شفرة كورين – الجزء السادس والأخير

شهد 8 – بالرمو 2010

في السادس عشر من نوفمبر 2010،

تلقيت اتصالاً هاتفيًّا من الدكتور مالك الواسطي (إيطالي من أصل عراقي، وأستاذ بكلية الآداب – قسم الدراسات الآسيوية – جامعة نابولي)، ليبلغني أن أمانة جائزة صقلية للتراث الثقافي غير المادي والأنثروبولوجيا تستعد لإعلان اسم المتوج بالجائزة، وأنه يتعين عليَّ أن أرسل رسالة إلكترونية إلى مركز الدراسات الأنثروبولوجية أوضح فيها استعدادي للحضور إلى بالرمو في الثاني والعشرين من نوفمبر في حالة الإعلان عن فوزي! وقال أنه يتعين علي أيضًا أن أتوجه إلى القنصلية الإيطالية، للحضور إلى بالرمو في الثاني والعشرين من الشهر نفسه!

كان ذلك قبل يومين من نتيجة لجنة التحكيم، وفكرت للتو في أن أتحرك سريعًا تحسبا للإعلان عن فوزي بالجائزة فعلاً، وبالفعل سافرت إلى القاهرة، حيث كنت أتحرك بين أسيوط وسوهاج.

أبلغت عبر الهاتف والبريد الإلكتروني ببيان لجنة التحكيم مساء يوم الثامن والعشرين من نوفمبر، ونصه:

“جائزة مسابقة صقلية للتراث الثقافي غير المادي والأنثروبولوجيا، باسم الباحث الإيطالي الصقلي سالوموني مارينو رائد الدراسات الأنثروبولوجية في صقلية، والتي أقيمت برعاية جامعة بالرمو، وبإشراف مباشر من المركز الأنثروبولوجي الوطني الإيطالي.

منح الباحث المصري محمد حسن عبد الحافظ الجائزة الأولى عن عمله الذي يحمل عنوان “سيرة بني هلال: روايات من جنوب أسيوط”. يعبر الكتاب عن تصورات شعبية تمثل التاريخ الشعبي لقطاع عريض من الريف المصري. وبنو هلال هي قبيلة عربية هاجرت من شبه الجزيرة العربية واليمن إلى مناطق في آسيا وأفريقيا، كالعراق والشام ومصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وتشاد والنيجر ونيجيريا، واستطاعت أن تكون المصدر الأساسي للمخيل الشعبي الذي استمر يعيد صياغته الناس من خلال الموروث الشعبي. وقد استطاع الباحث عبر هذا الكتاب أن يقدم لنا تصورًا عامًا عن الموروث الشعبي العربي.

والكتاب هو حصيلة تجربة ملهمة في مجال الأنثروبولوجيا والأدب الشفهي، أنجزه صاحبه في خمسة عشر عامًا. وكان الهدف منه التنقيب عما بقي من نصوص “سيرة بني هلال” في بعض القرى بجنوب مصر، وهي الملحمة الشفهية المصرية التي لايزال يؤديها بعض الرواة في جنوب مصر وشمالها. وسعى صاحب العمل إلى الوصول إلى مغنين مجهولين لهذه الرائعة الشفهية في القرى بجنوب مصر، وإلى البحث عن صوت النساء فيها حيث يُعتقد أنها نص ذكوري لا يبدعه أو يؤديه إلا الرجال. كما أجاد صاحب الكتاب دراسة موضوعات من تخصصات وحقول معرفية متعددة ذات صلة وثيقة بمعاينة الموضوع الرئيس: إبداعية الأداء؛ اللهجات المحلية؛ الجنس الأدبي؛ الوعي الفني للمغنين؛ المعارف الشعبية؛ القيم الرمزية للجماعات الاجتماعية. كما انطوى العمل على توثيق دقيق لمختلف الحقول والمعارف ذات الصلة بموضوع البحث.

إنها تجربة ملهمة حقًا للباحثين الأنثروبولوجيين في التراث الثقافي غير المادي من حيث تعلم اكتشاف ثراء الرموز الثقافية الخبيئة والمجهولة في أعماق الجماعات الاجتماعية الهامشية التي تتحاشى الأجهزة والنظم الثقافية والاجتماعية الوصول إليها.

ويعد هذا الكتاب من المؤلفات التي تعتمد لدينا في البحوث التي ستحظى بالرعاية في مراكز البحوث الإيطالية والأوروبية حول هذه الظاهرة الثقافية في التاريخ العربي والأدب العربي… وشكرًا”.

في صباح التاسع والعشرين من نوفمبر، توجهت إلى القنصلية الإيطالية لأجدها مغلقة بمناسبة العيد، وطلبوا مني الحضور في اليوم التالي، وقابلتني العديد من المصاعب للحصول على الفيزا التي من المستحيل – على حد قول موظفي القنصلية الإيطالية – الحصول عليها قبل مرور 15 يوما على التقدم بطلب الحصول عليها، وأرسلت رسالة للمركز الأنثروبولوجي، ذكرت فيها صعوبة حضوري بسبب إجازة العيد في مصر، ولعدم قدرتي على الوفاء بالأوراق المطلوبة، فقام الجانب الإيطالي بالاتصال بسعادة السفير كلوديو باسيفيكو والسيدة كاترين رئيسة القنصلية، ثم اتصلوا بي من إيطاليا، وأخبروني أن السفير والقنصل على علم بأمري. وأنني سأحصل على التأشيرة يوم الأحد وأسافر صباح الاثنين، وهذا ما حدث فعلاً، بإشراف مباشر من مدام دافولي، وبمعاونة فريق القنصلية.

في المطار، تسلمت تذكرتين الأولى من القاهرة إلى ميلانو والثانية من ميلانو إلى بالرمو، وقالوا لي أن حقيبتي سأتسلمها في بالرمو. بدأت الرحلة، وشعرت بمتعة عبوري باتجاه شمال المتوسط للمرة الأولى في حياتي، وكنت قد عرفت السفر إلى عدد من البلدان العربية فحسب، تهيأت الطائرة للهبوط ودهشت للمطار الذي حطت فيه الطائرة، وقلت لنفسي كيف يكون هذا مطار ميلانو؟! ومرت دقائق ودقائق حتى أدركنا أننا هبطنا هبوطنا اضطراريا في مطار صغير بجنوب إيطاليا بسبب نقص الوقود، إحدى الراكبات أصابها الهلع فأصيبت بهبوط حاد، وجاءت الإسعاف وأسعفتها وعادت للطائرة بينما لا نزال ننتظر الانتهاء من تموين الطائرة بالوقود، وكنت أرقب من شباك الطائرة هذه العملية. بعد ثلاث ساعات، عادت الطائرة إلى الجو، ثم وصلت مطار ميلانو وكنت الراكب الوحيد على الطائرة المتوجهة إلى بالرمو، حسب العلامات المدونة في التذكرة، توجهت إلى مكان إقلاع الطائرة من ميلانو إلى بالرمو، لكني لم أجد أحدًا، واكتشفت أن الطائرة غادرت في موعدها، حيث تأخرت طائرة القاهرة ميلانو، ولم يكن أمامي إلا أن أسافر في اليوم، أو التوجه إلى روما ومنها استقل طائرة أخرى إلى باليرمو، وبالفعل تم ذلك لأن تسليم الجائزة يتم في اليوم التالي، ونفذت الرحلة على هذا النحو. لكن عندما وصلت إلى بالرمو لم أجد حقيبتي، وكان بانتظاري وفد جامعة بالرمو الذي ظل ينتظرني طيلة ست ساعات. استقبلني د. مالك مداعبًا: مرحبًا ماجلان المصري، أنت في بالرمو حيث خطا العرب في سالف الأزمان.

حضرت مراسم الجائزة، تسلمتها في موقف مهيب، كنت فخورًا بنظرات الإعجاب والتقدير التي بدت واضحة في عيون الجالسين من الباحثين والفنانين الإيطاليين والأوروبيين، بينما يقرأ البروفيسير أوريليو ريجولي (رئيس مركز الدراسات الأنثروبولوجية، ومؤسس قسم الأنثروبولوجيا بجامعة بالرمو) بيان التتويج بالجائزة، بحضور رئيس جامعة بالرمو، ورئيس مقاطعة مدينة بالرمو. وعدد غفير من الباحثين والمثقفين والفنانين الإيطاليين والأوروبيين.

في غرفة بفندق فاجنر، انفردت بنفسي. بكيت كما لم أبك قط، مجتهدًا في جلب سلام الذات، ودفع الشعور بالغبن عن النفس. قرأت الفاتحة على أرواح رواة السيرة الهلالية، وعلى روح صديقي عبده طه. وقبل أن أخلد في نوم عميق، كان طيف كورين يبتسم لي، بينما أشعر بموسيقا صوتها تسري في أوصال روحي.

مدرس الأدب الشعبي المساعد، المعهد العالي للفنون الشعبية، أكاديمية الفنون، القاهرة.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.