التاريخ عند مارك بلوك و المنهج السوسيو-أنثروبولوجي

مرقومة منصور

إذا كانت الدراسات التاريخية تقوم على بحث أحوال الناس وأوضاعهم وحياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية وتراثهم الثقافي وأدوارهم الحضارية في مراحل تطورها عبر الزمن، فإن الوصول إلى الحقائق التاريخية يتطلب الاستعانة بعدة مناهج وتخصصات تعتمد على النظرة الترابطية والتكاملية بين النظم والظواهر الاجتماعية الملازمة لها، وذلك بإرجاع الحقائق إلى حيثياتها التي لا يمكن لعلم واحد أن يحيط بها. ولقد اتسعت الدراسات الاجتماعية والإنسانية حديثا إلى مجالات لم تكن معروفة سابقا، وتعددت التخصصات نتيجة لذلك في تناول التجارب والأحداث و التي تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، كما تشعبت وتداخلت المناهج العلمية الخاصة بهذه العلوم مكملة بعضها بعضا للاستفادة منها في الحاضر والمستقبل، واختلفت هذه المناهج باختلاف مشارب أصحابها العلمية وتعددها، وباختلاف نظرتهم وتوجهاتهم الفكرية والعقائدية، بل والسياسة والاقتصادية والاجتماعية في أحيان كثيرة.
لقد ظهرت الكثير من المجادلات والمشاحنات بين المؤرخين (علماء التاريخ ) والأنثروبولوجيين (علماء الإنسان)، وذلك في تغليب منهج على آخر، أو تخصص على تخصص، بإعطاء الأهمية له على حساب الآخر الذي ينتقص من أهميته ويمتهن خصوصيته العلمية والمنهجية، ومحاولة تغليبه وكأنه المنهج الوحيد الذي يجب إتباعه، والاعتماد عليه كلية في إقامة الدراسات والبحوث التي تعتمد على الأحداث المستقاة من الميدان خاصة، بل لقد ذهب بعض العلماء والباحثين (مجددين كانوا أو مقلدين)، إلى حد وصف من ليسوا على تخصصهم وملتهم العلمية بالمتطفلين والمتفيقهين وأشباه العلماء. وعليه فقد دعا كثير من العلماء في كتاباتهم أو في مناهجهم لأحداث القطيعة مع الوسائل التقليدية للبحث، خاصة في مجال التاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، كما دعوا إلى تضافر كل العلوم والمعارف من اجل هدف واحد وهو خدمة العلم والإنسان.
من بين هؤلاء “مارك بلوك”، الذي اشتغل بالتاريخ الريفي والإقطاعية وأشتهر بكتاب صدر بعد وفاته تحت عنوان : “ثناء من أجل التاريخ أو مهنة المؤرخ”. اهتم فيه بتحديث المناهج التاريخية وناقش فيه العلاقة بين التاريخ وعلم الاجتماع وبين التاريخ والعلوم الطبيعية”، ودعا فيه إلى إحداث القطيعة مع الطرق التقليدية لدراسة التاريخ والتي تخطاها الزمن، واعتماد طرق جديدة تعتمد على تضافر جهود كل العلوم الإنسانية والاجتماعية.
يعتبر هذا العمل دفاعا عن التاريخ، ف “مارك بلوك” لا يكتفي هنا بتعريف التاريخ أو مهنة المؤرخ، ولكن يريد أيضا أن يشير إلى كيف يمكن أن يكون التاريخ، وكيف يجب أن يعمل المؤرخ، مع إبراز القدرة الخارقة في تحويل معاشه الحالي إلى تصورات تاريخية. إنه ضد التمثيل” mutilation” فهو يرفض التاريخ الذي يمثل بالإنسان، فالتاريخ الحقيقي يهتم بالإنسان ككل متكامل، بجسده وبإحساسه وليس فقط بأفكاره وتصرفاته، وذلك بمجهود شامل للوصول إلى الكينونة الاجتماعية والمكانية والزمانية للإنسان، فكذلك» يدرس الأنثروبولوجي المجتمع ككل، وذلك من خلال إجراء دراسات عميقة تعتمد على الملاحظة والمعايشة لمجتمع الدراسة، كما يقوم بإجراء مقارنات بين الثقافات المختلفة للتعرف على جوانب الاتفاق والاختلاف في بعض من جوانب الحياة الاجتماعية «.
و لعل ما جاء به بلوك من نظرة جديدة تبتعد أساسا عن التقليد من وصف وسرد للأحداث التاريخية، وما جاء به بعض من علماء الأنثروبولوجا والاجتماع يصب في بوتقة واحدة، حيث تتفق هذه التخصصات في رؤيتها المنهجية، ونظرتها المتفحصة في استقراء الأحداث التي لا يمكن أن تقدم لنا علميا الكثير، إلا إذا عرفنا كيف نساءلها، بتوخي الحذر في التعامل معها والاتصاف بالموضوعية وروح النقد المدعمة بالشك العلمي، وكذا الترفع عن العواطف والأحكام المسبقة، ولقد حاولنا من خلال هذا العمل إيجاد العلاقة التي تربط بين كل من التاريخ من جهة، وبين الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع من جهة أخرى، أو بالأحرى المنهج التاريخي والمنهج السوسيو-أنثروبولوجي، معتمدين على منهج بلوك في التاريخ كانطلاقة نحو تعميم المنهج العلمي بالنسبة لبقية العلوم الإنسانية.
العلوم الإنسانية وأهمية المنهج التاريخي:
من خلال ما جاء في هذا الكتاب، سنحاول تسليط الضوء على مفهوم التاريخ عند المؤلف مركزين على مهنة المؤرخ وعلى العلاقة الوطيدة لمادة التاريخ بالعلوم الإنسانية بشكل عام والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع على وجه الخصوص، مؤكدين على ما جاء به بعض الباحثين سواء الذين سبقوا بلوك، أو عاصروه أو جاءوا من بعده.
يؤكد المؤلف على أن الكتاب الذي بين أيدينا هو بمثابة إجابة وافية عن سؤال طرحه عليه ابنه حول فائدة التاريخ، ثم يواصل بإسهاب إبراز دور التاريخ وهدفه ومكانته العلمية وأهميته، والدور الذي يجب أن يقوم به المؤرخ من أجل أن يوصل أفكاره بشيء من الوضوح لاكتساب مزيد من المعارف وتقديمها للمجتمع. يفعل ذلك على غرار “عبد الرحمان ابن خلدون” الذي يبدأ مقدمته التي وضعها لكتابه ” كتاب العبر”، بتخصيص فصل كامل عن أهمية التاريخ، وكذا فعل عدد كبير من علماء الأنثروبولوجيا في إبراز أهمية تخصصاتهم والتعريف بمجالات أبحاثهم، فهو يتحدث بإسهاب عن التاريخ والرجال والزمن مؤكدا على أن التاريخ هو “علم الرجال” دون أن يكتفي بهذا التعريف الواسع بل بالتأكيد أيضا على عبارة “علم الرجال عبر الزمن” “Science des Hommes dans le Temps.”.
ويؤكد “مارسيل مـوس” ” Marcel Mauss” على أن»الظواهر الاجتماعية هي أولا تاريخية، وأن الأثنولوجيا تحتوي جزءا تاريخيا يرمي إلى معرفة تاريخ المجتمعات البشرية : كالأعراف مثلا والأجناس (الزنجي، الأصفر … « .
أما ب. مالينوفسكي “Bronislow Malinowski” فيؤكد على ترابط الظواهر الاجتماعية والثقافية بعضها ببعض بخيط رفيع بحيث جميع المكونات لهذه الظواهر لها علاقة وطيدة مباشرة
أو غير مباشرة.
التاريخ، والأركيولوجيا والمنهج المقارن:
التاريخ حسب رأيه لا يضع حاجزا بينه وبين أي عمل يمكنه أن يخدم البحث، في إشارة إلى كل العلوم الإنسانية والاجتماعية أو الطبيعية، فعالم الاقتصاد والأركيولوجي أو الفيزيولوجي كل حسب تخصصه، يمكنه تقديم المعلومات الهامة للمؤرخ، و يضرب مثالا حيا لعلم الآثار(فرع من الأنثروبولوجيا) عندما اكتشف في إحدى جدر البنايات في بعض مناطق سورية مجموعة من الجماجم لأطفال صغار تبين بعد القراءة المتفحصة والبحث المتعمق أنها جاءت بفعل طقوس بشرية تعتمد على التضحية بالأطفال أثناء البناء، ولها علاقة وطيدة به، إنها “المعرفة بواسطة الآثار” حسب تعبير فرانسوا سيميون “François Simiand”، وذلك باستعمال طريقة إعادة التركيب للمكتشفات وبالتالي دراسة ماهية وحيثيات وملابسات هذه الطقوس، فمعرفة حقيقة كهذه لا تتسنى إلا بالشهادات والمقارنات بينها وبين اكتشافات مماثلة. ويؤكد بلوك على أن المؤرخ لا يمكنه تجاهل الشهادات الحية غير المكتوبة خاصة المكتشفات الأثرية كما سبق الإشارة إلى ذلك، ويضيف قائلا »يجب أن يتوفر في الطبيعة البشرية وكذا في المجتمعات البشرية مخـزون دائـم Un fond permanent) ( والذي بدونه، أسماء الأعلام (الأشخاص و المجتمعات) لا تساوي شيئا، وذلك من أجل التعبير بشكل أفضل عن شرعية، بل وعن ضرورة الأنثروبولوجيا التاريخية التي تشهد حاليا تطورات هامة رغم القطيعة من طرف التقليديين.
لقد اعتمد المنهج المقارن الذي يعد «واحدا من الإسهامات التي قدمها علماء الاجتماع الفرنسيون، وقد ظل هذا المنهج حتى عام 1918 هو المنهج الأساسي لعلم الاجتماع، ثم أخذ بعد هذا التاريخ يعاني من التدهور، وكان تدهورا مرتبطا في حقيقة الأمر، بانهيار الفكرة الكلاسيكية التي أقيم عليها من الناحية النظرية، وهي فكرة التقدم، التي لم تعد تصلح بعد الحرب الكبرى لأن تمثل قانونا اجتماعيا بأية حال من الأحوال، وكانت فكرة التقدم هي محور التفكير الاجتماعي في القرن التاسع عشر (19) عند رواد علم الاجتماع من أمثال كونت و سبنسر وماركس».
التاريخ والملاحظة:
لقد استطاعت عدة مدارس تطوير، من الناحية المنهجية، عددا من وسائل البحث على غرار مدرسة شيكاغو و« تستخدمها في الحصول على المعلومات وفي تقديم نماذج ملموسة للبحوث الاجتماعية وهذه الوسائل هي : تحليل الوثائق والسجلات من مختلف الأنواع، والمقابلات غير الرسمية وتواريخ الحياة، والملاحظة المشاركة أو الملاحظة بالمشاركة». ففي مجال الملاحظة التاريخية : لا يخرج بلوك عن نطاق الطريقة المستعملة في جل، إن لم نقل كل العلوم، نقصد بذلك الملاحظة بجميع مستوياتها، «فهي إحدى أهم الوسائل التي استخدمها الإنسان منذ القدم لجمع معلومات وبيانات حول الظواهر المحيطة به وعندما أخذت طرق ووسائل البحث في مجال العلوم الاجتماعية تتطور، كانت الملاحظة واحدة من وسائل جمع البيانات التي وظفت وطورت».
فالملاحظة في ميدان الأنثروبولوجيا تعتبر من الخطوات الهامة لدراسة الظواهر، بل يمكن اعتبارها من التقنيات الأساسية لجمع البيانات التي بدونها لن تكون لهذه الدراسات فائدة كبيرة، »فالذي يقضي في بلد مدة أطول من الأسبوعين الذين يقضيهما في إجازته سيكتشف صفات أكثر أهمية في الأغراب الذين يعيش بينهم، إذ سيلاحظ أن هناك قواعد معينة تحدد الطرف الذي يمكن أن يقترن به الفرد بالزواج، وما يجب عمله ليصبح الزواج قانونيا، ومن له الحق في المطالبة بممتلكات المتوفى، ومن له الحق في إصدار الأوامر التي تطاع وطريقة اختيار هذه القواعد، كما سيلاحظ أيضا معتقدات هذه الشعوب وطبيعة العالم والمخلوقات غير المرئية التي تهتم بالشؤون البشرية. هذه هي الأمور التي يهتم بها عالم الأنثروبولوجيا إذ لا يهمه مجرد ما يراه من سلوك الناس اليومي إنما ما وراء السلوك اليومي، أي طريقة تنظيم ذلك السلوك، بما يجعله مجتمعا وليس مجرد مجموعة من الناس تصادف أنها تعيش في نفس البقعة من العالم.
لكن بلوك يتساءل عن الكيفية التي يتم بها تنظيم واستغلال هذه الملاحظة التاريخية، وذلك بأن تكون للمؤرخ صبغة على الأقل من جميع التقنيات الأساسية من مهنته، بوضع دلائل تقنية “Des guides techniques ” وجرد “Inventaire” وكذا إعداد قوائم وفهارس “Catalogues et repertoires”، فهو بذلك يتفـق مـع مارسيـل موس في كتابه”ethnographie manuel d ” حيث يضع الدليل الذي يجب أن يتبعه عالم الأجناس البشرية في دراسة مجتمع ما، فيمده بالخطوط العريضة ليتقيد بها حتى لا يحيد عن المنهج العلمي. كما لاحظ ابن خلدون من قبل » أن البحث العلمي يحتاج إلى منهج قويم يتخذه الباحث نبراسا يهتدي به إلى هدفه المنشود في كل ميدان من ميادين المعرفة وبالخصوص في العلوم الإنسانية المتطورة، التي تقتضي المهارة والنباهة والحذر والتأني للوصول إلى الحقيقة ومعرفة أسباب الظواهر وأصولها، وذلك لا يتم إلا بالتوجه إلى خدمة العلم لذاته والقدرة على تفسير الأمور تفسيرا علميا دقيقا « .
التاريخ، النقد، الشك والتمحيص:
على المؤرخ والباحث بشكل عام أن يتسم بالحذر، وأن لا يأخذ كل ما يقدم إليه أو ما يلاحظه على انه حقيقة مطلقة، كما أن التقدم الحقيقي لا يتأتى إلا عندما يحل الشك كمراقب بنوع من التفحص لاكتشاف المغالطات، والبحث عن الحقيقة بفضل قواعد يمكنها إجراء عملية غربلة للمادة التاريخية، فالشهادات والوثائق لا يمكنها إعطاء الكثير إلا عندما نعرف كيف نساءلها. »فالروايات “Les recites” ليست حقيقة مطلقة، والآثار المادية هي أيضا يمكن أن تكون “مفبركة” وتحتوي على مغالطات « . تعرض علينا هنا فكرة كتاب بلوك : “الملوك أصحاب المعجزات” “Les rois thaumaturges ” ملوك فرنسا من السلالة الكابتية وقدرتهم على معالجة داء التهاب الغدد الليمفاوية “سل الرقبـة” “Les scrofuleux” والذي انتهج فيه مسعا أنثروبولوجيا يهدف إلى دراسة اعتقاد شعبي من خلال تمثلات الرعايا الفرنسيين لملوكهم بأن لهم خارقة من الخوارق في معالجة هذا الداء، وبالتالي استمرارهم في السلطة بفضل هذا الاعتقاد، ثم تلاشت هذه المعتقدات الخاطئة إبان عصر النهضة وفلسفة الأنوار، وقد تبين بعد ذلك أن هذا الاعتقاد ناتج عن جهل من جانب الرعايا لأنهم »لا يرون الحقيقة، بل ظنهم أن ما يعتقدونه هو الحقيقة « . هذه الحقائق لا يمكن التوصل إليها إلا بتضافر جهود العديد من التخصصات، ولقد أسهم علم النفس في تمحيص الأحداث وتبيان الخطأ والمغالطات التاريخية وإعطاء الدلائل والبراهين، حيث كان له دورا هاما في كشف الحقائق حول التزوير التاريخي والاجتماعي الذي حدثت في العصور الوسطى.
التاريخ والتحليل:
يتحدث المؤلف في كتابه هذا عن التحليل التاريخي مؤكدا على نقاط أساسية نجدها حلقات وصل بين العديد من العلوم الإنسانية، فهم الحاضر بواسطة الماضي والعكس، فهم الماضي بواسطة الحاضر، فالتحليل التاريخي في نظره، هدفه الأساسي هو فهم الظواهر المدروسة، وليس إعطاء أحكام عنها سواء كانت مسبقة “Pré-notions ” أو متأخرة أو أحكام قيمة “Jugement de valeur”، فهو يؤكد على الفهم وليس الحكم “Comprendre et non juger “، إنه مدعو للتخلص من الخلفيات الذهنية جميعها (عرقية، دينية… )، والنظر إلى الظواهر التاريخية والاجتماعية بنظرة موضوعية. فكذا عالم الاجتماع أو الأنثروبولوجي الذي يقضي سنوات عديدة في دراسة مجتمع ما، يجب أن ينتق بإخلاص وبفهم متعمق وعن بصيرة ما يسمعه ويلاحظه من عادات وتقاليد وتصرفات، ويربط بعضها ببعض بنوع من التحليل والتبسيط دون أية خلفية مسبقة قد تفرض عليه قيودا يكون لها أثرا سلبيا على مسار بحثه وبالتالي على نتائجه، والمؤرخ »يختار وينتقي (choisit et tri)، ويرتب مادته و نتائجه بشكل جذري ساعيا بذلك لوضع علاقة موضوعية، وربط واضح للزمن بالتأريخ «. هذا ما يشير إليه كلود ليفي ستروس : حول موضوعية البحث وطرقه وكذا الاعتماد على طرق جديدة والتخلي عن الطرق التقليدية التي تخطاها الزمن، ف»الموضوعية التي تهدف إليها الأنثروبولوجيا لها أبعاد عميقة، لا تعني فقط الاعتلاء فوق القيم الخاصة بالمجتمع باستعمال طرق التفكير المناسبة والناجعة بالنسبة للملاحظ، بل لمجموع الملاحظين. فالأنثروبولوجي لا يكتفي فقط بالاحتراس من تأثير عواطفه، بل يساهم في خلق وسائل جديدة (فكرية خاصة) وإدخال المصطلحات الدلالية، سواء بالنسبة للمكان أو الزمان «، باستعمال المناهج المناسبة في الحصول على نتائج أفضل من أجل خدمة البحث العلمي ، وعليه » يحاول الباحث في مرحلة التفسير أن يكمل دائرة البحث وذلك بأن يربط نتائجه بالإطار التصوري الذي استعان به، أو النظرية التي استرشد بها منذ البداية، ويستخدم في هذه المرحلة المنطق و التبرير والخيال العلمي الخلاق «، يؤكد على أنه إذا اقتضت الضرورة يجب أن يستدعي الباحث طرقا ومناهج مناسبة لتطورات الأوضاع دون التأثير على الشكل العام للمنهج أو البحث. » فشمولية الأنثروبولوجيا ترى في الحياة الاجتماعية كل متكامل غير أنها تعترف في الوقت نفسه بإمكانية تقسيم المجتمع إلى مكونات بسيطة قصد التعمق في دراسته على غرار ما يفعله عالم النفس والاجتماعي ورجل القانون والاقتصادي والمتخصص في العلوم السياسية.. «.
التاريخ واللغة:
إن الفهم الحقيقي للظواهر الاجتماعية والتاريخية لا يتأتى بسهولة تامة، ولكن بجهد ومثابرة، فالجانب المهم في نجاح التحليل التاريخي في نظر بلوك هو:»التحكم التام في وسائل التحليل، خاصة اللغة بمفرداتها ومصطلحاتها، سواء بالنسبة للفترة المدروسة تجنباً لكل مغالطة تاريخية، أو بالنسبة للمنهج التاريخي الحاضر « . حيث لا يخفى الدور الهام الذي تلعبه اللغة في التخاطب والتفاهم، وكذلك دور المصطلحات في تحديد المفاهيم سواء بالنسبة للعلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية والإنسانية، هذه الأخيرة »التي تصلها المصطلحات ومسميات المعتقدات ومسميات مختلف مظاهر الحياة مشوهة جراء الاستعمال الطويل وغامضة في الكثير من الأحيان وربما منذ الاستعمالات الأولى ( أي من مصدرها)، وهذا على غرار أي نظام تعبيري لم يكن محل اجتهاد وتتبع من قبل المختصين « . وهنا يبرز دور الباحثين في تقويم المفاهيم وتصحيح الأخطاء وإخراج مصطلحات تكون لها دلالات سليمة وتفي بالغرض المطلوب.
الخلاصة:
إن الفكرة الأساسية التي حاولنا استخلاصها تدور خاصة حول تداخل مكونات المجتمعات البشرية الممتدة عبر التاريخ بشيء من الترابط والتكامل، »إن كل شيء وفي أي مجتمع كان، مرتبطا بعضه ببعض ارتباط تأثر وتأثير، البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعتقدات والتجليات الذهنية في شكلها البسيط أو المعقد « ، هذا البناء المركب يدعو في أشكاله إلى توحيد الفكر البشري انطلاقا من الظواهر البشرية المختلفة بتضافر جهود كل التخصصات وبنوع من الاهتمام والتعطش. فمارك بلوك يدعو إلى نبذ كل التصرفات التي من شأنها التقليل من أهمية التاريخ، كما يدعو إلى الحوار والتواصل مع علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية الأخرى دون أن يذوب فيها كلية احتراما لخصوصيات التخصصات الأخرى إذ يقول:»نعم للحوار مع علم الاجتماع، لأن المؤرخ في حاجة إلى تبادلات مع العلوم الإنسانية والاجتماعية، نعم لتجديد التاريخ خاصة بالاحتكاك مع العلوم الأخرى، ولا للذوبان في هذه العلوم « . كما يشير إلى أن التاريخ الطويل و العريض والعميق والمتفتح والمقارن، لا يمكن تحقيقه بواسطة مؤرخ واحد معزول، فالحياة قصيرة في نظره وأي مختص معزول لا يمكنه أن يفهم إلا القليل في حقل دراسته، ولا يمكن للتأريخ أن يتم إلا بفضل التعاون، في نوع من التركيب العلمي الفردي أو الجماعي.
أما بالنسبة للإثنولوجيا التي هي فرع من الأنثروبولوجيا حسب ليفي ستروس،»فهي تشكل خطوة أولى نحو التركيب(Synthse) والتي يمكنها أن تتم في ثلاثة اتجاهات: جغرافي إذا أردنا مزيدا من المعلومات عن مجموعة بشرية جواريه للتي ندرسها، تاريخي إذا أردنا إعادة تركيب ماضي شعب أو مجموعة من الشعوب، وأخيرا نظامي أو نسقي (Systématique) إذا أردنا عزل تقنية من التقنيات أو عادة من العادات أو مؤسسة من المؤسسات لأجل إحاطتها باهتمام خاص. ففي البلدان الأنجلوسكسونية تهتم الأنثروبولوجيا بالمعرفة الشاملة حول الإنسان، في كل الأبعاد التاريخية والجغرافية، معتمدة على معطيات التطور البشري منذ الإنسان البدائي الأول إلى الإنسان الحالي، رامية إلى الخروج بخلاصة إيجابية أو سلبية ولكنها صحيحة لكل المجتمعات البشرية من أكبر مدينة حديثة إلى أصغر قبيلة ميلانيزية (Melanesienne) « .
ووصولا لفكرة شمولية العلوم وتوحدها يؤكد ليفي ستروس على أن»الأنثروبولوجيا لا تتميز عن باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية بموضوع خاص بها وحدها، فهي إذا أمكننا القول تقف على العلوم الطبيعية، وتستند إلى العلوم الإنسانية، وتنظر نحو العلوم الاجتماعية « . ” إن الدراسات الأنثروبولوجية تتميز بخاصية هامة على اختلاف المدارس القائمة الآن حيث نجد أن كل الدراسات الأنثروبولوجية تتجه اتجاها تكامليا بحيث لا نجد الآن باحثا أنثروبولوجيا يتوفر على دراسة نظام اجتماعي معين أو أبعاد مشكلة اجتماعية معينة في معزل عن بقية النظم والمشكلات الاجتماعية الأخرى القائمة في المجتمع موضوع الدراسة…فالاتجاه التكاملي في دراسة المجتمع أخذ يسيطر فيما يعرف بالدراسات السوسيولوجية و الأنثروبولوجية على السواء.”
فشمولية الأنثروبولوجيا ترى في الحياة الاجتماعية كل متكامل غير أنها تعترف في الوقت نفسه بإمكانية تقسيم المجتمع إلى مكونات بسيطة قصد التعمق في دراسته على غرار ما يفعله عالم النفس و الاجتماعي ورجل القانون والاقتصادي والمتخصص في العلوم السياسية… «.
إن تقريب التفكير العلمي وتوحيده وإبراز العلاقة بين مختلف العلوم الإنسانية وإن اختلفت مناهجها وتشعبت تخصصاتها، تعني الوحدة الأساسية للإنسان كإنسان (جسدا وروحا وتفكيرا)، كعضو في المجتمع البشري بمعاملاته وتمثلاته ومعتقداته، تعني الشمولية في تناول الموضوعات المتعلقة بالإنسان دون التجزئة إلا إذا اقتضت الضرورة لمزيد من الفهم والتعمق، تعني التعددية والتنوع في الحالات والظواهر والتصرفات، ومقارنة بعضها ببعض قصد الحصول على معلومات وافية بنوع من التحليل والتركيب والنقد العلمي الموضوعي، تعني أيضا توخي الحذر في الحصول على المعلومات وإبداء الملاحظات بالاعتماد على المصادر الموثوقة والموضوعية، بروح علمية تترفع عن الأهواء والأحكام المسبقة.
نأمل بذلك أننا قد استطعنا تقريب الفكرة المرجو تقديمها للقارئ الكريم دون الإدعاء أننا أحطنا بكل جوانب الموضوع، لكنها محاولة لإثارة بعض النقاط التي يمكن تناولها بالدراسة المتعمقة والمستفيضة وجعلها محل اهتمام من طرف الباحثين في المستقبل.
————
* أستاذ مكلف بالدروس قسم علم الاجتماع، جامعة مستغانم، باحث مشارك بمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الثقافية (CRASC) وهران.
————

قائمة المراجع والمصادر:
1- العربية:
– أدريس خضير ، التفكير الاجتماعي الخلدوني وعلاقته ببعض النظريات الاجتماعية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر.1983 .
– لوسي مير، الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ترجمة عليا شكري و حسن خولي، دار المعرفة الإسكندرية.
– محمد حسن غامري مقدمة في الأنثروبولوجيا العامة ط2 ، الإسكندرية 1982.
– محمد على محمد، علم الاجتماع والمنهج المقارن، دراسة في طرائق البحث وأساليبه، دار المعرفة، الجامعة الإسكندرية، 1986.
– مصطفى عمر التير، “مقدمة في مبادئ وأسس البحث الاجتماعي”، المنشأة العربية للنشر والتوزيع و الإعلام، ليبيا،ب ت.
2- الأجنبية:
– Bloch Marc, Apologie pour l histoire ou métier d historien, A. Collin. Paris, 1993.
– Levi-Strauss. C anthropologie structurale, Plon, Paris, 1958.
– Malinowski Bronislow, les argonautes du pacifique occidental.
– Mauss Marcel, Manuel d ethnographie, petite Bibliotheque, Payot, France, 1992.

رأي واحد حول “التاريخ عند مارك بلوك و المنهج السوسيو-أنثروبولوجي”

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.