الذين يتشدقون بأن مصلحة الذات فوق أي اعتبار آخر، وأن السعي إلى تحقيقه هو النهج العقلاني الوحيد للعيش”[12].

ولئن كان القرن الواحد والعشرون ـ كما يقول المفكر المهدي المنجرةـ رحمه الله ـ هو قرن لم يكن للمجتمعات العربية يد في التخطيط له، وبالتالي لكسب الرهان ينبغي التفكير في القرون التي ستأتي بعده[13]، فإنه ينبغي أوليا التصدي لهذا القرن بحصانة أخلاقية وقيم إنسانية، باعتبارها أثمن تركة يمكن أن تطمئن المجتمعات العربية، وهي تسلمها للأجيال القادمة التي ستأتي بعد القرن الواحد والعشرين.

ولعل إحدى الرسائل الأخلاقية التي جاء ليبلغها فيروس كورونا، أنه أذاق الناس معنى أن يعيشوا في عزلة عن الآخر، بل أن يتشوقوا لرؤية هذا الآخر. فالحجر الصحي أذكى من جديد السؤال الفلسفي القديم الخاص ب”الأنا” و”الآخر”؛ فبالغياب يُدرَكُ ثمن الحضور ـ بل إن ثنائية الحضور والغياب الفلسفية هذه، طالت الوجود بأسره وقت الحجر؛ وأبسط مثال أن كيس القمامة أصبح ذا شأن ومصدر نزاع عائلي، ليكون الظّفَرُ به ذريعة للخروج من المنزل! وكما يقول “ألبير كامو” في مقطع من روايته الشهيرة “الطاعون”: “إن الشيء الوحيد الذي لا يريده، هو أن يُفصل عن الآخرين. وهو يؤثر أن يُحاصر مع الجميع على أن يُسجن وحده”[14]. ولربما كان ضربا مِن تدارُك الخطأ أن لوحِظَتْ أساليب كثيرة من التضامن الاجتماعي والتعاطف مع الأسر الفقيرة خلال الحجر الصحي (بصرف النظر عن صندوق تدبير جائحة كورونا)، حيث لوحظ مثلا توزيع المؤن الغذائية والمبالغ المالية.. سواء في شكل تطوعات جمعوية أو أفراد بعينهم. ولعل الأدب العالمي لم يتوانَ في اقتناص مثل هذه الطرائف في السلوك البشري وقت الشدائد؛ فنقرأ أيضا في رواية “الطاعون”: “إن الطريقة الوحيدة لجمع الناس فيما بينهم، هي إنزال الطاعون عليهم”![15]

وبالعودة إلى “برتراند راسل”، فهو يقول: “العالم في وقتنا الحاضر يقف وهو في حاجة إلى نوعين من الأشياء. فمن جهة التنظيم السياسي (…) والتنظيم الاقتصادي (…)، ومن جهة أخرى يحتاج إلى بعض الصفات الأخلاقيةـ تلك الصفات التي تحدث عنها رجال الأخلاق في كثير من العصور، (…) فالصفتان الأكثر ضرورة هما الإحسان والتسامح (…). وأحسب أن هذين الهدفين، التنظيمي والأخلاقي، هما متشابكان بعرى وثيقة (…) ولكن، في الواقع، إذا أراد العالم أن يتحرك في الاتجاه الصحيح فعليه أن يتحرك في الاتجاهين في آن واحد معا. (…) يجب التأكد من الناحية الفكرية والأخلاقية بأننا كلنا عائلة واحدة، وأن سعادة أي نوع من هذه العائلة لا يبنى بأمان على أنقاض النوع الآخر. وتقف في الوقت الحاضر، العيوب الأخلاقية حجر عثرة في طريق التفكير الواضح”.[16]

 

 

2)ـ الثقافة والوباء.. مواجهة في الواجهة:

افتتحتْ مجلة “الدوحة” عددَها 150 بكلمة لرئيس التحرير، بعنوان: “كيف نبني مجتمعا واعيا ومثقفا لمواجهة كورونا؟”، والذي جاء في سياق منها: “الثقافة هي أول سلم الرقي عند الازدهار، وهي درج الإنقاذ عند الأزمات وحدوث الكوارث”[17]. ولما كانت الثقافة المتكأ الأول في أوقات الشدة، فإنه في زمن كورونا كان الحضور فعالا بالنسبة لثلاثة روافد ثقافية، يمكن إجمالها فيما يأتي:

أـ الإعـلام:

من المعلوم أن الإعلام هو أولى الركائز التي حولت العالم إلى قرية صغيرة. ومع يُسْر وصول المعلومة إلى أقصى مجمع أدغال “بدائي”، فقد تحول الإعلام إلى سلطة منيعة تُوجه الرأي العام حسب مشيئتها بإشارة أصبع. وبالتالي فلم تعد مهمته محصورة في “الإخبار”، وإنما أصبحت وظيفته بالأساس تثقيفية بالمفهوم الواسع للثقافة، ولا سيما الثقافة الجمعية أو الوعي الجمعي؛ فلم يعد يعكس ثقافة المجتمع بقدر ما أصبح يصنعها. وقد بات واضحا في زمن كورونا كيف كان الإعلام العالمي يوجه الرأي العام بالتثقيف والتربية، ونشر ما يمكن أن نسميه بـ”ثقافة الوباء”، أو “أخلاقيات الوباء”. ولكن تصادم الثقافة الجمعية بهذه الثقافة التي يتطلبها الوباء، جعلت الإعلام نفسه مجالا مضطربا مكهربا؛ حيث تراوحت رسالته بين التوعية ونشر التربية الصحية والاجتماعية، والتخفيف من آثار الحجر النفسية وتجاوزه باستشراف غد أفضل، والتزام الأمانة في نقل ما يجري محليا وعالميا، وبين تزويد “وباء الخوف” وآثار الحجْر بين صفوف الناس بشتى أصناف التهويل والترهيب ـ علما أن الخوف هو أول التحديات التي تواجه تدبير الجوائح والكوارث عموما، والذي قال فيه “فرانكلين روزفلت”: “الشيء الذي ينبغي أن نخافه حقيقة هو الخوف نفسه” ـ ولاسيما وسائل التواصل الاجتماعي التي روجتْ لحرب نفسية. فبين إشاعة كون الوباء نهاية البشرية، وبين إشاعة ربط لقاح كورونا بـ”شريحة الدجال”، وكذا اختلاق وثائق وتقارير بكونها صادرة من جهات رسمية، وغيرها، كان الناس يتخبطون على غير هدى. مما استوجب تدخلَ الدولة كنوع من تدابير الاستجابة الطارئة، وذلك بفرض الرقابة، وتطبيق القانون في حق المروجين للإشاعات والأخبار الزائفة، باعتبارها تعيق مخطط تدبير الجائحة ومجهودات الدولة بهذا الصدد. وهذا مرده إلى كون الإعلام أصبح مجالا متاحا للجميع، فكل من يملك قناة أو حسابا أو موقعا أصبح يلعب دور الإعلامي المؤثر، وفي المقابل فالتجاوب والتفاعل مع هذه الفئة قائم على أشده بشتى أصناف النوايا والإيديولوجيات والمرجعيات الفكرية.

 

ب ـ الأدب:

مع بداية انتشار وباء كورونا، عادت إلى الواجهة أشهر الأعمال الأدبية المصنفة ضمن “أدب الوباء” ـ وهو واحد من فروع الأدب الملتزم ـ ولعل الشهرة التي نالتها الأعمال في زمن كورونا أوسع بكثير مما كانت عليه من قبل. حيث كان الإقبال على هذا الصنف الأدبي لغرض أخذ التجربة التاريخية في تعامل الإنسان مع الحياة في ظل الأوبئة، وربطها بواقع كورونا؛ حيث تفاجأ القراءُ لكون الوصف كان حرفيا مطابقا لما يجري في زمنهم، حتى لتكاد هذه الأعمال الأدبية تتخذ شكل تكهنات استباقية لهذا الوباء، كما هو حال رواية “عيون الظلام” (1981) للأمريكي “دين كونتز”، التي أثارت ضجة واسعة جعلتها محط مساءلة؛ حيث قدمَت الرواية منذ 40 سنة نبوءة غريبة بظهور وباء في مدينة “ووهان” الصينية بالضبط. فقد نشرت صحيفة “اليوم السابع” الالكترونية مقالا جاء في سياق منه: “تدور أحداثها [أي أحداث رواية “عيون الظلام”] في نفس مدينة انتشار الفيروس “ووهان” حيث يطور العلماء في مختبرات تابعة للجيش الصيني، فيروسا كجزء من برنامج هذا البلد للأسلحة البيولوجية في الحروب، وأطلق المؤلف كونتز على الفيروس “ووهان 400″، [كما] أطلق عليه “السلاح المثالي” لأنه يؤثر فقط على البشر”[18]. وبالتالي فالتقاطعات بين فيروس “ووهان 400″ و”كوفيد 19″، أو بالأحرى تقاطعات أحداث الرواية مع وباء كورونا ـ خاصة مع انتشار نظرية المؤامرة وكون الأديب أمريكيا ـ جعلَ القراءَ يطرحون سؤالا عن مدى كونها مجرد صدفة وأن القصة من نسج الخيال. وقد تمظهر ذلك جليا في الكم الهائل من المقالات والفيديوهات التي تُدُووِلَتْ بخصوص رواية عيون الظلام” في زمن كورونا.

وبصرف النظر عن كون الأعمال الأدبية المصنفة ضمن أدب الوباء تتخذ منحى إرشاديا، وتعلمنا ضمنيا أخلاقيات الوباء، فالقارئ عبر هذه الأعمال الأدبية يستخلص أن الحياة مثلما استمرت بعد تلك الأوبئة التي وثقها الأدب، كذلك فالحياة ستستمر بعد وباء كورونا؛ فالخوف من المجهول غالبا ما كان يدفع إلى طرح سؤال ما إذا كان وباء كورونا سيشكل نهاية العالم ـ لكون هذا الجيل لم يعش تجربة كهذه من قبل ـ فكان الجواب في أرشيف أدب الوباء أنه ولو بتغيرات جذرية على جميع الأصعدة، فالحياة ستستمر.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأعمال حققت مبيعات تفوق أضعاف التي حصدتها أول ما أُصدِرَتْ؛ حيث تشير الصحف إلى نفاذ مخزون نسخ رواية “العمى” (1995) للأديب البرتغالي “جوزيه ساراماغو” من الموقع التجاري “أمازون”، الشيء الذي جعل دور النشر تسارع إلى إعادة طبعها خلال فترة الحجر الصحي، والشيء نفسه بالنسبة لرواية “الطاعون” (1949) للأديب “ألبير كامو” التي تجري أحداثها بمدينة وهران، والتي حققت مبيعات خيالية في أوروبا. وفي اليابان، فقد ذكرت وسائل الإعلام أن هذه الرواية (الطاعون) حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة في الفترة الأولى من انتشار الوباء. فضلا عن رواية “الحب في زمن الكوليرا” (1985) للأديب الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز”، التي تعد مثالا لانتصار العلاقات الإنسانية على تحديات الوباء؛ ورواية “الديكاميرون” (1353) للإيطالي “جيوفاني بوكاشيو”، التي أعيد طبعها كذلك في إيطاليا خلال فترة الحجر الصحي، ورواية “إيبولا 76” للرّوائي السوداني أمير تاج السر، ورواية “اليوم السادس” (1960) للفرنسية أندرية شديد، المصرية الأصل، التي استلهِمت من وباء الكوليرا بمصر، وغيرها من كتب أدب الوباء.

ولأن الأديب ابن بيئته، فمثلما كانت الأوبئة والكوارث دائما تُحدِث نقلات نوعية في حركة الفكر والثقافة عموما، والأدب خصوصا، فإن الساحة الثقافية تستشرف ظهور حركة أدبية جديدة تبلور مفاهيمَ إبداعية، بحيث توازي التغيرات الطارئة على مجتمعات العالم جراء وباء كورونا. فرغم تباين وجهات النظر في مناهج دراسة الأدب، إلا أنه لا يمكن إنكار كون حركته نتيجة طبيعية لسياقات تاريخية تعرفها المجتمعات البشرية. ولعل كون العالم ما زال يتخبط في مقاومة الوباء بين موجة ثانية وثالثة، فإنه لم يحن الأوان بعد للحديث عن أعمال أدبية “ناضجة” وليدة التأثر بأجواء كورونا ـ بالمفهوم الجوهري لأدب الوباء؛ فهذا يستلزم وقتا أكثر حتى تتبلور المفاهيم الابداعية الجديدة، وبالتالي فالحديث عن اتساع بيبليوغرافيا أدب الوباء حاليا ما زال مبكرا، لأنه سيكون مقرونا بالحديث عن فترة “ما بعد كورونا”. ورغم هذا فإن راهنية الحدث جعلَتْ بعض الأدباء يسارعون إلى تلقف قصب السبق في الإبداع تحت مظلة الوباء الجديد. ففي الوقت الذي ما زال فيه نقاد الأدب يتداولون الحديث عن “متخيل كورونا”، وكون الوباء سيؤثر في حركة الأدب لا محالة، فقد بدأت البواكير الإبداعية لهذا الوباء تظهر في شكل قصائد متفرقة، وكتابات قصصية في الصحف والمجلات الثقافية، فيما ظهرت رواية عربية حملت عنوان ” عذرا كوفيد 19 عائدون بلا أرواح.. “، للأديبة الأردنية أمل عبده الزعبي… ولعل هذه تبقى استجابات ثقافية آنية، كردة فعل طبيعية، أكثر منها نسبة لأدب الوباء.

وفيما يطلق عليه بـ”أدب الأطفال”، ولكون الأطفال تلك الفئة العمرية التي ظلت لم تفهم ما يجري حولها من تغير مفاجئ، في نمط حياتهم الأسرية والدراسية والحياة حولهم، فقد أصدرتْ البريطانية “إيلي جاكسون”، وهي معلمة ومؤلفة قصص للأطفال، كتابا رقميا قصصيا مصورا، بعنوان “ملك كورونا الصغير”، الذي يهدف إلى شرح الفوضى التي أحدثها الوباء، وذلك بأسلوب يناسب استيعاب الأطفال؛ وفي أدب الأطفال دائما أصدِر كتاب قصصي رقمي أيضا، بعنوان “بطلتي أنت.. كيف يمكن للأطفال محاربة كوفيدـ19″، أعدته المجموعة المرجعية للصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي في حالات الطوارئ. وقد ترجم إلى العديد من اللغات من بينها العربية. (وتبقى هذه مجرد أمثلة من قائمة لم تتم الإحاطة بها كاملةً).

ج ـ الفـن:

عند اقتران الفن بالأزمة أو الكارثة، غالبا ما يستحضر الناس مشهد غرق سفينة “تيتانيك”، بينما العازف يواصل العزف لطمأنة الركاب ومواصلة الرحلة.

فالإنسان مخلوق مبدع بطبعه، وهو يحتاج الفن لأنه يساعد في التعبير عن الوجود وفهمه. ولكن حينما يكون الفن ليس في عداد الكماليات وإنما أداة للمواجهة، حينها يستوجب الفن كل التقدير والاحترام؛ فقد قدم الفن رسالة إنسانية هادفة وقت الأزمة: إنْ توعية، وإن تخفيفا للمعاناة النفسية ورفع المعنويات، وإن احتجاجا على بعض أشكال العنصرية التي أسفر عنها انتشار الجائحة، وإن تقديرا لمجهودات الفئات التي ظلت في المواجهة المباشرة مع الوباء.

لقد كتب الناقد الفني أمجد جمال، في العدد 150 من مجلة “الدوحة”، متحدثا عن السينما، أن إحدى دور السينما في ولاية فلوريدا استقبلت الوباء بهذه اللافتة: “السينما مغلقة حتى يتوقف الواقع عن أن يبدو كالأفلام. حافظوا على سلامتكم وكونوا بخير”[19]. وبما أن الصناعة السينمائية بدورها مُنِعَتْ من مواصلة العمل، لما تقتضيه من تجمعات وتنقلات بغرض التصوير، فإن مشاهدة الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية خلال الحجر الصحي عرفَتْ ارتفاعا كبيرا، بما في ذلك الفيلم الأمريكي “العدوى” (2011) الذي أحدث بدوره ضجة لتتطابق أحداثه مع زمن كورونا، حيث تدور أحداثه حول ظهور عدوى في الصين تنتشر إلى باقي البلدان، مع الفشل في وجود أي لقاح لإنقاذ البشرية.

وفي المقابل، فإن وباء كورونا لم يمنع بقية الفنون من مواصلة عملها، وإنما كان دافعا للإبداع والتجديد، وكذا المساهمة برسائلها في زمن الجائحة؛ فبالنظر إلى فن الموسيقى، فوباء كورونا قد أحدث نقلة نوعية في الساحة الفنية الموسيقية. وتزامنا مع انتشار الوباء، فقد ظهرت العديد من الأعمال الموسيقية الجادة، التي أظهرت رصانة والتزاما فنيين؛ حيث حاول الفنانون عبر العالم توعية الناس وطمأنتهم وحثهم على التفاؤل، وكذا الإشادة بدور موظفي قطاع الصحة والأمن وغيرهم. ومثالا على ذلك في المغرب: فقد ظهرتْ مجموعة مكونة من سبعة أغانٍ لحنها الفنان المغربي الشهير نعمان لحلو، والتي عنونها بـ”كورونيات”، وعلى رأسها الأغنية التي كانت من أدائه: “وقت الشدة فينا طيبة”، وأغنية “الأستاذ هو لوتاد” من ألحانه أيضا وأداء الطفل المغربي آدم بلمقدم، كالتفاتة مهيبة للأستاذ في زمن التعليم عن بعد؛ كما أصدر الفنان المغربي حاتم عمور أغنيته “نحمي البلاد” مشيدا بدور الفئات التي ظلت في الصفوف الأمامية للمواجهة، فيما سارعت الفنانة المغربية الشهيرة سميرة سعيد إلى طرح أغنيتها “واقع مجنون”، التي لقِيَتْ صدى واسعا على الصعيد العربي، وبدورها فقد أصدرت الفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي أغنيتها: “غنوا بكل اللغات”… وبالمثل، فقد سارع الفنانون عبر العالم إلى إصدار أعمال موسيقية عبرَتْ عن آلام بلدانهم، وكذا توعية الجماهير وطمأنتهم، وعلى سبيل المثال ـ لا الحصرـ فقد أصدر الثنائي الإنجليزي الشهير “سايمون وغيرفونكل” أغنية “مرحبا بفيروس ووهان”. فيما اتخذَت الموسيقى في زمن كورونا منحى روحانيا لدى الفِرَق الموسيقية الإثنية من الأمريكيين الأصليين، خصوصا مع الاحتفال باليوم العالمي للأرض (22 أبريل) الذي تزامن مع الجائحة؛ فارتباط هذه الفئة بالأرض وتقديسها لها معروف ومتجذر في ثقافة الهنود الحمر، ولقد أيقظَت الجائحة إحساسَهم المرهف تجاه الأرض، فسارع الفنانون والفرق الإثنية إلى “مباركة” الكوكب بالحب عبر معزوفات روحانية عديدة، كإصدارات “أليكساندرو كيريفالو”، و”ليو روخاس”، وإصدارات “إنكا جولد” ، وكذا الفرقة الموسيقية الإثنية المسماة “واوكيكونا”، ولعل هذه الأخيرة عبرت عن هذا التوجه بوضوح من خلال  إصداراتها، والتي منها: “أمنا الأرض”، و”العودة إلى ما قبل 500 سنة”، و”عالم جديد”.. وهذه الأخيرة أغنية حافلة حملت نفحة تفاؤل بعالم جديد بعد كورونا، وغيرها من الفنانين الإثنيين ذوي التوجه الروحاني نفسه، التي عبرت بلسان الموسيقى عن الحب للأرض في زمن الجائحة.

وبعيدا عن فن الموسيقى، فقد خرج فنانو “الغرافيتي” ـ والذي يلقب بفن الشارع ـ بشكل لافت في الكثير من البلدان عبر العالم، لرسم الجداريات على جدران الشوارع العمومية، وواجهات المحلات التجارية المغلقة؛ بحيث اتخَذَتْ بعض الجداريات منحى توعيةِ الناس لأخذ الحيطة والحذر، والبعض الآخر أخذ شكل تقديرات لطاقات الأطباء ورجال الأمن، وغيرهم ممن كان في الصفوف الأمامية لمحاربة الوباء؛ حيث غالبا ما كان يتم تصويرهم بأجنحة، كدلالة رمزية على أنهم ملائكة ساعية لخدمة الآخرين. فيما ندَّدَتْ بعض الجداريات بمظاهر العنصرية ضد الصينيين لِما اتهموا به من نشر للوباء، حيث تداولَتْ وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو عديدة لأشكال الميز العنصري ضد الصينيين؛ وفي السياق نفسه انتشرت جداريات تندد بالعنصرية الأمريكية ضد المواطنين السود التي ذهب ضحيتها الشاب “جورج فلويد”، وبعده بأيام الممرضة التي قتلت بالرصاص أمام منزلها.

من جهته فإن الفن التشكيلي الذي يستوجب العزلة أصلا، هو واحد من الفنون التي جعلَتْ من وباء كورونا ثيمة للإبداع الفني. وأول ما يُلاحَظ في هذا الفن أنه أعاد طابع الواقعية إلى اللوحة في زمن كورونا، الواقعية التي تقوم أساسا على تقنية التصوير، بعد اندثارها جراء تأثر الفن التشكيلي بمدارس فنية غيرَتْ ملامحَه جذريا، وأغرقته في الابهام والتجريد، وبالتالي جَعْلُ التواصل مع اللوحة الفنية حكرا على نخبة قليلة جدا. فمع عودة التصوير إلى الفن التشكيلي عرفَت اللوحاتُ الفنية، التي جعلت من كورونا موضوعا لها، انتشارا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي. حيث لم يتوانَ الفنانون التشكيليون، عبر جميع أنحاء العالم، عن تأريخ الحدث بإصدار العديد من اللوحات الفنية، التي تصور بعضها المعاناة النفسية في الحجر الصحي، وما أثارته هذه المعاناة من انفعالات وجدانية لدى الفنان، حيث تجسد اللوحات ما يشبه “بورتريهات” لوجوه خائفة شَوَّهَتْ ملامحَها الكماماتُ والأقنعة الواقية، كما كانت تصور الوضع الخارج عن السيطرة وما طال ذلك من استنزاف لطاقات الأطباء ورجال الأمن بالخصوص..

ومن حسنات العالم الرقمي أنه أتاح الفرصة للفنانين التشكيليين لإنشاء صالات افتراضية للعرض، بغرض مشاركة لوحاتهم مع باقي الفنانين ونقاد الفن التشكيلي ومتذوقيه، وكذا تقاسمها عبر منصات التواصل الاجتماعي. ومن طرائف هذا الفن في فترة الحجر، التي تم تقاسمها في حوارات منشورة عبر مواقع ثقافية، أن بعض الفنانات كن يرسمن بـ”المكياج” وطلاء الأظافر والقهوة بعد نفاذ الأصباغ الخاصة بالرسم. ونظرا لأن محلات بيع أدوات الرسم كما غيرها أخضعت للإغلاق، فقد انتشرت أشرطة فيديو تعلم المتابعين كيفية صنع الألوان من الملونات الغذائية المتوفرة بالبيت، بينما يصنعها البعض الآخر من الخضروات والفواكه التي تحتوي قشرتها على أصباغ طبيعية.

إضافة إلى هذا، فقد كان وباء كورونا فرصة سانحة لتفجير طاقات فناني الكاريكاتير ومبدعي “الميمات”، التي عَجَّتْ بها الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي. وكونها تقوم أساسا على الغرض الكوميدي، فقد ساهمَتْ في نشر جو من الفكاهة والدعابة والمرح، وهو الشيء الذي لابد منه في مثل هذه الفترات العصيبة، للتغلب على المعاناة النفسية التي ما فتئتْ تصاحب انتشار الوباء.

3)ـ وباء كورونا و”أجمل غريق في العالم”!* (الدين والروحانية)

“أجمل غريق في العالم”: هي من بين أشهر القصص القصيرة الرمزية للأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز. ففي غوغاء الحياة المادية المعاصرة، ينتصر ماركيز للقيم الدينية والروحية المنسية في المجتمعات المسيحية، وينتشلها غريقة من قاع البحار. ولإعطاء نبذة قصيرة عن مضمون القصة: فأثناء تجهيز الغريق لمراسيم الجنازة، يلاحِظ سكان القرية ضيقَ بيوتهم التي لم تتسع لإدخال الغريق وتجهيزه، ولا ملابسهم المتقزمة تناسب جسمه الهائل، كما يلاحظون “ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم، ودناءة أفكارهم مقارنة مع جمال هذا الغريق” المسمى “إيستيبان”، حتى أنهم لم يجدوا زهورا في قريتهم ليقدموها في جنازته.. (و”استيبان” تم تأويله من قبل النقاد أنه يقصد به القديس “استيبان” أو ستيفان أو ستيفانوس، وهو أول القديسين في الديانة المسيحية، مات سنة 34 أو 35م، وقد قتل على يد اليهود رجما بالحجارة. وتم تأويله في القصة رمزا للدين والروحانية المفقودين في المجتمعات المسيحية المعاصرة).

وتُساق أجواء قصة “ماركيز” إلى سياق كورونا، نظرا لاتجاه العالم الغربي إلى الروحنة بشكل لافت منذ انتشار الوباءـ وإن كان الحديث هنا ليس حكرا على العالم الغربي فحسب، إذ ربما أمْكَنَ الحديثُ عن صحوة روحية عالمية رافقَتْ انتشار الوباء. فتزامنا مع الفترة العصيبة التي عاشها ـ ويعيشها ـ العالم، أصبح الحديث عن الصحوة الروحية حديث الساعة. ولعل من طبع الإنسان ميله إلى الروحنة في أوقات الشدة والكوارث؛ حيث إنه حتى في فترات موغلة في القدم من تاريخ البشرية، كان شأن الآلهة يعلو بالتقرب إليها بشتى أنواع الصلوات والقرابين والتضحيات.

ولعل كورونا في المجتمعات الإسلامية لم تشكل صدمة تُذكَرُ، بقدر ما كانت الصدمة القاسية إغلاق المساجد، وافتقاد روحانية التراويح الرمضانية، وصلاة الجمعة والعيدين، وإلغاء الحج، والجنائز؛ ومن المعلوم أن الدين بالنسبة للمسلم هو ما يعطي للحياة قدسيتها. فلقد ظلتْ أرواح المسلمين تتوق إلى معانقة رحاب المسجد واستعادة الأجواء الروحانية للدين الحنيف؛ وأبسط دليل على هذا دموعُ الفرحة العارمة التي وَسمتْ أوجه المصلين في مختلف البلدان الإسلامية، وذلك خلال أول صلاة جمعة بعد إغلاق المساجد. ربما أمكن القولُ إنه باستطاعة المسلم أن يواجه أفظع الشرور الممكنة على وجه الأرض فيتقبلها، إلا أن تُغلَقَ في وجهه المساجدُ والبيت الحرام، ويُحرَم من روحانية الشعائر الجماعية، وتُقطَعَ طريقُه في سعيه ليُقَبِّل رأس والديه يوم العيد، أو أن يحضر جنازة أحب فرد من العائلة.. فالمسلمون سيظلون يتذكرون هذه الصدمة بعد أن يندثر أي حديث عن وباء مرّ من هنا. وعموما فإن الحديث عن “أجمل غريق في العالم” لا يشمل الحديث عن المسلمين، ببساطة: لأن الإسلام لا يزداد سوى حياة، وغير معني بـ”الغرق”؛ وإنما المقصود في المحور بالضبط هم الإخوة من العالم الغربي. فلما كان العالم تحت رحمة فيروس غير مرئي، فإنه لم يكن أمام العالم الغربي سوى ايقاظ ذكرى “استيبان”، والتذرع إلى الله لرفع البلاء. وقد بدا ذلك واضحا حتى في جداريات “الغرافيتي” المرسومة في الشوارع الأروبية؛ حيث غطت الجدرانَ رسومات للملائكة، ورسومات تجسد السيدة مريم العذراء بعينيها الحزينتين، وهي تقدم العزاء وتناشد الناس بالصبر والإيمان، باعتبارها رمز المحبة والرجاء في الديانة المسيحية، واللوحات الفنية التي تجسد المسيح عليه السلام وهو يبارز بكل تحد وقوة “شيطان” كورونا.. أما من يطالع مواد الصحف والعالم الرقمي، فسيلاحِظ حتما كيف أصبحت الرموز الدينية في الواجهة، وكيف حدث التغير الجذري بين عشية وضحاها في فكر الإنسان الذي كان بالأمس يتشدق بقدرة العلم والتكنولوجيا ـ الذين لا تفوقهما قدرةـ ولذائذ الحياة المادية عموما. ومثالا بسيطا: فإن من يطالع صحيفة “ذـ كونفيرسيشن” ومجلة “إينرسيلف” الرقميتين ـ وحدهما ـ فسينتابه الذهول من حجم مستوى الروحانية الذي طبع مقالات الكُتاب الغربيين بخصوص وباء كورونا. أما مجلة “إينرسيلف” فقد كانت تقدم محتوياتها مجانا دون الحاجة للاتصال بالانترنت. فلم يعد الحديث عن لقاح ميؤوس منه، وإنما عاد الغربيون إلى التنقيب في الكتب المصفرة الأوراق. لقد تم نفض الغبار عن التركات الفكرية والروحية للشعوب الأصلية، التي كانت بالأمس محط السخرية موسومة بالجهل والتخلف. ولقد أصبح البحث في علوم الطاقة البشرية وقدرات الإنسان الهائلة في التشافي الذاتي، دون ذلك التدخل العنيف على جسم الإنسان، والذي يسمى “الطب الحديث”ـ تلك القدرات الهائلة التي يعترف الغربيون أخيرا بأن الله ـ القدرة العظمى ـ حبا بها مخلوقه الإنسان. بل حتى من لم يعترف يوما بوجود إله، صار يبحث عما كان عالم الفيزياء الألماني “ماكس بلانك” يقصده بقوله: “إنها معدلات اهتزاز صممها ذكاء خارق غير مرئي”، في اللحظة التي كان يستلم فيها جائزة نوبل للفيزياء سنة 1918م. وفي المنابر ذاتها، فقد كانت تنشر تجارب كثيرة لأشخاص استطاعوا التغلب على الوباء بعد إصابتهم، وذلك باستعادة الإحساس بمصدرهم وتفعيل التشافي الذاتي. وفي السياق ذاته، كانت جهات مختصة في التنمية الروحية تجعل من مثل هذه المنابر منصة لمناشدة الناس بالالتحاق يوميا في ميعاد معين، بشكل جماعي عن بعد، لممارسة اليوغا والتأمل بالتنفس العميق، بغية رفع الطاقة الإيجابية في الكوكب، ومساعدة مرضى الوباء على الشفاء؛ قد يبدو غريبا أن تكتشف الفيزياء الجديدة أن الكون والكوكب والإنسان كلهم طاقة مبنية على الترابط والتأثير والتأثر، وأن أفكار الناس تجعل الكوكب أسعد أو أتعس! لكن هذا ما أثبتته الفيزياء الجديدة حقا بعد أن جرى تفنيد الأديان والمذاهب “الأرواحية”[20]. والعالم الغربي اليوم يسعى جاهدا للتطوير الذاتي روحيا، واستعادة الإحساس بالمصدر وبأمه الأرض، وصار من أولوياته التواصُلُ مع الكون وخالق الكون، حتى أنه يجعل في برنامجه اليومي حيزا للتأمل، ليبارك نفسه على كونه جاء من مصدر هائل لا يُتصوَر ثراؤه، مثلما يجعل حيزا للمشي حافي القدمين لتلامس التربة طينتها، فيتم التخلص من الشحنات السلبية واستمداد الإيجابية منها. وهو الإحساس الذي تنامى بشكل ملحوظ خاصة مع الاحتفال باليوم العالمي للأرض (22 أبريل 2020)، فبعد هذا الحدث الرمزي السنوي الذي تزامن مع انتشار الوباء، اكتسبت الأرض روحانية عميقة لدى العالم الغربي. وتماشيا مع موجة الصحوة الروحية، فقد انتشرت كتب لم يكن يعار لها أي اهتمام، أو كان ينظر إليها على أنها ضرب من الهذيان، فيما هي تقدم إجابات حاسمة عن أسئلة قد تراود كل إنسان حي مؤمنا كان أو ملحدا، ومن بين هذه الكتب التي انتشرت خلال هذه الفترة: “إسأل تعط ـ تعاليم أبراهام” لـ”إيستر وجيري هيكس”، وكتاب “طب الملائكة” لـ”دورين فيرتشو”، و”سماؤك الداخلية ـ أحاديث مع الله” لـ”نيل دونالد وولش”، و”السر” لـ”روندا بايرون”، و”النقلة” لـ”واين داير”، و”النفَس العميق للحياة” لـ”ألان كوهين”، و”التسامح أعظم علاج على الإطلاق” لـ”جيرالد ج. جامبولسكي”…

وصفوة القول: إن الايغال في الحياة المادية، لم يؤد بالإنسان الغربي سوى إلى فقدان الاحساس بمصدره. ولعل مكانة الدين في العالم الغربي تغيرت منذ عصر الأنوار، مرورا بفلسفات “ماركس” و”فرويد” و”نيتشه” وغيرهم، حتى أضاع الإنسان الغربي بوصلته الروحية، وبالتالي فَقَدَ الاتصالَ بمصدره كليا في عصر الحداثة وما بعدما، فجرى تسويق الفكر إلى المجتمعات المؤمنة ـ أو بالأصح عولمتُه. وبهذا الصدد يقول عالم النفس “جيروم كيغان”: “إن الأميركيين والأوروبيين شأنهم (…) شأن النحل الشارد الفاقد الاتجاه، يظلون في حالة من التيه والضياع يدورون في دوائر مفرغة حتى يدهمهم الموت، فيما هم في سكراته ينعون على أم البشرية حواء قضمها تفاحة الخلد والسقوط من علياء الجنة إلى سفوح الشقاء، ويتمنون لو أنها لم تفعل ذلك”[21]. لكنه يستدرك آملا ليضرب مثلا بحادثة طريفة حدثت للشاعر “شيزلاف ميلوش”، الحائز على جائزة نوبل، فيقول إن الشاعر “يذكر أنه ذات مساء بينما كان يتمشى في إحدى القرى البولندية وقع بصره على بضع بطات يتمرغن في بركة من الوحل القذر، لكن ما ضاعف من صدمته وأثار استغرابه هو وجود مجرى مائي رائق صاف يتدفق عبر غابة من المروج على مقربة من بركة الوحل القذر. وحينما سأل ميلوش أحد المزارعين (…) عن سبب إعراض البطات عن الاستحمام في مجرى الماء الرائق جاءته الإجابة الحاسمة من المزارع الكهل: لو أن أحدا أخبر تلك البطات بوجود هذا المجرى الرائق الصافي لذهبت إليه”[22]؛ فربما أمْكَنَ تصوُّرُ رسولٍ، هذه المرة غير بشري ولا مرئي، يدعى “كورونا”، قد جاء ليقوم بتلك المهمة النبيلة. وبما أن من عادة بعض المفكرين والأدباء التنبؤ بالمستقبل، فربما كان “ماركيز” من تلك الفئة النادرة؛ فلقد كان واثقا بأن “إيستيبان” سيجري تقديسه يوما ما، ويتم توسيع البيوت، لتتسع لشبحه “دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف”، ويجري دهن البيوت بألوان زاهية احتراما لذكراه، وتحفر الآبار في الصخور وتزرع الأزهار على الأجراف”، حيث “يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ على رائحةِ الحدائق، ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية، ويقول مشيرًا إلى الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق، و[بكل] لغاتِ العالم: “أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس. هناك هي قرية إستبان!”[23].

 

التوصيات (على سبيل الختم):

ختاما، فمثلما كانت غاية هذه المقالة مواكبة الركب الثقافي الراهن في العلوم الإنسانية، لكون الوباء قد وفر لهذه العلوم موضوعا خصبا للدراسة العلمية، فهي تخلص إلى طرح مجموعة من التوصيات، والتي ربما قد يكون تطبيقها ذا أهمية في ظرفية الوباء خاصة؛ ويمكن إجمالها في نقاط أربع:

ـ لطالما كانت الجوائح والكوارث عموما، ذات وجه مشرق لا ينكر؛ فلقد كان “الموت الأسود” من أهم الأسباب التي دفعت بأروبا نحو النهضة العلمية والحضارية، مشكلة بذلك قطيعة مع عصور مظلمة؛ وقياسا على هذا، فإنه من الجيد عدم الإغراق في العدمية والتشاؤم، وإنهاك الفكر بالحديث عن مؤامرات تزيد من تشتيت وعي الرأي العام وتبنيه ايديولوجيات عدوانية، في الوقت الذي يسعى علماء النفس والاجتماع جاهدين للقضاء على مثل هذه “الأفكار التي آذت الإنسانية” (كما يقول راسل).

ـ اتصالا بالفكرة السابقة، وفي ظل ما يعرفه العالم من طفرة معلوماتية، فينبغي على الباحثين في العلوم الإنسانية، دون كلل، مواصلة نشر أفكار تخلص الإنسانية من الأنانية والعنصرية، والتي بدت واضحة في زمن انتشار الجائحة، وكذا حثهم على المحبة غير المشروطة مع كل المخلوقات، وإنتاج أفكار نيرة تخفض صوت عالم المادة؛ فتلك هي حقيقةً “أفيون الشعوب”. ولا يجدر نسيان أن نظرة الإنسان إلى العالم، هي ما يقرر سيكولوجيته ومصيره.

ـ إن ما نُشِرَ من مواد رقمية، منذ انتشار الوباء، يعد الشاهد الموثق الوحيد على ما شهده العالم من تحول مهول جراء وباء كورونا، وبالتالي فمن الضروري عدم إغفالِ هذه المواد التي تستدعي دراسة أنثروبولوجية وسوسيولوجية وسيكولوجية… فليس كافيا ما كانت تنقله الصحافة الميدانية ولا القيل والقال، فمع تعذر قيام العلماء الإنسانيين بدراسات ميدانية فاحصة تواكب الحدث، نظرا لما كانت ـ وما زالت ـ تفرضه الظرفية من إجراءات طوارئ صحية، فإن ما نُشِر من مواد رقمية، منذ بداية ظهور الوباء، يستحق أن يحل محل الدراسات الميدانية؛ وهنا تتجلى الأهمية العلمية البالغة للرقمنة.

ـ إن ما أثبتته الجائحة اليوم من حاجة ملحة إلى العلوم الإنسانية في تدبير الأزمات والاستجابة لها، يفرض على الجامعات العربية قاطبة إيلاء الأهمية التي تستحقها العلوم الإنسانية والاجتماعية، بدل السعي الجاهد إلى تقليص شُعَبِها على حساب ما يتطلبه سوق العمل، فالرجاحةُ تقضي باعتماد معيار الموازنةـ ولاسيما الأنثروبولوجيا، فهي تبقى العلم الذي لم يُعطَ الأهمية التي يستحقها في المجتمعات العربية ويجري استبعادها، وهي “علم الانسان” الأشمل بين العلوم الإنسانية.

* * *

ـ الهوامش:

*أستاذة باحثة من المغرب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة ـ المغرب

[1]ـ فخري صالح: ” الكاتبة الهندية أرونداتي روي: لا شيء يمكن أن يعود إلى طبيعته بعد الآن”، صحيفة “أنديبوندون عربية”، الرابط الالكتروني:

الكاتبة الهندية أرونداتي روي: لا شيء يمكن أن يعود إلى طبيعته بعد الآن | اندبندنت عربية (independentarabia.com)

[2]ـ المرجع نفسه.

[3]ـ د.المهدي المنجرة: “عولمة العولمة”، منشورات الزمن، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2011، ص: 12.

[4]ـ د.عباس خامه يار: “كورونا.. العولمة والقرية الكونية”، صحيفة “الميادين” الالكترونية، الرابط الالكتروني:

كورونا.. العولمة والقرية الكونية | الميادين (almayadeen.net)

[5]ـ المرجع نفسه.

[6]ـ أنتوني لوينشتاين: “رأسمالية الكوارث”، ترجمة: أحمد محمد الحميد، عالم المعرفة، العدد: 478، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر 2019، ص: 374.

[7]ـ برتراند راسل: “بحوث غير مألوفة”، ترجمة: سمير عبده، دار التكوين، دمشق، بدون طبعة، 2009، ص: 151.

[8]ـ ابن المقفع: “رسالة الصحابة”، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء، بدون طبعة، بدون تاريخ، ص: 15.

[9]ـ نقلا عن: محمد عابد الجابري، “من أزمة الإشتراكية في البلاد المتخلفة”، سلسلة مواقف، العدد: 12، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، فبراير 2003، ص: 46.

[10]ـ برتراند راسل، المرجع السابق، ص: 152.

[11]ـ جيروم كيغان: “الثقافات الثلاث: العلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانيات في القرن الحادي والعشرين”، ترجمة: د.صديق محمد جوهر، عالم المعرفة، العدد: 408، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالتعاون مع المركز القومي للترجمة بمصر، الكويت، يناير 2014، ص: 140 ـ 141.

[12]ـ المرجع نفسه، ص: 302.

[13]ـ د.المهدي المنجرة، المرجع السابق، ص: 71.

[14]ـ ألبير كامو: “الطاعون”، ترجمة: الدكتور سهيل إدريس، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، سبتمبر 1981، ص: 192.

[15]ـ المصدر نفسه، ص: 192.

[16]ـ برتراند راسل، المرجع السابق، ص: 169.

[17]ـ فالح بن حسين الهاجري: “كيف نبني مجتمعا واعيا ومثقفا لمواجهة كورونا”، مجلة الدوحة، العدد: 150، وزارة الثقافة والرياضة، الدوحة ـ قطر، أبريل 2020، صفحة غير مرقمة، (أنظر افتتاحية العدد).

[18]ـ محمد تهامي زكي، “عيون الظلام .. رواية تنبأت بظهور كورونا في ووهان الصينية [منذ] 39 سنة”، صحيفة اليوم السابع الالكترونية، الرابط الالكتروني:

” عيون الظلام”..رواية أمريكية تنبأت بظهور كورونا فى ووهان الصينية من 39 عاما – اليوم السابع (youm7.com)

[19]ـ أمجد جمال، “السينما العالمية: صناعة في الحجر الصحي”، مجلة الدوحة، المرجع السابق، ص: 20.

[20]ـ “الأرواحية”، أو مذهب حيوية المادة، هي الاعتقاد أن لكل ما في الكون روحا أو نفسا، حتى الكون نفسه. (نقلا عن مترجم كتاب: جون روبرت ميكنيل ووليام هاردي ميكنيل: “الشبكة الإنسانية ـ نظرة محلقة على التاريخ العالمي”، ترجمة: مصطفى قاسم، عالم المعرفة، العدد: 458، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مارس 2018، ص: أنظر هامش الصفحة37).

[21]ـ جيروم كيغان: المرجع السابق، ص: 304.

[22]ـ المرجع نفسه، ص: 304.

[23]ـ موقع المسيرة الالكتروني: “غابرييل غارسيا ماركيز: أجمل غريق في العالم”، ترجمة: د.محمد قصيبات، الرابط الالكتروني:

أجمل غريق في العالم | غابرييل جارسيا ماركيز ~ المسيرة الالكتروني (al-maseera.com)