الحب في مرآة الأنثروبولوجيا

مبروك بوطقوقة*

في جميع أنحاء العالم يؤمن الناس بالحب، ويحلمون بالحب، ويتوقون إلى الحب، ويعيشون من أجل الحب، بل ويموتون وقد يقتلون من أجل الحب، لذلك يعتبر الحب أحد أقوى الأنظمة التي طورتها البشرية على مر الزمان، حتى صار له عيد يحتفل به سنويا، إلا أننا هنا لن نناقش فكرة العيد، بل سنستغل الفرصة لمناقشة فكرة الحب نفسها من خلال الدراسات الأنثروبولوجيا بشقيها البيولوجية والثقافية.

بيولوجيا الحب

بينت الدراسات العصبية المتقدمة أن للحب أساس بيولوجي، لكن هذا لا يعني إغفال الثقافة، فالبيولوجيا والثقافة تشكلان معا الحب بالطريقة التي نعرفها، أن نقع في الحب وأن نغرق في الرومنسية، وأن نشعر أننا نطير أو نمشي فوق السحب هي أمور بيولوجية، نشعر بها نتيجة لتدفقات هرمونية معينة في الدماغ. أما من نحب؟ وأين نحب؟ وكيف نعبر عن الحب؟ فهي أمور ثقافية طورتها مجتمعاتنا عبر الأجيال لتحقيق استمراريتها والسعي للحصول على أفضل شريك ممكن لضمان النسل الجيد.

من منطلق بيولوجي، بينت دراسات علمية أجرتها الأنثروبولوجية البيولوجية “هيلين فيشر” في قسم الأنثروبولوجيا بجامعة روتجرز، استخدم فيها تصوير الرنين المغناطيسي على أكثر من مئة شخص أن الواقعين في الحب لديهم نشاط دماغي قوي في قاعدة الدماغ المسؤولة عن إفراز هرمون الدوبامين الذي يمنحنا الطاقة والتركيز والشغف، وبالتالي يمكن اعتبار الحب نوعا من الأنواع الأساسية لعمل الدماغ مثل الفرح، والغضب، والخوف، وغيرها. بالإضافة إلى ذلك نجد أن المنطقة المسؤولة عن الحب في الدماغ تقع بالقرب من المنطقة المسؤولة عن الجوع والعطش، مما يوحي بأن أهمية الحصول على الحب للاستمرار في الحياة هي بنفس أهمية الحصول على الأكل والماء.

طور الإنسان ثلاثة أنظمة دماغية للتكاثر وحفظ النوع، وتعمل الهرمونات مثل المحرك الذي يدفع للوصول للهدف خلال هذه المراحل الثلاث، المرحلة الأولى هي مرحلة الجاذبية الجنسية، تأتي بعدها مرحلة الحب الرومنسي الذي يقرر من خلاله الرجل والمرأة الارتباط ببعض، وأخيرا مرحلة مشاعر الارتباط طويل المدى التي تسمح للطرفين بالاستمرار بعد زوال مرحلة الانجذاب الجسدي، وهذه المراحل تتكاثف لتحقيق الارتباط القوي بين الرجل والمرأة بما يضمن تأبيد المجتمع واستمراريته.

 

الحب عند الشعوب البدائية

ثقافيا يذهب الاعتقاد الشائع إلى أن الحب الرومنسي هو نتاج الثقافة الأوروأمريكية، لكن هذا الأمر مجانب للصواب، فقد أثبتت الدراسات الأدبية أن حكايات الحب الرومنسي والقلوب المكسورة موجودة في الأدب الصيني منذ ألفي سنة، وأظهرت دراسة أخرى أجراها عالم الأنثروبولوجيا “ويليام جانكوياك” من جامعة نيفادا مع زملائه عام 1992 أن الحب الرومنسي موجود في 91 بالمائة من الثقافات العالمية التي تمت دراستها.

وثق علماء الأنثروبولوجيا الغربيون في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين دهشتهم من الطرق المختلفة للتعامل مع “الحب” من طرف الشعوب البدائية، ومن ذلك توصيف بعض الشعوب بأنها متساهلة بشكل ملحوظ في العلاقات الرومنسية بين المراهقين، بينما البعض الآخر معارض لأي تعبير حر عن الحب، وعلى سبيل المثال لاحظ “برونيسلاو مالينوفسكي” الذي درس جزر التروبرياند جنوب شرق أستراليا أن التروبريانديين يطورون علاقات عميقة من “الحب الرومنسي” ، ويصف كمية من “سحر الحب” المستخدم لإغواء الحبيب، أما الأنثروبولوجية الأمريكية المعروفة “مارغريت ميد” التي درست مجتمع الأرابيش في بابوا غينيا الجديدة فقد ذكرت أن الآباء هم الذين يختارون زوجات أبنائهم بناء على اعتبارات أسرية، وأن الفتاة تنتقل للعيش في عائلة زوجها الذي يكبرها بعدة سنوات عندما تبلغ من العمر ثمان سنوات فقط، وتبني مع العائلة الجديدة علاقة من الارتباط الخاص تدريجيا مما يؤدي إلى زواج متناغم في معظم الأحيان، وهنا يتحول الحب، الذي  يعتبر شعورا فرديا، إلى مصلحة اجتماعية، وتتحول الأنثروبولوجيا بشكل أساسي إلى فهم الآليات الجماعية التي تحكم الزيجات، تاركة جانبا المشاعر والدوافع الشخصية.

يعتبر الحب الرومنسي في العديد من الثقافات والحكايات الشعبية والقصص شيئا خطيرا يجب الحذر منه، ففي دراسة أجراها “ويليام جانكوياك” وجد أن 94 في المئة من القصص الشعبية تحذر الرجال من مخاطر التورط مع امرأة جميلة، فمثلا لدى الإنويت في آلاسكا حكاية شعبية يرى فيها صياد امرأة جميلة ويقوم بمطاردتها عبر النهر لمسافات طويلة ليموت أخيرا من الإرهاق بعدها تتحول المرأة إلى غراب وتطير بعيدا. وتحذر القصة الشعبية الصينية من “جنية الثعلب” أو الروح التي تأخذ شكل امرأة جميلة من أجل إغواء عشيقها ثم قتله، وتقدم العديد من تلك الحكايات نصائح وإرشادات حول كيفية تجنب التعرض للإغواء أو التلاعب من قبل امرأة جميلة لكن سيئة السريرة.

هذه النظرة السلبية للحب الرومنسي كعاطفة خطيرة من الأفضل تجاهلها أو حتى إنكارها هي نوع من الحماية الاجتماعية من خيبة الأمل المحطمة للقلوب في حال فشل العلاقة المبنية على الحب وحده، كما تعتبر طريقة ناجعة لتطويع الشباب المقبل على الزواج لتبني الاستراتيجيات الزواجية للمجموعة الاجتماعية التي ينتمون إليها، لذلك تنتشر هذه النظرة السلبية للحب الرومنسي في المجتمعات ذات الزيجات المدبرة خاصة في آسيا مثل الهند وأفغانستان والكثير من الدول الإسلامية التي يقوم فيها الآباء باختيار الزيجات لأبنائهم دون أن يكون لهم حق الرفض.

ومع ذلك، فإن فكرة الحب المتبادل بين شخصين لا تزال قائمة في جميع أنحاء العالم، لكن يتم التعامل معها ثقافيا بطرق مختلفة، وإن كانت كل الثقافات تعمل على جعل الزواج هو النهاية الحتمية والسعيدة للحب، وحتى إن ذهبت بعض التوجهات التحررية المتطرفة إلى اعتبار الزواج مقبرة الحب إلا أن الدراسات بينت أن الكثير من الأشخاص في عمر الخمسين والستين لا يزالون مخلصين لشركائهم ويظهرون العلامات البيولوجية للحب الرومنسي بعد عقود من أول لقاء، وهو ما يطلق عليه اسم “الحب البطيء”، المرتبط بالتعاطف والتحكم في العواطف والضغوط.

الحب قبل الزواج أم بعده؟

الحب عاطفة أما الزواج فهو عقد اجتماعي، وعبر التاريخ امتزج الاثنان معا ليشكلا مزيجا رائعا، لكن ظل التساؤل الصعب: أيهما يكون أولا؟ الحب أم الزواج؟

أشارت الدراسات الاثنوغرافية لبعض المجتمعات القبلية إلى أن الأزواج كانوا في بعض المراحل من التاريخ يعتبرون غرباء أو حتى أعداء، إلا أنهم يتحالفون لغرض رئيسي هو الإنجاب، في هذه المجموعات، بدا أن الحفاظ على المجموعة عبر الانجاب هو الأكثر أهمية، في حين كان نادرا ما يتم الاعتراف بمشاعر الحب الرومنسي، بل قد يكون ذلك من المحرمات، إلا في الأشكال المجازية التي تسمح بها الممارسات الثقافية مثل الشعر أو الأغنية أو الرقص.

ولهذا كانت الزيجات المدبرة في هذه الأوقات هي القاعدة، حيث كان أفراد الأسرة يساهمون في ترتيب من عليه أن يتزوج وممن سيتزوج، مع التركيز على عوامل مثل الوضع الاجتماعي والغنى والنفوذ والسلطة وغيرها من الاعتبارات. وعلى سبيل المثال بينت الأنثروبولوجية الفرنسية “جرمان تيون” أن مجتمعات شمال إفريقيا تبنت نظاما للزواج يجبر المرأة على الزواج بابن عمها حتى تبقى الأرض ضمن ملكية العائلة ولا تسمح لرجل غريب أن يكون شريكا فيها، لهذا يكون الزواج في كثير من الحالات مرتبا منذ الولادة.

ومع ذلك فإن الزيجات المدبرة ليست زيجات جامدة وفاشلة كما يبدو، فقد درست عالمة الأنثروبولوجيا “مارسيا إنهورن” الزيجات المدبرة في مصر ولبنان ووجدت أن العديد من الأزواج طوروا حبا متبادلا قويا بعد الزواج، كما لاحظ عالم الأنثروبولوجيا “مودي” نمطا مشابها بين بعض الشباب في نيودلهي حيث وقع الأزواج الذين تمت دراستهم في الحب بعد الموافقة على زواج مرتب، ويبدو أن الطرفان خضعا لتحول مفاجئ تجلى في المبادلات العاطفية والأفراح والأوهام المشتركة حول حياتهم المستقبلية مع بعضهم البعض، كما قد تعزز الحياة المشتركة، ذات الخلفية أو الاهتمامات المتشابهة، مشاعر الحب والمودة.

درس عالم الأنثروبولوجيا “فيكتور دي مونك” مجتمع درافيديان المسلم في سريلانكا حيث يتم ترتيب الزيجات منذ عهد قديم، ووجد أنه يمكن للشباب الذين لديهم مكانة اجتماعية مماثلة وعلاقة قرابة مناسبة أن يلتقوا بانتظام، مما يوفر الفرصة لتطوير المشاعر الحب المتبادل، وقال أكثر من ثلاثة أرباع المتزوجين حديثا الذين قابلهم “دي مونك” في أواخر السبعينات أنهم أحبوا زوجاتهم قبل أن يتم ترتيب زواجهم رسميا.

ووجدت دراسة مقارنة أجرتها الأنثروبولوجية الأمريكية “باميلا ريغان” وزملائها حول نتائج العلاقة في الزيجات الأمريكية الهندية القائمة على الحب، وتلك القائمة على الزواج المرتب اختلافا بسيطا بين الاثنين من حيث مشاعر الحب والرضا الزوجي على المدى الطويل.

وسواء اقتنعنا بأولوية الحب على الزواج، أو أولوية الزواج على الحب، فإن العبرة بالنتيجة التي نصل إليها في الأخير وهي التوافق طويل المدى، وللوصول لهذا التوافق من المهم مراعاة الفوارق المادية والثقافية وتطابق الشريكين بشكل مناسب حتى لا تنكسر القلوب وتصاب بالخيبة المؤلمة.

ومع ظهور الانترنت والتكنولوجيات الحديثة شهد الحب الرومنسي آفاقا جديدة مع توفر خيارات لا حدود لها من الشركاء المحتملين، وصار العثور على شريك مناسب أمرا أكثر صعوبة، لكن هذا موضوع آخر قد نتعرض له في مقال قادم.

*أنثروبولوجي وأكاديمي من الجزائر

 

المصدر: السفير العربي

الرابط: https://assafirarabi.com/ar/50622/2023/02/16/

 

 

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.