الرسومات الصخرية: محاولة للفهم من الاركيولوجي الى الأنثربولوجي

طلحة بشير*

مقدمة :

تسعى هذه الورقة الى محاولة إيجاد هامش او زاوية يتم من خلالها التركيز على فهم كنه الرسومات الصخرية ودلالتها ، انطلاقا من محاولة توظيف المناهج الانثربولوجية في موضوع اركيولوجي بامتياز ، وهذا ما يثير إشكالية التداخل والانفصال بين الحقول المعرفية المختلفة والتي في صميمها هي اختلافات منهجية لا اكثر ، لذلك قدمنا هذه الورقة ونحن مدركين لخطورة الانزلاقات المعرفية في مقاربتنا لهذا المسعى والذي عبرنا عنه بمحاولة للفهم ، فالمحاولة دوما تقترح ولا تأكد تفترض ولا تثبت ، مدعين بذلك إعطاء وجهة نظر يمكن من خلالها تقديم اضاءات في فهم الرسومات الصخرية من خلال استنطاقها ودلالتها وربطها بالمعطيات الانثربولوجية التي يمكن ان تساعد في تقديم قراءة مختلفة لما قدم في هذا المجال ، وهذا وفق بعدين ، البعد الاول هو ملامسة تقاطعات الحقلين المعرفيين الاركيولوجيا والانتربولوجيا ، والبعد الثاني هو محاولة اقتراح زاوية نظر يتم من خلالها قراءة الصورة المقترحة كعينة للرسومات الصخرية .

المقاربة بأي منهج ؟ :

تسعى المقاربات الحديثة في اطار المعرفة العلمية الى تجاوز العمليات الاختزالية للعلوم واعتبارها ظواهر معقدة يصعب فصلها عن باقي المجالات كالدين والانتربولوجيا …الخ وغيرها من التخصصات التي تتداخل لدرجة التماهي ، ومنه فقد قدمت العديد من المحاولات في هذا الشأن تجاوزا كما قلنا للخطاب العلمي الذي كان سائدا خلال القرن التاسع عشر والذي كان يستند الى اطر فكرية وفلسفية كلاسيكية ، تتبني الاختزالية والتبسيط في المعالجة ، على العكس الواقع الذي يوصف بالتعقيد ، وهذه في حد ذاتها نظرة قاصرة تختزل الواقع وتتبني التبسيط والفصل والتجريد ، ودون الخوض في تفاصيل هذا الانعطاف المعرفي في الفكر الإنساني ممارسة ومنهجا ، يمكن الإشارة الى طروحات عالم الاجتماع الفرنسي ” ادغار موران ”  Edgar Morin وخاصة في كتابه ” المنهج “[i] الذي أشار فيه الى تبني المنهج المعقد ( La pensée complexe)  الفهم المركب او الفكر المركب والذي يُختصر بعبارة التعقيد (Complexité) في فهم الظواهر متعدد الأبعاد ، يمكنه من خلاله النظر الى الظاهرة بنظرة اشمل من خلال إشراك العديد من الحقول المعرفية ، ويقول في هذا الصدد ” لقد طورت كل أبحاثي في اتجاه معاكس للتجزئة وتقطيع المعرفة، مدافعا من أجل إمكانية إعادة تجميع المعرفة ، وذلك في الربط بين العلوم الفيز-رياضية والعلوم الإنسانية، والعمل على إدماج الإنسان كموضوع للمعرفة وكعضو في نظام الطبيعة والكون ” [ii] ، ويتم هذا عن طريق تجاوز الحدود والفواصل بين الحقول المعرفية المختلفة والتداخل بين التخصصات المختلفة (interdisciplinaire) ، وهي دعوة باتت محققة مع تعقد الحياة وطغيان خطاب العولمة ، بل أصبحت حتمية للمشتغلين بالعلم .

هذا على المستوي الابستمولوجي المعرفي والتوجهات العلمية البحثية في سيرورة العلم وتطوره ، ولكن على المستوي المعرفي والمنهجي لمساهمة الانتربولوجيا ، ماهي الجوانب التي يمكن ان تساهم بها الانتربولوجيا ، كعلم يسعي الى تفسير الواقع الانساني بحيثياته وملابساته ؟ وهل يمكن ان تزودنا القراءة الانتربولوجية بتفسير مقنع عن مخلفات انسان العصر الحجري ولاسيما على مستوي الرسومات الصخرية ؟

نحن ندرك مسبقا أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليس بالامر الهين ، ولكن يمكن الإشارة الى الجوانب التي يمكن أن تقدمها الانتربولوجية باعتبارها علم جديدا مقارنة بالعلوم الإنسانية الأخرى ، استطاعت أن تستفيد وتوظف وتؤسس لرؤيتها انطلاقا من التراكمات المعرفية العديدة ، كما اثبتت مكانتها من خلال المناهج المتميزة التي تتبعها والتي عبرت عن نجاعتها في تقديم رؤية وقراءة للواقع الإنساني اقرب وملازم للإنسان ، كما تساعدنا نظرتها الشمولية من خلال الجوانب المتعددة التي تدرس بها الإنسان (فيزيقية اجتماعية وثقافية) في تقديم رؤية شاملة ومتناسقة وصفية عن حياة الانسان ، ولعل هذا الجانب هو المهم في سيرورة هذا العلم .

على المستوي العملي وخاصة في الجامعات الغربية لازالت تقاطعات العلوم المختلفة تنتج تخصصات التخصص ، لتعبر عن العلاقة الحتمية في حاجة العلوم الى بعضها البعض ، وهذا ما أعط العديد من التخصصات التي تتقاطع مع الانتربولوجيا ، كاللانتربولوجيا التاريخية و الانتربولوجيا الاثرية …الخ من التخصصات ، بعيدا عن التعميمات التي لازالت ترزح فيها جامعاتنا العربية ،

أبعاد القراءة :

تم اقتراح مقاربة هذا المسعى في محاولة إيجاد تفسير مُرْضٍ وتشاركي بين الانتربولوجيا والاركيولوجيا ، من خلال اقتراح النموذج التالي ، وهو نموذج ثلاثي الأبعاد يقترح زاوية رؤية متعددة من خلال تقديمه في الشكل التالي :

أولا : الإنسان ببعديه (الاجتماعي والثقافي) :

والمقصود به هو النظر الى الإنسان ليس ككائن بيولوجي وفيزيقي فحسب ، وهذا ما تشتغل في جزء منه الاركيولوجيا ، بل وجب النظر إليه على أساس انه عنصر وفرد من وحدة اجتماعية كاملة سواء كانت العائلة او الزمر الأولي الى شكلها الإنسان الاول او قبائل وعشائر ، فالإنسان هو كائن اجتماعي وسياسي كما درج على تعريفه في العلوم الاخرى ، وعليه فان أي تفسير يهمل هذا الجانب يعد تفسيرا وفهما ناقصا او مجزء .

ثانيا : النظرة الشمولية :

وهي نظرة تمدنا بها الانتربولوجيا منهجا وموضوعا ، يحيط بجميع الجوانب ، فيجب أن نجد تفسير في هذا الإطار إذا أردنا تبني المقاربة الانتربولوجية .

ثالثا : ربط الحاضر بالماضي :

وهي نظرة ومحاولة مكلمة للنظرة الاولي والثانية ، فنحن نبحث عن تفسير لمجهول بمعلوم ، ويمكن الاشارة في هذا الصدد للعديد من المقاربات التي تبنت هذه النظرة واستطاعت ان تقدم فهما وتفسيرا لحقبات زمنية سابقة عليها ، ونجد في الحضارة العربية الإسلامية أسبقية العلامة ابن خلدون في ذلك ، وهذا يؤكد مرة اخرى على اهمية المعلومات التي قدمها ، والتي تحاول القراءات الحديثة ادراجها ضمن البحوث الاثنوغرافية باعتبار الفكر الخلدوني يعتمد على المشاهدة الحية والتشاركية في المجتمع والمعايشة الدائمة ، والعديد من العبارات الواردة في المقدمة تدعم ذلك ، فقد أشار الى قاعدة مهمة وجوهرية ، تمثلت في ربط الحاضر بالماضي (قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب )[iii]، واستطاع تقديم تفسيرا مقنعا لبناء الأهرامات والحضارة الفرعونية .

كما تشير العديد من الدراسات الحديثة الى أهمية هذه القراءة ، والتي من بينها رأي عبد الله العروي وهو ينتمي للمدرسة التاريخية ، ففي تقديمه للمدرسة الكولونيالية[iv] ممثلة في كل من ” ستفين غزيل ” و” غابريل كومبس” يشير الى التحيزات الواضحة في معالجة التاريخ القديم لشمال افريقيا ، هذا القصور ناتج عن التأثير الايديولوجي الواضح وكذا المناهج التي يتم بها معالجة والنظر الى القضايا المرتبطة بالتاريخ القديم للمغرب ، ويشيد في الأخير الى عمل الباحة الانتربولوجية ” جرمين تيون”[v] ، في الحقل الانثربولوجي ، وهو اعتراف أخر بأهمية الدراسات الاثنوغرافية في فهم هذه المجتمعات منهجا ومضمونا وعلاقتها بالحقبة الماقبل تاريخية التي تعبر عن ارتباطها بها ، وهو بذلك يؤكد فرضيتنا في أهمية الدراسات الاثنوغرافية والاثنولوجية في فهم التاريخ القديم ودور المنهج في ربط الحقبة التالية بالحقب الماضية .

 

دراسة الحالة : محطة فجية الخيل

دلالة التسمية :

حسب سكان المنطقة تشير فجية الخيل الى الممر الجانبي لقطعان الماشية والدواب ، فجية أي ممر جانبي للمرتفع الجبلي بين منطقتين يحدهم ، هذا المرتفع الذي يعتبر مانع طبيعي بالمنطقة وهو الممر الوحيد في تلك المنطقة المعروفة بتضاريسها الوعرة ، وهي تسمية كما يلاحظ مستوحاة من وظيفتها الطبيعية ، ولا تشير التسمية إلى أي معني مبهم أو لساني قديم ، كما عهدناه في بعض المناطق .

بطاقة فنية :

يتضمن الموقع ثلاث محطات أهمها المحطة الثالثة ، فهي على العموم ” عبارة عن واجهة أفقية بإحدى الجبال المترامية بالقعدة و التي تعد الحلقة الأهم في جبال عمور”[vi] ، تتواجد بالإحداثيات التالية 34º00’58  و “53’162ºوبارتفاع 1197م عن سطح البحر، تقدر مقاسات الواجهة بـ 6 م طولا و 3 م ارتفاعا حيث تتضمن أربعة أشكال ، نعامة و سنوري و رجل يقابله كبش ذو القرص، بالنسبة للنعامة جاءت بخط منقط و أسلوب شبه طبيعي، السنوري عبارة عن أسد جُسد بالخط المحزوز مع صقل المساحة الداخلية هو الآخر بأسلوب جاتو متحرك ، أما التمثيل البشري الذي نجده قليل مقارنة بالتمثيل الحيواني الكثير، فالرجل يظهر بذقن ملتحي و شعر طويل من الخلف يظهر على شكل ضفائر و أيدي مرتفعة إلى الأمام إحداها تحمل شيء ، مع إظهار تفاصيل كل الجسد بما فيها جهازه التناسلي كل هذا جُسد بتقنية الخط المصقول بدون معالجة المساحة الداخلية بمنظور مقابل عدا الرأس الذي يبدو جانبي أما الكبش ذو القرص الذي جاءت مساحته الداخلية مصقولة إضافة إلى الخط المستعمل، القرص نجد بمحيطه ريش لتزين يشدها حزام من الجلد كما نجد رباط على رقبته، كلاهما جُسدا بالأسلوب الطبيعي الكبير الحجم أما المنظور جانبي مطلق بالنسبة للكبش” [vii] وما يهمنا في المحطة هي الصورة الأكثر دلالة وبروزا والتي سنحاول إعطاء قراءة لها ، والتي تجسد الرجل والكبش ، كما هو موضح في الصورة

المصدر : احمد .ح ، الرسوم الصخرية لمحطة فجية الخيل 3

سيمولوجية الصورة :

من خلال الصورة التي تتكون من عنصرين مهمين متباينين حسب التقنية المستعملة لكل منهما ، وهي تقنية تسعى الى إبراز الكبش وتقديمه في صورة أكثر نصاعة مقارنة بالرجل الذي يبدو اقل اتقانا ، وهي عملية تشير إلى أهمية الكبش مقارنة بالرجل ، كل تفاصيل الكبش ظاهرة ومتقنة تجلب الناظر اليها من أول لحظة ولعل هذه الملاحظة المشتركة بين كل من محطة بوعلام الذي بدا فيها الكبش في تفاصيل دقيقة وإتقان منقطع النظير رغم ان المحطة تفتقد لوجود رجل بجنب الرسمة ، فيما تسجل نفس الملاحظة على كبش محطة عين الناقة الذي فقد كثير من تفاصيله بسبب الإتلاف ، وهو وجود تفاصيل حول الكبش تتقاطع في الكثير مع ماهو موجود في محطتنا ، مع التقليل من دور الرجل الملازم للكبش .

كل تفاصيل الصورة توحي بوجود كبش نجهل سلالته ، ولكن بإتباع بعض المحاولات من طرف المختصين يمكن الوصول إلى الفروقات السلالية من خلال تفاصيل أجزاء مكوناته الفيزيقة ، اعتمادا على التقنية التي طبقها “Jean-loic leQuellec  “[viii] على الرسوم الصخرية لوسط الصحراء واستعان بالعلوم الآلية الحديثة في تحديد قاعدة بيانات تخص الاختلافات المعتمدة على الإحصاء الكلي لأنواعها وعلم الجينات ، وهو مجهود علمي كبير يحتاج الى تقنيات وأدوات بحثية كبيرة .

الإضافات على الصورة الطبيعية هي وجود القرص وهذا أثار نقاش كبير بين المتخصصين حول وظيفته ودلالته سنتطرق إليه فيما بعد ، وجود الريش على رأس الكبش ووجود حزام يحيط برقبته ، يشير في الغالب حسب الاخصائين الى عملية التدجين ، وان كان في جانبه تتوفر فيه هذه الصفة فقد تتعدد استعمالاته ، فقد كانت الى وقت قريب تعلق التمائم و الحروز حفظا لهذه الحيوانات من تأثير العين والقوي الشريرة وخاصة للكبش الذي يهيمن على القطيع ، كما يستعمل في بعض المناطق جرس لتتبع مسار القطيع ، إذا دلالات رباط الرقبة يحمل بالإجماع مدلول مرحلة تدجين الإنسان للحيوان ، كما قد يحمل دلالات مرادفة حسب معتقدات الشعوب .

المكون الثاني في الصورة وهو الإنسان الذي بدا في هيأته واقفا في وضعية أمامية أي متقدمة عن الكبش وهذه حسب هنري لوت تستبعد عملية العبادة لان هيئة المعبود تأتي في وضعية متقدمة أي الرجل يأتي في وضعية مقابلة للكبش ، كما تعبر وضعية الجثو على الركبتين في الغالب عن حالة التقرب وممارسة الطقس وهو ما تفتقد له الصورة ، بل وضعية إعطاء الظهر تعبر عن عملية الانقياد الكبش للإنسان وهذا ما حاول أن يفسره بعضهم بحالة تقديم قربان مع التحفظ حول هذا الرأي .

حالة التفرد التي تقدمها الصورة سواء الرجل او الكبش تفتح باب التأويل الكبير ، فممارسة الطقوس في الغالب تأخذ البعد الجماعي ، إلا إذا كانت الصورة لها رمزية الإنابة عن المجموعة او رمزية أخرى تدعم فرضية المفرد .

العنصر البشري في الصورة يحوي الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تكتمل بها ، إنسان نصف عاري الجزء الأسفل ، وضعية اليدين في حالة غير حالة الاسترخاء (الرفع) الى درجة متوسطة ، بعض تفاصيل الجسم ، بنية قوية ، تفاصيل الرأس ، شعر مصفف ، لحية بارزة ، انف بارز ، كل هذه يمكننا دمجها في الصورة الكلية التي يمكن إعطائها للإنسان في ذلك العصر و ما يترتب عليها كذلك ، اللباس تصفيف الشعر اللحية ، كلها عناصر تعتبر مواضيع مستقلة لعلم الانتربولوجيا او الاثنولوجيا .

المكون الثالث الذي بدا بوضعية مائلة للأفول هو الأداة التي يحملها الإنسان ، وهي المحدد الأساسي في فحوي الصورة مقارنة بالعناصر الأخرى ، فالأداة هي نتاج تقني يعبر عن حضارة عصر معين سواء من ناحية الشكل او تقنية الصنع او حتى مادة الصنع ، وقد بنا كثير من الانتربولوجين تفسيراتهم عن التغيرات الحضارية التي يمكن أن تحدثها أداة او آلة في مجري البشرية ، فالمعدن او حجر يشير الى تقنية الصناعة السائدة في ذلك العصر ، وتطويع المعادن وتقنية استخدامها الى غيرها من التأثيرات سواء على المستوي المادي او الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبشرية ، وهي مقاربة مازالت معمول بها حتى الآن ، ففي الغالب ما يتم تتبع أثار التطورات التكنولوجية لبعض الآلات على حياة الإنسان ، وعليه فإذا تم تحديد نوع الأداة سوف نتفادى كثيرا من عمليات التأويل الخارجة عن حدود السياق العام ، بين أداة الحرث وأداة الذبح فرق كبير ، الأولي تشير الى مهنة مرتبطة باستغلال الأرض او تقطيع الحطب والثانية تشير الى ممارسة الطقوس ، في حالتنا هذه هل يمكن للصورة أن تجمع بين المعنيين في ان واحد ؟ ، هذا في حدود ضني مستبعد .

أشار ” مارسيا الياد ” إلى الجوانب التي تُهمل عند تفسير العثور او قراءة أداة تم اكتشافها تمتد الى عصور ماقبل التاريخ ، ” فهي تحوي رموز ودلالات قد يمر وقت طويل دون حلها ، فكل ما تم كشفه هو جانبها التقني ، مافكر به منتجها او مالكوها او ما شعروا به او تخيلوه او املوا بعلاقتهم معها فيه ، يفوتنا ” [ix]  وهذه جوانب مهمة يتم إهمالها في تفسيرنا تقريبا لكل البقايا المادية التي يتم العثور عليها لعصور سابقة .

بلاد هابيل :

لقد قارب الصواب الاثنوغرافي ” ايميل درمنقام ” عند زيارته للمنطقة و اطلاق عنوان لكتابه ” بلاد هابيل ” وهو لا ينكر استقائه للتسمية من التاريخ القديم  ” بلاد اولاد نايل والارباع والعمور في وسط الاطلس الصحراوي وعلى بوابة الجنوب الكبير ، غير مهتمين مباشرة بالبترول ، فكل مواردهم مربوطة بالاقتصاد الرعوي الضارب في القدم منذ سيدنا ابراهيم ” [x]  ، هذه العملية الآلية التي يتم فيها ربط ممارسات وطقوس مجتمعات المغرب العربي خلال المرحلة الاستعمارية من طرف جل الاثنوغرافين الفرنسيين على وجه التحديد ، نجدها حاضرة في العديد من مؤلفاتهم ونظرياتهم المفسرة ، “فادموند دوتي” في تفسيره لمراسيم الوعدة والمعروف والالتقاء عند جد القبيلة وهي ممارسة لازالت مستمرة حتى وقتنا الراهن ، ” يرى أن لها تواريخ محددة في السنة في شمال إفريقيا ، وهذا دليل على أنها تعود الى ما قبل التاريخ “[xi] ، وقد جمع عبد الله حمودي[xii] مجمل آراء ما اسماه الانتربولوجية الكولونيالية فيما يخص الذبيحة وتأكيدهم جلهم تقريبا على أن الممارسة ترتبط بعصور تاريخية ماضية ، إن عملية المقارنة التي يعترف بها الانتربولوجيين في فهم حياة المجتمعات القديمة وتفسيرها من خلال المجتمعات البدائية التي تعتمد على الصيد او الرعي ، تقدم فهما اقرب لما كانت عليه الحياة ، فعندما نشير هنا الى الحياة الرعوية معناه وجود ثقافة الرعي ، من بين أهم عناصر ثقافة الرعي أن الراعي لا يمكن ان يضحي بفحل القطيع بل يوجد هناك نوع من التواصل بينهما لحد الانسجام ، وكثير من العناصر التي يمكن استنتاجها من خلال هذه الثقافة في فهم وتفسير مدلولات الرسومات .

المعبود و المقدس :

أثارت هذه الرسومات الكثير من النقاشات من طرف المتخصصين وعلى وجه التحديد الاركيولوجيين ، وتباينت أرائهم بين مؤيد ومعارض لعبادة الكباش والتي عبر عنها باسم ” أمون ” او ” بعل أمون ” ، وقد ناقش باستفاضة وعرض لمجمل الآراء الأستاذ حارش[xiii] في مقال له ، وهو متخصص في التاريخ القديم ، كما أن العديد من الاركيولوجيين ناقشوا هذا الأمر ، لم نشأ الرجوع الى أرائهم ، تفضيلا لما يمكن ان يذكره الانتربولوجيين باعتبار لهم تناولات اعم واشمل ، لكن ما يسجل بالنسبة لهذه الآراء لدي الاركيولوجيين هي التفسيرات التي ترجع أصول الموجودات الى ثقافات أخرى ، وهذا ما سميناه نظرية الوافد ، وهو رأي متحيز يري بان كل المنتجات الثقافية والحضارية وافدة لشمال إفريقيا بما فيها الإنسان ، فالحصان وافد والجمل وافد …الخ وكبش وافد واللغة وافدة ,,,الخ  ، وبالتالي لا وجود لأي مكون حضاري او ثقافي في هذه الرقعة ، وهذا حسب رأي انحراف وتحيز واضح ، يراد منه التأسيس لثقافة التمايز بين الأصل و الفرع .

الإشكالية المرتبطة ببناء القرائن على وجود عبادة قديمة للكباش التي تعلوها أشكال دائرية في رؤوسها ، بالمغرب القديم والتبريرات الملازمة لها ، هي ان هذا النوع من العبادة او التقديس ظهر لدى العديد من الشعوب والمجتمعات في جهات مختلفة من العالم ، كما ان الاعتماد على الممارسات المرتبطة بالفترات المتأخرة لمكانة الكباش والقرابين او الأضاحي ، قد تداخلت معها التصورات والممارسات الإسلامية التي جاءت تثبيت للشعائر الإبراهيمية ، وبالتالي الاستناد عليها يكون بحذر ، فما كان منتشر والى وقت متأخر بتعليق قرني الكباش على أبواب المنازل والبيوت ، كان ممارسة موجودة لدى عرب الجاهلية ، ففي ما يذكره ” ابن عباس انه رأى رأس الكبش معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة “[xiv] .

مجمل الآراء تتجه نحو اعتبار ما دلت عليه الرسومات يدعم تقديس تلك الحيوانات في تلك المرحلة و” لا يشير بالضرورة لتأليه الحيوان ” [xv] ، ففرضية العبادة تبقي غير مكتملة نظرا لغياب البراهين المثبتة لها ، فالاثنوغرافين الذين درسوا شمال افريقيا يشيرون الى استمرارية الكثير من الممارسات والطقوس التي تمتد الى عصور قديمة كتقديس الأسلاف والحجارة والمغارات والأشجار …الخ من الموجودات التي تثبت وجود معتقدات وثنية سابقة عن الديانات السماوية و الاسلام ، واستمرارية هذه المعتقدات لا يبرر اعتبارها آلهة ، بل يمكن إدراجها ضمن الممارسات الطوطمية التي ظهرت عند الكثير من الشعوب .

تأويل في ظل علم الأساطير :

يتعلق هذا العنصر بالتوجه نحو البحث في الفكر الأسطوري وهو محور في الغالب يتم التغاضي عنه وإهماله في مجتمعاتنا ، رغم انه يمثل مكون أساسي في ثقافتنا التي تطغي عليها الشفاهية بمقابل النزعة الكتابية ، فجزء كبير من ذاكرتنا يتم تداولها على أساس أنها مرويات او حكايات تأخذ صفة القداسة وقد تتلاقح مع روايات ابعد تاريخيا كأن تكون أساطير مرتبطة بأصول تكون وظهور الأشياء وهذا ما يعطيها الطابع الأسطوري حسب المتخصصين ، كما لا يمكن تصور مجتمع يعيش بدون رصيده الاسطوري الذي يكون جزء كبير من ثقافته ، وعليه يمكننا طرح التساؤل التالي ، هل يمكن ان تقدم لنا الاسطورة اجابة عن بعض المعتقدات التي كانت سائدة في عصور قديمة ؟

اجابة على هذا التساؤل ، يؤكد ” مارسيا الياد ” على ” حضور الأساطير لدى شعوب العصري الحجري ، وخاصة أساطير المنشأ ، وهي مؤكدة عالميا ” [xvi] ، ويورد امثلة على ذلك يرجع تفسيرها وربطها بعصور ما قبل تاريخية ، كالرقص الدائري ، ” فهذه الشعائر معروفة تماما لأناس العصور الحجرية ، لذلك فان استمراره مع الايديولوجيا الدينية لصيادي العصر الحجري واضحة … ان الرقص الدائري يوضح بشكل مدهش استمرار الشعائر والمعتقدات مما قبل التاريخ في الثقافات القديمة المعاصرة ، ففي الصور الحجرية للهقار والتاسيلي ، يمكن ان تكون الغازها قد حلت بفضل الاسطورة “[xvii] ، هذا الجانب المهمل في الغالب من طرف الباحثين والذي تم تأكيده من طرف الانتربولوجين يمكن ان يصبح سند في فهم وتفسير كثير من المعتقدات والطقوس الضاربة في التاريخ والتي تحمل الصفة غير المادية .

انطلاقا من هذا قام الباحث في تجربة سابقة للبحث في أصول تكون مدينة افلوا ، بزيارة ميدانية للمنطقة التي تمسى بوخروف وهي تسمية لها دلالتها ، يحكي الشيخ الساسي الذي التقينا به قائلا ” من لي كانت النية والناس مجمولة والناس لكبار ، كان خروف يخرج من العين ويعاود يرجع ويشوفو غير واحد واحد ، من العام للعام انديرو معروف عندو ، هذ راه عين انتاع الصالحين ” ،  كما ذكر ان العرش من العام للعام ايدرو المعروف عند سيدي بوخروف ويذبحوا زوج اعتاريس (تيوس) سود وبعدها تغير الطقس و اصبحو يذبحو نعجة درعة “[xviii] .

من خلال هذه الحكاية التي ارتبط بها اسم المكان ، توضح الجانب الاعتقادي المتعلق بالرؤية من عدمها واضفاء صفة القداسة على الخروف الذي تصدق رؤيته الا لمن كان له حظ ، بالنسبة للقبيلة[xix] المؤسسة لمدينة افلو وهي من اقدم القبائل التي سكنت المنطقة ، هذا المعتقد القداسي يؤكد مرة اخرى على الجانب الذي يليه سكان المنطقة للاغنام التي حظيت بهالة تقديسية يمكن تتبعها في العديد من المحطات التاريخية ، وهي بلاشك تمتد الى عصور ماقبل اسلامية او تاريخية قديمة تعبر عن حلقة وصل بين حضارات مختلفة كما اكد عليه الانتربولوجين .

 

خلاصة :

على ضوء ما قدمناه في تأكيدنا على الجوانب المنهجية في دراسة الرسومات الصخرية ، وهي جوانب تم التغاضي عنها عن قصد او غير قصد في تفسيرات وتأويلات هذه الرسوم ، التي في الغالب تشير الى قصور في التناولات العلمية المجتزئة التي تستبعد الكثير من العلوم في تفسيرها وقراءتها وتقديم وجهة نظرها حول معطي إنساني ارتبط بحياته ونمط معيشته ، لا يمكن تفسيره او تبريره الا بالرجوع الى قراءة متكاملة لنمط معيشته بجميع جوانبها وهذا ما تقترحه الانتربولوجيا كمسعى بحثي شمولي ، ولكن في نفس الوقت تحاول الاستفادة من نتائج العلوم الأخرى التي على رأسها الاركيولوجيا ، اننا من خلال هذا المثال الذي يوضح بصورة قاطعة حاجة العلمين لبعضهما البعض ، سواء على مستوي المعرفي او المنهجي يدعم التوجهات البحثية التي وجب حضورها في جامعاتنا ، وهي توجهات عالمية جديدة تقضي على الحواجز المعرفية بين العلوم والتخصصات التي سادت في الاذهان قبل ان تسود في جماعاتنا ، وعليه يجب التأكيد على هذا الدور التكاملي والتعاوني بين التخصصات والعلوم دون دعوات التفاضل والتسامي لعلوم على اخرى.

 

الهوامش

Émile Dermenghem, Le pays d’Abel: le Sahara des Ouled-Naïl, des Larbaâ et des Amour, Collection L’Espèce humaine, Gallimard  , 1960,  P 09 .

 

Jean-loïc Le Quellec «Retrouver les mythes de la Préhistoire?» Musée de l’Homme ; https://www.youtube.com/watch?v=ag0WZ5Qe5Gw

 

[i]  ادغار موران ، المنهج : معرفة المعرفة : الافكار ، ترجمة : يوسف تيبس ، افريقيا الشرق ، ب ط ، الدار البيضاء ، 2013 . كما يمكن الاشارة الى كتبه الثاني ، الفكر والمستقبل : مدخل الى الفكر المركب ، ترجمة احمد القصوار ، دار توبقال ، ط1 ، الدار البيضاء ، 2004.

[ii]  داود خليفة ، ” براديغم التعقيد والفكر المركب عند ادغار موران “ ، مجلة الحوار الثقافي ، المجلد 6 العدد 2 ، ص 74 .

[iii]  عبد الله العروي ، مجمل تاريخ المغرب ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب ، 2007 ، ص ص 52 – 53 .

[iv]  عبد الرحمن ابن خلدون ، المقدمة ، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، 1978 ، ص ص 9- 10 .

[v]  من بين اهم اعمالها المترجمة ، الحريم وابناء العم ، تاريخ النساء في مجتمعات المتوسط ، ترجمة : عز الدين الخطابي و ادريس كثير ، دار الساقي ، 2000 .

[vi]  أحمد حمدي (2020)، التوزيع الفضائي لمواقع العصر الحجري الحديث وفجر التاريخ بالأطلس الصحراوي ( جبال لعمور) – منطقة الأغـــــواط نموذجا– اطروحة دكتوراه غير منشورة ، جامعة الجزائر . ص ص170 – 174 .

 

[vii]  نفس المرجع ، ص 174 .

[viii] Jean-loïc Le Quellec «Retrouver les mythes de la Préhistoire?» Musée de l’Homme ; https://www.youtube.com/watch?v=ag0WZ5Qe5Gw

 

[ix]  مرسيا الياد ، تاريخ الافكار والمعتقدات الدينية ، ترجمة : عبد الهادي عباس ، الجزء الاول ، دار دمشق ، 1987 ، ص 20 .

[x] Émile Dermenghem, Le pays d’Abel: le Sahara des Ouled-Naïl, des Larbaâ et des Amour, Collection L’Espèce humaine, Gallimard  , 1960,  P 09 .

[xi]  ادموند دوتي ، السحر والدين في افريقيا الشمالية ، ترجمة : فريد الزاهي ، رؤية للنشر والتوزيع ، 2018 ، ص 393 .

[xii]  عبد الله حمودي ، الضحية و أقنعتها ، بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب ، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ، المغرب ، 2010 .

[xiii]  محمد الهادي حارش ، ” اصول عبادة امون في المغرب القديم ” ، مجلة الدراسات التاريخية ، عدد 4 ، 1988 ، معهد التاريخ ، جامعة الجزائر

[xiv]  وحيد السعفي ، القربان في الجاهلية والاسلام ، مؤسة الانتشار العربي ، بيروت ، لبنان ، 2007 ، ص 147 .

[xv]  فاطمة الزهراء عزوز ، دور الرسوم الصخرية في التعريف بالحياة الدينية في الجزائر في التاريخ القديم ، مجلة الدراسات الافريقية ، مجلد 1 ، العدد 2 .

[xvi]  مرسيا الياد ، المرجع نفسه ، ص 40 .

[xvii]  مرسيا الياد ، المرجع نفسه ، ص 39 .

[xviii]  زيارة ميدانية قام بها الباحث بتاريخ : 15/12/2017 لغرض البحث في بقايا قبيلة الرحامنة وزيارة الموقع الاول لمدية افلو .

[xix]  قبيلة الرحامنة وهي القبيلة التي كانت تسكن مدينة افلو .

 

 

قائمة المراجع :

  1. ادغار موران ، الفكر والمستقبل : مدخل الى الفكر المركب ، ترجمة احمد القصوار ، دار توبقال ، ط1 ، الدار البيضاء ، 2004 .
  2. ادغار موران ، المنهج : معرفة المعرفة : الافكار ، ترجمة : يوسف تيبس ، افريقيا الشرق ، ب ط ، الدار البيضاء ، 2013 .
  3. ادموند دوتي ، السحر والدين في افريقيا الشمالية ، ترجمة : فريد الزاهي ، رؤية للنشر والتوزيع ، 2018 .
  4. عبد الرحمن ابن خلدون ، المقدمة ، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، 1978.
  5. عبد الله العروي ، مجمل تاريخ المغرب ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب ، 2007 .
  6. عبد الله حمودي ، الضحية و أقنعتها ، بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب ، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ، المغرب ، 2010 .
  7. محمد الهادي حارش ، ” اصول عبادة امون في المغرب القديم ” ، مجلة الدراسات التاريخية ، عدد 4 ، 1988 ، معهد التاريخ ، جامعة الجزائر
  8. مرسيا الياد ، تاريخ الافكار والمعتقدات الدينية ، ترجمة : عبد الهادي عباس ، الجزء الاول ، دار دمشق ، 1987 .
  9. من بين اهم اعمالها المترجمة ، الحريم وابناء العم ، تاريخ النساء في مجتمعات المتوسط ، ترجمة : عز الدين الخطابي و ادريس كثير ، دار الساقي ، 2000 .
  10. وحيد السعفي ، القربان في الجاهلية والاسلام ، مؤسة الانتشار العربي ، بيروت ، لبنان ، 2007 .

 

المقالات :

  1. داود خليفة ، ” براديغم التعقيد والفكر المركب عند ادغار موران “ ، مجلة الحوار الثقافي ، المجلد 6 العدد 2 ،
  2. فاطمة الزهراء عزوز ، دور الرسوم الصخرية في التعريف بالحياة الدينية في الجزائر في التاريخ القديم  ، مجلة الدراسات الافريقية ، مجلد 1 ، العدد 2 .

الرسائل الجامعية :

أحمد حمدي (2020)، التوزيع الفضائي لمواقع العصر الحجري الحديث وفجر التاريخ بالأطلس الصحراوي ( جبال لعمور) – منطقة الأغـــــواط نموذجا– اطروحة دكتوراه غير منشورة ، جامعة الجزائر .

 

 

  • أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأغواط، الجزائر

[email protected]

رأي واحد حول “الرسومات الصخرية: محاولة للفهم من الاركيولوجي الى الأنثربولوجي”

التعليقات مغلقة.