نظرية الثقافة عند مالك بن نبي 3\3

زكي الميلاد
نحو قراءة معرفية جديدة

الجزء الثالث

-5- تعريف الثقافة ومفهومها

من التحليل النفسي للثقافة إلى التركيب النفسي للثقافة، ومن الكشف عن الفروقات بين الثقافة والعلم إلى الكشف عن الارتباط بين الثقافة والحضارة، وبعد مناقشات ومقاربات مستفيضة وناضجة لأفكار وتصورات حول الثقافة تنتهي لمدارس فكرية وفلسفية رأسمالية وماركسية، ينتمي بن نبي إلى تعريف للثقافة يصفه بالشامل، ويحدده بصورة عملية كما يقول، وهو أنها تعني >مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه< وبهذا التعريف تصبح الثقافة كما يضيف بن نبي ذلك المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، والمحيط الذي يعكس حضارة معينة، ويتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. ويعتبر بن نبي أن هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان وفلسفة الجماعة، أي مقومات الإنسان ومقومات المجتمع(15).

والمقصود بفلسفة الإنسان تلك النزعة الفردية الحاكمة على الثقافة الغربية والمؤثرة في تكوين رؤيتهم للثقافة. ففي الغرب كما يقول بن نبي يعرفون الثقافة على أنها تراث الإنسانيات الإغريقية اللاتينية، بمعنى أن مشكلتها ذات علاقة وظيفية بالإنسان، والثقافة في رأيهم هي فلسفة الإنسان.

والمقصود بفلسفة الجماعة تلك النزعة الاجتماعية الحاكمة على الثقافة الاشتراكية، والمؤثرة في تكون رؤيتهم للثقافة. ولهذا يعرفون الثقافة في البلاد الاشتراكية كما يقول بن نبي في تكوين رؤيتهم للثقافة. ولهذا يعرفون الثقافة في البلاد الاشتراكية كما يقول بن نبي على أنها ذات علاقة وظيفية بالجماعة، والثقافة في رأيهم هي فلسفة المجتمع.

ويرى بن نبي أن هذين التعريفين يعدان من الوجهة التربوية مشتملين على فكرة عامة عن الثقافة، دون تحديد لمضمونها القابل لأن يدخله التعليم في عقلية الجماعة(16).

ولأن طبيعة المشكلة الثقافية في المجتمعات العربية والإسلامية تختلف كلياً من الناحية التاريخية والحضارية عن غيرها من المجتمعات الغربية والاشتراكية، لذلك لا يمكن الأخذ والاكتفاء بتعريف تلك المجتمعات للثقافة والأكفاء به. ولهذا نجد أنفسنا كما يقول بن نبي منساقين مع طبيعة المشكلة الخاصة بالبلاد العربية والإسلامية إلى تطبيق منهج آخر، هو المنهج الذي يستخدم في تعريف الشيء المعقد. والمقصود بهذا الشيء المعقد عند بن نبي هو أننا لا يمكننا أخذ الثقافة بصورة واحدة، ولا يكفي كما يقول أن تكون صورتها لدينا مجموعة من الأفكار، أو مجموعة من الأفكار والأشياء على الطريقة الأمريكية، كما لا يكفي أن تكون انعكاساً للمجتمع على الطريقة الماركسية. لذلك -وهذا ما يريد أن يصل إليه بن نبي- نجد أنفسنا مضطرين إلى أن ننظر للمشكلة في اتجاهين، أو ثلاثة اتجاهات، حتى يتسنى لنا ضم عناصرها النفسية وعناصرها الاجتماعية، ومن ثم تحديد العلاقة الضرورية بين هذه العناصر جميعاً، وأخيراً لكي نصوغ هذه العلاقة صياغة تربوية وافية، تجعل التعريف قابلاً للتنفيذ(17).

ولكي نفهم التعريف الذي يطرحه بن نبي للثقافة، ونمتلك القدرة على تكوين وجهات النظر حوله، نحتاج أولاً إلى تحليل عناصر ومكونات التعريف حتى يكون واضحاً ومتجلياً. وهو يتكون من العناصر التالية:

أولاً: مجموعة من الصفات الخلقية. يبدأ تعريف الثقافة عند بن نبي بهذا العنصر، لأنه يعتقد أن أساس كل ثقافة هو بالضرورة تركيب وتأليف لعالم الأشخاص. وهذا التأليف يحدث طبقاً لمنهج تربوي يأخذ صورة فلسفة أخلاقية، والأخلاق والفلسفة الأخلاقية هي أولى المقومات في الخطة التربوية لأية ثقافة(18).

ثانياً: والقيم الاجتماعية. يعتقد بن نبي أن عالم الأشخاص لا يمكن أن يكون ذا نشاط اجتماعي فعال، إلاّ إذا نُظم وتحول إلى تركيب. والفرد المنعزل حسب رأيه لا يمكن أن يستقبل الثقافة، ولا أن يرسل إشعاعها. وفي المجال الاجتماعي فإن الأفكار والأشياء لا يمكن أن تتحول إلى عناصر ثقافية إلاّ إذا تآلفت أجزاؤها وأصبحت تركيباً، فليس للشيء المنعزل أو الفكرة المنعزلة معنى أبداً(19).

ثالثاً: التي تؤثر في الفرد منذ ولادته. يذهب بن نبي إلى أن الفرد منذ ولادته يكون غارقاً في عالم من الأفكار والأشياء التي يعيش معها في حوار دائم. فالمحيط الداخلي الذي ينام الإنسان في ثناياه ويصحو، والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية، تكوّن في الحقيقة إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه روحنا بلغة ملغزة، لكن سرعان ما تصبح بعض عباراتنا مفهومة لنا ولمعاصرينا، عندما تفسرها لنا ظروف استثنائية تتصل مرة واحدة بعالم الأفكار وعالم الأشياء وعالم العناصر(20).

رابعاً: وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه. وفي هذا الشأن يرى بن نبي أن مقاييسنا الذاتية التي تتمثل في قولنا: هذا جميل وذاك قبيح، أو هذا خير وذلك شر. هذه المقاييس هي التي تحدّد سلوكنا الاجتماعي في عمومه، كما تحدد موقفنا أمام المشكلات قبل أن تتدخل عقولنا. إنها تحدد دور العقل ذاته إلى درجة معينة، وهي درجة كافية تسمح لنا بتمييز فاعليته الاجتماعية في مجتمع معين. أي أنها تحدّد في الواقع المباني الشخصية في الفرد، كما تحدّد المباني الاجتماعية، أو ما أطلقنا عليه أسلوب الحياة(21).

هذا التعريف للثقافة ينطلق ويتأسس من طريقة النظر عن بن نبي للثقافة التي يرى أنها جو من الألوان والأنغام، والعادات والتقاليد والأشكال والأوزان والحركات، التي تطبع على حياة الإنسان اتجاهاً وأسلوباً خاصاً يقوى تصوره، ويلهم عبقريته، ويغذي طاقاته الخلاقة، وأنها الرباط العضوي بين الإنسان والإطار الذي يحوطه(22).

وقد توقفت كثيراً أمام هذا التعريف، وبقيت أرجع إليه، وأقلب النظر فيه فاحصاً ومتأملاً، وفي الأخير وجدت نفسي لا أقنع بهذا التعريف، ولا أراه لامعاً أو خلاقاً. فحين نقول: إن الثقافة هي مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية. والسؤال: ما هي هذه الصفات الخلقية التي تكون أكثر قرباً واتصالاً بالثقافة؟ وما هي أيضاً تلك القيم الاجتماعية؟ لأن الأخلاق تمثل حقلاً وعلماً مستقلاً ومكتملاً، قد يتقاطع مع الثقافة لكن هذا التقاطع بحاجة إلى ضبط وتحديد. وهكذا الحال مع القيم الاجتماعية التي تتصل بعلم الاجتماع أو بفلسفة القيم، وهما من الحقول المعرفية المستقلة والمكتملة أيضاً.

وكون هذه الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية تؤثر في الفرد منذ ولادته فهذا التأثير تشترك فيه عناصر كثيرة ومتشابكة بشدّة، قد تتصل بالثقافة وتتقاطع معها بوجه من الوجوه ولكن ليس بالضرورة بشكل مباشر وقريب.

وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه. فهذا يتصل بالثقافة كما يتصل بالنظام الاجتماعي العام الذي يفرض نمطاً سلوكياً وأسلوباً في الحياة الاجتماعية.

وخلاصة القول: إن هذا التعريف للثقافة يتصف بعمومية شديدة، ولعل منشأ هذه الصفة هو اهتمام بن نبي في أن يكون التعريف شاملاً، كما أنه يفتقد إلى الضبط الدقيق والتحديد الصارم. ولاشك أن هذه مهمة صعبة، وتزداد صعوبة في موضوع الثقافة بوجه خاص. وهذه الملاحظة لا تسلب صفة التعريف بالتأكيد، وإنما لا ترى فيه خاصية التعريف المحكم. مع ذلك يبقى هذا التعريف من التعاريف المعتبرة، والتي لابد من الرجوع إليها إلى جانب التعريفات الأخرى. وليس هو أيضاً التعريف الذي يتفوق على التعريفات الأخرى أو يتقدم عليها، وإنما قد يوازيها ويجاورها. كما يمكن القول: إن بن نبي كان متميزاً في تحليله للثقافة، لكنه لم يكن بذلك التميز في تعريفه لها.

-5- إلى أين وصلت نظرية الثقافة عند مالك بن نبي؟

لقد كانت نظرية الثقافة عند بن نبي واحدة من أشهر النظريات الثقافية التي ظهرت في العالم العربي، وأكثرها خبرة ونضجاً وتماسكاً، واكتسبت تميزاً خصوصاً مع غياب هذا النمط من النظريات إبداعاً واكتشافاً على مستوى الدراسات الثقافية في العالم العربي. مع ذلك بقيت هذه النظرية على حالها ولم تشهد تطوراً وتقدماً او تراكماً وتجدداً مهماً لا من الناحية المعرفية والمنهجية، ولا من الناحية التحليلية والنقدية. وانتهت إلى وضع جامد. ومازالت هي على هذا الحال بدون تحريك أو تجديد.

والذي كرس هذا الوضع الجامد هو طريقة التعاطي مع تلك النظرية. التعاطي الذي لم يكن فعالاً من الناحية النقدية، أو معرفياً من الناحية التحليلية. وقد تحدّد هذا التعاطي في ثلاثة اتجاهات، هي:

أولاً: الاتجاه الذي يتوافق مع النظرية ويتناغم معها، ويدافع عنها، وينبهر بها أحياناً. وهذا هو الاتجاه الغالب في الدراسات والكتابات التي أنجزت حول أفكار بن نبي ومنظومته الثقافية. وينطلق أصحاب هذا الاتجاه من أهمية وقيمة وفاعلية الأفكار والمفاهيم والتصورات التي توصل إليها بن نبي في مجالات الثقافة والحضارة والاجتماع، وضرورة التعريف بهذه الأفكار والتواصل معها.

وإلى بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين كان في تقدير البعض أن فكر بن نبي يتعرض لنوع من الإهمال أو الإقصاء أو التعتيم. وهذا ما عبر عنه بعض الكتاب، وكان دافعاً لهم في إنجاز كتابات ودراسات حول فكرة وسيرته. ومن هؤلاء الدكتور أسعد السحمراني الذي خصص رسالته للدكتوراه حول بن نبي، وكانت بعنوان >مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً<، ونشرها عام 1984م. وعن اختياره لهذا الموضوع يقول: >لم يلقَ مالك بن نبي الاهتمام الكافي من الدارسين، مما حرم جيلاً من شعبنا من الاستفادة بفكره ومشروعه الإصلاحي. إنه من الصعب لا بل من النادر أن تجد ذكراً له في الكتابات المتعددة والمتنوعة، أو أن تقرأ لكاتب أعطاه بعضاً من حقه. لقد كان اختيارنا للموضوع توخياً للفائدة، وإبراز الأسس لمشروع إصلاحي عند واحد من المغمورين<(23).

وحين يشرح سليمان الخطيب دوافع اختياره للكتابة عن بن نبي في رسالته للدكتوراه يقول في أول نقطة: >إن هناك ما يمكن أن نطلق عليه مؤامرة الصمت والتجاهل تجاه فكر مالك بن نبي ونشره في ربوع العالم الإسلامي، وذلك يدل على أهمية هذا المفكر التي تحاول الدوائر العلمانية والتغريبية أن يظل في منأى عن التناول والتحليل<(24). ويرى الخطيب أن النخب المثقفة في العالم الإسلامي لا تعرف إلاّ القليل من فكر بن نبي وإسهاماته الثقافية، فما بالنا بالقاعدة الشبابية التي تجهله كلية.

وفي عام 1990م نشر الدكتور وجيه كوثراني مقالة بعنوان >لماذا العودة إلى مالك بن نبي< دعا فيها إلى العودة والقراءة الجديدة لفكر بن نبي، والتي تحتمها -حسب رأيه- اعتبارات عديدة. منها أن مالك بن نبي في فهمه وتمثله للثقافية الإسلامية في أبعادها الإنسانية والعالمية، لم ترق لا لمثقفي التيار القومي، ولا لمثقفي التيار الإسلامي آنذاك، وبقيت محاصرة أو على هامش الفعل السياسي. وأنه لم يقرأ جيداً وبموضوعية لا في زمن فكره، زمن ثورات العالم الثالث القومية والوطنية، ولا في الزمن اللاحق زمن الثورات الإسلامية والصحوات الإسلامية الجديدة(25).

ومن طبيعة هذه الدوافع أنها تحدد طريقة للتعاطي مع أفكار بن نبي يغلب عليها جانب الاهتمام بالتعريف والتبليغ والتبشير. وهذا هو الجهد الأساس الذي قام به من يصنفون على هذا الاتجاه، وأنهم قد أنجزوا قسطاً كبيراً من ذلك الدور، بحيث لم تعد تلك المهمة بذلك الإلحاح التي كانت عليه من قبل. لهذا كان من المفترض أن تظهر قراءات جديدة تحاول الإضافة على ما قدمه بن نبي والبناء عليه، والعمل على تطوير وتجديد نظرياته وأفكاره، والتعاطي النقدي معها أيضاً وهذا الذي لم يحدث. لهذا فإن بقاء مثل تلك القراءات التبجيلية والاهتمامات التوصيفية لم يعد فعالاً في التعاطي مع أفكار بن نبي.

ثانياً: الاتجاه الذي يتعارض مع نظرية بن نبي وعموم منظومته الثقافية. وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه الكشف عن بعض الأخطاء والعيوب الفكرية والثقافية في مؤلفات بن نبي، ولفت الأنظار إليها، لعله بقصد الحد من توسع وامتداد أفكار بن نبي من جهة، والحد من جاذبية ولمعان تلك الأفكار من جهة أخرى. وهذه الأخطاء المقصودة هي أفكار ومفاهيم تفسر بطرق ملتبسة. ومن هذه المفاهيم مفهوم القابلية للاستعمار الذي فسره البعض على أنه يبرر للاستعمار، أو يدعو لمهادنته، في حين يفسره بن نبي على خلفية أن الاستعمار هو نتيجة وليس سبباً، والمشكلة هي في الذات وليس في الاستعمار نفسه، وحسب قوله: أخرجوا الاستعمار من نفوسكم يخرج من أرضكم. وهكذا النظر لمفهوم التراب الذي اعتبره بن نبي أحد عناصر الحضارة إلى جانب عنصري الإنسان والوقت، في حين فسره البعض أن بن نبي يبالغ في أهمية الجانب المادي في بناء الحضارة. وهكذا النظر لمبدأ الذوق الجمالي الذي عده بن نبي من عناصر الثقافة. وفسره البعض بأنه من ملامح تأثر بن نبي بالفكر الغربي الذي يبالغ في تقديس مفهوم الجمال.

والملاحظ على هذا الاتجاه أنه لم يقدّم نقداً معرفياً لنظرية الثقافة عند بن نبي والمنظومة الثقافية بصورة عامة. ولم يساهم في تطوير أو تحريك التعامل النقدي والنظر التحليلي أو القراءة العلمية والمعرفية لأفكار ونظريات بن نبي.

أساساً لم تكن هذه هي دوافع أصحاب هذا الاتجاه، ولم تظهر تلك الملامح على كتاباتهم والبعض منهم كان ينطلق من دوافع سياسية، فعلاقة بن نبي مع حكومة عبدالناصر في مصر بعد انتقاله إليها قادماً من فرنسا عام 1956م، هذه العلاقة ألَّبت عليه بعض الجماعات الإسلامية التي دخلت في صراح سياسي مع حكومة عبدالناصر. كما أن بعض الجهات لم يكن يريحها جاذبية أفكار بن نبي خصوصاً بين أوساط المثقفين الشباب.

والمثال الذي يصنفه البعض على هذا الاتجاه هو كتاب >الفكر الإسلامي المعاصر دراسة وتقويم< لغازي التوبة الصادر عام 1977م. الكتاب الذي اعتبرته مجلة الشروق الإسلامي الصادرة بالولايات المتحدة الأمريكية في مقالة نشرتها عن مالك بن نبي عام 1985م، بأنه قد ساهم وبشكل واضح الأثر في صد الشباب عن الإقبال على بن نبي، وذلك نتيجة تقويمه المتحامل عليه.

ثالثاً: الاتجاه الذي يتجاهل نظرية بن نبي ومنظومته الثقافية ولا يحاول الاقتراب منها، أو الاحتكاك بها بأية صورة كانت بما في ذلك الصورة النقدية. فلم يتطرق سمير لهذه النظرية أو صاحبها في كتابه >نحو نظرية للثقافة<، وهكذا محمد عابد الجابري في كتابه >المسألة الثقافية في الوطن العربي<، ومحمد أركون في كتاباته حول الإسلاميات المعاصرة. وهكذا العديد من الدراسات والكتابات العربية الأخرى. وهذا التجاهل من الصعب التبرير له، خصوصاً وأن هؤلاء لم يقدموا نظريات تتجاوز نظرية بن نبي في الثقافة أو تتفوق عليها. وفي الوقت الذي كان فيه هؤلاء أو بعضهم يتثاقفون مع النظريات الغربية، ويرجعون لأفكار المفكرين الغربيين، وفي المقابل كانوا يتجاهلون النظريات والأفكار التي تنتسب إلى المفكرين الإسلاميين ومنهم مالك بن نبي الذي من الصعب تجاهل نظريته في الثقافة. وقد أثر هذا التجاهل على تحريك منهجية التعاطي النقدي مع تلك النظرية، أو تحريكها بصور مختلفة، وبمنهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية التي يرجع إليها أولئك المفكرون العرب ويتقنون التعاطي معها، والاستفادة منها.

لذلك ظلت نظرية الثقافة عند بن نبي جامدة، ومازالت هي على هذا الوضع دون الإضافة عليها، أو الانطلاق منها نحو أفكار جديدة، أو إبداع ما هو أرقى منها، أو تكميلها. والذين ورثوا أفكار بن نبي ونظرياته ظلوا يمجدونه ويعرِّفون به، ويدافعون عنه أمام خصومه ومنتقديه، ولكن لم يظهر من هؤلاء من يضيف إلى أفكاره ونظرياته، أو يجدد فيها، أويبدع من خلالها أو يكملها أو غير ذلك.

ومن جانب آخر: إن العالم العربي، وفي نطاق الفكر الإسلامي بوجه خاص، يفتقد إلى نظريات في الثقافة يمكن لها أن تنازع أو تزاحم أو تحل مكان نظرية بن نبي في الثقافة. ومن بعد بن نبي لم تظهر نظرية في الثقافة تنتمي إلى المنظومة الإسلامية، الأمر الذي يكشف عن ضعف شديد ينبغي العمل على تداركه، والتغلب عليه من خلال مضاعفة الاهتمام بحقل الدراسات الثقافية.

والذي ينبغي أن يعرف أنني بهذا السياق من القراءة والتحليل لم أكن بصدد التقليل من أهمية وقيمة نظرية الثقافة عند بن نبي، وإنما كنت بصدد السعي نحو ألاَّ تصل هذه النظرية إلى حالة من الجمود والتوقف، أو نصل نحن إلى حالة التوقف عن الإبداع والتجديد. الأمر الذي يتطلب تغيير طريقة التعاطي ومنطق التعامل مع نظرية بن نبي ومنظومته الثقافية بشكل عام، من أجل قراءة معرفية جديدة.

الهوامش:

مشكلة الثقافة. ص74.

(16) المصدر نفسه. ص73.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.