الصداقة والصديق في عالم متغير

الصداقة والصديق

د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير

يقضي الإنسان العادي ربع عمره تقريباً مع أصدقائه، إما في مناسبات خاصة أو عامة، أو صداقات ممتدة تنشأ من القرابة والجوار والدراسة والعمل، أو صداقات مصالح مؤقتة، وبداخل علاقة الصداقة يوجد تفاعل اجتماعي كبير، وينعكس على المجتمع إما من خلال جماعات العمل والرياضة والمهنية، أو بالمقابل جماعات الجريمة والانحراف والشللية، وهي بهذا الشكل تتشكل وتتحلل، ثم يعاد تشكيلها وتفككها باستمرار، مما يستدعي التوقف عند هذه الظاهرة وتحليلها.

يلحظ من أهمية الصداقة في المجتمع أن كل جيل وكل مجتمع ينتج موروثه الأدبي والشعبي في تحديد الموقف من الصداقة والصديق، وغالبها إما يدور حول أهمية الصديق في أوقات الأزمات، مثل: الصديق وقت الضيق، و”خوي ينشد به الظهر”، وهذا العائد الوظيفي أو المادي من الصداقة، وإما أمثال تؤكد على أن الصديق يمكن مقارنة أخلاقه وفكره بصديقه “إن القرين بالمقارن يقتدي”، وهذا العائد الرمزي للصداقة.

تحلل المقالة بعض مفاهيم الصداقة من منظور التراث ومنظور علم الاجتماع، مع استعراض بعض أنواع الصداقات.

 

أولاً: الصداقة في التراث العربي

يوجد تراث من أدبيات الصداقة والأصدقاء، فهي ظاهرة اجتماعية قديمة، ومن أبرز من خصَّها بالعناية في التراث العربي كتاب “الصداقة والصديق” لأبي حيان التوحيدي، ومجموعة أخبار وطرائف أدبية لتأكيد دور الصديق في الحياة وقدسية الصداقة، ويحذر من الصداقة المكلفة اجتماعياً، وهي التي تتمثل في أصدقاء لا يوجدون إلا في أوقات الرخاء، ويختفون في الأزمات، ويبحثون عن منافعهم الخاصة المادية والمعنوية؛ وينقل عن الشعبي وصف تحولات قيم الصداقة بقوله: “تعايش الناس بالدين زماناً حتى ذهب الدين، ثم تعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً”[1].

وكتاب “أدب الدنيا والدين” لأبي الحسن الماوردي (توفي عام 450هـ/ 1058م)، وركز فيه على المؤاخاة بالمودة، وقد عرف الصداقة بنقل مقولة: “إنما سمي الصديق صديقاً لصدقه، والعدو عدواً لعدوه عليك”[2].

وفصل بعنوان “المقالة الثانية في الأصدقاء” ضمن كتاب “الأدب الكبير” لابن المقفع، وتميز هذا الفصل عن الكتابين السابقين بأنه تأملات ذاتية من ابن المقفع وتحليل عميق لمفهوم الصداقة، وقسمه ابن المقفع إلى مجموعة مطالب مثل: مطلب في معاملة الناس، مطلب في تحذير المرء من انتحاله رأي غيره، مطلب في تجنب الهزل ولو كان مزاحاً ما لم تكبت به عدواً، مطلب في أن لا خوف عليك من أخي الثقة أن يخالط العدو، مطلب في التحفظ من الصديق المقبل بوده، مطلب في أن الدعي لا محالة مفضوح، مطلب في التثبت من الصديق قبل الإقدام عليه، مطلب في الحض على مواساة الصديق عند النوائب[3].

ويشير كتاب “معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي وما ألف فيها” لعبدالله الحبشي إلى مجموعة من المؤلفات في الصداقة والمفاهيم المحيطة بها مثل الأخوة والصحبة والمعاشرة، ومن بينها الكتب التالية: “أدب الإخوان” للبغدادي، و”أدب الصحبة” للسلمي، و”شفاء العليل في ذم الصاحب والخليل” للسيوطي، و”النخبة في الإخوة والصحبة” لابن زياد[4]. وهي تؤكد في مجموعها على ملاحظة العلماء في التراث العربي والإسلامي للظواهر الاجتماعية، ورصدها وتصنيفها مع إبداء الرأي حولها، وتفكيك عناصرها السلوكية وأنواع التفاعل فيها إلى قائمة إيجابية وقائمة سلبية.

وقد تنبه ابن المقفع إلى ظاهرة عميقة ومشهورة قديماً وحديثاً، يقول: “إن سمعت من صاحبك كلاماً، أو رأيت منه رأياً يعجبك، فلا تنتحله تزيناً به عند الناس، واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه، واعلم أن انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك، وإنَّ فيه مع ذلك عاراً وسخفاً”[5]، وهذا الانتحال لأغراض التزين في مجالس أخرى يعد الآن سلعة رائجة.

  

ثانياً: ما الصداقة؟

الصداقة من الظواهر الاجتماعية القديمة والتي تكاد تكون قانونا اجتماعيا، إذ إنها معروفة في كل زمان ومكان، وهي منتج اجتماعي يهدف إلى الاستقرار وبناء الثقة وتبادل المنافع ولقضاء أوقات السمر.

لم تعد الصداقة Friendship ظاهرة اجتماعية تنشأ عفوياً وتنتهي أو تمتد تلقائياً، بل صارت عقدا اجتماعيا مبنيا على حقوق وواجبات، ولكنها واجبات رمزية غير مادية، ونظراً لكثرة الدراسات الاجتماعية والنفسية عن الصداقة وتحولاتها، فإنها تكاد تكون علماً مستقلاً. ومع ذلك نجد أنها ما تزال في المنطقة العربية مهملة من الدراسات في العلوم الاجتماعية.

وتعرف “موسوعة علم الاجتماع” الصداقة بأنها ليست مصطلحاً قرابياً، ولكنها تستخدم لإرساء علاقات اجتماعية منظمة، وأنها تتضمن نمطاً من التبادلية والالتزام بين أفراد ليس بينهم علاقة قرابة[6]، وهذا التعريف يتضمن وصف الصداقة بأنها علاقة إيديولوجية تحمل سمات العلاقة البيولوجية المتمثلة في الإخوان والأقارب.

يعد عالم الاجتماع بيتر بلاو من أبرز العلماء الذين عالجوا ظاهرة الصداقة ضمن النظرية التبادلية، وهي من النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسلوكية والأنثربولوجية، التي تقيس بدقة حجم تبادل المنافع الرمزية أو المادية في العلاقات الاجتماعية بين الأشخاص، مثل: علاقات الزواج أو القرابة أو الصداقة، وأنها تبادل اجتماعي مبني على الثقة والأخلاقيات، بعكس التبادل الاقتصادي المبني على العقود، حتى إذا اختل نظام التبادل بين طرفين، فإن العلاقة تكون مهددة، ولكنها تنقطع إذا كان أحد الطرفين مكلفاً على الآخر من حيث العطاء العاطفي أو الأخلاقي.

الإنسان كائن مسرحي كما يصفه إرفنج جوفمان في نظرية المسرح، حيث يرى أنه يؤدي الأدوار المتوقعة منه، ويقول الكلام المنتظر منه، وكأنه مقولب وفق مكانته وعمره وخصائصه الاجتماعية والاقتصادية، أو يؤدي الأدوار التي تحقق مصالحه. ويبدو أن أحد أسباب لجوء الإنسان إلى الأصدقاء المقربين وبناء جلسات خاصة، ليمارس فيها طبيعته بتلقائية دون قيود اجتماعية.

 

ثالثاً: أربعة أنواع من الصداقات

الأصل في الصداقة أن تكون ذات منفعة تبادلية مادية أو رمزية بين الطرفين، وبذلك يكون لها وظيفة في المجتمع، ولكن يوجد بداخل علاقات الصداقة أنواع صداقة دائمة وصداقة مؤقتة وصداقة مصالح وصداقة لقضاء أوقات الفراغ، ومن أبرز أنواعها التالي:

1- علاقات المزاح

يقابل علاقات المزاح مفهوم المنادمة في التراث العربي، إذ تعد عملية انتقاء الصداقات ومجالس المنادمة مهارة نادرة، بوصفها أحد أهم مصادر جودة الحياة. والهدف العميق من حاجة الإنسان إلى الكلام ومنادمة الآخرين في المجالس والجلسات الخاصة، هو الرغبة بالشعور الدائم بالأمن على ممتلكاته، والأمان النفسي، وتمضية الوقت، وتعمد إثارة الضحك دون إيذاء أحد، بسبب الملل والفراغ، ثم ينتج بعد ذلك مسألة الذوق من خلال الطرح.

يقصد بعلاقات المزاح Joking Relationships علاقات الصداقة بين الأشخاص الذين تجمع بينهم الألفة والمودة إلى درجة أن يتوقع منها أن يتصرفوا مع بعض بإساءة المعاملة بشكل مخفف، بحيث قد يعدها الآخرون حادة ومهينة، في حين أنها علاقة مودة وإعزاز، وتمتلك من المتانة والقوة حصانة من إساءة الظن أو شعور أحد الأطراف أنه يتعرض لإساءة[7].

وغالباً ما تكون هذه العلاقة مبنية على أسس تاريخية مثل الصداقة طويلة المدى، أو بيولوجية مثل بعض علاقات الأشقاء، كما برز مؤخراً، بمساعدة التقنية وتطبيقات التواصل، “علاقات المزاح الافتراضية”، وهي مبنية على طرف واحد مرسل، وجمهور متلقي، وتحولت كثير من حسابات سناب شات الهزلية إلى صناعة اقتصادية، من خلال زيادة أعداد المشاهدات عبر المزاح مع أصدقاء مرافقين ومخصصين لتقلي المزاح المضحك، أو مزاح فردي.

2- علاقات التحاشي

يقصد بعلاقات التحاشي A voidance Relationships العلاقات الثانوية الصعبة أو المولدة للضغوط، مثل علاقة الزوج بأم زوجته (حماته) أو علاقة الزوجة بزوجات أخوة زوجها، وتخضع هذه العلاقات لدرجات متفاوتة من التوتر، وذلك بسبب التهديد المحتمل الذي قد يتسبب فيه، أو لغموض الدور المحدد له، وبالتالي يلجأ أحد الأطراف لتجنب الاتصال الفيزيقي معهم، أو تقنين العلاقة بحيث تخضع لتحديد دقيق للسلوك[8].

وتوجد علاقات التحاشي بصور متعددة في المجتمع، مثل علاقات الغيرة بين الأصدقاء، وعلاقات التنافس في العمل، والعلاقات القرابية التي تحتم التواصل الفيزيقي ولكنها متنافرة روحياً، مما يتطلب من أحد الأطراف المتضررة اتباع استراتيجيات لإدارة اللقاءات والاجتماع المفروض عليهم بحيث يضع مسافة اجتماعية تضمن عدم التواصل الفعال.

وتبرز علاقات التحاشي بسبب ما يمكن أن أسميه “علاقات تسميم البئر” وهي في الأصل من المغالطات المنطقية، ويقصد بها التصريح بمعلومات غير مرغوب فيها عن شخص آخر، لغرض إقصائه أو الحط من مكانته عند الآخرين، تمهيداً لعدم سماع رأيه. ويمكن أن أسميها أيضاً “نيران صديقة”. وقد أطلق مصطلح نيران صديقة بعد سقوط بغداد عام 2003 وكثرة ظاهرة مقتل جنود بريطانيين على أيدي جنود أمريكيين بالخطأ. ويقصد بها الأصدقاء الذين تقوم صداقتهم على هدم علاقات الآخرين من خلال نقل الأخبار غير المرغوب في نقلها، أو تلحق الضرر بالآخرين، مع تجهيز قوالب من المبررات في حال كشفهم، وقد يكون هذا طبع في شخصية بعض الأصدقاء، وقد يكون مخططا له بوعي وإدراك.

علاقات تسميم الآبار منغرسة في حياة الناس اليومية، وأكثر من يتأذى منها هم الأصدقاء أنفسهم عندما تسمم آبارهم بنيران صديقة، وذلك لوجود أناس يعيشون على مقارنة أنفسهم بأصدقائهم، وبالتالي لا يستطيعون تطوير أنفسهم للحاق بالناجحين ولا الابتعاد عنهم، فتعمل معاول الهدم لديهم بتسميم الآبار. وسوف تكتسب آراؤهم في أصدقائهم الموثوقية بقوة المعرفة عن قرب، مما يزيد من نجاح دورهم في إسقاطهم.

من نماذج تسميم الآبار بنيران صديقة، عندما يُسأل شخص عن صديقه لغرض التعامل معه أو ترشيحه لمنصب، يبدأ بالتذكير بمواقف غير مرغوب فيها، مثل: يصنف توجهاته الدينية والسياسية، أو يحط من قدر إنجازاته ومهاراته، أو يحاول إظهار بعض آرائه على أنها أخطاء كبيرة.

3- تسليع الصداقة

الأصل في الصداقة أن تكون لأغراض نفسية وروحية واجتماعية ومبنية على الثقة، ومداها الزمني طويل، ولكن انتشار الوعي والنزوع للمصالح الذاتية، تحولت الصداقة عند كثير من الناس إلى سلعة، بحيث يتم بناء صداقات مع الناس بناء على مكانتهم الاجتماعية ومناصبهم وأموالهم، وبالتالي تكون مؤقتة، وصارت مشاعر الإنسان مثل الضحك والحزن والثناء والاختلاف في الرأي سلعة في المجالس، توزع بقدر مكانات الأصدقاء.

يهتم كتاب “من يشد خيوطك: كيف تكسر دائرة الاستغلال وتستعيد السيطرة على حياتك” للمؤلفة هاريت ب. بريكر، بظاهرة استغلال الأصدقاء لتحقيق مصالح ذاتية، من خلال تحريكهم عاطفياً ليبدو وكأن هناك خيوط تحركهم كالدمى. وتقدم المؤلفة مؤشرات للشخص الواقع تحت الاستغلال دون أن يشعر به، مثل عدم الإنجاز في حياته اليومية، وذلك لأن الأشخاص الذين يستغلون الصداقات لا يهتمون بحجم الضرر الذي يوقعونه على أصدقائهم، ويحرصون على استمرار الصداقة ولكن دون تغييرها أو تطهيرها من الاستغلال.

ويهتم كتاب “عندما تصبح الصداقة مؤلمة: كيف تتعامل مع الصديق الذي يخونك أو يتخلى عنك أو يجرحك” للمؤلفة جان ياجر بظاهرة خيانة الأصدقاء، ويرصد الكتاب واحدا وعشرين نوعاً من أنواع الأصدقاء السلبيين، ويقدم مقترحات للعثور على صديق جيد.

تعنى هذه المؤلفات الشعبية عن الصداقة بالجوانب المظلمة من الأصدقاء، وهو هدف ذكي للترويج للكتب، وذلك لأن الواقعين تحت استغلال أصدقائهم من الكثرة بمكان، بل يمكن عدها ظاهرة طبيعية ولا يكاد ينجو منها أحد، ومع ذلك فهي مهمة للتعرف على أشكال التفاعل بين الأصدقاء وزملاء العمل وتزود الشخص بمهارات تحليل السلوك في الحياة اليومية.

4- أصدقاء استخدام محلي

لاحظت في كثير من المجالس وجود نوع من الأصدقاء يصلح لمجالسته منفرداً، ولكنه يتغير كثيراً إذا كان في مجموعة بمجلس. وذلك بسبب افتقادهم للحس الاجتماعي الذي يحدد لهم ما يمكن أن يتحدثوا به وبالقدر الذي يمكن أن يقال وبأسلوب الحديث، ومع ذلك فلديهم من المعرفة والعلم والفكر والخبرات ما يمكن أن يستفاد منه، وبالتالي فإن صداقة هؤلاء لتستمر دون منغصات يفضل أن تكون للاستخدام المحلي، ويقصد به تحجيم صداقتهم لتكون مقتصرة على اللقاءات الفردية الثنائية، وليست الجماعية.

رابعاً: لماذا يتخذ الإنسان صديقاً؟

يبدو أن ظاهرة الصداقة قديمة جداً، وقد أنتجتها ضرورة التفاعل الاجتماعي اليومي، وذلك لأن الصديق يملأ فراغاً كبيراً في الحياة اليومية لا يمكن أن يملأه علاقات القرابة ولا علاقات المصالح مثل العمل. وقد نتج عن علاقات الصداقة منظومة قيمية متكاملة مثل: حفظ السر، والوفاء، والثقة والإيثار، وهي قيم اجتماعية يبادر بها الشخص لصديقه بدافع الحب دون الرغبة في تحقيق مكاسب مادية، وفي المقابل نتج عنها قيم الخيانة واللؤم والاستغلال.

وتتفق كثير من الدراسات النفسية على وجود صلة وثيقة بين التفاعل مع الأصدقاء والتوافق النفسي والاجتماعي في كل مراحل الحياة، وفي مرحلتي الطفولة والمراهقة بصفة خاصة، ولذلك كثير من عواقب فقدان علاقات الصداقة وخيمة[9].

خامساً: الصداقة في عالم متغير

1- الأصدقاء الرحّل

أجد أني مضطراً لسك مصطلح “الأصدقاء الرحل” لوصف حالة التغير السريع في الصداقات وعدم ثباتها، وهو مصطلح مأخوذ من “البدو الرحل”، الذين اعتادوا على التحول المستمر بوصفه السمة الثابتة في نظام حياتهم. ويبدو أن سبب بروز ظاهرة الأصدقاء الرحل ناتج عن التحول الكبير من قياس الصداقة بالقيم الاجتماعية إلى قياسها بالقيم الاقتصادية. وبالتالي فإن الأصدقاء الرحل يخططون لحجم المكاسب قبل بناء الصداقة، ويحددون متى ينهونها قبل أن تبدأ.

وغالباً ما يكون هذا النوع من الصداقة مبنياً من طرف واع للدخول في الصداقة ومقرر ماذا يكسب منها ومتى ينهيها، وطرف آخر ضحية، لأنه آمن بجميع إجراءات الصداقة بوصفها سلوكا حقيقيا ناتجا بسبب التوافق في الأفكار والقيم. ولذلك يحرص الذي بنى العلاقة أن ينهيها بلطف وأن يبقي حبل وصل وهمي؛ لتبدو العلاقة مستمرة شكلياً وأن انقطاعها بسبب ظروف الحياة.

2- تسليع الصداقة

كانت الصداقة غاية في ذاتها، وتقوم على قيم اجتماعية مثل: الوفاء والمروءة والإيثار، ثم حدث تحولات كبيرة بسبب التقنية ووسائل التواصل التي أسهمت في تدفق المعلومات والأفكار بشكل غيَّر المفاهيم، وصارت الصداقة تقوم على قيم اقتصادية، مثل: حجم الفائدة من الصداقة والعائد الاجتماعي الطبقي كشرف معرفة بعض الشخصيات المرموقة أو المشهورة.

من أبرز مظاهر تسليع الصداقة والعلاقات عامة، إضفاء المدائح على الآخرين في المجالس والمحافل العامة ومن خلال القصائد، ووصفهم بقيم النبل والكرم والمروءة والشجاعة، من أجل تحقيق مصالح ذاتية، وليس تقديم شهادة للتاريخ، وغالباً ما يتم هذا المشهد المسرحي بتقبل تام من الشخص الممدوح، الذي عليه أن يضفي على نفسه طابع الخجل والتواضع ومحاولة إنكار الذات من خلال تشخيص ما وصف به بأنه واجب أخلاقي وديني. ويقوم الجمهور الحضور بدور المؤيد والمعزز أو التزام الصمت من البعض بوصفه أحد أشكال الإنكار الصامت.

3- هل الصداقة دين جديد؟

يقول إيريك شميت، رئيس شركة قوقل أن شركات التقنية العاملة في مجال الاتصال والتواصل الاجتماعي تقدم للبشرية ديناً جديداً، هكذا يسميها، ولكنه يشير إلى ارتباطه بجودة الحياة إذ يرى أنه يقوم على أنه كلما تواصل الإنسان مع أكبر عدد من الناس في العالم كانت حياته أفضل.

ويلحظ أن تطبيقات التواصل العالمية مثل: فيسبوك وتويتر وسناب شات وغيرها كثير، تقوم على معايير عدد المتابعات وعدد مرات التفضيلات والمشاركة والتصوير لأي نشاط، وهي أحد أهم محددات تأثير صاحب الحساب في المجتمع، وبالتالي يكون هدفاً للشركات للإعلان من خلال حساباته، واستغلال عنصر الثقة الذي بناه مع متابعيه. ومن ثم تتحول العلاقة المبنية على الثقة إلى سلعة، وكلما زادت الأرباح تحلل المشهور من بعض القيم الاجتماعية. ولهذا تنتج قداسة جديدة مبنية على قداسة أعداد المتابعين المعروفين وغير المعروفين، وقداسة مدى تفاعلهم، للوصول إلى القداسة الأكبر المتمثلة في الشهرة والمال.

سادساً: معايير الصداقة والصديق

ومن منظومة القيم الاجتماعية المتعلقة بالصداقة وأخبار الأصدقاء نجد أنها تركز على مؤشرات مثل التالي:

– طول مدة الصداقة.

– احترام الجيرة بوصفها أحد أشكال الصداقة.

– الوفاء في المواقف غاية في ذاته.

– حفظ السر.

– حفظ المواقف النبيلة وردها في حينها.

– الشعور بالفقد وبالفراق.

وجميعها مؤشرات اجتماعية غير مادية، ويبدو أن سبب التسامي بالصداقة لذاتها يكمن في طبيعة المجتمعات التقليدية التي يقل فيها تأثير القيم المادية والمصالح الذاتية، وتغليب القيم العليا والتضحية للآخر.

أما معايير الصداقة المتغيرة فهي التالي:

– قصر مدة الصداقة.

– الاحترام المؤقت تبادل المجاملات الشكلية.

– الوفاء في المواقف وسيلة في ذاتها، بحسب العوائد المتحققة والمصالح المكتسبة.

– إفشاء الأسرار لتحقيق مصالح ذاتية أو لتحطيم علاقات قوية.

– حفظ مؤقت للمواقف النبيلة، وإذا ما استرده صاحب الموقف خلال أيام، فإن صلاحيته تنتهي ولا ينبغي التذكير به.

– عدم الشعور بالفقد ولا الإحساس بالفراق.

ختام

إذا كان الإنسان يوصف بأنه مدني بطبعه، وأنه كائن اجتماعي، فإن جوهر مدنيته واجتماعيته تكمن في الصداقة، والعبث بالصداقة شكل من أشكال العبث بالتمدن والمجتمع. ومن المخاطرة الاجتماعية اختلال قيم الصداقة، وذلك لارتباطها بمنظومة قيمية لها وظيفة اجتماعية وتساعد في التماسك الاجتماعي وبناء الثقة والأمان وتعزيز الاستقرار النفسي والاجتماعي.

 

 الهوامش:

[1] أبو حيان التوحيدي، الصداقة والصديق، تحقيق إبراهيم الكيلانيـ دمشق: دار الفكر، إعادة طبع، 1419هـ/ 1998، ص 53

[2] أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، أدب الدنيا والدين، شرح وتعليق محمد كريم راجح، بيروت: دار اقرأ، ط 4، 1405هـ/ 1984م، ص 175

[3] عبدالله بن المقفع، حكمة المدنية كتاب الأدب الكبير، ضبطه محمد حسن نائل المرضفي، القاهرة: مصطفى محمد كتبي، ص 42 وما بعد

[4] عبدالله محمد الحبشي، معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي وما ألف فيها، صنعاء: الدار اليمنية للنشر، 254

[5] عبدالله بن المقفع، حكمة المدنية مرجع سابق، ص 52

[6] جون سكوت وجوردون مارشال. موسوعة علم الاجتماع، ترجمة محمد الجوهري وآخرون، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط ٢، 2011، ج 2 ص 289

[7] سكوت ومارشال، موسوعة علم الاجتماع، مرجع سابق، ج 2 ص 371

[8] سكوت ومارشال، موسوعة علم الاجتماع، مرجع سابق، ج 2 ص 368

[9] أسامة سعد أبو سريع، الصداقة من منظور علم النفس، الكويت: عالم المعرفة، رقم 179، نوفمبر 1993، ص 41

رأي واحد حول “الصداقة والصديق في عالم متغير”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.