قراءة في كتاب الزعامات المحلية وعلاقتها مع المخزن

 

   الزعامات المحلية وعلاقتها مع المخزن

الزعامات المحلية وعلاقتها مع المخزن :

 

سوس الأقصى خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر

ربيع رشيدي*

كتاب الزعامات المحلية في علاقتها مع المخزن ومحيطها القبلي: سوس خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر من منشورات المندوبية السامية لقدماء لمقاومين وأعضاء جيش التحرير إضافة نوعية إلى قائمة المونوغرافيات المنجزة حول التاريخ الديني والسياسي لسوس خلال القرن التاسع عشر؛ سواء تعلق الأمر بالتقارير التي أنجزها ضباط الاستعلامات العامة والشؤون الأهلية، و كتب الرحالة الأوربيين، أو دراسات وأطاريح الباحثين المغاربة  المنجزة خلال العقدين المنصرمين. وتبدو جدة مضامين هذا الكتاب من خلال المقاربة التي اعتمدها المؤلف لتناول التاريخ السياسي والديني والثقافي انطلاقا من تحليل وقراءة نموذج بعينه هو الزعامات المحلية في علاقتها بمحيطها القبلي من جهة، و المخزن من جهة أخرى معتمدا في ذلك مقاربة تاريخية ـ انثربولوجية في مجال جغرافي يتميز بندرة المادة المصدرية وتضارب الروايات الشفوية. وقد سلط الباحث الضوء على مواضيع ظلت مهمشة في الكتابة التاريخية؛ من قبيل اعتماده السيرة والبيوغرافية لكتابة التاريخ المحلي مستحضرا ثلاث نماذج بعينها هي الزعامة الدينية ممثلة في شخصي الحاج علي الدرقاوي الإلغي و الحاج الحسين الإفراني التجاني والزعامة الدينية ـ الاقتصادية التي تبناها الحسين أُهاشم التازروالتي وابنه محمد بن الحسين أهاشم، ويبدو من خلال مضامين هذا الكتاب أن التاريخ المحلي لسوس تطور بتطور أدوار هذه الزعامات وتراجع بتراجع أدوارها. إن مضامين هذا الكتاب بمثابة مقدمة أولية للعديد من المعطيات التاريخية التي ميزت هذه العلاقة، كما أن اعتماده النماذج الأربعة السالفة الذكر سيجعل القارئ لامحالة قادرا على تتبع مساراتها وتطورها الكرونولوجي ودورها في بناء الحدث التاريخي وبالتالي فإن المقارنة  بين أدوارها سيجعله يتوصل  في النهاية إلى نوع وكُنْه  هذه العلاقة التي ربطتها مع محيطها القبلي من جهة و المخزن من جهة أخرى، و كذا معرفة على حساب من تبلورت هذه العلاقة والأطراف المستفيدة منها. كما سيتعرف القارئ على مصادر قوة كل قطب من هذه الأقطاب ليخلص إلى أن العامل الاقتصادي وحده لا يشفع لها لمهادنة المخزن وتطوير علاقتها معه؛ كما هو الحال مع  شريفي دار إيليغ، وبالتالي استحضار العامل الروحي الذي  يفرض وجوده في هذه العلاقة أمر ضروري وهي حالة الحاج علي الدرقاوي الإلغي والحاج الحسين الافراني.

إن موضوع هذا الكتاب حسب ذات المؤلف لا يعدو أن يكون سوى لبنة أولى لعمل مستقبلي أكثر شمولية يمتد ليغطي الحقبة الراهنة التي اختلفت خلالها الزعامات المحلية في علاقاتها مع مؤسسة القبيلة والمخزن الشريفي،  وقبل أن يشرع المؤلف في استنباط العلاقة بين هذه الزعامات وباقي المؤسسات، ضمن أبواب وفصول هذا الكتاب، قدم فصلا شافيا تتبع من خلاله كرونولوجيا العلاقة بين الزاوية والمخزن والدراسات التي أنجزت في هذا الموضوع مبينا أنها خرجت من رحم أطروحتي المرحوم محمد حجي وعبد الله العروي ليخلص أن النتائج التي تم التوصل إليها تتأرجح بين نتائج هاتين الأطروحتين، باستثناء بعض الدراسات التي وجدت ضالتها في الأطروحة الاستعمارية المتجاوزة منوها أن كل الأعمال المنجزة خلال العقود المنصرمة والتي حررتها خيرة نخبة الجامعة المغربية لتعد بحق إضافة نوعية في ظل الندرة التي تعرفها مادة التاريخ الديني.

وللإجابة عن الإشكالية التي طرحها صاحب المؤلف والمتمحورة حول التساؤل عن احتمال وجود نمطية أو تعدد في العلاقة بين الزعامات والمحيط القبلي والمخزن، وقف على معطى الصلاح في علاقته مع المخزن من خلال ثلاث نماذج اختلفت في علاقتها بالسلطة السياسية التي مثلها المخزن، إذ تحكمت في اختياره  لكل نموذج  عوامل موضوعية وأخرى ذاتية:

نموذج دار إيليغ الذي مثله كل من الشريف الحسين أهاشم وابنه محمد :

حاول صاحب الكتاب أن يبين من خلال هذا النموذج كيف أن العلاقة بين الدار والمخزن المركزي انتقلت من مستوى المناوأة  في عهد الحسين أهاشم إلى مستوى التمثيلية اللامشروطة في عهد ابنه محمد. وقد حاول الباحث جاهدا إعادة  قراءة جديدة لبعض وثائق دار إيليغ و الخروج بخلاصات تختلف عن تلك التي توصل إليها بول باسكون P.Pascon ؛ والتي تضمنتها كتبه سواء تلك التي ألفها بمعية محمد الناجي حول سوس الأقصى والمخزن، أو كتابه حول دار إيليغ وتاريخها الاجتماعي. وقد توقف الباحث على هَنَّات نتائج  هذه الدراسات باعتبار صاحبها أخضعها  لنظرية  إرنست كلنرErnest Gelner المتجاوزة حول الانقسامية ؛ فقام أولا بدحض هذه النظرية  مبينا أن حفدة الشيخ كان لهم مشروع سياسي واقتصادي في المجال تجاوز بالأحرى مشروعا روحيا محتشما قاده جدهم بودميعة السملالي. لقد حاول الباحث جاهدا إعادة قراءة بعض وثائق دار إيليغ والتي لم يستطع بول باسكون الوصول إليها  وبخاصة الجزء الذي في ملكية الأستاذ البخاري بودميعة، حيث تمكن من خلالها  فهم الإطار التاريخي لحرب “تارْغْنا” بين دار إيليغ و قبيلتي باعقيلة ومجاط،  كما تمكن بعد مقارعة هذه الوثائق ببعض المصادر المحلية، من فهم أسباب ودواعي تغيير الانتماء إلى اللفين خاصة لما ساند التاكزولتيين التاحكاتيين في هذه الحرب، ليتوصل في النهاية إلى أن تناول التاريخ الاجتماعي لدار إيليغ بمعزل عن هذه المصادر والوثائق العائلية ينتهي بنتائج محدودة. ومن جانب آخر يحاول هذا الكتاب دحض نتائج بعض الدراسات الحديثة حول تاريخ سوس وبناء على الوثائق التي اعتمدها الباحث سيتوصل إلى أن التوهم بكون العامل الجغرافي والخصوصيات الطبيعية لسوس مكنا المجال من “الاستقلال” عن المركز هو كلام مردود على أصحاب هذه الدراسات بالحجة والبرهان، فوثائق القصر الملكي والعائلات السوسية تثبت عكس ما توصل إليه هؤلاء ، كما أن التمردات وليس “الثورات” ـ كما جاء في هذه الدراسات ـ  لم يكن غرضها الفتك بالمركز و “الاستقلال” عنه، وقد توصل بالملموس أن العلاقة كانت مستمرة بين المركز والهامش رغم بعض التشنجات التي ظهرت لظروف معينة، كحملة أغناج الحاحي على دار إيليغ في عهد المولى سليمان. والراجح حسب الباحث أن السلطة المركزية حاولت أن تترك المجال على عوائده وهي سياسة طبقها المولى الحسن خلال حركته الثانية إلى سوس (1886) ولم تكن بسياسة جديدة أو غريبة على سوس باعتباره مجالا لم تكن تناله الأحكام بشكل مستمر. نتائج هذا الكتاب إذن هي محاولة لتجاوز هذه المنزلقات وتتميما للدراسات السابقة حول نفس الموضوع.

إن أصالة أفكار هذا الكتاب مرتبطة بتخصيص جزء كبير  للتاريخ الديني  سيما أن معظم الدراسات المنجزة لم تخصص له سوى صفحات مشتتة الأفكار لا تعدو أن تكون تكرارا لما هو موجود في بعض كتب الرحلات وتقارير الاستعلامات العامة. إن التركيز على التاريخ الديني حسب صاحب الكتاب مرتبط بكون الزوايا وفقهاء الشرط لعبوا أدوارا طلائعية باعتبار تحركاتهم و أدوارهم هاته كانت محركا للأحداث في سوس فيما بين المركز والهامش؛ وكمثال عن ذلك الزاوية الدرقاوية الالغية بقبيلة أيت عبد الله أُسعيد والأدوار التي لعبها مؤسسها الحاج علي الدرقاوي الالغي في تهدئة الأوضاع الداخلية من خلال التحكيم وفض النزاعات بين القبائل المتناحرة وتدخله بطرق غير مباشرة لصالح أبناء عمومته الذين انعم عليهم بظهائر خطة القضاء، أو من خلال تكليف شيخ  الطريقة الناصرية بتِمْكْديشْت بظهير شريف يسمح له بجبي الجبايات وأخذ عشرها لتمويل الزاوية والانفاق عليها .

نموذج الحاج علي الدرقاوي الإلغي :

 يؤكد صاحب الكتاب ان الزاوية الدرقاوية  لعبت دورا مهما في تثبيت دعائم الدين الإسلامي المعتدل داخل مجال سوس، كما أن دورها السياسي لا ينكر، فبالعودة إلى مؤلفات السوسي – والتي اعتمدها صاحب الكتاب كمادة مصدرية للإحاطة  الشمولية بهذا النموذج – سنجد أن كل هذه المؤلفات لا تعدو أن تكون سيرة للشيخ الحاج علي بن أحمد الإلغي الزععيم المحلي للدرقاوية بالجنوب المغربي، حيث لا تخلو ترجمة في كتاب المعسول  من ورود اسمه أو التلميح له باللمز و الغمز. وقد خلص الباحث إلى تبيان كيف أن المختار السوسي ـ ابن الشيخ ـ حجب الدور السياسي لوالده دون أن يورطه في ممارسة اللعبة السياسية كما هو موضح في منقبته التي الفها ابنه والموسومة بالترياق المداوي، والواقع أن العكس هو الذي حصل حيث أن الرجل لعب لعبته خلف الستار دون أن يجر عليه ثورة  قبيلته وهو ما حدث مع الحاج الحسين الإفراني الذي أشهر بدعمه للمخزن ضد القبائل الثائرة. وقد حاول الابن جاهدا من خلال الروايات التي استقاها من أفواه مريدي أبيه والمتضمنة في الأجزاء السبع من افواه الرجال أن يجعل الشيخ يميل إلى كفة الروحي أكثر من كفة السياسي، وبغض النظر عن الرواية الرسمية للابن في حق أبيه الشيخ، فقد اعتمد الباحث دراسات حديثة  تناولت الصلاح في علاقته بالسلطة السياسية في قبيلة أيت عبد الله أسعيد مسقط رأس الشيخ؛ يتعلق الأمر بدراسة جون شوميل  J.Chaumiel التي استقت مادتها المصدرية من الرواية الشفوية حول القبيلة وصلحائها وهي المقالة التي تقدم تفسيرا مهما حول علاقة القبيلة بقبائل الجوار خاصة قبيلتي مجاط و حربيل والتي بواستطها مكنت صاحب المؤلف من فهم و استيعاب نوع وخصائص التنظيم الاجتماعي والسياسي لقبيلة أيت عبد الله أُسعيد المحمية من طرف  قبيلة مجاط ضد  قبيلة حربيل في إطار نظام أَمْغْروسْ، وبالمقابل نبه صاحب الكتاب إلى منزلقات نتائج جون شوميل الذي لم يستوعب الواقع  السوسي من جهة، ومن جهة أخرى تأليفه للمقالة بغض النظر عن المصادر التي كانت متاحة خلال فترة بحثه الميداني ولهذا السبب يقر صاحب المؤلف أن هذه المقالة تحمل في طياتها حمولات تشبه إلى حد ما الدراسات الممهدة للاستعمار الفرنسي للجنوب المغربي. وينوه الباحث بأجود دراسة تهم حالة الحاج علي الدرقاوي الالغي لصاحبها المؤرخ والأنثربولوجي المغربي الجيلالي العدناني المنشورة في هيسبيريس تامودا (ع 2008) والتي تكمن أهميتها في اعتماد صاحبها مقاربة انثربولوججية ـ تاريخية ووثائق محلية وأخرى أجنبية  مما مكنه من تقديم تصور جديد حول علاقة السياسي بالروحي منطلقا من مجال أيت عبد الله أسعيد، وفي نفس الوقت للرد عن قصور المنهج الذي وظفه الأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي في كتابه الشيخ والمريد. هكذا وبعد قراءته للتجربة الصوفية لعلي بن أحمد الإلغي الدرقاوي سيكون رده قاسيا على رواد الإنقسامية أو الذين أخذوا عنهم، فالمتمعن في الدراسة سيتضح له منذ الوهلة الأولى أنها جاءت للرد على مزاعم أطروحة عبد الله حمودي والتي انطلقت بدورها من نفس النموذج الصوفي، فالأول يدافع عن طرحه الرامي إلى كون المريد لم يكن خاضعا دائما لشيخه، وهو الطرح الذي ظل الأول متشبتا به في دراسته الأولى حول الجذور الاجتماعية. كما أن المقالة توضح كيف أن الشيخ علي بن أحمد الإلغي ارتبط بالقواد وشيوخ القبائل في محاولته تثبيته للفعل الصوفي وبنائه للكريزمة السياسية، وهي النقطة التي حاول صاحب الكتاب الانطلاق منها لا تباثها من جهة أو دحضها من جهة أخرى، وتبين مضامين الكتاب كيف أن الشيخ راهن على كراماته وسلطته الدينية والروحية أكثر من القوة السياسية للقواد ، خاصة أولئك الذين جابهوه وحاولوا تحجيم دوره داخل القبيلة، وبالتالي من سلطاته الروحية والسياسية. كما أن الفكرة التي ذهب إليها صاحب المقالة والتي مفادها أن النموذج الإلغي المعتمد في الدراسة يبين مظاهر الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية والتي وزعت بين الصالح والقائد لا يمكن تعميمها، حسب صاحب الكتاب، في جميع مراحل مسار الشيخ، ويتجلى ذلك من خلال مواقف الشيخ الإلغي حول الضرائب التي استحدثت خلال فترة حكم مولاي الحسن وابنه مولاي عبد العزيز، حيث توصل أن الشيخ راهن على المكتسبات السابقة للقبيلة وبالتالي لم نعد أمام شيخ هدفه الوحيد هو تربية المريدين وإحسان تربيتهم، بل أصبحنا أمام نموذج يتدخل في أمور سياسية من المفروض أن يكون محايدا فيها، وهو ما يؤكد على تورط الشيخ الإلغي في السياسي خاصة في فترة خضوع سوس للقواد الحاحيين  مثل سعيد الكيلولي و محمد أنفلس، مما يتماشى مع قصور مزاعم الأطروحة الانقسامية.

  • نموذج الحاج الحسين الإفراني التيجاني :

حاول صاحب الكتاب من خلال هذا النموذج أن يبين كيف تمكن الحاج الحسين الافراني التجاني على توطيد الحكم العلوي بسوس، وتهدئة أوضاعه خلال فترة الفراغ السياسي بالرغم من عدم توصله بظهير شريف يكلفه بذلك، كما أن هذه الشخصية التي خدمت المخزن على حساب القبيلة سوف يبزغ فجرها لما حلت بحاضرة تزنيت ومثلت المخزن أحسن تمثيل، والجدير بالذكر أن الشيخ الحاج الحسين الافراني التجاني مارس أدوارا سياسية طلائعية في المنطقة، من خلال توسطه للقواد لدى السلطان من أجل نيل رضاه أو توسيع مجال إيالة حكمهم كما هو الحال مع القائد الجيراري الذي عاصر الشيخ، هذا بالإضافة إلى أن نباهة الشيخ اتضحت معالمها لما مارس وظيفة التحكيم فأحسن ممارستها، بالإضافة إلى دوره في شحذ همم المريدين لجمع المعونات المالية وتقديمها لدار المخزن لمجابهة الثائر المدعو بوحمارة، و دوره كذلك في خلق إجماع داخل القطر السوسي لخلع مولاي عبد العزيز ونقل البيعة إلى أخيه مولاي عبد الحفيظ. يحاول صاحب الكتاب من خلال هذا النموذج أن يرد على مزاعم الإنقسامية من جديد، كما يوضح ضعف الروحي عند هذا الشيخ من خلال مقارنته مع النموذج الدرقاوي الإلغي فرغم تزعمه لخطة القضاء والافتاء إلى أن كراماته كانت محدودة مقارنة مع النموذج الدرقاوي.

إن الإحاطة الشمولية بهذه الشخصية حسب الباحث لن تكتمل ملامح صورتها إلا برفع الحصار الذي يفرضه ورثة الشيخ على وثائق الشيخ، والتي بدون شك كان يريدها أن تكون بين يد كل طالب علم. فقد أجزم في الفصل الذي خصصه للحديث عنه أن ما خصصه له لا يعدو أن يكون سوى شذرات ونتف و قبسات عبارة عن مقدمة أولية – من شأنها أن تزيل الغبار الذي ظل يغطي هذه الشخصية لمدة قرن من الزمن.

تبين من هذا الكتاب، أن التأريخ لعلاقة الزعامات المحلية سواء تعلق الأمر بشيوخ الزوايا أو زعماء دار إيليغ، يجعلنا نستشف العلاقة التي طبعت المخزن بالقبائل المحتضنة لهذه الزعامات وبالتالي فالوقوف على علاقة القبيلة بالمخزن يضطرنا للبحث في علاقة الزاوية بالمخزن بشقيه المركزي والمحلي. لقد  سمحت المادة المعتمدة في إنجاز هذا الكتاب لصاحبه في الوقوف على مميزات سوس الأقصى ومؤهلاته الاستراتيجية والتي جعلته مجالا منيعا ومحصنا قادرا على احتضان زعامات محلية دينية ( الحاج علي الدرقاوي والحاج الحسين الإفراني) وأخرى داع صيتها في المجال الاقتصادي والسياسي بناء على ما ورثته من رصيد صوفي يعود إلى القرن السادس عشر، يتعلق الأمر بزعيمي دار إيليغ الحسين أهاشم التازروالتي وابنه محمد، وكان لابد للمخزن من أن يستميل هذه الزعامات في النهاية لكي يجعلها سلاحا قادرا على ضبط المجال وتأديب القبائل الثائرة في وجهه، لكن هذه النتيجة لم تأتي من فراغ بل هي وليدة علاقة مد وجزر بين القطبين ، المخزن من جهة والزعماء المحليين من جهة أخرى لينتهي مسلسل الأحداث بينهما في النهاية إلى تمثيل القطب الثاني للقطب الأول بناء على مصالح متبادلة بين الطرفين  حيث تجعل كل واحد منهما يحافظ على مكتسباته.

إن نماذج الزعماء المحليين المعتمدين في هذا الكتاب بإمكانها تفسير العديد من القضايا التي ظلت مطروحة للنقاش في الساحة التاريخية منذ أمد طويل من قبيل تفسير تحكم المخزن في مجال منيع ومحصن كما هو الشأن بالنسبة لسوس اعتمادا على هذه الزعامات، وكذا الدور الذي لعبته كوسطاء بين القبيلة والمخزن لتحصيل الجبايات وفرض الطاعة وبخاصة خلال فترات المسغبات والفراغ السياسي. يؤكد صاحب الكتاب في النهاية على الصعوبات التي تكتنف البحث في تاريخ الزعامات المحلية وبخاصة في مجال ممنع  ومحصن مثل سوس وتتمثل في كون الإحاطة الشمولية لأي موضوع ومهما اختلف تخصصه تستدعي من الباحث استحضار العناصر الآتية:

  • عنصر الحلفين تاكوزولت  وتاحكات باعتباره مفسر للعديد من القضايا والأحداث التاريخية سيما وان ما كتب حول هذا العنصر لا يشفي غليل الباحث .
  • فهم واستيعاب مؤلفات المختار السوسي ومقارعتها بالأصول.
  • ·       عدم التسليم بنصوص المراسلات التي تتضمنها هذه المؤلفات وضرورة مقارعتها بالمراسلات التي كان يتبادلها الأقران فيما بينهم سواء تعلق الأمر بالقواد أو الزعامات المحلية.
  • ·       صعوبة إسقاط النتائج العلمية التي توصلت إليها الدراسات، بخصوص تناول شيوخ الزوايا والمخزن، على المجال السوسي لخصوصياته الطبيعية والسوسيو-اقتصادية، وما التحالف بين التجانية الإلغية والدرقاوية الإلغية إلا مثالا عن ذلك.
  • لم يكن عنصر الشرف وحده هو المحرك الوحيد لعناصر القوة والجاه والنفوذ لشيخ الزاوية، بل أن الكرامة الخارقة للعادة تجاوزت هذا المعطى الكلاسيكي.

وكخلاصة فإن المعطى الديني في سوس  وخلال الفترة المدروسة يعد بمثابة تجربة دينية وثقافية، وأحيانا فهي “إديولوجية” قامت على واقع محدد أملته ظروف سوس السياسية والدينية، هكذا فتجربة علي الدرقاوي تميزت عن باقي التجارب خاصة  تلك التي اتخذت من النسب الشريف( أشراف دار  إيليغ) الوسيلة  الوحيدة التي يرث أصحابها بها الدين الحقيقي حيث استطاع بفضلها زعماء دار إيليغ أن يعرضوا أيديولوجيتهم الدينية والتي مكنتهم بسبب ضوابط اجتماعية وسياسية من السيطرة على مجموعات اجتماعية أخرى ولعل تزعمهم للف تاكوزولت لخير دليل على ذلك.

عن طريق هذه السلطة الدينية قد لعب شيوخ الزوايا وضمنهم الحاج الحسين الإفراني وعلي الدرقاوي وذلك بصورة  مستمرة الوسيط في حل النزاعات المستمرة القائمة بين القبائل من جهة، وبين أطراف المخزن من جهة أخرى. وعن طريق تحكيمهم ووساطتهم لدى المخزن نال الزعماء المحليون وفي مقدمتهم شيوخ الزوايا امتيازات اقتصادية واجتماعية عن طريق ضوابط إجتماعية متعددة. لقد حصل كل هذا لما نسج شيوخ الزوايا أفكارا كتلك التي قدمها الحاج علي الدرقاوي حيث قبلها الجماهيروسلموابها وبالتالي كان لهذه الأفكارأدورا كبير في تموقع الشيخ داخل القبيلة ولدى المخزن وباتالي لم يكن أمام هذا الأخيرخيارا سوى استمالة الزعيم المحلي لضبط القبيلة  ومحيطها مقابل مصلحة موزعة بين الطرفين.

 

*أستاذ باحث في  التاريخ والانثربولوجيا الثقافية، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين جهة بني ملال خنيفرة، المغرب

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.