التراب العسكري في تونس: المفهوم والأهمية التاريخي

الحماية الفرنسية على تون

لبنى المسعودي بو حاجب

لئن تميز البحث التاريخي بالتنوع والتراكم مما أدى إلى تعدد الرؤى والمقاربات والأدوات المنهجية الموظفة لتحليل المسائل التاريخية المختلفة فقد شهدت البحوث في العقود الأخيرة تركيزاعلى الدراسات المنوغرافية خاصة في البلدان المغاربية. و الملاحظ أن ما يسمى بالتاريخ “المونغرافي” أو “الجهوي” أو “المحلي” أو “الإجتزائي”… هو جملة البحوث التي تهتم بتاريخ منطقة معينة في محاولة لإثراء التاريخ “الشمولي” أو “الكامل” الذي يعتبر “مرحلة حاسمة لإبراز منطق و منحى العمل الذي يقوم به المؤرخ الم[1]حترف“.

عموما أثر هذا التوجه في الكتابة التاريخية بالبلاد التونسية مما أدى إلى ظهور منوغرافيات عديدة تعنى بالتأريخ لجهة أحيانا غيبها التاريخ الشامل. و يعد الهدف من هذه الدراسات المنوغرافية هو إماطة اللثام على الجوانب التي أهملها التاريخ “الرسمي” والتي بقيت حبيسة الذاكرة الجماعية، هذا علاوة على محاولة رصد الثابت والمتغير في تاريخ منطقة معينة بكشف كل الآليات والعوامل المتحكمة في تطوره.

و لأن “المبحثة” تعنى بالتأريخ لأي موضوع يحدد جغرافيا ، فقد اهتمت أطروحتنا بدراسة مميزات و خصائص النشاط الوطني بمناطق التراب العسكري بالجنوب التونسي  من 1934 إلى 1956 في محاولة لتثمين دور هذه المنطقة في مقاومة الإستعمار وهو ما ينسب الاعتقاد الذي ساد حول  نجاعة الإدارة العسكرية في  تركيز “السلم الفرنسي”.

و الملاحظ أن السلطة الفرنسية لم تنجح إلى حد ما في جعل أقصى الجنوب التونسي منطقة منغلقة ترزح تحت الإدارة العسكرية.  من ذلك عرفت هذه المنطقة عديد المحاولات للانتفاض ضد المستعمر قبل و بعد ابعاد الزعماء السياسيين ( سبتمبر 1934) . كما انخرط هذا المجال في النضال السياسي السلمي من خلال تأسيس بعض الشعب الدستورية. وعلى عكس ما يروج فإن الربط بين حدث إبعاد الزعماء السياسيين إلى المنطقة العسكرية ونمو الوعي الوطني  لدى أهالي هذه المنطقة لا يعني أن “الروح الوطنية” كانت  مفقودة  أو أن النضال ضد المستعمر كان محتشما ، بل إن أهالي المنطقة قد اتخذوا أشكال عديدة في مقاومة المستعمر منذ السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي. [2]

ومهما يكن من أمر فإن الإشكالية التي نود الخوض فيها تتعلق بمدى قدرة الإدارة العسكرية على فرض السلم الاستعماري  و عزل  المنطقة  خارج حضيرة العمل الوطني.

في تقديرنا لم يكن الوعي الوطني لدى أهالي المنطقة العسكرية غائبا ولكنه كان في حاجة إلى دفع جديد من أجل استعادته. وبالرغم من تأكيد التقارير العسكرية الأمنية على هدوء المنطقة، فإن ذلك لا يخفي انتشار الدعاية الدستورية بالمنطقة العسكرية. والملاحظ أن تركيز الإدارة العسكرية لم يحد من “الروح الوطنية” لدى أهالي التراب العسكري رغم تضيق الخناق عليهم.

لعلنا لا نبالغ إذا ما اعتبرنا نشأة “التراب العسكري” قد مثل منعرجا حاسما في تاريخ منطقة أقصى الجنوب التونسي  بعد أن تم “استنساخ” هذا التنظيم الإداري من الجزائر في إطار استراتجية سوغ لها الرحالة والمستكشفين الفرنسيين و الضباط والملاحظ أن فرنسا قد استفادت من خبرة الضباط الفرنسيين الذين عملوا بالجزائر في بعث مكاتب الاستعلامات أولا ثم مكاتب الشؤون الأهلية ثانيا. وقد استوجب تركيز الإدارة العسكرية بأقصى الجنوب التونسي تظافر جهود ضباط السلطة العسكرية من أجل إخماد ردود الفعل التي ظهرت على إثر الحدث الاستعماري ومن ثم السيطرة على قبائل الجنوب الثائرة كما تم التعويل على جهاز عسكري” محلي” يتألف من فرق “المخازنية” و”القومية” لإحلال “السلم  الفرنسي”. ويبدو أن هذا التمشي كان يهدف إلى ضبط الحدود التونسية-الطرابلسية . ولئن ساهم ذلك  نسبيا في  تقويض البنى القبلية لمختلف عروش الجنوب العسكري ، فقد كان هدف فرنسا خدمة مصالحها  بتركيز مكاتب الشؤون الأهلية بكل من مدنين و تطاوين وقبلي ومطماطة مع فرعي بن قردان وجرجيس حتى تضمن مراقبتها للمنطقة.

وطيلة الحقبة الاستعمارية مثلت المنطقة العسكرية بأقصى الجنوب مجالا لنفي القيادات السياسية المحلية من ذلك إبعاد بعض الزعماء الوطنيين في خريف 1934 وهو ما زاد في انخراط التراب العسكري في العمل السياسي المنظم عبر تأسيس العديد من الشعب الدستورية .

الحمادة: صحراء الحجارة

يعتبر أقصى الجنوب التونسي منطقة صحراوية ورملية مثلما وصفتها كتب الرحالة والمستكشفين الفرنسيين وفي هذا السياق يقول الجنيرال الفرنسي “فليبار”« Phlibert »   سنة  1889 عندما نلقي ببصرنا على خارطة تونس ما بعد الشطوط نرى رمالا كثيفة تمتد من الشرق إلى الغرب [3]وإلى جانب ذلك فهي منطقة جافة و غالبا ما تهب عليها رياح “الشهيلي”.  وعموما تمتد الصحراء من الجنوب الغربي ما بين الجبال وخط الشطوط في شكل بحر من الرمال أو  ما يعرف بـ”العرق” التي تحد الشطوط بما في ذلك نفزاوة والجريد ومنطقة السوف الجزائرية ، ومن الغرب واد “رهير” وواد “ميا” وواد “الغرغار” بما في ذلك ورغلة وتوقرت. و الملاحظ أن هذه الصحراء لايفصلها عن البحر الأبيض المتوسط سوى سلسلة من المرتفعات التي تصل  إلى حدود 60م و 100 م.

وداخل هذه المنطقة يمكن التفريق بين نوعين من الصحراء فنجد “صحراء الرمال” أو “العرق” و”صحراء الحجارة ” أو ما عرفت باسم “الحمادة” التي تمتد إلى الحدود الطرابلسية وهي أشد قساوة من الأولى وحولها يقول “بيارفانكار” إن الصحراء الحقيقية هي صحراء الحجارة، إنها الحمادة التي تخشاها القوافل.

غير أن هذه الطبيعة على قساوتها قد لقيت إعجابا من قبل المستكشفين الفرنسيين مثال ذلك أكد “ديفايراي” « Duveyrier »على أن الطابع الصحراوي لم يمنع السكان من إقامة زراعات غير معروفة.

وأكثر من ذلك ركز “فليبار” على دور الصحراء بالنسبة لقوة فرنسا بقوله:إن حضورنا في الصحراء يؤكد هيبتنا وقوتنا وهو ضروري لضمان احترام سكان الصحراء لنا.[4]

تصنف منطقة أقصى الجنوب التونسي -مناخيا وجغرافيا- ضمن المناطق الجافة حيث تكون كميات الأمطار قليلة   ولا يتجاوز معدلها السنوي 100 مم وفي بعض الأحيان تكون مصاحبة برياح قوية وعاصفة وصفها “بارفنكيار” بكل دقة. وعموما تنخفض درجات الحرارة ليلا  لتصل إلى أقل من 0 درجة  وترتفع نهارا لتصل إلى 51 درجة في نفزاوة

زيادة على ذلك ينتفع أقصى الجنوب التونسي ببعض مياه الأودية الصحراوية والتي من  أبرزها واد “الظاهري” ( ينزل من الظاهر في اتجاه الصحراء بعرض 400 م ) و واد “الجفاري” وواد غمراسن (يتفرع من الظاهر)، و واد جنين (نسبة لجنين) و واد شرشوف و واد مرطابة (ذهيبة). غير أن “بارفنكيار ” قد لاحظ أن الأودية التي تنحدر من الظاهر أغلبها جافة وميتة وقد تتحول إلى “كارثة طبيعية “تؤدي إلى اندثار  النبات والحيوان  بعد عملية الانجراف.

لئن حاول مختلف المستكشفين وكذلك الضباط التعرف على جنوب الايالة التونسية فإن عالم الاجتماع الفرنسي “ماكار” عرف أقصى الجنوب التونسي في بدايات القرن العشرين بأنه “المنطقة الأكثر تأخرا في الايالة، وقد أسماها الأهاليبالمقاطعة الكبرىالتي تمتد من خط الشطوط إلى الحدود الطرابلسية“. لكن هذا الوصف وما يحمله من خلفيات وأبعاد لم يقف حاجزا أمام الأطماع الفرنسية في هذه المنطقة التي اعتبرتها “مدينة الذهب” لما تمثله من موقع استراتيجي واقتصادي هام. وللتذكير فإن فرنسا قد دعمت العديد من الرحلات الاستكشافية إلى تونس وتحديد الجنوب التونسي منذ احتلال الجزائر في 1830 من ذلك ما قام به بريكو دو سانت ( Pricot de Sainte )حول طبوغرافيا المنطقة للجنوب ما بين 1843-1848 و ما قام به شارل جوزيف تيسو” ( Charles Josef Tissot ) من دراسات علمية حول شط الجريد. ثم ما قام به الأركيولوجي والجغرافي فيكتور قاران”  ( Victor Guérin) في 1860 ، هذا علاوة عن الرحلة الاستكشافية التي اضطلع بها الجغرافي والمستكشف هنري ديفارياي[5] (Henri Duveyrier)    بداية من 1874 حول مناطق الشطوط وقد أسهمت جميع الرحلات والمهمات إلى تهيأة فكرة إقامة  ما سميبالبحر الداخلي” (Mer intérieure)  والتي نسبت في البداية إلى الكولونيل رودار”  ( Roudaire ) الذي خصصت له فرنسا  قرضا بـ 100.000فرنك فرنسي لتمويل مشروع دراسة الشطوط. وقد لقي هذا المشروع دعما من هيأة الجغرافيين بباريس وكذلك من أكادمية العلوم ، بل وتجند العديد من المستكشفين والجغرافيين و الطبوغرافيين و المهندسين وبعض العسكريين لتحقيقه. ورغم تعدد نوايا المشرفين على هذا المشروع فإنه كان يهدف إلى التحكم في التجارة المشرقية والحد من الهيمنة العثمانية على تونس انطلاقا من طرابلس الغرب .

ورغم اجتماع لجنة لدراسة مشروع “البحرالداخلي” تحت اشراففريسناي” ( Freycinet ) ودعم “فاردينوون دو لوسابس” ( Ferdinand de Lesseps ) (1882) ، فإن هذا المشروع لم يتحقق بل إن آفاق هذه الفكرة قد أكدت على الأهمية الجيوساسية والاقتصادية لأقصى الجنوب التونسي وبلغ الأمر حد المطالبة بمد خط سكة حديدية تربط بين تونس والسويس. [6]

ولعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا تركيز الإدارة العسكرية بالجنوب التونسي ينخرط في مشروع نظرله  البعض أمثال “ماكس توماس” ( Max Thomas) الذي يعتبر إقامة “الإدارة العسكرية في افريقيا ضرورية في الوقت الحاضر وستظل دائما ناجعة لأنها الوحيدة التي يخشاها العرب ” .[7]

يعتبر”التراب العسكري” المنطقة الواقعة تحت حكم قادة عسكريين أو ضباط  ممن تلقوا تكوينا خاصا من أجل القيام بهذه المهمة وحماية المنطقة من أي تدخل خارجي بغلق جميع منافذها وبذلك يكون التراب العسكري المكان الذي يكون فيه الجولان محددا .أما مجاليا فإن التراب العسكري يمتد من أقصى الجنوب التونسي ما بين الحدود الطرابلسية والجزائرية في شكل مثلث ويحده في أقصى الجنوب تباعا “فورسان”،ذهيبة في الشرق و شط الجريد في الشمال.

التراب العسكري

يبدأ التراب العسكري شمالا من قرية عرام (جنوب قابس وعلى طريق مدنين) (بارفنكيار يرى أن التراب العسكري يبدأ من “واد الزوس”) و من حامة قابس وقبلي غربا ليصل جنوبا إلى الحدود الجزائرية و لينتهي شرقا إلى الحدود الطرابلسية . [8]

وحول منطقة أقصى الجنوب يذكر الماطري أنه لم يكن يخول لأي تونسي من أهل المناطق المدنيةأن يزور التراب العسكري إلا برخصة، ثم انه لم يكن يسمح لأي كان بتجاوز حد تطاوين“.[9]

أما فيما يخص مساحة التراب العسكري فانه يمتد على حوالي 71.160 كم2 أي حوالي 46.35 %[10] مقسمة  حسب “مارتي”كالآتي:

 

 

المنطقة العسكرية المساحة بكم2
مدنين 3.100
جرجيس 1.100
بن قردان 4.500
قبلي 27.580
تطاوين 32.580
مطماطة 2.300
المساحة الجملية للتراب العسكري 71.160
المساحة الجملية للمنطقة المدنية 82.340
المساحة الجملية للبلاد 153.500

 

 جدول عدد 01: مساحة تقريبية للتراب العسكري[11]

 

من خلال هذا الجدول نستنتج أن المنطقة العسكرية امتدت على مساحة هامة من البلاد التونسية تقارب مساحة المنطقة المدنية ، إضافة إلى ذلك فإننا نلاحظ تفاوتا في توزع المساحات بين مختلف مراكز وقيادات المنطقة العسكرية  إذ تأتي في الصدارة تطاوين وتليها قبلي ثم بن قردان و مطماطة ومدنين وأخيرا جرجيس. وللتذكير فإن التراب العسكري قد ارتبط في البداية بمكاتب الاستعلامات ثم بمكاتب الشؤون الأهلية التي تعززت بجهاز من القومية والمخازنية للمحافظة على الأمن وحراسة المصالح الفرنسية في المنطقة اضافة إلى ذلك سعت فرنسا إلى إقامة مكاتب” إشارات” ( Poste sémaphoriques) تم تركيزها في خط متواصل على طول السواحل الممتدة  إلى جرجيس لمراقبتها  للقضاء على أي هجوم أو تعد من السفن المعادية لفرنسا . وقد ارتبطت هذه المكاتب فيما بينها بواسطة “التلغراف” وهو ما يعكس حرص فرنسا على فرض الأمن بأقصى الجنوب التونسي وليس فقط من الناحية الترابية بل من الناحية البحرية أيضا[12].

يعد الموقع الاستراتيجي لأقصى الجنوب التونسي من أهم الأسباب التي جعلت فرنسا توليه أهمية بالغة حيث أن هذا المجال ينفتح شرقا على الحدود الجزائرية، وبالتالي يمكن أن  يكون “عينا” أخرى للوجود الفرنسي في الجزائر. زيادة على ذلك فإن هذه المنطقة هي منفتحة على طرابس الغرب وبالتالي تمثل معبرا سهلا نحو الشرق العثماني ومن ثم نحو افريقيا السوداء حيث تتركز بقية المستعمرات الفرنسية مما يؤكد ذلك نسبيا ما تذهب إليه بعض الدراسات من أن منطقة التراب العسكري وإن بدتللوهلة الأولى شديدة الاتساع فإنها تحتل إلى جانب ذلك موقعا استراتيجيا مهما إذ تتاخم مناطق الجنوب الحدودية المرتبطة ببلدين مجاورين (الجزائر وطرابلس[13] .

وبالتالي مثلت الحدود المفتوحة في أطراف الإيالة التونسية هاجسا شغل الأوساط الاستعمارية “فمنذ أن بسطوا نفوذهم على البلاد التونسية شعر الفرنسيون بتداخل الحدود بين تونس وليبيا وقد أكدوا على كثرة الأخطاء الموجودة في الرسومات والخرائط المتوفرة والراجعة على حد تعبيرهم إلى تجسد الحدود عند العرب كمنطقة لها امتداد معين لا كخط مثالي[14]. وفي نفس السياق يذكر الجنيرال  فليبار”   ( Philebert ) أن كل المخاطر قد تتأتى من هذه الحدود المفتوحة بما أنها البوابة التي قد تمكن “الثوار” من الفرار.

لهذا أحكم الاستعمار الفرنسي غلق كل منافذ أقصى الجنوب حتى يكون بمعزل عن أية محاولة للعصيان سواء من الداخل أو من  جيرانه في طرابلس الغرب .ولعل ذلك يفسر النفقات التي عرفت بـ”اعتمادات لمراقبة الحدود مع ليبيا” والتي صرفت من أجل تمويل مشروع  ضبط التخوم بين تونس وطرابلس الغرب ، وهو ما جسدته اتفاقية 19ماي 1910 وبذلك كثفت فرنسا من حضورها العسكري على المنطقة الحدودية التونسية –الليبية بداية من 1911 ليشكل بذلك الجنوب التونسي جبهة استراتيجية لمراقبة ورصد الخطر الإيطالي .ومن الجائز القول أن اتفاقية طرابلس (ماي 1910) قد ضمنت للجانب الفرنسي انفتاحا محتملاعلى طرق التجارة مع السودان.[15]

وبذلك تحددت ملامح منطقة أقصى الجنوب التونسي كفضاء مغلق يرزخ تحت نير الحدود من كل جهة  لكن هل ضمنت فرنسا بهذه الاتفاقية هدوء التراب العسكري؟

رغم اتفاقية 19  ماي 1910  فقد تواصل الخلاف حول المناطق الحدودية أين توجد نقاط المياه والآبار. وفي هذا السياق يذكر”بارفنكيار” أنه التقى بجندرمة أتراك بـ”بئر باستور” وقد توجه إليهم الضابط الفرنسي “دونو” يحذرهم من تجاوز الحدود الطرابلسية والدخول في التراب التونسي، خاصة بعد رسم الحدود، فأجابه أحد عساكر الأتراك بأنه يسعى للحصول على الماء لأن منطقتهم لا تحتوي على آبار، فرد عليه الضابط “دونو” أنه يتوجب  عليه حفر الآبار ومطالبة قياداته بذلك.

ويؤكد قولنا ما ذكره بعض الدارسين بقوله:” و قد عللت السلط العسكرية الإبقاء على هذا التراب العسكري في الجنوب التونسي بوجوب تأمين حدود البلاد التونسية الجنوبية، وبلزوم قيام الأمن المشترك الجزائري والتونسي معتبرة أن هذين الأمرين كانا كافيين لضمان الرقابة العسكرية.[16]

و لم تفوت فرنسا على نفسها فرصة ضبط الحدود التونسية-الجزائرية بواسطة اتفاقية عقدت في 1910 حددت ملامح الجنوب التونسي وتأمينه من كل المخاطر المتأتية من الجيران . وفي الحقيقة فقد وقع التدرج من وضعية “الصحراء الشرقية” إلى “جنوب الإيالة” إلى “الجنوب التونسي” في مرحلة أخيرة لينصرف اهتمام الضباط الفرنسيين إلى تنظيم مختلف الدوائر والمكاتب العسكرية.                                       

أمام تسارع وتيرة أعمال المقاومة بالجنوب التونسي سعت سلطات الحماية للحد من ردود الفعل التي تزعمتها بعض العروش القبلية وربما يأتي في هذا الاطار تركيز الإدارة العسكرية التي لعبت دورا كبيرا في تضييق الخناق على القبائل.

أعراش الجنوب التونسي

تعتقد جل عروش المنطقة العسكرية في أسطورة الجد المؤسس ذي النسب الشريف فمثلا يعتبرأهالي ورغمة أن جدهم الأول هو المرابط” سيدي موسى بن عبد الله”  الذي رحل من الساقية الحمراء واستقر في جبل دمر في نهاية القرن الخامس عشر[17]. كذلك يعتبر المرازيق أنفسهم” أشراف  ينتسبون إلى “علي بن أبي طالب” وفاطمةالزهراء” رضي الله عنهما”[18] و مرابطون[19] من ذلك أن المرابط “عمر المحجوب”  هو جد العوينة و”حمد غوث” هو الجد الأعلى لدوز[20]. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن  قبائل أقصى الجنوب التونسي لا تتشارك أسطورة” الجد المؤسس الشريف” فحسب ، وإنما أيضا عادات وأعراف توارثتها عبر الأجيال مثل “الميعاد ” الذي هو عبارة عن مجلس القبيلة و يترأسه شيخ حكيم وهذا المجلس هو الذي يقرر في كل المسائل التي تهم القبيلة من انتجاع ورعي وإغارة….وقد اشتهر مثلا”التوازين “بمعياديهم [21].

ولئن اتفقت أدبيات الرحالة والضباط الفرنسيين على انقسام أقصى الجنوب التونسي إلى عدة عروش كبرى تتفرع بدورها إلى عدة أقسام وفروع، فإنها اختلفت في وصفها فمثلا يصف “ديفارياي” “ورغمة هم دعاة و محاربون ومغيرون”[22].

-التوازين و الجليدات و أولاد شهيدة وهم يشكلون قيادة:

استقر التوازين بقريتي قصر مدنين وقصر أم التمر وانقسمون إلى : أولاد خليفة و أولاد حامد و نباهنة و الحرارزة،  أما أولاد شهيدة فيتفرعون إلى أولاد دباب والدغاغرة وأولاد سلطان و أولاد عامر وأولاد عبد السعيد وغبتن.

 – الحوايا وينقسمون إلى : أولاد مهدي والجفافرة.

يرجع “فليبار” [23]  ورغمة إلى أصول بربرية ويفرعها إلى 4 اقسام كبرى وهي :

التوازين و الجليدات و أولاد شهيدة والودارنة، في حين يورد “فيولار”[24] (Violard)  معلومات عن وجود خمسة عروش مؤلفة لنجع ورغمة وهي عكارة و الخزور و التوازين و الودارنة والجبالية. أما “بارفنكيار” [25]  فيذكر ستة عروش مكونة لنجع ورغمة وهي عكارة و التوازين والخزور و غمراسن و الجبالية و الودارنة وتحدث الضابط الفرنسي “لوبوف” ( Le Bœuf ) [26]عن انقسام نجع ورغمة إلى سبعة قبائل  كبرى  وهي :  الخزور والحوايا و الودارنة وغمراسن و الجليدات و التوازين وعكارة.

وعموما تركز بعض الدراسات الأكادمية “على التقسيم “الذي جعل من ورغمة أربعة عروش، (لاعتقاد مفاده) أنه لا يمكن فصل الجليدات والجبالية عن عروش الودارنة نظرا للروابط التاريخية التي جمعتهم على امتداد عقود طويلة(…) كما يبدو من الصعب- ولنفس الأسباب –فصل الحوايا عن الخزور وهم الذين شكلوا أبرز مكونات هذا العرش”[27].

– الودارنة وهي ضمت الفروع التالية: العمارنة و الزرقان وكراشوة والحميدية.

نجد كذلك ومن أهم مناطق التراب العسكري،  بنفزاوة التي تؤلف العديد من القرى منها :

زاوية الدبابشة و فطناسة و زاوية الحارث و أم الصمعة و نقة و بو عبد الله، والمنشية والقلعة وزاوية سيدي عبد القادر و طمبار والزيرة و هاشي وطمبيب و ربطة  و البرج ومنصورة و تلمين والقصر وكلماوين و برغوثية و الطويبة و الكعبي و القطاية و المساعد وبشري و جرزين والبليدات وقبلي و بازمة و صابرية، وشط المحجوب  و دوز و عذارى و   العوينة و جمنة و الفوار وزاوية ليميقاس وبرج نفزاوة[28].

ويعد جنوب نفزاوة  المجال الصحراوي الذي تعيش فيه 6 قبائل وهي[29] :

-المرازيق الذين يسيطرون على واحة نقة.

-غريب التي بسطت نفوذها على واحة الصابرية. و تنقسم إلى ستة عروش نذكر منهم الكرايمة و أولاد علي وأولاد ناصر.

-أولاد يعقوب هي قبيلة صغيرة اشتهرت بالفروسية تتفرع إلى ثلاثة أقسام منهم أولاد عزيز و المكاشرة وأولاد سيع. وفيما يخص مطماطة ، فيبدو أنها تكونت من حوالي  تسعة عروش نخص منها بالذكر :الأعشاش  و بني عيسى وتامزرط و توجان، وزمارطن و بني زلطن

وذهيبات وأولاد سليم وتوودحوت[30].

الميعاد: مؤسسة سياسية واقتصادية واجتماعية

والملاحظ أن ضباط الإدارة العسكرية بأقصى الجنوب قد اقتنعوا بأهمية “الميعاد” كمؤسسة سياسية واقتصادية واجتماعية بل ومدى تعارض استناده للأحكام العرفية مع عملية تركيز الإدارة العسكرية التي تعتمد بالأساس على القوانين الوضعية. وانطلاقا من ذلك سعوا إلى تهميش هذه المؤسسة فعلى سبيل المثال بذل الضابط الفرنسي”روبيلى”  (Rebillet ) جهده للقضاء على ميعاد نجع ورغمة  منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث صرح في  1886:

يتعين فرض زعيم( على القبيلة) ، يكون من الثقاةوتدمير التنظيم الديمقراطي لهذه العروش، وسلطة حكومتها الداخلية، وذلك عن طريق تحجير اجتماعات الميعاد وإرغام الشيوخ على توخي الصرامة والحزم المطلق“.[31]

وعموما أدى تركيز الإدارة العسكرية بالجنوب التونسي إلى القضاء على ميعاد القبائل لتعوضه مكاتب الاستعلامات بداية ثم مكاتب الشؤون الأهلية فيما بعد وذلك موازاة مع الهيكل الإداري المحلي من خلفاوات و مشايخ وقياد. علاوة على ذلك فقدت قبائل أقصى الجنوب الإتاوات التي كانت تتحصل عليها من الجبالية ومن القبائل الليبية خاصة بعد عقد اتفاقية 1910 التي تضررت منها  خاصة قبائل وعروش ورغمة وحسب بعض الدارسين” أدى إحكام السيطرة العسكرية على ميادين عروش ورغمة وضبط الحدود مع ليبيا إلى تقلص عمليات الإغارة بشكل كبير. وشهدت العروش المحاربة فقدان حقوقها في تأمين حمايةأصحابها ومن ثم تلاشي العقود التي كانت تربطها بمحمييها“.[32]

هذا بالإضافة إلى تفتيت الأراضي الجماعية وتهميش القبائل العربية في مقابل التعويل والرهان نسبيا على القبائل البربرية بعد القضاء على ضريبة “العادة” بطريقة أثارت غضب ونقمة القبائل ذات الأصول العربية. لهذا اضطلع أهالي التراب العسكري بدور بارز في نشر الدعاية الدستورية بهذه المنطقة وذلك بطريقة سريعة وسرية فاجأت السلطة الفرنسية.

لقد أدى تركيز الإدارة العسكرية بأقصى الجنوب التونسي إلى عزل المنطقة العسكرية  نسبيا عن بقية مناطق الإيالة التونسية.وذلك بعد إخضاع مختلف القبائل بمخزنتها وضرب أسسها  القبلية. والملاحظ أن جملة من العوامل قد دفعت فرنسا إلى إنشاء المنطقة العسكرية. لعل من أهمها هاجس الحدود الجنوبية بين تونس وطرابلس الغرب والرغبة في السيطرة على المسالك التجارية الصحراوية وكسر شوكة القبائل الثائرة.

لقد عملت مختلف مكاتب الاستعلامات (التي تحولت فيما بعد إلى مكاتب للشؤون الأهلية) إلى فرض رقابة شديدة على أهالي التراب العسكري. ويبدو أن جهود الضباط الفرنسيين في عزل أقصى الجنوب التونسي عن كل ما هو سياسي قد ظل نسبيا، إذ أن إبعاد بعض الزعماء السياسيين إليه قد أقحم التراب العسكري في النضال السياسي السلمي تحت راية الحزب الدستوري الجديد.

 

.

الهوامش

                                                                                                                                                                                                    [1]العروي (عبد الله)،مفهوم التاريخ-الألفاط والمذاهب-المفاهيم والأصول،المركز الثقافي العربي،علي مولا،الطبعة الرابعة،2005،ص 259.

[2] نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: ليسير (فتحي)، قبائل أقصى الجنوب التونسي تحت الإدارة العسكرية الفرنسية: نجع ورغمة نموذجا 1881-1939 مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، زغوان، جوان 1998 و ضيف الله (محمد)، نوافذ على تاريخ نفزاوة،تونس 2008

[3]   Pervinquière (Léon) :La Tripolitaine interdite-, Librairie Hachette, Paris 1912, p78

-Philebert : La conquète pacifique de l’intèrieur africain : négres, musulmans et chrétiens,    4

éditeur Ernest Lerooux, Paris, 1889, p 38.

Gharbi (M L): Du Sahara oriental au sud tunisien de la fin de XIX siècle: La construction d’un nouveau[5] teritoire », Acte du XII Colloque International sur Le Sud Tunisien de l’Occupation à l’Indépendance 1881-1956,pub ISHMN.Tunis 2005,pp41-42-43.

Gipri (G), Chemin de fer de Tunis à Suez, Paris1884 , pp 4-5   [6]

Max (Thomas) : Question Africaine,edi E Dentu, Paris, 1865, p 13.   [7]

[8] الحناشي (عبد الطيف)،أقصى الجنوب التونسي: من المقاومة العنيفة العفوية الى المقاومة المنظمة (آليات خصوصيات، وحدود الانتقال والانتشار)،أعمال الندوة الدولية الثانية عشرة حول الجنوب التونسي من الاحتلال الى الاستقلال 1881-1956 ، 2004، ، منشورات المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، تونس 2005،ص 242 .

[9]الماطري(محمود)، مذكرات مناضل،تعريب حمادي الساحلي دار الشروق،2005،  ص74.

[10] القسنطيني (الكراي)، التراب العسكري والمواجهة السياسية مع الاستعمار: حادثة الجرف (مارس 1950) تداعياتها وخلفياتها،أعمال الندوة الدولية الثانية عشر حول الجنوب التونسي من الاحتلال إلى الاستقلال، ، منشورات المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، ، تونس 2005، ص 271

Marty(J.Augusti ) : Les territoires du sud tunisien et leur ressources arbustives, thèse de doctorat en droit, [11] Alger, 1944, p 26

Frisch (R-J) :Considération sur la défense d el’Algérie-Tunisie et l’Armée d’Afrique, librairie militaire, [12]

Paris, 1897, p 39.

[13] القسنطيني (الكراي)، التراب العسكري والمواجهة السياسية مع الاستعمار: حادثة الجرف (مارس 1950) تداعياتها وخلفياتها،أعمال الندوة الدولية الثانية عشر حول الجنوب التونسي من الاحتلال إلى الاستقلال، ، منشورات المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، ، تونس 2005، ص 271

[14] التايب (عايشة) ، المجموعات القبلية القبلية المتشظية بأقصى الجنوب التونسي وهجرة العمل المؤقتة، أعمال الندوة الدولية الثانية عشرة حول الجنوب التونسي من الاحتلال إلى الاستقلال 1881-1956 ،منشورات المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، تونس 2005 ، ص 97.

[15] [15] ليسير (فتحي)، خليفة بن عسكر، بيوغرافيا قائد غامض، مركز سرسينا للبحوث حول الجزر المتوسطة، 2001، ص 293

[16] القسنطيني (الكراي)، نفس المرجع ، ص 272

Lotfi (J) :L’organisation sociale d’une tribu, les Twazine à la veille du protectorat Français 1850-1881 [17]  mémoire d’histoire, université Paris  VIII ,1976, p 23.

[18] المرزوقي (محمد) و(علي) ،ثورة المرازيق 1943، دار بوسلامة، الطبعة الأولى ، ص10.

[19] نفس المصدر، ص37.

[20] نفس المصدر، ص22.

[21] للاستزادة انظر كتاب فتحي ليسير “قبائل أقصى الجنوب التونسي تحت الإدارة العسكرية الفرنسية”نجع ورغمة نموذجا 1881-1939 .

Duveyrier (H) : La Tunisie,… op.cit. , p 127.  [22]

Philebert : La conquète pacifique…, op.cit.,p40.  [23]

Violard (E ) :L’extrème sud tunisien, 1905, p08.  [24]

Pervenquière (L) : Le Sud Tunisien, in Revue de géographie annuelle, III,190 ,  p 449. [25]

Le Bœuf(J) : Les Confins de la Tunisien et de la Tripolie, Historique du tracé de la frontière, Paris-[26] Nancy, Berger-Levrault, 1909, p 20.

[27]ليسير (فتحي)، نفس المرجع، ص 30.

Duveyrier (H) : La Tunisie, op.cit. , p p 114-113.  [28]

Ibid, p p 116-115. [29]

Nomencloture et répartition des Tribus de Tunsie, protectorat Français, secrétariat général   [30]

du gouvernement Tunisien, imprimerie français et orientale de Bertrand, 1900, p 305.

[31] ليسير (فتحي)، نفس المرجع، ص 151.

[32] ليسير (فتحي)، نفس المرجع ، ص149.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.