حول إناسة الحداثة

أو بعض انتصارات الثّقافة على نظريّة اليأس

بقلم: مارشال سالينز (Marshall Sahlins)

تقديم وترجمة: جهاد الحاج سالم


في جميع أنحاء منطقة جنوب المحيط الهادئ ، ما زالت مفاهيم “الثّقافة” و “التّنمية” حيّة إلى حدّ كبير من خلال النّقاشات السّياسيّة ووسائل الإعلام، وفي المواعظ والمناقشات التي لا تنتهي بين القرويّين والنّخب الحضريّة، بل وحتّى في البيانات السّياسيّة.

وغالبا ما يتمّ وضع هذه المصطلحات في وضعيّة تعارض، فتغدو التّنمية و “العقلانيّة الاقتصاديّة” و”الحكم الرّشيد” و “التقدّم” ضدّا للثّقافة أو “العرف”، و”التّقاليد” و”الهويّة”. وغالبا ما ينظر إلى اضمحلال العرف وإفقار الثّقافة بوصفهما نتاجا للتّنمية، في حين ينظر إلى إخفاقات التّنمية بوصفها، بشكل أو آخر، نتاج التّأثيرات القاتمة لثقافة غير عقلانيّة. وتكمن المشكلة في كيفيّة حلّ التّناقضات بين هذين “المتعارضين” في سبيل تحقيق أقصى المنافع، أي الحصول على الخيرات المادّية والرّفاهيّة والرّاحة، بمعنى النّفاذ إلى “الحياة العصريّة”، دون التّضحية بالقيم والمؤسّسات “التّقليديّة” التي توفّر الأمن المادّي وتحافظ على الهويّات الاجتماعيّة المتنوّعة.

وفي هذه السّبيل، يندرج الكتاب الذي نتولّى ترجمة فصله الثّالث وتقديمه إلى القارئ العربي، وهو كتاب يحمل عنوان ” الثّقافة والتّنمية المستدامة في منطقة المحيط الهادئ” (Culture and Sustainable Development in the Pacific) ويتضمّن عددا من المقالات لعلماء إناسة مختصّين في دراسة شعوب منطقة جنوب المحيط الهادئ، ومعروفين على نطاق عالميّ، من بينهم: لنجى كافاليكو (Langi Kavaliku) وإيبلي هاووفا (Epeli Hau’ofa) ومارشال سالينز (Marshall Sahlins) ومالاما ميليسيا (Malama Meleisea) وجويلي فايتاياكي (Joeli Veitayaki) ووتارسيسيوس تارا كابوتاولاكا (Tarcisius Tara Kabutaulaka). وهو كتاب تمّ تحريره بطلب من منظمّة اليونسكو تحت إشراف أنطوني هوبر (Antony Hooper) الأستاذ الفخري في جامعة أوكلاند الأستراليّة (University of Auckland) ونشر  سنة 2005.

ويمثّل الفصل الثّالث الذي نقدّمه هنا لقرّاء الأوان، مقالة للأنّاس الأمريكي مارشال سالينز، وهو بعنوان “حول إناسة الحداثة، أو بعض انتصارات الثّقافة على نظريّة اليأس” (صص 44-62 من الكتاب).

مع أواخر القرن 18، وفيما كانت حركة التّنوير تبلغ ذروتها في أوروبا، صاغ الفلاسفة الأوروبيّون لفظ “الحضارة” للإشارة إلى مجتمعهم، وهو الاستخدام الذي سرعان ما شاع في بريطانيا قبل أن تظهر أفكار أخرى، لم تكن تنويريّة بالحدّ الكافي، ضمن ترسانة من المفاهيم التي بلورت سلسلة متتابعة لمراحل تطوّريّة تنطلق من الـ”الوحشيّة” لتقف على أعتاب “الحضارة”، وهي التّرسانة المفاهيميّة التي بوسع المرء أن يدرج بداخلها الشّعوب غير الغربيّة، رغم ما بينها من اختلافات. ولم تخفّف الإمبرياليّة التي خيّمت على القرنين الماضيين من وطأة التّناقضات الواضحة بين الغرب وبقيّة العالم. بل على العكس تماما، فقد استمدّت إيديولوجيّات “التّحديث” و”التّنمية” منطلقاتها الأساسيّة من ذات التّقليد الفلسفيّ. بل إنّ الحجج النّقديّة التي تبنّاها اليسار بخصوص “التبعيّة” المحليّة و”الهيمنة” الرأسماليّة يمكن أن تعيدنا كذلك إلى نفس وجهات النّظر الظّلاميّة حول القدرات التّاريخيّة للشّعوب غير الغربيّة، وكأن لا علاقة لهذه الشّعوب بالتّاريخ باستثناء معاناتها منه.

ما لم يكن تنويريّا بحقّ

في العديد من الرّوايات التي حيكت حول الهيمنة الغربيّة، تظهر الشّعوب الأصليّة عادة في صورة ضحيّة، أي بوصفها شعوبا تاريخيّة جديدة خارت قواها بطريقة أو بأخرى مع أفول ثقافتها في ذات اللّحظة التي اقتحم فيها الأوروبيّون المشهد. في الواقع، وكما أشارت “مارغريت جولي”Margaret) Jolly)، فإنّ “التّغيير حين يكون من فعل الأوروبيّين يسمّى تقدّما، وحين يقوم به الأغيار (الشّعوب الأخرى)، خاصّة حين يتبنّون البعض من سماتنا التّقدميّة، فإنّ ذلك يغدو محوا لثقافتهم، أو ضربا من الغشّ”. فتبعا للفلكلور الأوروبّي، كان سكّان آسيا وأستراليا وجزر المحيط الهادي، قبل أن نقوم بإبادة شعوب الأمريكتين، “بدائيّين” و”أصليّين” كما لو لم يكن لهم أي علاقات تاريخيّة مع مجتمعات أخرى اضطرّوا إلى التكيّف معها. لقد ظلّوا، إلى حدود لحظة ظهور الأوروبيّين، “مجهولين”؛ وهذا يعني أنّهم كانوا بعيدين عنّا، ونحن من لم يكن يعرف بوجودهم. وبذلك فإنّ تاريخ تلك المجتمعات يبدأ مع دخول الأوروبيّين، وهي لحظة فجئيّة تعلو قيمتها على كلّ ما سبقها من أحداث، ومدمّرة ثقافيّا. وتتحدّد المفارقة التّاريخيّة مع كلّ ما هو قبل استعماريّ في مسألة القوّة. فقد قدّر للشّعوب الضّعيفة، من خلال استهدافها من قبل السّيطرة الغربيّة، أن تفقد تماسكها الثّقافي، وقد يعود ذلك إلى براءتها البدائيّة التي أغرت الأوروبيّين، ذريّة آدم المخزية والخطّاءة.

تبعا لذلك، كانت “نظريّة اليأس” التي اكتسبت شعبيّة واسعة عند مختلف الأدبيّات التي تناولت الشّعوب المستعمرة خلال القرن العشرين، واحدة من النّتائج الأكاديميّة الرّئيسيّة للعنف الذي مارسه الغرب. وقد مهّدت “نظريّة اليأس” لولادة “نظريّة التّبعيّة”. لكن “نظريّة اليأس”، مثلما سيتضّح لاحقا حين سيشرع ضحايا الإمبرياليّة الباقون على قيد الحياة في تشكيل تاريخهم الحديث الخاصّ بهم، لا تعدو مجرّد فكرة أخرى عاجزة عن إلقاء الأنوار بدرجة كافية على قوّة “الحضارة” الغربيّة. ويوجد مثال جيّد يشهد على ذلك وهو مقتطف من كتاب “ألفريد لويس كروبر” A.L.Kreober)) الرّائع الصّادر سنة 1948 تحت عنوان “الإناسة” ((Anthropology: “عادة ما تكون الصّدمة التي تنتج جرّاء الاتّصال الثّقافيّ مع القبائل البدائيّة، مفاجئة وحادّة. حيث يمكن أن تفتكّ منهم أراضي صيدهم أو مراعيهم، كما يمكن لعاداتهم السّحيقة مثل الثّأر والاحتفاظ برؤوس الأعداء والتّضحية وشراء الزّوجات المتعدّد، أن تتفسّخ. وقد تدنّس أماكنهم المقدسة أو تهدم عمدا، بينما تسحق الأسلحة النّاريّة كلّ مقاومة ممكنة، فيخيّم اليأس على القبائل. وفي ظلّ الحظر التّدريجيّ لمعظم المثل العليا القديمة، دون توفير قيم وفرص بديلة، يتضاعف ثقل اليأس الذي يبدو وكأنّه يعكس إحباطا لا مفرّ منه على الحياة الشّخصيّة” (439 – 438 :1948).

والنّتيجة المنطقيّة لنظريّة اليأس هي أن الآخرين سيصبحون مثلنا تماما، هذا إن بقوا على قيد الحياة. والتّنوير بالفعل مستعدّ لهذا الاحتمال من خلال الإصرار على عالميّة المسعى والتطوّر الإنسانيّ: مسار تطوّري سوف يكون ملائما – بكل ما يحمله التّعبير من معنى- للجنس البشري ككلّ. وقد أظهر إدوارد برونيت تيلور (E.B.Tylor) في كتابه “الثّقافة البدائيّة” (Primitive Culture) الصّادر سنة 1871، مدى العذاب الذي ينتظر الاحتفاء بالتنوّع الثّقافيّ من قبل نظريّات التطوّر غير الأحاديّ، وكان ذلك من خلال الاستشهاد – باعتباره الإجراء المناسب لتصنيف المجتمعات في مراحل تطوّرية –  بملاحظة الدّكتور جونسون الخالدة: “ما من مجموعة من الهمج إلاّ وهي مجرّد نسخة عن الأخرى”.

ويمثّل كتاب “والت روستو” (Walt Rostaw) الموسوم بـ”مراحل النموّ الاقتصاديّ” (Stages Of Economic Growth) الصّادر سنة 1957 إحدى المؤلّفات الكلاسيكيّة المتأخّرة في إطار هذا النّوع من الكتابات الخاصّة بمراحل التطوّر الخمس بداية من “المجتمعات التّقليديّة” وصولا إلى “عصر الاستهلاك الجماعيّ العالي” (ومن المؤكّد أنّ روستو كان من الأوائل الذين تنبّؤوا أن يكون التسوّق أعلى مراحل التطور الاجتماعي الإنساني). وبطرحها بديلا عن مراحل التقدّم الماركسيّة، بدا ما يطرحه روستو انعكاسا لنفس الصّورة، مع ميزة إضافيّة تتمثّل في جعل اليسار يمينا واليمين يسارا. ومن الشّائع أن نجد في العديد من النظريّات التّنمويّة شعورا بالبهجة تجاه المأساة الثّقافيّة: فتفكّك المجتمعات التّقليديّة التي مازالت تنشط، هو شرط مسبق لـ”الإقلاع الاقتصاديّ” داخل مخطّط روستو، ويجب على الهيمنة الأجنبيّة أن تواصل إنجاز التّدمير المفيد، وإلاّ قامت العلاقات العرفيّة التي تميّز الإنتاج التّقليديّ بفرض حدّ أدنى من النموّ الاقتصاديّ. وإذا ما كانت أوروبّا، كما يشهد بذلك تاريخها، قادرة على تطوير نفسها بنفسها، فإنّ الشّعوب الأخرى لا بدّ، وفق روستو، أن تصعق من قبل قوّة أجنبيّة متدخّلة لتتمكّن من تجاوز تخلّفها. وبالرّغم من كون روستو لا يعدّ ثوريّا، إلاّ أنّه يتّفق مع ماركس بأنّ طبخ عجّة يتطلّب كسر البيض أوّلا. ومن المثير للاهتمام أن تنخرط بعض الشّعوب اليوم بصفة علنيّة في الدّفاع عن ثقافتها ضدّ الهيمنة الوطنيّة والدّوليّة – على غرار المايا في غواتيمالا والتوكانوان في كولومبيا )وارن Warren: 1992؛ واتاناب Watanabe :1995 ؛ جاكسون Jackson : 1995) بعد أن فصلت نفسها عن اليمين البورجوازي واليسار البروليتاري، رافضة بذلك الضّغوط الهادفة إلى احتوائها ودفعها نحو التّضحية بهويّتها سواء من أجل بناء الوطن أو النّضال ضدّ الرّأسماليّة الإمبرياليّة. وخلافا للمصير التّطوريّ الذي رسمه الغرب، فإنّ أولئك الذين وسموا بالتوحّش لن يكونوا نسخا عن بعضهم البعض أو حتّى نسخة أخرى منّا.

وفي نفس السّياق، وفيما يولي لنا هذا القرن ظهره ببطء، يبدو مشروع ماكس فيبر (Max Weber) المقارن حول احتمالات التطوّر الرّأسمالي التي تبديها الإيديولوجيّات الدّينيّة المختلفة، غريبا. ولا تكمن الغرابة في كونه مجرّد حديث عابث عن التّنظيم العالميّ للعمل الواقعيّ، بل في تركيز الفيبريّين جلّ اهتمامهم على التّساؤل حول الأسباب التي تجعل مجتمعا ما يفشل في الوصول إلى أعلى مراحل التّاريخ: مرحلة الرّأسماليّة. وقد ذكر أحد الأمريكيّين المختصّين في دراسة الحضارة الصّينيّة أنّها اقتربت من تحقيق ذلك الأمر زمن حكم أسرة تانج. وهذا بالضّبط مثيل من  يتساءل عن سبب فشل سكّان مرتفعات غينيا الجديدة في تطوير نوع من البوتلاتش الاستعراضي (Potlatch) [احتفال يتسابق فيه الزّعماء لتدمير ثرواتهم اكتسابا لرأسمال رمزي تثبيتا لزعامتهم- م] كذاك الذي نجده عند شعب الكواكيوتل (Kawakiutl) [قبائل هنديّة في الشّمال الأمريكيّ – م]، وهو سؤال ربّما سيطرحه عالم اجتماع من الكواكيوتل، نظرا إلى مدى قرب سكّان غينيا الجديدة من تحقيق ذلك ما داموا يقيمون مراسم تبادل حيوانات فيما بينهم !. وبالمثل فقد تساءل المبشّرون المسيحيّون حول عدم اكتشاف أهلي جزر فيجي (Fijians)  الإله الحقيقيّ، رغم حالة الطّبيعة التي كانوا عليها. إلاّ أنّ للمرء أن يتساءل أيضا: لم لم يطوّر المسيحيّون الأوروبيّون طقوس أكل لحم البشر التي نجدها عند أهالي فيجي؟ فكلّ المعطيات تشير إلى أنّهم اقتربوا من ذلك.

إلاّ أنّ المهمّ هنا، نظرا لأنّ ذلك قد حدث فعلا، هو كيف استوعب أهالي فيجي الدّيانة المسيحيّة. فقد حاولت المجتمعات المحلّية في كلّ مكان احتواء قوى النّظام الغربي العالمي داخل شيء أكثر شموليّة، هو نظام العالم الخاصّ بهم، نظام ثقافتهم الخاصّة.

توطين الحداثة

هذه أغنية حديثة لشعب الإنغا (Enga) من غينيا الجديدة، يتمحور موضوعها حول الاستيلاء على السّلطة والمعرفة من قبل الأوروبيّين، أو “الرّجال الحُمْر” كما يطلق عليهم في اللّهجة المحلّية:

“عندما يحين الوقت،

سوف يتغذّى شبابنا على كلماتهم،

بعد أن يبتعد الرّجال الحمر عن هذه الأرض،

شبابنا، مثل طيور العسل،

بعد رحيل الحمر،

سوف يمتصّون الأزهار،

بينما نحن جالسون هنا.

سنفعل مثلهم،

يجب أن نتغذّى على أفعالهم

مثلما تمتصّ طيور العسل الأزهار” (طالياغا Talyaga، 1975n.p.).

يمكن لهذه السّطور أن تقنعنا بسهولة بأنّها نتاج خيال حزين عاجز، بوصفها تعكس العلاقات الحقيقة للاستغلال والسّيطرة. ومع ذلك سيكون من الخطأ اعتبارها نتاج مشاعر احتقار للذّات أو تحسُّسٍ لهلاك وشيك. فجميع ما يتعلّق بالنّياسة الحديثة بشأن مرتفعات غينيا الجديدة يشير إلى أنّ مشاعر الاغتصاب الثّقافي – تلك التي عبّرت عنها الأغنية بشكل فضفاض في صورة طيور العسل وهي تتغذّى على قوى الرّجال البيض المطرودين – هي الموجّه الرّئيسي “للحركة التّاريخية” للسكّان المحليّين. وبدلا من اليأس، فإنّ هذه الحركة تعتبر إيجابيّة تجاه الحداثة، وهو ما يظهر من خلال تأكيد أفراد شعب الإنغا على قدرتهم على الاستفادة من خصال الأوروبيّين لتطوير وجودهم الخاصّ. وتلعب كلمة “التّن- مية” “Develop-Man” دور مصطلح ميلانيزي جديد مرادف لمصطلح “التّنمية” (Development) الانكليزي، ولعلّ الأصوب أن نترجمه إلى الانكليزية بـعبارة “تنمية الإنسان” (The Developement Of Man) بما أنّ المشروع الذي يشير إليه هو الاستفادة من الثّروات الأجنبيّة من أجل توسيع مجال الولائم وألعاب المناورة السّياسيّة ودعم نظم القرابة، وغيرها من الأنشطة التي تشكّل المفهوم المحليّ للوجود الإنساني. هذه هي الأنشطة التي يتسابق شباب الإنغا من العمّال والمحاربين نحو الانخراط فيها. فبدلا من اندثار التّقليد، فإنّ شعب الإنغا قام بتجديد ثقته في تقليد حيّ، تقليد بوسعه أن يوظّفه كوسيلة للقياس والابتكار.

ومن وجهة نظر إناسيّة، وهو ما يعني استقراء نتائج كلّية من مقدّمات جزئيّة، يعتبر هذا الاعتماد النّشط لشعب الإنغا على القوّة الأوروبيّة التي فرضت عليهم فرضا، مظهرا محلّيا لتنظيم عولميّ جديد للثّقافة. فبعد أن تمّ توحيده نتيجة توسّع الرأسماليّة الغربيّة خلال القرون الأخيرة الماضية، ها هو العالم يشهد اليوم عمليّة إعادة تنويع جديدة من خلال الاستيعاب المحلّي لقوى الطّغيان العالمي. وحيثما نجد، إلى حدّ ما، أنّ التّجانس العالمي والتّمايز المحلّي قد تطوّرا جنبا إلى جنب، نجد أنّ الثّاني اتّخذ شكل ردّ مباشر على الأوّل، وذلك باسم الوحدة الثّقافيّة المحلّية. وتبعا لهذا، فقد تمّ وصف التّنظيم العولمي الجديد بأنّه “ثقافة الثّقافات”، أي نظام ثقافي عالمي مركّب من مختلف أشكال الحياة، وهو ما عبّر عنه “أولف هانرز”  (Ulf Hannerz)بقوله: “توجد اليوم ثقافة عالميّة، ولكن يجب أن نتأكّد من فهمنا الجيّد لما تعنيه. فهي تتميّز بتنظيمها للاختلاف بدلا من تكرار عمليّة التّوحيد” (237:1990). وهكذا تمّ استكمال آخر مقوّمات عقيدة التّعايش العالميّة الجديدة أو ما سمّي في العقود الأخيرة بالثّقافويّة (Culturalism): أي الوعي الذّاتي بـ”الثّقافة” كقيمة يجب أن تعاش وأن يدافع عنها، وهو الوعي الذي انتشر انتشار النّار في الهشيم في كافّة أرجاء العالمين الثّالث والرّابع. فالجميع اليوم يتحدّث عن “ثقافته”، أو عن أحد مترادفاتها المحلّية: شعب الأوجيبوا شمال المكسيك (Ojibwa) وأهالي جزر هاواي والإسكيمو وشعب التّيبت وقبائل الأمازون وسكّان أستراليا الأصليّون والسّينغاليّون… ولا سيّما في مواجهة التّهديدات الوطنيّة والدّوليّة التي تشكّل خطرا على وجود تلك الشّعوب. إلاّ أنّ ذلك لا يعني مجرّد رغبة يغذّيها الحنين إلى تماثيل التّيكي (Tiki) [تماثيل مقدّسة تعلّم بها حدود أراضي القبائل، وهي مثيل أنصاب الحرم عند العرب القدامى- م] ونوادي الحرب، أو إلى أطلال مهجورة لهويّة بكر. فمثل هذه “المحاولات السّاذجة لجعل الشّعوب رهينة تاريخها الخصوصيّ، من شأنها أن تحرمها من التّاريخ” على حدّ تعبير الأنّاس تورنر (1987:7). فما يعنيه الوعي الذّاتي بـ”الـثّقافة” هو أن تنهض مختلف الشّعوب مطالبة بمساحة خاصّة بها داخل النّظام الثّقافي العالمي. ففحوى أغنية الإنغا التي عرضناها سابقا لا يعكس رفض هذا الشّعب المبادلات والعلاقات التي تدور داخل النّظام العالمي، بقدر ما يعكس رغبته في توطينها. ومن هنا، فالهدف لا يعدو أن يكون توطين الحداثة (Indigenisation of modernity).

التّراث والتّغيير

يقوّض نضال الشّعوب غير الغربيّة من أجل إيجاد نسختها الثّقافية الخصوصيّة عن الحداثة، الثنائيّات الغربيّة المعروفة حول “التّراث والتّغيير” و”العرف والعقلانيّة”، وعلى رأسها تلك التي برزت خلال القرن العشرين، ونقصد بها “التّراث والتّنمية”. فثنائيّة التّراث والتّغيير قديمة قدم الزّمن الذي بدأ فيه فلاسفة التّنوير تدمير الخرافات المتأصّلة مستنجدين في ذلك بالمنطق التّطوري. فقد أضحت تلك الثّنائيّة تترنّح داخل أطر الفكر الغربي المتقدّم على الأقلّ منذ أن اقترح السّير فرانسيس بيكون (Sir Francis Bacon) تحطيم أصنام الكهف والقبيلة باعتماد المنهج التّجريبي الحكيم، وهذا ما أنقذ البشريّة من الانعكاسات الميتافيزيقيّة لفكرة الخطيئة الأصليّة. أما النّسخ الحديثة لذات التّقليد الأيديولوجي، فقد تضمّنت بصفة خاصّة نظريّات التّنمية التي صاغها علماء الاقتصاد حيث يبرز، كما رأينا من قبل، ما يسمّى بالتّراث المفترض تشبّعه باللاّعقلانية، كعائق في وجه ما يسمّى التّنمية.

ومن المفارقات، أن نكتشف أنّ جلّ الثّقافات التي وسمها الأنّاسون بـ”التّقليديّة”، إنّما كانت في حقيقة الأمر تقليديّة متجدّدة، وأنّه سبق أن تغيّرت قبل التوسّع الغربي. بل إنّ ذلك التغيّر كان حدث في بعض الحالات منذ فترة طويلة بحيث أن لا أحد اليوم، حتّى من بين الأنّاسين، يناقش مسألة أصالتها الثّقافيّة. فقد كانت كونفيدراليّة قبائل الإيروكوا (Iroquois Confederacy) بكلّ المقاييس تطوّرا حدث بعد الاتّصال بالغربيّين، تماما كازدهار ثقافات هنود السّهول إثر اقتنائها الخيول. وبهذا، ألم يكن شعب الإيروكوا هو ذات شعب الإيركوا، وشعب السيو (Sioux) هو ذات شعب السيو؟ وفي أيّامنا هذه، أليس شعب الماوري هو ذات شعب الماوري، وأعالي فيجي ذاتهم أهالي فيجي؟ ففي جزر فيجي اليوم، تعتبر المسيحيّة الويسليّة (Wesleyan Christianity) [عقيدة إحدى الكنائس البروتستانتيّة الإصلاحيّة التي تأسّست أواخر القرن التّاسع عشر- م] “عُرْف البلاد”. وفي هذا الصّدد تتساءل “مارغريت جولي” بحقّ عن السّبب الذي يمنعنا من اعتبار تراتيل الكنيسة والقدّاس المسيحيّ “جزءا من تراث المحيط الهادئ”، نظرا إلى “أنّه قد أعيد إنتاجها مجدّدا بشكل ملحوظ من قبل شعوب المحيط الهادئ” وبطريقة قد تظهر بها المسيحيّة اليوم كدين مميّز لتلك المناطق أكثر ممّا يميّز الغرب. فلئن تمكّنت شعوب المحيط الهادئ من تجاوز التّمايز – المستفزّ بشدّة للحساسيّة الغربيّة – بين الماضي الاستعماريّ وما قبل الاستعماريّ، فذلك لأنّها “غدت تتقبّل أكثر فأكثر كلاّ من العناصر الأصيلة والدّخيلة التي تشترك في تكوين ثقافتها” (جولي 1992: 53). وفي مواجهة هذه الحالة المزدوجة، ربّما ننصح بالعودة إلى الرّوتين المحلّي اليومي الذي يعيشه الإنسان الأمريكي العادي، ذاك الذي وصفه “رالف لينتون” (Ralph Linton) منذ عقود خلت بقوله: “يجلس رجلنا الطّيب بعد تناول إفطاره الصّباحي لقراءة أخبار اليوم المطبوعة بحروف ابتدعها السّاميّون وبمادّة اخترعت في الصّين من خلال عمليّة وجدت في ألمانيا. وأثناء مطالعته الأخبار العالميّة، وإذا ما كان مواطنا محافظا وصالحا، فسوف يشكر إلها عبريّا بلهجة هندوروبيّة على أنّه أمريكيّ مائة بالمائة” (1936 :329) .

وقد أصاب إيريك وولف (Eric Wolf) في كتابه الموسوم بـ”أوروبا والشّعوب فاقدة التّاريخ” (Europe and the People Without History)، حين أشار إلى أنّ القسم الأعمّ من العالم كان مزيجا من السكّان الأصليّين والدّخلاء قبل أن يشرع علماء الإناسة في استكشافه. فقد كانت الإمبرياليّة أوّل الواصلين. ومن المؤسف، أنّ وولف، في خضمّ جهده لإقناع الزّملاء الأناسيّن بأنّهم لم يعرفوا أبدا تلك الشّعوب البكر التي بحثوا شؤونها، قد أهمل وضع استنتاج تكميليّ يخصّ الاختلافات الثّقافيّة التي لم يقم النيّاسون الوصفيّون (الاثنوغرافيون) قطّ باكتشافها ووصفها. فإذا لم تكن الشّعوب المحليّة فاقدة للتّاريخ، فذلك بسبب أنّها لم تكن فاقدة للثّقافة، ولهذا السّبب أيضا اختلفت تواريخها المعاصرة.

وفي أواخر القرن 18 م، احتكر زعماء هاواي بطريقة شبه تامّة التّجارة مع السّفن الأمريكيّة والبريطانيّة التي كانت تتوقّف للتزوّد بالمؤن وخشب الصّندل وهي في طريقها إلى الصّين محمّلة بالفراء القادم من ساحل الشّمال الشّرقي الأمريكي. وقد كان لأولئك الزّعماء مطالب اقتصاديّة متميّزة، تمثّلت بالخصوص في أدوات الزّينة النّادرة والأثاث المنزليّ والسّلع المبهرجة التي تربط شخوصهم بالسّماء وبمصادر القوى المقدّسة القابعة وراء البحار، إضافة إلى البضائع العصريّة التي تمنحهم التميّز عن نظرائهم ومنافسيهم الأرستقراطيّين. هذا في حين دشّن أمثالهم من زعماء قبائل الكواكيوتل تاريخا اقتصاديّا طويلا من نوع آخر، إذ طالبوا تجّار الفراء بوضع عشرات الآلاف من الاتّفاقيّات التّجاريّة، وهي نفس الاتّفاقيّات التي ستتكوّن على إثرها شركة هدسون لبطانيّات الخليج (Bay blankets Hudson’s). وعلاوة على ذلك، فإنّ زعماء الكواكيوتل لم يسلكوا سياسة احتكار الثّروات كما فعل زعماء هاواي، بل كانوا يوزّعون بطانيّاتهم (أثناء احتفالات البوتلاتش) بطريقة تسمح لهم بقياس مختلف إدّعاءات التفوّق والتميّز فيما بينهم. وعلى النّقيض من البطانيّات الصّوفيّة الدّنيويّة التي سعى زعماء الكواكيوتل إلى اقتنائها، أرسل تجّار الهونولولو (Honolulu) إلى الشّركات الأمريكيّة بمدينة بوسطن في طلب السّلع الرّاقية: “أيّ شيء جديد وأنيق سوف يباع ويحقّق أرباحا عالية. أمّا الموادّ الخشنة فهي لا تنفع في شيء”. وقد كانت رسائل هؤلاء التجّار مليئة بطلبيّات القماش القطنيّ الرّقيق والحرير والشّال و”العيّنات الفاخرة” من الأوشحة والأقمشة الرّقيقة ومعاطف الكشمير: لقد كانت قائمة طويلة لنفائس بولينيزيّة كتبت بلغة أوروبيّة. وعلاوة على ذلك، لم تكن تلك البضائع ممّا يسمح لها أن تقع في يد الرّعاع من النّاس. وخلافا لزعماء الكواكيوتل الذين اكتسبوا تفوّقهم من خلال اللّباس المشترك، كانت النّخبة في هاواي عازمة على الانطلاق في مشاريع فرديّة تغذّيها مطامع اقتصاديّة. إلاّ أنّه تجدر الإشارة هنا إلى أنّ جلّ الزّعماء في هاواي تقريبا ينحدرون رأسا من الآلهة، وأنّ الصّراع الرّئيسي الذي كان يدور بينهم ينحصر حول الكيفيّة التي تمكّنهم من تحويل الاختلافات الكمّية على مستوى النَّسَب إلى اختلافات نوعيّة على مستوى الرُّتَب. وعلى العكس من ذلك، كان زعماء الكواكيوتل ينتمون إلى أنساب متباينة لا ترتبط في ما بينها بأيّ صلة، فهم ينحدرون من أصول وقوى إلهيّة مختلفة. وبما أنّهم يمثّلون أنسابا ذات ثروات متمايزة وأجداد متمايزين، فقد كانوا يستعرضون السّلع الأوروبيّة بصفة عامّة بهدف وضع بيان مقارن لمكانة كلّ منهم، وبذلك يتمكّنون من تحويل الاختلافات النّوعيّة على مستوى النّسب إلى اختلافات كمّية على مستوى الرّتب. وبهذا، فإنّ سياسات واقتصاديّات وأقدار أناس جزر هاواي وقبائل الكواكيوتل، اتّخذت أشكالا ومصائر مختلفة خلال القرن 19 م، وبقيت تقاليدهم الثّقافيّة حيّة داخل الأشكال التي تغيّرت. فالتّقاليد لا تتعارض مع التغيّر.

تلازم المال والأسواق مع الأخلاق والعقليّات

اعتقد الجميع أنّ سكّان أمريكا الأصليّين انتهى أمرهم منذ وقت طويل، ولكن ها هي الأدبيّات النّياسيّة الوصفيّة المعاصرة الخاصّة بأمّة الكري (Cree Nation) تتحدّث اليوم عن “التمكّن الثّقافي” أو “الثّراء المحلّي” الذي أوجده تبنّيها اقتصاد السّوق. فهم يتحدّثون عن مشروع ثقافي موجّه نحو التّنمية، وهو مشروع يعكس البعض من أفكار أمّة الكري العرفيّة عن “الحياة الجيّدة” عبر التّرويج علنيّة لـ”ثقافة” الكري، وذلك على الرّغم من أنّ حالة التّبعيّة الكلاسيكيّة التي تعيشها اليوم قد تكون سبب نهايتها. وفي الوقت الحالي، يمكن لفخاخ التّبعيّة أن تنفع كنقد تجريبيّ للاعتقاد الرّاسخ بأنّ الأموال والأسواق تتنافى مع العادات وعلاقات القرابة التي تميّز ما يسمّى المجتمعات التّقليديّة. إلاّ أنّ الواقع يفيدنا بأنّ شعب الكري وجد طريقة ناجعة للجمع بين المتناقضات تمكنّه من الحفاظ على العلاقات العرفيّة بين الأقارب. فقد اكتشف “كولن سكوت” (Colin Scott) أنّ عربات الثّلج والشّاحنات وما إليها “زادت من فرص التّقاسم”، وأنّ ذلك التّقاسم الإنساني لا يمثّل سوى جزء بسيط من دورة تبادليّة كونيّة تشمل فيما تشمل الحيوانات التي تسلّم نفسها للصيّادين مقابل تلقّيها طقوس ولادتها الجديدة. وبذلك أصبحت عربات الثّلج تمثّل جزءا من نظام اقتصادي أرقى من أيّ نظام حلمت به الفلسفة الرّأسماليّة من قبل: نظام عالميّ يجمع البشر والطّبيعة في علاقات اجتماعيّة شخصيّة واعتماديّة تبادليّة لم تفتر على مرّ القرون. ويكتب سكوت عن المشاركة المتزايدة في عمليّتي إنتاج السّلع والتّبادل عند شعب الكري قائلا: “ظلّت بنية التّبادل ونوعيّته ونظام القرابة والعلاقات التي تجمع الإنسان بالحيوان تحمل بصمة شعب الكري، ومحافظة على طابعها المساواتيّ. فالكرم أمر طبيعيّ ومتوقّع، والحاجة إلى شبكة موسّعة من الأقارب هي حاجة أساسيّة وحياتيّة. ويتمّ التّجديد الاجتماعي والشّخصي من خلال لقاء الإنسان  بالحيوان. ويعتبر شعب الكري هذه العلاقات محدّدات أساسيّة لإنسانيّته ولهويّته الثّقافيّة” (1984: 77).

ببساطة، لم تستمرّ ثقافة الكري رغما عن الرّأسماليّة، أو لأنّ الشّعب قاومها. فالأمر هنا لا يتعلّق البتّة بثقافة المقاومة، بل بمقاومة الثّقافة. فبما أنّ أفراد شعب الكري يفعلون داخل العالم بوصفهم كائنات اجتماعيّة – تاريخيّة، ويحملون وعيهم الذّاتي بثقافتهم وبالغرض من وجودهم، فقد سارت تجربتهم مع الرّأسماليّة عبر ممارستهم شكل الحياة الخاصّ بهم. فالثّقافة تسكن الفعل. وعلى مستوى الحدث، نشطت القوى الرّأسماليّة داخل عالم ثقافيّ مختلف.

وتبعا لماركس، فإنّ المال يدمّر الجماعة الأرخيّة (Archaic) لأنّه يغدو هو ذاته الجماعة. فالأمر يبدو، كما اشتكى من ذلك فرويد، وكأنّ كلّ من يمكنه الحصول على أجرة عبر صكّ بنكي سيكون بمقدوره أن يتمتّع فجأة بخدمات معالج نفسيّ. وفي كتابهما الذي يحمل عنوان “الأموال وأخلاقيّة التبادل” (Money and The Morality of Exchange)، جنّد كلّ من “موريس بلوخ” (Maurice Bloch) و”جوناثان باري” (Jonathan Parry) عددا من الأمثلة النّياسيّة الوصفيّة لدحض هذه الفكرة. ففي مقابل الفكرة القائلة بأنّ المال يخلق رؤية معيّنة للعالم – وهي الرّؤية المنطوية على ذاتها وغير الشّخصيّة والتّعاقديّة التي اعتدنا عليها – يؤكدّ الباحثان على أنّه “يمكن لأيّ رؤية للعالم مستقلّة بذاتها أن تخلق طرقا مخصوصة لتمثّل المال” (1989: 19)، أي أنّ المال يمكنه أن يكون خادما للعرف، لا سيّدا له. وبما أنّ ظهور الآثار المدمّرة للمال والأسواق يقتضي وجود مجال “اقتصادي” مستقلّ، على ما يشير بلوخ وباري، وهو مجال تكون فيه المعاملات لا أخلاقيّة وبعيدة كلّ البعد عمّا تقتضيه أواصر القربى وواجبات الصّداقة، وبما أنّه لا وجود لتعارض بنيويّ بين العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فإنّ ترتيب المعاملات الماديّة إنّما يتمّ طبقا للعلاقات الاجتماعيّة لا العكس، بحيث تصبح سمة اللاّأخلاقيّة التي ننسبها إلى المال غير ذات معنى. فحسب بلوخ وباري، فإنّه حين يتمّ تدوير المال في المجتمع فإنّ “العلاقات النّقديّة لن تغدو نقيضا لأواصر القربى والصّداقة، وبالتّالي يغدو تقديم الهدايا الماليّة داعما لتلك الأواصر”(1989 :19).

فمن الوارد إذن، في ظلّ ظروف بنيويّة معيّنة، أن يقوّي المال أواصر القربى: فبوسعه أن “يطوّر” ما يسمّى المجتمعات التّقليديّة بمعنى جعلها قادرة على استيعاب التّن-مية (Develop-man) – بمعنى الاستفادة القصوى والفضلى من الأشياء التي تعتبر جيّدة، على ما تفيدنا التّقارير الإناسيّة الواردة منذ الستّينات حول شعوب مرتفعات غينيا الجديدة. فعن طريق الاستفادة من عوائد السّوق والعمل المتنقّل وإنتاج البنّ وغيره من المحاصيل ذات الصّبغة النّقديّة، ازدهرت طقوس التّبادل الاحتفاليّة كما لم تزدهر من قبل. لقد بتنا نلاحظ عند شعوب الإنغا والشّيمبو (Chimbu) والمندي (Mendi) وغيرها من الشّعوب، ارتفاعا في وتيرة الاحتفالات وازدياد عدد المشاركين فيها، وارتفاع حجم البضائع المتداولة خلالها أيضا. وبناء على ذلك ازداد عدد “الرّجال الكبار” (Big Men) [كبار الزّعماء- م] وازدادت سلطتهم. كما انتعشت التّحالفات العشائريّة القديمة من جديد بعد أن كادت تضمحلّ، وتعزّزت شبكات القرابة الشّخصيّة وتوسّعت. لقد كان المال وسيلة في يد الجماعة المحليّة لا أداة مدمّرة لها، حيث حلّت الأوراق النّقديّة عالية القيمة مكان أصداف اللّؤلؤ كممتلكات ثمينة مخصّصة للتّبادل، وكمّلت سيارات التّويوتا واللاّندكرويزر هدايا الخنازير المعتادة، ووظّفت الكميّات الكبيرة من الجعّة كمعروضات افتتاحيّة (مضيفة بعض الأبعاد الاحتفاليّة الجديدة على الطّقوس العرفيّة). ولكونه ينحصر داخل الالتزامات المتبادلة ومهور الزّواج، فإنّ المال المستهلك كما لاحظ “اندرو ستراثرن” (Andrew Strathern) عند شعب مرتفعات غينيا الجديدة، لا ينحصر “في ذاك المتداول من خلال المبادلات” فحسب، “بل يبقى قيد التّداول، عبر قوّة دفع الدّيون والاستثمار” (1976: 546). أمّا “رينا ليدرمن” (Rena Lederman)، فتخبرنا بأنّ الالتزامات العشائريّة بين الأفراد المعاصرين من شعب المندي (Mendi) أوجدت “طلبا على العملة الحديثة أكبر بما لا يقاس ممّا يمكن أن تلبّيه السّوق الحاليّة” (1986 :332)، ومن هنا، فإنّ شعب المندي “يعتقد أنّه يمتلك اقتصادا تبادليّا حقيقيّا، على عكس “اقتصاد الكفاف” الجدب الذي يمتلكه الرّجال البيض” (1986 :236).

انقلاب المركز والأطراف

تعتبر المدن الأماكن المفضّلة عند شعب الميرانتو (Merantu) في أندونيسيا، فهي مستهدفة بتلك الرّحلات العرفيّة التي يقوم بها رجال المينانغاكابو (Menangkabau) أصيلي المرتفعات الغربيّة لسومطرة وغيرهم من الإندونيسيّين خارج حدود ثقافتهم، قبل أن يعودوا منها محمّلين بالغنائم وقصص فتوّتهم. وتعتبر الجالية الماليزيّة أضخم التجمّعات البشريّة في مكّة بعد نظيرتها العربيّة، حيث يقضي بعض الماليزيّين ما ينيف عن عشر سنوات في الحجّ؛  وقد يتأخّر بعضهم عدّة سنوات عن موعد عودته، نظرا لسلوكه طريقا للعودة يمتدّ عبر إفريقيا أو الهند (بروفنشر Provencher، 1976). وينوي سكّان القرى المكسيكيّة العاملين بمدينة ريدوود (Redwood City) بولاية كاليفورنيا، وأمثالهم من السّاموائيّين العاملين بمدينة سان فرانسيسكو، بصفة مستمرّة العودة إلى أوطانهم، وهو احتمال يستعدّون له بإرسال الأموال إلى الأقارب والاتّصالات الهاتفيّة المستمرّة والزّيارات الوقتيّة لأوطانهم، وإرسال أطفالهم إلى قراهم للزّيارة أو للتعلّم بغية الحفاظ على الرّوابط مع مسقط الرّأس والقيام على ما ينشئونه من مشاريع في موطنهم السّابق والمستقبليّ. فهل بوسع الساموائيّين والملايو والأواكسان والأفارقة والفليبينيّين والبيروفيّين والتّايلنديّين، وملايين النّاس الذين يتنقلّون اليوم بين “الأطراف” والمراكز الحضريّة للنّظام العالمي الحديث، أن يكونوا فرحين بعودتهم إلى معيشة رعويّة “بعد أن زاروا باريس”؟ أليس صحيحا (كما يقول المثل الأوروبّي الذي يعود إلى العصور الوسطى) أنّ “المدينة تجعل الهواء حرّا”*(Stadt Luft macht Frei)؟ وإن لم تجعل منه حرّا، فهل سيظلّ بروليتاريّا إلى أبد الآبدين؟ ليس مهمّا أن يكون ذلك صحيحا في مرحلة سابقة من مراحل التّاريخ الأوروبي، فالأهمّ منه أنّنا نشهد اليوم ظاهرة