قراءة في كتاب “الأنماط الثقافية” لـ “روث بندكت “

كتاب الأنماط الثقافية

قراءة في كتاب “الأنماط الثقافية” لـ “روث بندكت ”

د. يحيى حسين زامل*

 

صدر كتاب (Patterns of Culture) للأنثروبولوجية الأمريكية (Ruth Benedict)، في نيويورك في أكتوبر في العام 1958، وقدم لهذا الكتاب (FRANZ BOAS)و(MARGARET MEAD)، ويتألف الكتاب من ثمانية فصول ، ومن 254 صفحة .
سعت “روث بندكت” في هذا الكتاب إلى تدقيق المخطّط الذي وضعته لأنماط الشخصيّة السائدة، والتي تبلورها الثقافة في كلّ مجتمع ، عبرالمقارنة بين نموذجين ثقافيّين مختلفين هما (النموذج الأبوليني) و(النموذج الديونيزي)؛ فالنموذج الأوّل،ينسجم مع ثقافة الشعوب الهنديّة، وطبيعة عيشهم الجماعي القائم على الالتحام والامتثال، وهو ما يفرز شخصيّة متوازنة ومسالمة، في حين يتناسب النموذج الثاني مع هنود السهول، ويكون على العكس منتجا لشخصيّة عدوانيّة وفردانيّة، وتوصلت” بندكت” إلى أن هذه الأنماط غير متجانسة بشكل مطلق، ولدى كل واحد منهم أهداف معينة تجاه الذي يوجه سلوكهم، وأن هذا الاختلاف هو شيء في الطبيعة البشرية، يسعى الأنثروبولوجي إلى دراسته وفهمه بشكل موضوعي بعيداً عن الميول والانحياز.

وتناولت “بندكت” في الفصل الأول، المعنون (The Science of Custom ) عرضاً للأنثروبولوجيا، وبأنه علم متخصص في دراسة الإنسان، ومن كون هذا الإنسان عضواً في مجتمع، له ثقافة وتقاليد وقيم تميزه عن المجتمع الآخر، يهتم بجوانب الثقافة المادية والمعنوية، والعلامة المميزة للأنثروبولوجيا بين العلوم الاجتماعية، أنها تتضمن دراسة مهمة للمجتمعات لأغراض التنظيم الاجتماعي، مثل الزاوج والإنجاب، وبعض الأمور الأخرى، وأن ميزة عالم الأنثروبولوجيا أنه مرتبط بتجنب أي ترجيح لأحد على الآخر، وهو مهتم بالسلوك البشري، وفي وصف وتحليل وتفسير محتوى الثقافة، واحترام تنوعها، وعاداتها وتقاليدها، وكيف يعبر أفرادها عن أنفسهم وطريقة حياتهم، والأنثروبولوجيا كذلك تحاول تعريفنا الفروق والتباينات بين المجتمعات البدائية والمعاصرة، وعقد التأثير على عقول الناس، والخرافات والأساطير في كل المجتمعات .

وقارنت “بينديكت” في الفصل الثاني، المعنون (The Diversity of Cultures ) بين ثقافة الهنود والحضارة الغربية، وكيف أن تجارب الحضارة الغربية كانت مختلفة، وذات ثقافة عالمية، بينما كانت الأخرى كانت ذات نمط محلي، وتمتاز بالتسلسل الهرمي الاجتماعي، والخيال والأساطير، والشامان والعرافة، بينما امتازت الحضارة الغربية بالعلوم الاجتماعية وعلم النفس، واللاهوت ومسار الحياة وضغوط البيئة، وفي مجتمعات الهنود هناك التبادل الاقتصادي، وهناك الآلهة الخارقة والعقوبات، وغيرها الكثير من الصفات الأخرى، مثل اللغة والكلام والأصوات، واختيار ما هو ضروري في الحياة ، ولكن في جميع هذه المجتمعات هناك “قوس ثقافي” تنتشر فيه العناصر الثقافية والاجتماعية، التي تتناسب مع ثقافة اي مجتمع ، وتعتبر رأسماله الثقافي .

وكان الفصل الثالث بعنوان (The Integration of Culture ) وطرحت فيه الباحثة أنه يمكن توثيق تنوع الثقافات إلى ما لا نهاية، وأنه قد يتم تجاهل السلوك البشري في بعض المجتمعات حتى أنه بالكاد يكون موجود، بل أنه قد يكون في بعض الحالات غير متخيل، أو أنها قد تحتكر تقريبا منظمو السلوك في المجتمع، والأوضاع الأكثر غرابة، التي يمكن معالجتها فقط في اختصاصاتها ، والتنوع في السلوك يتوجه نحو الحصول على لقمة العيش والتزاوج والصراع ، وعبادة الآلهة ، ويرصد أنماط ثابتة ، ليس فيها للفرد أي اختيار، والفنون في الثقافات هو تكامل لها لا يعرف دوافعه او مسبباته ، ولكن الثقافات في كل مستوى من التعقيد، حتى أبسطها قد حققت ذلك، وهذه الإنجازات الناجحة أكثر أو أقل من السلوك المتكامل، والاعجوبة أنه يمكن أن يكون هناك الكثير من هذه التكوينات الممكنة ، وقد كرس العمل الأنثروبولوجي أغلبية دراساته لتحليل سمات الثقافة، بدلاً من أن دراسة الثقافات ككل .

وتشير “بندكت” بأنه لم يكتب علماء الأنثروبولوجيا الكلاسيكية؛ دراساتهم المباشرة للشعوب البدائية، ولم يعايش أكثرهم هذه المجتمعات، بل اعتمدوا فيها على الرحالة والتجار والمبشرين، وهناك الكثير من الدراسات اللاواقعية في دراسات مماثلة للثقافة؛ إذا كنا مهتمين في العمليات الثقافية، وبهذه الطريقة فقط يمكننا أن نعرف أهمية المحدد لتفاصيل السلوك على خلفية الدوافع والمشاعر والقيم، التي يتم إضفاء الطابع المؤسسي في تلك الثقافة.

وكان الفصل الرابع، بعنوان (The Pueblos of New Mexico)، إذ وصفت “بينديكيت” فيه هنود “بويبلو” في جنوب غرب البلاد، وهم احد أكثر الشعوب البدائية المعروفة على نطاق واسع في الحضارة الغربية، وأنهم يعيشون في وسط أمريكا، ويسهل الوصول إليهم من أي مسافر عبر القارات، ويعيشون بأزيائهم الأصلية القديمة، وقد بدأت تتفكك ثقافتهم شأنها في ذلك شأن جميع المجتمعات الهندية خارج ولاية أريزونا والمكسيك الجديدة.

ويمارس “البويبلو” الرقصات القديمة للآلهة في قراهم في أغلب ايام السنة، وهي أساس الحياة الروتينية القديمة عندهم، وحسب المواقف الخاصة بهم، ولديهم تاريخ دوري تتم فيه الطقوس والاحتفالات والصيد وبعض الممارسات الأخرى، وقد وجدوا كل شيء من خلال هذا الجزء؛ حين تم العثور على أمريكا التي كانت لا تزال تسكن منازل أسلافهم الثقافية، والمدن لديهم مخططة بشكل لا يصدق، وتعد في العصر الذهبي للشعوب، وترجع للقرن الثاني عشر والثالث عشر، ولكنهم قبل ذلك كانوا يسكنون بيوت الحجر تحت الأرض، ويقيمون فيها الاحتفالات، وهذه قد أبيدت بشكل كبير، وثقافة “البويبلو” على معرفة بالهندسة المعمارية الحجرية، وعلى تنوع الزراعة، ويعتمدون على الصيد من خلال السهم والقوس.

والسؤال المحير كما تقول “بينديكت” لماذا اختار “البويبلو” لموقع مدنهم أكبر وادي ، وهو وادي وعر ومن دون ماء تقريبا ؟ …. وتجيب “بينديكت” : ( ونحن لا يمكن أن نخمن ما هي الظروف التي أدت إلى بناء هذه المنازل بعيدا عن حقول الذرة وبعيدا عن مصادر المياه، ويبدو من المرجح أن (النافاجو-الأباتشي)، وهم قبائل من الشمال قطعوا إمدادات المياه من مدن هذه الشعوب القديمة؛ وتغلبت عليها.

وتناولت ” الباحثة ” في الفصل الخامس، المعنون (Dobu)، وهو اسم جزيرة تقع في الساحل الجنوبي الشرقي من غينيا الجديدة، وتقع شمال غرب “ميلانيزيا”، وهي منطقة معروفة من خلال العديد من المنشورات، للدكتور “مالينوفسكي”، وشعب “دوبو” يمتهن الإبحار إلى جزر “تروبرياند” في الحملات التجارية، لتوفير معيشة سهلة ووفيرة، ولديهم أراضي ذات تربة غنية، وبحيرات هادئة مليئة بالأسماك، ومن جانب أخر على جزر(Dobu)، أراضي صخرية بركانية تؤدي إلى جيوب ضئيلة من التربة والسماح بالصيد ، للسكان عندما تقل الموارد ، وهم يعيشون في قرى صغيرة ، على عكس جزر “تروبرياند” التي تعيش حياة كثيفة السكان في سهولة كبيرة ، وقريبة من المجتمعات المحلية، وفي (Dobu)، لا رئيس مركزي لها، ولا يوجد تنظيم سياسي بالمعنى الدقيق، ولكنها لا تعيش في حالة فوضى، وتوجد فيها دوائر ثقافية تنظم العمل الاجتماعي وتمنع الاعتداء فيما بينهم .

وفي حالات الوفاة والأمراض الخطيرة، يستدعون العرافون لمعالجة هذه الأمراض أو الأوبئة، أو للتكهن بالأسباب التي أدت إلى هذه الأمراض، والجميع يستعمل السحر لهذه الأغراض وغيرها من المناسبات؛ في داخل المجتمعات المحلية ، وفي وسط هذه القرى مقبرة مشتركة لكل جماعة، يدفنون فيها موتاهم في أرض أجدادهم ، ويحتفلون بها في المناسبات الدينية والاجتماعية ، والزواج عندهم يجب أن يكون مع شخص من خارج هذه الدائرة التي يعيشون فيها، وإذا كان هناك عداوة بين جماعتين، يتم بينهم الزواج لتحسين العلاقات .

وفي الفصل السادس، والمعنون ( The Northwest Coast of America ) ، ترى “بينديكت” : أن الهنود الذين يعيشون في قطاع ضيق من المحيط الهادئ، من ساحل البحر من ألاسكا إلى ساوند كانت حركتهم نشطة، ولديهم ثقافة مشتركة، تختلف عن المناطق المحيطة من القبائل الأخرى، من القيم والعادات والتقاليد ، وأنهم شعب له ممتلكات كبيرة وبدائية، وبنيت حضارتهم على وفرة توريد السلع التي لا تنضب، والتي تم الحصول عليها من دون الإنفاق المفرط، فالأسماك لديهم على أنواعها، وهي عامل مهم في الحياة والتجارة، من حيث التجفيف والخزن، وكذلك معرفة موسم البذور والزراعة، وقطع الأشجار بالفؤوس، وعمل الزوارق، وصيد الحيوانات البرية في الغابات .

وتنتمي لغات هذه الشعوب إلى عدة لغات مختلفة ، وكان اللازم لذلك أن معظم الناس يتحدثون بعدد من اللغات التي ليس لها صلة ببعض ، لتأكيد الاختلافات في اللغة ، ولتشكل عقبة أمام نشر تفاصيل دقيقة عن احتفالية، أو فن من الفنون الشعبية الأساسية ذات العناصر المشتركة التي تقاسموها، وأنهم ينحتون من لب الأشجار، الطواطم التي يعلقونها على الزوارق لتنتشل البحارة في البحر، والزوارق الكبيرة التي تحمل خمسين إلى ستين شخص منهم، وكذلك صنع الأقنعة، والأثاث بأنواعه بطريقة متقنة، من دون استعمال المعادن، وكذلك صنع البيوت .

وفي الفصل السابع الذي كان تحت عنوان (The Nature of Society ) قارنت ” الباحثة ” بين طبيعة ثقافة ثلاث قبائل ( زوني ، ودوبو، وكواكيوتل ) وتوصلت إلى أنها غير مطلقة التجانس في الأفعال والمعتقدات ، وأن كل واحدة منها لها أهداف مختلفة ، وبرغم أن بعض السمات المشتركة هنا وهناك ، إلا أنهم يختلفون فيما بينهم مثل جميع الثقافات، وهذه طبيعة إنسانية ، لإيجاد نمط اجتماعي إيقاعي ومتوازن ، في أطار التكامل الثقافي، وفي هذه القبائل الكثير من السلوكيات التي تتقاسمها هذه الثقافات، وقد يكون ذلك إذا كنا نعرف تاريخها الماضي، وربما تحتاج هذه الثقافات لفترات طويلة لتحقيق الانسجام .

وفي بعضها هناك حالات صراع؛ يبدو أكثر وضوحاً بين التأثيرات الجديدة التي جلبتها الاحتكاكات مع المجتمعات الاخرى، وما يمكن أن نسميه سلوكهم الأصلي، وبعض السمات الثقافية محددة جداً عند “الكواكيوتل” وهي انعكاسات لصراعات محددة بين القديم وتكوينات جديدة، مع التركيز الجديد على الملكية، وقواعد الوراثة ولكنها تكتسب أهمية جديدة.

وكان “الفصل الثامن” بعنوان ( The Individual and the Pattern of Culture ) وفيه عرضت ” بينديكت ” مناقشة سلوك المجتمعات الكبيرة مع سلوك الأفراد في تجسيد الثقافة، والخلاف في النظرية الأنثروبولوجية بين أهمية نمط الثقافة الفردية لتصور طبيعة المجتمع، وفي الواقع أن المجتمع والفرد ليسا خصوم، وأن الثقافة توفر المواد الخام للمجتمع والفرد ، وتجعله أكثر أثراءً، والنسبة العظمى من جميع الأفراد الذين يولدون في أي مجتمع منهم، ومهما تكن خصوصياتهم يفترض أن سلوكهم يمليه ذلك المجتمع، ويتم تفسير هذه الحقيقة دائماً بواسطة الأدوات والوسائل الثقافية الموجودة في تلك الثقافة نفسها .

ومن هذا نستنتج أن كل “ثقافة” تتكون من نظم اقتصاديه ودينية وسياسية واخلاقية ولغوية وعادات وتقاليد، وكل نظام يتألف من أنماط لا حصر لها من الأنماط . و”النمط الثقافي” هو مجموعة من الأفكار والفعاليات والأشياء المادية التي تتجمع بأسلوب منطقي، وتترابط بطريقة وظيفية ، بحيث لا يمكن تمييزها باعتبارها أجزاء ومكونات من طراز عام ومتناسق، وهو أيضاً : السلوك التفاعلي المتكرر بشكل غالب، مثل تناول افراد الأسرة ثلاث أكلات يومياً أو قيامهم بأداء صلوات كل صباح ، وهذا ما وضحته ” روث بينديكت ” في هذا الكتاب .

 

 

*العراق – بغداد

 

رأي واحد حول “قراءة في كتاب “الأنماط الثقافية” لـ “روث بندكت “”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.