شفرة كورين – الجزء الخامس

المشهد 7 – الشارقة 2010

رافقني صديقي المخرج المسرحي عبده طه في بعض الزيارات الميدانية لجمع روايات السيرة الهلالية من مؤديها المجهولين بقرى أسيوط. ومنذ مطلع عام 2000، مكثنا سويًا في منزل عائلتي بمدينة أبوتيج لتفريغ المادة المرئية المسجلة وتدوينها. إلى أن داهمته أزمة قلبية في الخامس عشر من يناير عام 2002، لأتجرع كأس فراقه وهو بين ذراعي.

طوال عامين، كنا نقضي أيامنا في تدوين السيرة الهلالية والنقاش حول دراميتها ودلالات أحداثها وكنه شخوصها، ومرات كان يعبر عن توسمه في أن أكتب يومًا ما نصًّا مسرحيًّا يعيد اكتشاف جماليات السيرة الهلالية وقيمتها الدرامية، وكنت أقول له: لا أظن أستطيع، أو: لا بد أن تمر سنون كثيرة قبل أن أهم على مثل هذا العمل الصعب. وكان لدي شعور أسطوري بأن الهلالية عصيَّة؛ تهجر من يستسهل أمرها، وتصرع من يصارعها ويرى نفسه مالكها، وتمسخ من يعبث بها دون فهم لأسرارها وشفراتها.

بعد سنوات، خضت تجربة عملية جديدة أطلت فيها الهلالية برأسها وهمست: أنت ستكتبني برفق! حيث عملت مع الدكتور أحمد مجاهد في المركز القومي لثقافة الطفل عامي 2007 و 2008، وخلال هذه الفترة، قمت بالاطلاع على الكثير من الدراسات في مصر والعالم، وعلى الكثير من الإبداعات الموجهة للطفل أو يبدعها الطفل. ودونت الكثير من الملاحظات في هذا المجال؛ من أجل العمل على تنشيط برامج المركز. وكنت أدرك بالطبع صعوبة الكتابة للطفل، فهذه الكتابة تتطلب دُربة ودراية، مثلما تتطلب وعيًا ورقابة ذاتية. وإذا كانت الدُّربة تُكتسب بالمران، فإن الدراية سابقة على الممارسة؛ أي إن للكيفية التي بها يُكتب للطفل مواصفات تقتضيها أدبه. وإذا كان الوعي مما يشترط في الكاتب قبل الإقدام على الكتابة، فإن الرقابة الذاتية ترافق كاتب الطفل على الدوام، وهو يقبل على الكتابة الإبداعية، فمسؤوليته إزاء النشء الذي يتحكم في اختيار النهج الذي يتغيا تكوينه عليه، أكبر مما لو كان متوجهًا بخطابه إلى شريحة من القراء الرُّشَّد، ممن يتمتعون بمستوى من التنبه والتحوط والحذر والرفض والمواجهة الضدية والتفاعل المتكافئ. إن هشاشة الطفل تُحمِّل المبدع المسؤولية مضاعفة؛ فهو، وإن كان حرًّا في اختيار موضوع أدبه، مدفوع إلى أن يكيِّف هذه الحرية طبقًا لحاجات الطفل. وهو، إن لبَّى هذه الحاجات، وتخلى عن قدر من حريته، مجبرٌ على أن يفيَ بالحقوق الجمالية للأدب، ليفي – من ثم – بحق المتلقي/ الطفل عليه إمتاعًا وتساميًا، وإلا صار الأدب الذي يسهم في إنتاجه باهتًا فاترا. ولعل المفلح من كُتَّاب الطفل هو ذاك الذي يحقق المعادلة المتمثلة في اكتناز أدبه بجماليات النص من جانب، واكتناز روحه باحترام المتلقي/ الطفل من جانب موازٍ. ومتى اختل أحد العنصرين، فقد أدب الطفل ألقه الجمالي، وباء قارئَه/ الطفل بخيبة أمل لا جُناح عليه في عدم الوعي بها.

لكن، ما معنى أن يلبي القاص “احتياجات الطفل”؟ لا تكفي المعرفة النظرية بأصول التربية، وبعلم نفس الطفل، وبمراحل وعيه الجمالي، وبإشكالات نوعية لفئات من الأطفال، ناهيك عن معرفة فضاء أدب الطفل نفسه، إلى غير ذلك، إذا لم يترافق مع هذه المعارف خبرات التعاطي “الميداني” المباشر مع الطفل، وفقًا لما أضاءته العلوم الإنسانية التي صار الطفل واحدًا من أبرز موضوعاتها، والتي تكشف عن الأهمية الحاسمة للسنوات الأولى من الحياة، وعن القدرة الكامنة التي يتمتع بها اللاشعور، والرغائب، والتواترات النفسية، والانفعالات، والخيال الخلاق. نجد مثل هذه الخبرات الميدانية الملهمة لدى المبدعين المصريين الذين قدموا إسهامًا جماليًّا فائقًا في مضمار أدب الطفل، مثل عبدالتواب يوسف وفؤاد قنديل ومحمد عفيفي مطر وأحمد زرزور ودرويش الأسيوطي ويعقوب الشاروني وغيرهم، لكن كثيرًا من الراشدين يحملون أوهامًا عن الطفل وعن عالمه، كأنهم يهربون من ذواتهم، وينسون طفولتهم القديمة، أو يتحاشون طفولتهم التي لا تزال تسكن فيهم. لا ينفكون من تصورات يقوم معظمها على “نوايا حسنة”، لكنها في الحقيقة مشوشة، قلقة، خائفة، حيال الطفل، بوصفه كائنًا ناقصًا، فيمارسون مختلف أنواع السلطة التي ينجم عنها ضمور فرصه في الاختيار، وفي الاكتشاف، وفي القفز. في امتطاء الخيال وتأمل الغامض، والبعيد، والخبيء. بعض هؤلاء الراشدين يشتغلون في ميدان الأعمال النقدية التي تتناول نصوص أدب الطفل بالدرس والفحص، ويستنسخون التوجيهات الإرشادية والوصايا النازعة إلى “التبسيط” و”السهولة” و”الوضوح” و”الانتقاء” و”المنطقية” و”الملاءمة” و”تحديد الفئة العمرية” و”الترشيد اللغوي والخيالي”، و”الحذر من التحديث والتجريب” وغير ذلك مما يمثل – في تصورهم – الاحتياجات التي ينبغي على كاتب الأطفال أن يقدمها للطفل في إبداعاته. وهي – للأسف – توجيهات إرشادية مؤثرة في ميدان “الكتابة الأدبية”، حيث تتمثلها مجموعات قصصية، أو روايات، أو مجموعات شعرية، أو مسرحيات، موجهة للطفل، تزخها المطابع زخًا، ويستهلكها الآباء شراءً، ويطالعها ملايين الأطفال في العالم العربي.

فكرت أن أسهم عمليًّا في المركز القومي لثقافة الطفل بعمل مسرحي بعرائس خيال الظل، أتذكر أني كتبته في ليلة واحدة وأنا في الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب، بحضور المخرج الشاب أيمن حمدون. وقد تم عرضه في بعض المحافظات المصرية، كما شارك به أيمن في مهرجانات عربية. وكنت أفكر في مواصلة هذا الإسهام. لكني تركت المركز فجأة للعمل بأكاديمية الفنون، دون أن أترك الطفل وثقافته وأدبه وفنونه. وفكرت في أن أجذب خبرتي في الأدب الشعبي إلى عالم الكتابة للطفل، واعدًا نفسي باكتشاف جماليات جديدة تحترم الطفل والفن سويًّا. وكان أول أعمالي تلك المسرحية (لعبة الغولة) التي كتبت للعرض بعرائس خيال الظل وعرائس الماريونت بجانب التمثيل البشري، واستلهمت فيها شخصية الجازية الهلالية راوية للحكاية وللأحداث. وتوج العمل بجائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال أدب الطفل عام 2010، وأهديت العمل لصديقي عبده طه، طيب الله ثراه.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.