زكي الميلاد
نحو قراءة معرفية جديدة
-3- التركيب النفسي للثقافة
من الحديث عن التحليل النفسي للثقافة ينتقل بن نبي للحديث عن التركيب النفسي للثقافة، حيث يعالج مشكلة الثقافة من زاوية أخرى، وفي طور آخر مختلف، وعلى قاعدة التمايز الثقافي، والتباين في مستويات التطور الحضاري. ويرى بن نبي أن الفرق الجوهري في طريقة مواجهة مشكلة الثقافة يتحدد تبعاً لدرجة التطور والتمدن في كل مجتمع، وطبيعة مرحلته التاريخية. لهذا فإن العالم العربي والإسلامي يختلف في موقفه من الثقافة عن العالمين الغربي والاشتراكي، وليست مشكلته منحصرة في محاولة فهم الثقافة، وإنما بدرجة أساسية في تحقيقها بصورة عملية، وهذا ما يقصده بن نبي من التركيب النفسي للثقافة.
ومع أن بن نبي استخدم عبارات التحليل النفسي والتركيب النفسي وارتبطت بنظريته في الثقافة، ومع ما يكتنف هذه العبارات من غموض، إلاّ أن بن نبي لم يعتنِ بشرح هذه العبارات وتحديد ما يقصده بها بصورة واضحة وثابتة. وقصارى ما أشار إليه هو أنه نسب تلك العبارات إلى مصطلحات علماء النفس لكي يظل في نطاقهم كما يقول، وبدون أيضاً أن يشرح الحكمة من ذلك، أو مصدر القيمة لهذا الانتساب. والمفارقة التي تظهر في هذا الشأن هي أن بن نبي فضل مصطلحات علماء النفس مع أن منهجه في البحث أقرب إلى علم الاجتماع، وهو يتمثل شخصية عالم الاجتماع أكثر من شخصية عالم النفس، كما أنه يعتبر مفكراً اجتماعياً أكثر من كونه مفكراً نفسياً. لهذا كان يفترض أن يلتفت بن نبي إلى ضرورة شرح ما يقصده من عبارتي التحليل النفسي والتركيب النفسي للثقافة.
مع ذلك بإمكاننا أن نتوصل إلى ما يقصده بن نبي من تلك العبارتين، لكن ليس بصورة مباشرة ومحددة، وإنما من خلال البحث والاستنباط. فعبارة التحليل النفسي للثقافة يراد منها الإجابة على سؤال: كيف نفهم الثقافة؟ أو كيف نحدد فهمنا للثقافة؟ وعبارة التركيب النفسي للثقافة يراد منها الإجابة على سؤال: كيف نطبق الثقافة؟ أو كيف يكون للثقافة واقع فعلي في حياتنا؟
والبدء من التحليل النفسي للثقافة لأنه لابد أولاً من تحديد الفهم للثقافة، الفهم الذي يحتاج إلى منهج يحدد طبيعة ومحددات الفهم للثقافة الذي يفترض أن يتناغم ويستجيب للشروط التاريخية، ودرجة التطور الحضاري، ونوعية المشكلة الاجتماعية. وهذه الطريقة في النظر هي التي يصطلح عليها بن نبي بالتحليل النفسي للثقافة. والعمل على تحويل هذا الفهم للثقافة من حيز النظرية والأفكار إلى حيز الواقع والتطبيق، بحيث تتصل الثقافة بالمجتمع، ويتصل المجتمع بها، هذه المهمة يصطلح عليها بن نبي بالتركيب النفسي للثقافة.
ومحاولة فهم الثقافة يحددها بن نبي في إطار التاريخ، وتطبيق الثقافة يحددها في إطار التربية. فالثقافة حسب رأيه ينبغي أن يتصل معناها بالتاريخ، ولا يمكن أن نتصور تاريخاً -كما يقول- بلا ثقافة، والشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتماً تاريخه. والثقافة بهذا المعنى في اتصالها بالتاريخ هي في نظر بن نبي تلك الكتلة بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة(6).
ومعنى الثقافة في التربية يتحدد عند بن نبي من خلال صياغة هدفها، وما تتطلبه من وسائل التطبيق. أما الهدف فاعتبار أن الثقافة ليست علماً خاصاً بطبقة من الشعب دون أخرى، وإنما هي دستور تطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي. وعلى هذا الأساس فإن الثقافة تشتمل في معناها العام على إطار حياة واحدة يجمع بين راعي الغنم والعالم جمعاً توحد بينهما مقتضيات مشتركة، وهي تهتم في معناها بكل طبقة من طبقات المجتمع فيما يناسبها من وظيفة تقوم بها(7).
وتطبيق الثقافة هو بمعنى أن تتحول الثقافة إلى أسلوب حياة في المجتمع بحيث تؤثر على كافة طبقاته الاجتماعية. وهذا التحول في رؤية بن نبي بحاجة إلى أربعة عناصر مترابطة ومتكاملة فيما بينها، يسميها بن نبي عناصر أو فصول الثقافة، وهي حسب الترتيب عنده:
أولاً: التوجيه الأخلاقي، ويسميه بن نبي تارة بالمبدأ الأخلاقي أو الدستور أو الفصل، وجميع هذه التسميات تحدّث عنها في مؤلفاته ومحاضراته. لكن التسمية الأكثر تعبيراً وتفضيلاً لديه هي التوجيه الأخلاقي، ولعلها أسبق التسميات أيضاً. وكلمة التوجيه تعبر عنده عن فكرة حاول التأكيد عليها، وصياغة معنى لها، ويَقْصِدُ بها قوةً في الأساس وتوافقاً في السير ووحدةً في الهدف، فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد والوقت(8). كما أن كلمة التوجيه هي من الكلمات التي تحدّث عنها بن نبي باهتمام، وربطها بأفكاره الأساسية، وباتت تعد من الكلمات التي تصنف على قاموسه الفكري أو منظومته الثقافية.
وأول ما يلفت النظر إليه بن نبي في هذا الشأن هو أنه لا يتحدث عن الأخلاق من زاوية فلسفية، وإنما من زاوية اجتماعية، وليس هو بصدد شرح مبادئ خلقية، وإنما بقصد تحديد قوة التماسك الضرورية للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية.
وقد ظل بن نبي يشرح هذه الفكرة في العديد من مؤلفاته ومحاضراته، وكأنه يحاول تنضيج هذه الفكرة وبلورتها وتحديدها بصورة دقيقة ومتماسكة. ولعل أوضح وأضبط حديث كشف فيه عن العلاقة بين الأخلاق أو التوجيه الأخلاقي والثقافة هو ما تحدّث به في محاضرة له ألقاها بمدينة طرابلس اللبنانية عام 1959م، ونشرها في كتابه >تأملات< الصادر عام 1961م. لأن ما تحدث به في كتابه >شروط النهضة< ونقله بدون أي تعديل في كتابه >مشكلة الثقافة< كان عاماً ويفتقد إلى الضبط والتحديد خصوصاً من جهة العلاقة بين الأخلاق والثقافة، كالذي أوضحه في كتابه >تأملات< حيث شرح هذه العلاقة من جهتين، من جهة اجتماعية، ومن جهة ثقافية، بدون الفصل بينهما. فهو يرى أن العلاقات الشخصية بين الأفراد لا تقوم في أي مجتمع من دون أساس أخلاقي، وشبكة الصلات الثقافية هي تعبير عن العلاقات الشخصية في مستوى معين، لذلك لا يمكن لهذه الشبكة أن تتكون بدون مبدأ أخلاقي. كما أن فعالية المجتمعات تزيد وتنقص بقدر ما يزيد فيها تأثير المبدأ الأخلاقي أو ينقص وجماع القول أن المبدأ الأخلاقي هو الذي يقرر الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات.
ثانياً: التوجيه أو الذوق الجمالي. حيث يرى بن نبي أن الجمال له تأثير في الروح الاجتماعية، ويشرح هذه الفكرة بقوله: >إن الأفكار هي المنوال الذي تنسج عليه الأعمال، وهي تتولد من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي فتنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان وأصوات وروائح وحركات وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل أو السماجة المستهجنة. فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعاً إلى الإحسان في العمل، وتوخياً للكريم من العادات<(9). لهذا يعتبر بن نبي أن الذوق الجمالي من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة، لأنه حسب رأيه يحرك الهمم إلى ما هو أبعد من مجرد المصلحة، ويحقق شرطاً من أهم شروط الفعالية لأنه يضيف إلى الواقع الأخلاقي عند الفرد دوافع إيجابية أخرى.
ثالثاً: المنطق العملي. يعتقد بن نبي أن الذي ينقص الإنسان المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً. وأكثر من ذلك أنه قد يبغض الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً، ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحول إلى عمل ونشاط. وليس من الصعب على الفرد المسلم -كما يضيف بن نبي- أن يصوغ مقياساً نظرياً يستخرج به نتائج من مقدمات محددة، غير أنه من النادر جداً أن يعرف المنطق العملي رأي استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة بوسائل معينة.
رابعاً: التوجيه الفني أو الصناعة. يرى بن نبي أن المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي والمنطق العملي، هذه العناصر لا تكون وحدها شيئاً من الأشياء -حسب رأيه- إن لم تكن في أيدينا وسائل معينة لتكوينه. والعلم أو الصناعة -حسب تعبير ابن خلدون- هو الذي يعطينا تلك الوسائل، ويكون عنصراً هاماً في الثقافة لا يتم بدونه تركيب عناصرها وتحديد معناها. ويدخل في هذا المفهوم كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم.
وبقطع جازم يعتقد بن نبي أن هذه العناصر الأربعة هي التي بإمكانها أن تساهم في تحديد الثقافة وتركيبها وتحويلها إلى أسلوب حياة في المجتمعات، ولسنا بحاجة -حسب رأيه- إلى عنصر آخر، وأي إضافة ستكون من فضول الحديث الذي لا حاجة إليه.
ومن الممكن القول بأن هذا التركيب للثقافة وتحديدها بتلك العناصر الأربعة، يمثل جوهر النظرية الثقافية لمالك بن نبي، ومحور لاهتمام في هذه النظرية. وجميع الأحاديث والمحاضرات والكتابات التي كان بن نبي يلقيها أو ينشرها حول الثقافة ومشكلة الثقافة كانت تدور وتتصل بهذه النظرية. وقد ظل بن نبي يكرر الحديث عن هذه النظرية، ويلفت النظر إليها باستمرار، ولاشك أنه كان ملتفتاً لهذا التكرار وقاصداً إليه. وكأنه كان يحاول تعميم هذه النظرية والتعريف بها. وذلك لثقته الجازمة بهذه النظرية وبفاعليتها وتكاملها. وباعتبار أنها تعبر عن رؤية جديدة غير مسبوقة من قبل. مع ذلك يبقى أن تكرار بن نبي كان مخلاًّ بعض الشيء بحيث تظهر مؤلفاته وكأنها متشابهة مع بعضها إلى حد كبير، لا أقل في عدد منها.
ولقد توقفت كثيراً أمام هذه النظرية لمعرفة مصادرها ومنابعها، خصوصاً وأن بن نبي لم يشرح لنا كيف توصل لهذه النظرية؟ وكيف تَعَرَّف عليها وقام بإبداعها وصياغتها؟ وكيف نضجت وتطورت عنده؟
وهذه الملاحظة تكاد تصدق على معظم أو جميع مؤلفات بن نبي التي لا يوثقها بمصادر ومراجع، ولا يُظْهر شيئاً من هذا القبيل إلاّ نادراً، كما في كتابه >وجهة العالم الإسلامي< حين تحدث في مقدمته عن كتاب >الاتجاهات الحديثة في الإسلام< للمستشرق الإنجليزي هاملتون جيب لكي يظهر التشابه معه في الموقف العام، ويتخذ منه كما يقول سنداً يؤيد به رأيه، ووصف هذا السند بأن هل وزن كبير(10).
ولا أدري إن كان بن نبي متعمداً في عدم الإشارة إلى المصادر والمراجع، وما هي حكمته في ذلك، لأن من الصعب الجزم بعدم وجود مثل هذه المصادر والمراجع.
وقد استوضحت هذا الأمر من الدكتور عبدالصبور شاهين حين التقيت به في مؤترم إسلامي عقد في طهران عام 2002م، وهو الذي جمعته معرفة مبكرة مع بن نبي، بعد وصوله إلى القاهرة، وقام بترجمة أوائل مؤلفاته من الفرنسية إلى العربية. وبدوره حدثني الدكتور شاهين عن هذه العلاقة كيف بدأت وتواصلت، وكان جوابه عن سؤالي: أن بن نبي كان يعتبر ما أنجزه من أفكار ونظريات ومفاهيم تأملاتٍ من عنده، ومن وحي فكره، وإبداع عقله.
وبعد نظر طويل وتأمل مستفيض وجدت ما يمكن اعتباره نموذج قياس لتلك العناصر الأربعة في نظرية بن نبي الثقافية، وذلك لوجود قدر من التشابه والتماثل بين ما أقصده بنموذج القياس وبين العناصر الأربعة، مع ما بينهما من تباعد زمني ومعرفي بشكل لا يمكن تصور هذا القدر من العلاقة والتشابه. وهذا النموذج يتحدد في أحد المباحث المهمة، وهو مبحث أقسام العلة الذي ينتمي إلى علمي الفلسفة والمنطق اليونانيين القديمين. حيث تقسم العلة إلى أربعة أقسام هي: العلة الغائية، والصورية، والفاعلية، والمادية. فالعلة الغائية ويعبر عنها المناطقة بقولهم: ما له الوجود، وهي التي تحدد الدوافع والغايات. وهذا يشابه ويطابق ما يقصده بن نبي بالمبدأ الأخلاقي الذي يقرر حسب رأيه الاتجاه العام للمجتمع بتحديد الدوافع والغايات. والعلة الصورية ويعبر عنها المناطقة بقولهم: ما به الوجود، وهي التي تحدد صورة الشيء ومظهره الخارجي، وهذا يشابه ما يقصده بن نبي بالذوق الجمالي الذي يصوغ ويحدد صوره المبدأ الأخلاقي. والعلة الفاعلية ويعبر عنها المناطقة بقولهم: ما منه الوجود، وهي التي تحدد مبدأ الفعل والحركة، وهذا يشابه ما يقصده بن نبي بالمنطق العملي. والعلة المادية ويعبر عنها المناطقة بقولهم: ما فيه الوجود، وهي التي تحدد ما يحتاج إليه الشيء من عناصر لينتقل من القوة إلى الفعل، وهذا يشابه ما يقصده بن نبي بالتوجيه الفني أو الصناعة.
ولعل هذا أيضاً ما يفسر الجزم الذي يقطع به بن نبي باكتمال المبادئ الأربعة التي قررها بصورة تامة بحيث لا يمكن الإضافة أو الزيادة عليها بأي شيء آخر. ومصدر هذا الجزء ناشئ من تمامية تلك الأقسام الأربعة للعلة.
وما يقرب من إمكانية مثل هذا التشابه أو التطابق وجود بعض الدلائل الجزئية التي تصلح أن تكون قرينة على ذلك، كاستعمال كلمة المنطق في حديث بن نبي عن المنطق العملي، والتفاتته إلى هذا الاستعمال وما يمكن أن يترتب عليه من التباس. والذي أوضحه بقوله: >لسنا نعني بالمنطق العملي ذلك الشيء الذي دونت أصوله، ووضعت قواعده منذ أرسطو<(11).
مع العلم أن التقسيم المذكور للعلة ينسب إلى أرسطو، ويحتمل أنه أول من أشار إليه.
وما ينبغي أن يعرف أنني لست بصدد التشكيك في نظرية بن نبي، أو التقليل من أهميتها وقيمتها، خصوصاً وأن بن نبي كوّن هذه النظرية بمضمون معرفي جديد وبديع، وهو المعروف عنه أنه خبير بالثقافة وشؤونها ومسائلها، وهذا أمر لا خلاف عليه. وما كنت بصدده هو محاولة البحث عن منابع التفكير للنظرية الثقافية عند بن نبي.
-4- الثقافة بين العلم والحضارة
ترتكز النظرية الثقافية عند مالك بن نبي على قاعدة تفكيك العلاقة بين الثقافة والعلم من جهة، وإدماج الثقافة بالحضارة من جهة أخرى. فهو حين يشرح نظريته في الثقافة فإنه يحاول التأكيد على إظهار الفروقات والتمايزات بين مكونات مفهوم الثقافة، ومكونات مفهوم العلم. وهذه القضية كانت واضحة في إدراك بن نبي وهو شديد القناعة بها، لذلك ظل ينبه عليها ويلفت النظر إليها كلما حاول تجلية مفهوم الثقافة. المفهوم الذي لا يمكن أن يكتسب قوة التحديد حسب رؤية بن نبي إلاّ من خلال الكشف عن الفروقات الدقيقة التي تميز مفهوم الثقافة عن مفهوم العلم.
ولعل منشأ هذه الضرورة هو ما يتصف به العلم من دقة ووضوح، وما تتصف به الثقافة من تعقيد وغموض. وهذا يعني أن إشكالية الالتباس ليست في العلم وإنما في الثقافة. وإشكالية الثقافة لا يمكن تحليلها ومعالجتها إلاّ من خلال اقترانها بالعلم. وكأن مهمة الثقافة هي أن تستقل عن العلم وتتمايز عنه، حتى يكون لها هويتها الخاصة، ومهمتها التي تنفرد بها عن العلم. لأن الثقافة شيء يختلف عن العلم، ومنطق الثقافة يختلف عن منطق العلم، وحكمة الثقافة تختلف عن حكمة العلم، ودون الكشف عن هذا الاختلاف يكون من الصعب معرفة منطق الثقافة وحكمتها.
لهذا فإن في كل مرة يتحدث فيها بن نبي عن الثقافة يبدأ أولاً برفع الخلط الذي يصفه بالخطير بين كلمة الثقافة وكلمة العلم. وظل يكرر الحديث في هذا الموضوع ويتوسع فيه سعياً نحو بلورته وتنضيجه والتأكيد عليه. ففي كتابه >شروط النهضة< وهو من أسبق مؤلفاته التي تحدّث فيه عن نظريته في الثقافة. وقبل أن يشرح فكرته عن الثقافة اعتبر أن تحديد الثقافة لا أثر له إلا إذا زال ذلك الخلط الخطير الشائع في العالم الإسلامي بين ما تفيده كلمتا ثقافة وعلم(12). وهذا الربط لا يرتفع حسب رؤية بن نبي إلاّ بعد ربط الثقافة بالحضارة ربطاً وثيقاً، وعلى أساس هذا الربط تصبح الثقافة كما يقول نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن قياس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم(13).
وقد رجع بن نبي مرة أخرى لهذه الإشكالية في كتابه >من أجل التغيير< ليقدم حولها شرحاً أكثر تحديداً بعض الشيء، ويكون منطلقه أيضاً وضع حد لما يصفه بالبلبلة الفكرية المضرة جداً، والتي تجعل من كلمة ثقافة مرادفاً لكلمة علم والعلم حسب رأيه يعطي المعرفة، ويعطي اللباقة والمهارة، وفقاً للمستوى الاجتماعي الذي يتم عليه البحث العلمي، ويعطي امتلاك القيم التقنية التي تولد الأشياء. أما الثقافة فإنها تعطي السلوك والغنى الذاتي الذي يتواجد على كل مستويات المجتمع، وتعطي امتلاك القيم الإنسانية التي تخلق الحضارة. ويؤسس على ذلك أن الثقافة والعلم ليسا مترادفين. والثقافة عنده تولد العلم دائماً، والعلم لا يولد الثقافة دوماً، ولا يمكن استبدال أحد المفهومين بالآخر. وهذا التمييز يعتبره بن نبي أساسياً من زاويتين، من زاوية وضع برنامج يهدف إلى الارتفاع بثقافة بلد ما إلى أعلى مستوى من مستويات الحضارة. ومن زاوية فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية ذات الأهمية الأساسية(14).
هذا من حيث الفروقات الكلية والعامة، وأما الفروقات التفصيلية والأكثر تحديداً فقد تحدث عنها بن نبي في كتابه >تأملات< الذي قدّم فيه أوضح تحليل لعناصر ومكونات نظريته في الثقافة بتأكيد الفروقات التي يصفها بالجوهرية بين الثقافة والعلم. فحين يتحدث عن المبدأ الأخلاقي وهو العنصر الأول في نظريته الثقافية، يشير إلى الفروقات بين الثقافة والعلم من هذه الناحية. ويرى أن الثقافة تقوم بتحديد الصلات بين الأفراد، بينما يقوم العلم بتحديد الصلات الخاصة بالمفاهيم والأشياء. ويوضح بن نبي هذا الفرق في تباين السلوك الذي يظهر بين الرجل العالم والرجل المثقف. فالرجل العالم حسب قوله قد يكون عنده إلمام بالمشكلة كفكرة، غير أنه لا يجد في نفسه الدوافع التي تجعله يتصورها عملاً، في حين أن الرجل المثقف يرى نفسه مدفوعاً بالمبدأ الأخلاقي الذي يكوّن أساس ثقافته إلى عمليتين، عملية هي مجرد علم، وعملية أخرى فيها تنفيذ وعمل.
ومن ناحية الذوق الجمالي وهو العنصر الثاني في نظريته يظهر فروقات أخرى بين الثقافة والعلم. حيث يرى أن العلم تنتهي مهمته عند إنشاء الأشياء وفهمها، بينما الثقافة تستمر في تجميل الأشياء وتحسينها. لهذا يعتبر بن نبي الذوق الجمالي من أهم العناصر الديناميكية في الثقافة لأنه يحرك الهمم إلى ما هو أبعد من مجرد المصلحة.
أما من ناحية المنطق العملي وهو العنصر الثالث، فإن تطبيق هذا العنصر يتضمن كما يقول بن نبي فكرة الوقت والوسائل البداغوجية لبث هذه الفكرة في السلوك، وفي أسلوب الحياة في المجتمع. ويعتبر بن نبي أن هذا المبدأ سيزيد في وضوح الخلاف البعيد على حد وصفه بين الثقافة والعلم، وبالتالي بين الفرد المثقف والفرد العالم والمتعلم.
ومن ناحية التوجيه الفني أو الصناعة وهو العنصر الرابع، ويقصد به أيضاً العلم الذي يعطي الوسائل، ويشرح كيفية تطبيق الأصول النظرية للعمل. وهذا يعني أن بن نبي يعتبر العلم جزءاً من الثقافة.
وبهذا يكون بن نبي قد حسم رؤيته في تحليل وتحديد الفروقات بين الثقافة والعلم. وانتهى إلى الانتصار بقوة للثقافة، وأنها ليست جزءاً أو رديفاً أو تابعةً للعلم. وإنما هي أكثر أهمية وفاعلية من العلم. كما واعتبر العلم عنصراً من عناصر فكرته عن الثقافة، وهذا يعني هيمنة الثقافة في نظرية بن نبي على العلم وتفوقها عليه.
والملاحظ هنا أن الجهد الأساسي الذي بذله بن نبي كان يتركز بصورة أساسية على تحديد فكرة الثقافة، وتفسير ذلك لأن الثقافة هي التي بحاجة إلى ضبط وتحديد بسبب ما يكتنفها من غموض وتعقيد. في حين أن العلم لا يكتنفه ما يكتنف الثقافة من غموض وتعقيد، لذلك فهو لا يحتاج إلى جهد كبير ليكون أكثر ضبطاً وتحديداً.
وهناك ملاحظة أخرى بحاجة إلى تفسير أيضاً، وهي أن بن نبي قد بذل جهداً وضحاً في الكشف عن الفروقات الأساسية بين العلم والثقافة، لكن هذا الجهد لم يكن واضحاً بالقدر الكافي في الكشف عن الارتباط الذي يصفه بن نبي بالوثيق بين الثقافة والحضارة. وكأن في إدراك بن نبي أن هذا الارتباط ليس بذلك التعقيد والغموض الذي يراه بين العلم والثقافة، وبالتالي فهو لا يحتاج لشرح مفصل أو موسع. ويمكن أن نضيف تفسيراً ثانياً يكون عاماً وشاملاً وذلك حين نعتبر أن المنظومة الثقافية التي يشتغل عليها بن نبي قائمة أساساً على العلاقة والربط بين الثقافة والحضارة. الربط الذي يتجلى في مجموع أفكاره وتصوراته كما صنفها وشرحها في مؤلفاته ومحاضراته والتي تجعل من مفهوم الحضارة محوراً لها. المفهوم الذي عبر عن محوريته حين أطلق بن نبي تسمية مشكلات الحضارة كعنوان يعبر عن الإطار العام لجميع مؤلفاته. والثقافة في رؤيته هي متفاح الحضارة. لذلك لم يكن في حاجة لأن يبذل جهداً في شرح هذا الربط بين الثقافة والحضارة.
كيف لي ان اتحصل على على نسخ من الكتب التي تقومون بعرضها لأنه يهمني كل ما يتعلق بالثقافة و الانثروبولوجيا