قيمنا والذعر الأخلاقي

 

د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير

 

يواجه المجتمع الآن أكبر عملية تشتيت للوعي، بعد أن تراكمت عليه تدفق المعلومات من كل اتجاه وبشكل غير منظم ولا يمكن السيطرة عليه، مع ضعف المخرجات العلمية، ولم يسلم من تشتيت الوعي حتى الدراسات الأكاديمية ولا ندوات دعم اتخاذ القرار، ويصاحب تشتيت الانتباه ضبابية كبيرة في فهم تحولات القيم الاجتماعية.

ومن مظاهر تشتت الانتباه أن بعض المتخصصين والمسؤولين والخبراء الذين يتابعون الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على مدار الأربع والعشرين ساعة، بوصفها من أهم أدوات التعرف على الواقع لاجتماعي، ثم يتوهمون بأن الاختلالات القيمية وسيادة قيم التفاهة في المجتمع الافتراضي، هي سيادة في المجتمع الواقعي أيضًا.

ثم تبدأ دورة كاملة من عمليات القلق على قيم المجتمع، والبحث عن الحلول والتخوف من الآثار السلبية، ثم تقديم المقترحات والتوصيات لمواجهتها، لما توهموه من ملاحظات مبنية على أسس هشة ومعلومات مضللة، ثم تصدر القرارات والتوصيات التي تطبق على المجتمع الواقعي، ويصبح المجتمع الواقعي ضحية نتائج فهم المجتمع الافتراضي.

ومن ثم؛ أجد أنه من الضروري على وجود نسبة من تآكل حقيقي للقيم، ومن وجود نسبة من الذعر الأخلاقي على القيم، وذلك كما يلي:

حرب القيم

تشهد السنوات الأخيرة صعود كبير للتفاهة ودعم قيم الانحطاط، واستقطاب المشردين والمتعاطين والشاذين للقنوات في مختلف أنحاء العالم، وتقديمهم للجماهير بشكل متكرر حتى يتحولوا إلى رموز شعبية؛ كما تسهم بعض تطبيقات التواصل التي تعمل بنظام تصوير الفيديو والبث المباشر والتفاعلي على تشجيع قيم التفاهة، ورفع مستويات مشاهدات الفن الهابط ليكون هو الفن السائد

وهذه الحملات المنظمة ضد القيم تعتبر شكل من أشكال الهجوم على الروح المعنوية للشعوب، وتحطيمها، وتوسيع المسافة بينها وبين قيادتها وقيمها الأصيلة، باستخدام تطبيقات التواصل الاجتماعية والذكاء الاصطناعي.

كل نتائج تتحقق في هذا المجال فإنها تعني فصل الأجيال الجديدة عن الأجيال القديمة، واستبدال مصادر القيم الموثوقة بمصادر تتحرك بالدعاية المكثفة، وتروج للروح الفردانية والاستقلال عن الأهل والمجتمع، والعيش من أجل اللذة والاستهلاك.

وهذا يؤكد على أن الحرب القادمة ستكون حرب القيم، وأن القيم ستكون موضوعًا أمنيًا، مما يعني ضرورة تأسيس مركز دراسات دفاعية عن قيم المجتمع وهويته وثقافته من الهزيمة التي يتعرض لها بنعومة وعلى أمد طويل ودون وعي.

الذعر الأخلاقي

إن الاعتراف بوجود حرب ضد القيم لا يعني أن كل شيء ليس على ما يرام، وإنما ينتج الذعر الأخلاقي من تضخيم نماذج لا تعكس الصورة كاملة.

والذعر الأخلاقي مفهوم راسخ في علم الاجتماع، ويستخدم في شيطنة ظاهرة أو جماعة أو عرق، وتخويف المجتمع من خطره بشكل مبالغ فيها، لا يعكس الواقع ولا الحقيقة. وتشير “موسوعة علم الاجتماع”، و”مفاهيم أساسية في علم الاجتماع” (2018) إلى أنه يستخدم لوصف استثارة اهتمام المجتمع بقضية ما، بتأثير الضغط الإعلامي. وقد استخدم هذا المفهوم عالم الاجتماع البريطاني في كتاب “الشياطين الشعبية والذعر الأخلاقي” (1971م) للإشارة إلى الحملة التي واجهتها موجة التفسخ الأخلاقي بين شباب إنجلترا في الستينيات، ثم صار يستخدم المصطلح في تحليل ردود أفعال المجتمع تجاه المشكلات الاجتماعية التي تتحول إلى رأي عام.

أسهم الإعلام وتطبيقات التواصل الاجتماعي في تضخيم كل شيء تتعرض له، سواء الجرائم أو الفضائل، وهو تضخيم مفرط في غالبه؛ حيث ينشأ الموقف الذي يدل على جريمة أو اختلال في القيم، بشكل تلقائي، أو مقصود ومخطط له لغرض الشهرة وزيادة المشاهدات، ثم ينتشر بفعل طبيعي من الناس، أو ترويج ممول، ثم يتبرع أصحاب الحسابات الذين قدموا أنفسهم كحكماء ومصلحين وقانونيين لتحليل الموقف، وتقديم البدائل، مما يكسب تعليقاتهم رسوخ للموقف، ثم مع كمية تداول الموقف وما قيل فيه، تنشأ معه الشائعات، ثم نفيها، ثم يتحول إلى ظاهرة ورأي عام لأتفه سبب.

وهذا السلوك العشوائي الذي يتكرر يوميًا، عبارة عن أفكار تسمم المجتمع، وتفقد الثقة في قيمه. وكلما التصق الناس بالمجتمع الافتراضي، كلما انفصلوا دون وعي منهم عن المجتمع الواقعي.

وبالتالي، فإن فكرة انهيار القيم والتحلل الأخلاقي وسيادة الحياة المادية في المجتمع، إنما هي شكل من أشكال تخيل المجتمع، ناتجة من الضغط الإعلامي وتسميم المجتمع بالسوداوية، كما أن المجتمعات الكبيرة لا يمكن تصورها كما هي، وإنما هي مجموعة متخيلات بحسب البيئة التي يعيش فيها الإنسان والخبرات التي يكتسبها، والقدرات الذهنية الذاتية التي يمكن أن يفهم بها المجتمع، والجماعات التي ينتمي إليها.

التشخيص المضلل للقيم

عند محاولة تفكيك هذه التخيلات للمجتمع، نجد التالي:

ينقسم المجتمع إلى مجتمعين، هما: المجتمع الواقعي، والمجتمع الافتراضي. وتبدأ دورة حياة تحليل القيم ونشرها أو مقاومتها كما يلي: يراقب المتخصصون والمسؤولون والخبراء المجتمع من خلال الإعلام وتطبيقات التواصل الاجتماعي بشكل يومي، وربما على مدار الساعة، ثم يتعرضون دون وعي منهم إلى ضخ معلومات مكثفة حول انهيار القيم وانتشار الإلحاد والشذوذ والتفاهة وملاحقة المشاهير، ثم يبدأ يتشكل لديهم وعي بأن المجتمع يتعرض للانهيار فعليًا، ثم يتحدث الناس في المجالس عن انتشار القيم الفاسدة، حتى تتحول من حياة متخيلة إلى حياة واقعية. ثم يبدأ التحرك الرسمي لتفعيل دور التعليم والثقافة لمواجهة الخطر الداهم، ثم تبدأ موجة من التحذيرات للمجتمع الواقعي.

يكمن الخلل في دورة الحياة في ملاحظتين هما:

الملاحظة الأولى: أن انتقاء القيم تم من مشاهدات في المجتمع الافتراضي وتصور أنها منتشرة في المجتمع الواقعي، دون إجراء مسح ميداني لتحولات القيم والتعرف عليها من المجتمع الواقعي، وهو المعني بالتحولات، وهو الذي سوف يتعرض لموجة تحذير.

الملاحظة الثانية: الذعر الأخلاقي الناتج من انتقاء مصفوفة القيم من تأثير الضخ الإعلامي وتطبيقات التواصل، وهي لا تمثل المجتمع، مما سوف يترتب عليها شبكة من القرارات الخاطئة، مثل: اعتمادها في التعليم، والترويج للقيم الشائعة في الإعلام بوصفها قيم المجتمع، وبناء قرارات على تخيلات ذهنية من قبل لجنة دون التعرف على المجتمع الواقعي.

تغير القيم تعني حيوية المجتمع

يمكن أن أشبه المجتمع بمؤشر تخطيط القلب، فكلما زاد التعرج دل على الحياة، وكلما تحول المؤشر إلى خط واحد مستقيم دل على الوفاة، وبالتالي فإن التغير المستمر في قيم المجتمع هي الأصل، والثبات على قيم الأسلاف يعني موت المجتمع. ولا يمكن أن تكون منظومة القيم هي المقياس، وإنما المقياس هو قيم الخير والشر، ونفع المجتمع أو الإضرار به.

والقيم إما أن تتغير بتأثير التفاعل الاجتماعي، أو تتغير وفق برامج مؤسسة تنفذها الدول، أو تتغير بسبب أحداث عالمية كان لها انعكاسات على كثير من مجتمعات العالم.

وقد تعرضت منظومة القيم في العالم، وفي السعودية خاصة، إلى تحولات كبيرة من خلال تأثرها بالأحداث السياسية والتغيرات التقنية، ومن أبرز الأحداث التي أثرت في منظومة القيم خلال السنوات الثلاثين الأخيرة ما يلي:

* تغير القيم بعد حرب الخليج الثانية 1990 التي تزامنت مع نهاية الحرب الأفغانية وسقوط الاتحاد السوفيتي، وطرح مشروع العولمة وما صاحبه من تدفق الأفكار عبر بروز القنوات الفضائية، ثم دخول الإنترنت.

* تغير القيم بعد أحدث 11 سبتمبر 2001 والتي تعرضت المملكة بسببها إلى حملة إعلامية عالمية شديدة.

* تغير القيم بعد سقوط بغداد 2003، وهي السنة التي شهدت اشتداد التفجيرات الإرهابية في المملكة، وسعى كثير من الشباب المتشدد للالتحاق بمناطق الصراع، وقد تزامن ذلك مع سلسلة إجراءات مؤسسية تهدف لبث قيم التسامح وقبول الآخر والمواطنة ونبذ قيم التطرف.

* تغير القيم بعد ثورات الشعوب العربية 2011، وقد أذكت هذه الثورات وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك، وحولتها إلى منصات ضحمة لتداول المعلومات والأفكار، مما جعلها مناخاً خصباً لانتشار الإشاعات والتأثير السريع في قيم الشباب والمجتمع السعودي بصفة عامة.

* عودة ثورات الشعوب 2019 وشملت شعوباَ عربية جديدة كالسودان والجزائر والعراق ولبنان، إضافة إلى ما سمي بالربيع الفارسي والربيع اللاتيني 2019 مثل الأكوادور وهاييتي وتشيلي وفنزويلا وكولمبيا، وما تزال تخضع للدراسة والتحليل.

* تغير القيم بعد جائحة كورونا التي بدأت في ديسمبر 2019، وانتشرت في 2020، ويؤكد خبراء المستقبليات بأن العالم بعد كورونا سيكون مختلفاً عما قبلها.

* وأخيرًا تغير القيم الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في أبريل 2022، وأعادت أزمة الغذاء وأزمة الوقود للواجهة العالمية.

وهذه التحولات تؤكد على ضرورة التنبه لتحولات القيم بين الشباب، وقيم الاقتصاد، والمزاج العام، وأساليب التأثير عليها في تطبيقات التواصل الاجتماعي من قبل حسابات مزيفة وذكاء اصطناعي موجه لنشر قيم الاحتجاج على الخدمات العامة وارتفاع الأسعار وبث روح الإحباط الشعبي، والتعرف عليها في سياق كوني، وواقعي، وآني، للوصول إلى نتائج موثوقة.

وقد أعلنت رؤية المملكة 2030 في أبريل 2016، وتضمنت حزمة برامج اجتماعية واقتصادية، ومن أبرزها في مجال القيم السعودية، جاءت مبادرة تعزيز الشخصية السعودية، وبرنامج جودة الحياة، والتي يمكن لها أن تضبط النسيج الاجتماعي، وتؤسس لوحدة مرجعية قيمية.

قيمنا هي الأمن المجتمعي

يقصد بالأمن المجتمعي بكل وضوح: حماية المجتمع من التهديدات والمخاطر التي تهدد طمس هويته الاجتماعية المتمثلة في منظومة قيم: اللغة والدين والتراث الشعبي والفنون الشعبية والعادات والتقاليد والقيم الراسخة والثقافة بمفهومها الواسع.

وكذلك حماية الفضاءات العامة من زعزعتها، والإبقاء على الروح المعنوية قوية، ولا يتحقق هذا إلا بجهود المراصد الاجتماعية والأمنية المتخصصة، نظرًا لما تمتلكه من خبرات مع بيوت الخبرة ومراكز الدراسات العربية والعالمية، وأساليب البحوث ومنهجيات المسوح المتقدمة.

ومن ثم ينبغي حماية القيم من الطمس أو الحط من شأنها، بوصفها هوية المجتمع التي يستمد منها قوته ورمزيته، وهي أحد مرتكزات فكرة الدولة، وهي أحد أهم مكونات الهوية التي ترعاها الدولة.

مراكز الدراسات هي الحل

حظيت جميع التحولات السياسية التي أثرت في تغير القيم في العالم بدراسات وعقد لها مؤتمرات دولية مدعومة، ومنها مثلاً: كتاب “القيم المتغيرة بين الشباب: أمثلة من العالم العربي وألماني” (يونيو 2005). وكتاب “الثقافات وقيم التقدم” (2009)، وهو نتيجة أعمال مؤتمر دولي عقد في أمريكا، وحرره لورنس هاريزون وصموئيل هنتنجتون، وهي تركز على فلسفة القيم، ومستويات تأثير تحولاتها أو التحكم فيها.

و”مسح القيم العالمية”، وهو مشروع ضخم ومستمر أطلقته المجموعة الأوروبية لمسح القيم، ويهتم برصد وتقويم الأوضاع الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والدينية والسياسية من جميع أنحاء العالم، وقد بدأ المشروع من خلال مشروع القيم الأوروبية عام 1981م، وأعمال “اللجنة اليابانية لدراسة النظام الكوني ما بعد الحرب الباردة”، والتي ركزت على قيم حقوق الإنسان والديموقراطية والبيئة.

و”نموذج تغير الوعي: مؤشرات لبزوغ نموذج حضاري جديد”، وهو من التصانيف البارزة المعنية بتصنيف القيم الحديثة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وقد صممه دوان إل جين وكولين لي درو، ويركز النموذج على الوعي الاتصالي والديني والبيئي والاجتماعي وأسلوب الحياة اليومية.

جميع هذه الجهود الكبيرة، وهي نموذج ضئيل من واقع الاهتمام العالمي، تعد مؤشراً على أهمية دراسة القيم السعودية والتحولات التي تطرأ عليها بصفة دورية، للتعرف على المؤثرات الداخلية والخارجية التي توجهها، إضافة إلى رصد ومتابعة المؤتمرات والدراسات المعنية بالقيم والصادرة من منظمات دولية ومراكز فكر عالمية وتقديم النصح من الخبراء في هذا المجال.

ختام

الإخلاص ليس كافيًا لجودة العمل، والعمل على أسس سليمة وواعية يوفر الوقت والمال، ويدعم اتخاذ القرار الصحيح. ومن ثم فإن قيم المجتمع الواقعي ما تزال صلبة ومتجانسة في عمومها، والتحولات التي تتعرض لها تعد من طبيعة التغير، أما قيم المجتمع الافتراضي، فهي لا تمثل المجتمع، بسبب أنها تتحرك بالدعاية والتضليل المستمر بشكل تضيع فيها الحقائق، وتضخم التفاهة وانهيار القيم، ويصعب فهم أي مجتمع واقعي من خلالها.

إن شدة انغماس الإنسان في تطبيقات التواصل الاجتماعي، بداعي الاطلاع مثلًا، تعني أنه يتعرض لعمليات تأثير على العقل الباطن تأتي بطريقة ناعمة وطويلة المدى، ثم يأتي من نتائجها رؤية المجتمع الواقعي من منظوره للمجتمع الافتراضي، وإذا التقى عشرات أو مئات الأفراد ممن يتعرضون للإعلام وتطبيقات التواصل دائمًا، فإنهم سوف يتوصلون لنتيجة واحدة مضللة، ثم يتفقون عليها، ومن هنا تتبدل الحقائق وتُرسم السياسات العامة المضللة، ويُدعم القرار الخطأ.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.