مقومات البحث الإثنوغرافي

جميل حمداوي

المقدمة: تتأسس الأنتروبولوجيا (Anthropologie) والإثنولوجيا (Ethnologie) على البحث الإثنوغرافي (Ethnographique) التوثيقي والمخبري بشكل خاص، على أساس أن هذا البحث العلمي هو دراسة حقلية (fieldwork) عملية تطبيقية بامتياز، تمد الإثنولوجي (Ethnologue) بمادة إثنوغرافية دسمة وعميقة وجادة لبناء نظرياته العلمية، وطرح فروضه وإشكالاته المختلفة والمتنوعة في دراسة الشعوب القديمة من جهة، أو البحث في العادات والأعراف الغريبة لجماعة معينة ومحددة، في زمان ومكان معينين. ومن ثم، فليس من الصائب، في المجال العلمي، القبول بالأبحاث النظرية المكتبية الإنشائية والذاتية المرتبطة بنقل المرويات المأثورة عن الرحالة، والمبشرين، والإداريين، والجغرافيين، والعسكريين، والمستشرقين، والإخباريين، دون النزول إلى الميدان المخبري الواقعي، أو الاحتكاك بالحقل التجريبي لمعاينة الظواهر الإثنولوجية ومراقبتها وتسجيلها وتدوينها وتوصيفها. ومن ثم، يصعب الحديث عن الإثنولوجيا والأنتروبولوجيا بشكل علمي دقيق ومركز، دون استحضار الإثنوغرافيا باعتبارها علما تخصصيا يستند إلى الأبحاث المونوغرافية الوصفية، والحفرية، والاستكشافية،  والتنقيبية، والاستقصائية، والتجميعية …

المبحث الأول: تعريف الإثنوغرافيا

الإثنوغرافيا (L’ethnographie) هي دراسة وصفية لأنشطة جماعة إنسانية معينة، سواء أكانت جماعة بدائية تقليدية أم جماعة معاصرة ومتمدنة ، بالتركيز على بنيات القرابة، و التقنيات المادية، و المعتقدات الدينية، والتنظيم المجتمعي، واستعمال آلات العمل، والاستثمار في الأرض…

وتعد أيضا منهجية استكشافية تطبيقية في البحث العلمي في مجالي الإثنولوجيا والأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية[1]. وتوظف كذلك في علم الاجتماع[2] كما عند مدرسة شيكاغو[3].

ومن هنا، فالإثنوغرافيا هي دراسة ميدانية وتحليلية للعادات والقيم والتقاليد والأعراف لجماعات سكانية محددة. وقد ارتبطت هذه المنهجية، قديما،  بدراسة الشعوب البدائية. ومن هنا، فالإثنوغرافيا- حسب حسين فهيم- ” هي الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد،والعادات والقيم، والأدوات والفنون، والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة، أو مجتمع معين، خلال فترة زمنية محددة.”[4]

إذاً، تهتم الإثنوغرافيا، أو علم الأجناس البشرية، بدراسة الشعوب البدائية باعتبارها تمثل الطفولة الأولى للمجتمع الحديث المعقد؛ فنظرا لضيق حجم هذه الشعوب من الناحية الكمية والعددية، ونظرا لبعدها عن المؤثرات الخارجية، والبطء الذي يتجلى في تطورها، تقدم للباحثين صورة عن تحكم الضمير الجمعي، وسيطرته المطلقة على ضمائر الأفراد؛حيث نجد شخصية الفرد تذوب في شخصية الجماعة.ولاشك أن المقارنة بينها وبين الشعوب المتحضرة تقدم لعالم الاجتماع مجالا خصبا لمعرفة العوامل التي يخضع لها نشوء الظواهر الاجتماعية وتكونها.

إذاً، فالإثنوغرافيا هي وصف الشعوب القديمة والحديثة والمعاصرة، سواء أكانت بدائية متخلفة أم متحضرة متمدنة. وهي أيضا الجانب الوصفي التطبيقي من علم الإثنولوجيا التي تتخذ بعدا نظريا. ويتخذ هذا الجانب، في كثير من الأحيان، طابعا دراسيا مونوغرافيا يعنى بدراسة جماعة مجتمعية معينة، أو مؤسسة تضم جماعات عدة (تقنيات، وزواج، وعبادة دينية…).

وتعد الإثنوغرافيا، حسب كلود لفي شتروس(Claude -Levi Strauss)، المرحلة الأولى من عمل الإثنولوجي، والتي تتمثل في جمع البيانات والمعطيات والمعلومات حول الظاهرة الإثنولوجية. ويعني هذا ” القيام عادة بتحقيق ميداني قوامه المعاينة المباشرة.الأمر الذي يطلق عليه الأنجلو- سكسونيون اسم (فيلد وورك/fieldwork).”[5]

أما الأنتروبولوجي الإنجليزي رادكليف براون، فيعرف الإثنوغرافيا بأنها بمثابة معاينة الظواهر الثقافية ووصفها، خاصة عند الشعوب المتخلفة.[6]”

وعليه، فالإثنوغرافيا هي وصف الظواهر الإثنولوجية، من عادات، وأعراف، وتقاليد، ومراسيم، وطقوس، ومعتقدات …، وإخضاعها للمعاينة، والتدوين، والحفر الحقلي الميداني، والتحليل، والتفسير.

المبحث الثاني: أهداف الإثنوغرافيا وغاياتها

تتمثل أهداف الإثنوغرافيا في ربط ماهو نظري  بماهو تطبيقي.أي: ربط النظريات الإثنولوجية بالتطبيقات العملية التي تقوم بها الإثنوغرافيا. ومن هنا، تهدف الأبحاث الإثنوغرافية إلى جمع المعلومات والبيانات والمعطيات حول مجموعة من الظواهر الإثنولوجية المختلفة لدى جماعة محددة. ثم، السعي الجاد إلى توصيفها في ضوء المناهج العلمية الكمية أو الكيفية المتاحة. وبعد ذلك، كتابة التقرير العلمي حول مختلف المراحل والعمليات التي أنجزها  الإثنوغرافي في حقله الميداني.ثم، يأتي الإثنوغرافي (Ethnographe,) لاستكمال العمل فهما، وتفسيرا، وتحليلا، وتأويلا.

ومن هنا، فلإثنوغرافيا مجموعة من الأهداف والغايات التي يمكن حصرها فيما يلي:

-ربط التصورات والفروض الإثنولوجية النظرية بماهو عملي وتطبيقي وتجريبي واقعي، وفق رؤية علمية نزيهة ومحايدة وموضوعية؛

-النزول إلى الحقل الميداني لملاحظة الظواهر الإثنولوجية ومعاينتها وفق مقاربة علمية موضوعية دقيقة ومركزة؛

-جمع المعطيات والبيانات والمعلومات حول الظاهرة الإثنولوجية المدروسة؛

-تدوين المعلومات وتسجيلها بشكل علمي دقيق؛

-تنظيم تلك البيانات والمعلومات بشكل منهجي مركز؛

-توصيف البيانات والمعطيات المرتبطة بجماعة بشرية معينة في زمن ومكان محددين؛

-تحليل المعلومات الحقلية وتفسيرها وفق مقاربة سانكرونية قائمة على مبدأ المحايثة البنيوية من جهة، والمقاربة الدياكرونية القائمة على التاريخ والتطور من جهة أخرى؛

– المقارنة بين المجتمعات الإثنولوجية وفق بناها، ووظائفها، وتطورها؛

-رصد طبيعة الجماعة والمجتمع وفق رؤية عملية حقلية تطبيقية وميدانية؛

-تطوير الدراسات الأنتروبولوجية والإثنولوجية إن نظرية، وإن تطبيقا، وإن وظيفة.

 

المبحث الثالث: تاريخ الإثنوغرافيا

لم يظهر مصطلح الإثنوغرافيا (Ethnographie) إلا في سنة 1767؛حيث ورد هذا المفهوم في كتاب جوهان فردريك شوبيرلان (Johann Friedrich Schöpperlin (1732-1772))، وكان المصطلح يعني باقة من طبعات الكتب المتنوعة والمختلفة. وبعد ذلك،تأسست بفرنسا جمعية إثنولوجية سنة 1839م تهتم بالإثنولوجيا الطبيعية والثقافية من جهة، والبحث الإثنوغرافي من جهة أخرى. وكانت الإثنوغرافيا في روسيا تعني علم الشعوب. في حين، أطلقت الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية على هذا النوع من الدراسة الحقلية الميدانية في الدول الأنجلوسكسونية.

ولقد انتشرت الدراسات الإثنوغرافية كثيرا بفعل الاستعمار، وكان الهدف منها دراسة الشعوب المستعمرة، والبحث عن خصوصياتها الإثنية، واللغوية، والعرقية، والاجتماعية، والثقافية، والحضارية، ولقد استعان بها المبشرون في حملاتهم التنصيرية بشكل خاص.

وبعد انتهاء الاستعمار، تخلت الدول الغربية عن دراسة الشعوب الضعيفة والمتخلفة والبدائية لتنكب على مجتمعاتها وجماعاتها الخاصة بها. ومن ثم، فلقد انفتحت الإثنوغرافيا على موضوعات معاصرة كدراسة الطبقات الاجتماعية، ودراسة الإثنيات والأقليات والهويات المجتمعية القليلة العدد، ودراسة الجماعات الغريبة والمختلفة عن الجماعات المتحضرة والمتمدنة، ودراسة جماعات المدرسة…

واليوم، يلاحظ أن تسمية الإثنوغرافيا” لاتستعمل عند الأنجلوسكسونيين بقدر ما تستعمل عند الفرنسيين والألمان الذين ظهرت لديهم أول ماظهرت في أواخر القرن الثامن عشر وفي عناوين المجلات العلمية قبل أن تشيع في فرنسا على يد العالم الفيزيائي أمبير بشكل خاص.إذ جعل منها، عام 1824، فرعا من فروع المعرفة الإثنولوجية، وذلك في كتابه ( مقالة حول فلسفة العلوم).ثم اعتمدت التسمية كذلك عند الفلكلوريين في دراساتهم للتقاليد الشعبية في الأرياف الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين.واتخذت كلمة الإثنوغرافيا في فرنسا بصورة استثنائية وفي ما مضى، المعنى نفسه الذي اتخذته كلمة إثنولوجيا .وكان مارسيل غريول هو الذي حدد الإثنولوجيا، في الخمسينيات، عبر محاضراته أولا ثم في كتابه (منهج الإثنوغرافيا)، بأنها الفرع المعرفي الذي يحيط بأنشطة الشعوب المادية والروحية، ويدرس تقنياتها وأديانها وشرائعها ومؤسساتها السياسية والاقتصادية وفنونها ولغاتها وأعرافها.[7]”

وغالبا، ما تستند الإثنوغرافيا إلى عمليات الملاحظة والمعاينة، والاستعانة بالمعايشة الميدانية الحقلية، وتسجيل المعطيات وتدوينها وتخزينها، وتوصيف الظاهرة، وكتابة البحث عنها من جميع جوانبها، وذلك بعد تحليل الظاهرة الإثنولوجية فهما وتفسيرا وتأويلا في ضوء المقاييس الكمية والكيفية من جهة، وفي ضوء المقاربة السانكرونية المحايثة والمقاربة الدياكرونية التاريخية والتطورية من جهة أخرى. ومن ثم، يرى كلود ليفي شتروس أن الإثنولوجيا والإثنوغرافيا لحظتان مختلفتان؛ إذ تسبق لحظة الإثنوغرافيا لحظة الإثنولوجيا التي تكون بعدية. والسبب في ذلك أن الإثنوغرافيا هي أول خطوة عملية تقوم على جمع المعلومات والبيانات والمعطيات وتوصيفها .بينما تتدخل الإثنولوجيا لتحليلها وتفسيرها وبناء النظريات في ضوء الاكتشافات الحقلية التطبيقية.وبهذا، تكون الإثنولوجيا نظرية.في حين، تكون الإثنوغرافيا تطبيقية وعملية وحقلية.

المبحث الرابع: مواضيع الإثنوغرافيا

من المعلوم أن الإثنوغرافيا فرع من فروع علم الاجتماع كالأنتروبولوجيا والإثنولوجيا. وتدرس ما تدرسه الإثنولوجيا من مواضيع مختلفة؛ حيث تنكب الإثنوغرافيا على دراسة العادات والأعراف والتقاليد والطقوس والمعتقدات الدينية لجماعة محددة، في زمن ومكان معينين، بالتنقيب والاستكشاف ومعاينة الظواهر الإثنولوجية، وتوصيفها بشكل كلي مونوغرافي أو استقصائي شامل.

وتهتم المقاربة الإثنوغرافية أيضا بدراسة طبيعة الشعوب القديمة وثقافاتها، وتعنى بأساليب عيشها، وتنكب على أنماط حياتها في ضوء أعمال حقلية ميدانية مخبرية. علاوة على دراسة الجماعات المحلية والبدوية والقروية، و الاهتمام بالجماعات المنعزلة الغريبة عن المجتمعات الحاضرة، ودراسة القبائل والعشائر المختلفة عن الشعوب المتمدنة والمتحضرة. فضلا عن العناية بمشاكل الجماعات والمجموعات التي يعرفها عالمنا المعاصر.

ويعني هذا أن علماء الأنتروبولوجيا والباحثين الحقليين الإثنوغرافيين” يجدون في الوقت الحاضر أسبابا كثيرة لتطوير طرق البحث التي يعتمدون عليها في جمع مادتهم العلمية، حيث يتجهون إلى دراسة مشكلات جديدة في أنماط مجتمعية غير منعزلة تتمتع بشيء من التغاير الديمغرافي، وتقع داخل دول حديثة، كما هم يسعون إلى تحقيق القضايا الكيفية التي انتهت إليها بحوثهم التي اعتمدت على الملاحظة بالمشاركة والرجوع إلى الإخباريين، مما يمهد للاتجاه إلى التزام ما نطلق عليه المدخل السوسيو-أنتروبولوجي في دراسة المجتمع.”[8]

ومن هنا، فالإثنوغرافيا هي الدراسة الوصفية للشعوب والجماعات الإنسانية، وفق رؤية عرقية من جهة، أو وفق رؤية هوياتية وطنية من جهة أخرى. ومن هنا، فالإثنوغرافيا هي دراسة خاصة للشعوب.في حين، إن الإثنولوجيا هي بمثابة دراسة عامة وشاملة للشعوب.ويعني هذا أن الإثنوغرافيا ليست جزءا أو مبحثا من الإثنولوجيا كما هو سائد عند الطلبة والباحثين، بل هي علم مستقل بنفسه، ولكن هو المصدر الميداني المعتمد في الدراسات الإثنولوجية.

ومن ناحية أخرى، تهتم المقاربة الإثنوغرافية بدراسة مواضيع معاصرة جديدة كالتركيز على المدرسة والجماعة على المستوى المحلي، ودراسة المؤسسة والفصل الدراسي في ضوء المجتمع المصغر، مع الاستعانة بالملاحظة والمعايشة وطرائق البحث الميداني، واستعمال الكاميرا والمقابلة بشتى أنواعها، والتركيز على الوحدات الصغرى المكونة للفصل الدراسي، مثل: المتعلم، والمعلم، إلخ…لاستكشاف الجوانب الاجتماعية المخفية[9].

فضلا عن تناول مواضيع بيداغوجية وديدكتيكية مهمة كتعليم الكبار، والتنشئة الاجتماعية، والطفولة المبكرة، والمناخ المدرسي، والتفاعل داخل الفصل الدراسي والمدرسة، وطرائق التدريس، والثقافة المدرسية، والتعليم غير النظامي، وأساليب التحفيز، والثقافات الفرعية والتربية، وغيرها من المجالات والمظاهر التربوية)…

المبحث الخامس: منهجية الإثنوغرافيا

الإثنوغرافيا منهجية حقلية ميدانية تطبيقية وعملية.ومن ثم، فهي دراسة وصفية وتحليلية ميدانية لمختلف القيم والعادات والشعوب المعينة، ولاسيما الشعوب البدائية . ولقد استعملت أيضا في دراسة الظواهر الإثنولوجية والمجتمعية والأنتروبولوجية المعاصرة . ومن هنا، يستند البحث الإثنوغرافي إلى مجموعة من الخطوات العملية والإجرائية على النحو التالي:

u دراسة الظواهر الإثنولوجية لجماعة معينة في زمن ومكان محددين، كدراسة العادات، والأعراف، والتقاليد، والطقوس، والمراسيم، والمعتقدات الدينية؛

– دراسة الظواهر  الإثنولوجية ضمن حقل ميداني حفري معين (Field Work) ومحدد بدقة، أو وفق ما يسمى أيضا بالملاحظة الميدانية؛

– تجميع المعلومات والبيانات والمعطيات حول الظاهرة المدروسة حقليا؛

– تدوين المعلومات وتوثيقها وتسجيلها وتخزينها بشكل دقيق؛

– وصف الظاهرة الإثنولوجية وصفا نسقيا في مختلف بنياتها وعناصرها الجزئية؛

– تصنيف أجزاء الظاهرة وتنميطها وفق الأسس العلمية والمبادئ الموضوعية؛

– تحليل الظاهرة الإثنولوجية وفق المنظور السانكروني من جهة، أو وفق المنظور الدياكروني من جهة أخرى؛

– استعمال منهج المقارنة بغية البحث عن أوجه الائتلاف والاختلاف بين الجماعات الإنسانية القديمة والمعاصرة؛

– تفسير الظاهرة الإثنولوجية وفق المناهج الكمية أو الكيفية على حد سواء؛

– الاستعانة بالملاحظة المباشرة ومنهج المعايشة أو المشاركة الحية في بناء الأبحاث الإثنولوجية.

ومن هنا، يتميز البحث الإثنوغرافي عن المناهج البحثية الأخرى، ولاسيما الكمية والإحصائية منها، بمعايشة المجتمع المدروس، والاحتكاك به على جميع النواحي والمستويات والأصعدة، كأن يكون ذلك المجتمع قبيلة، أو عشيرة، أو صفا دراسيا،أو مصنعا، أو مؤسسة، أو مستشفى، أو سجنا، أو دار رعاية، أو زاوية، أو حزبا، أو منظمة، أو سوقا…وتتحقق الخاصية الإثنوغرافية بإجراء أبحاث ميدانية وحقلية لجمع البيانات والمعطيات والمعلومات بغية تدوينها وتسجيلها وتوصيفها، والاعتماد على المشاهدات اليومية، وإجراء مقابلات، وتحليل الوثائق والسير الذاتية…

وعليه، يقدم الباحث الإثنوغرافي مادة إثنوغرافية دسمة ومتنوعة وغنية بالمعطيات والمعلومات، يعتمد عليها الإثنوغرافي والأنتروبولوجي معا لبناء تحليلاتهما وتفسيراتهما النظرية. ويعني هذا أن الإثنوغرافيا عبارة عن مختبر عملي  تطبيقي، أو ورشة ميدانية بحثية تساعد الإثنولوجي على التنظير العلمي، وكتابة البحث الإثنولوجي، وإعداد التقارير الأكاديمية الموضوعية. ومن هنا، تستند المادة الإثنوغرافية إلى توصيف الظواهر الإثنولوجية وفق مقاييس كيفية من جهة، أو وفق مقاييس كمية من جهة أخرى. ومن بين هذه المقاييس الاعتماد على الملاحظة الميدانية، والمعايشة الحية المشاركة، والاهتمام بالسير الذاتية، والاستمارة، والمقابلة، ودراسة الحالة، وتحليل المضمون…

وتتميز الدراسة الإثنوغرافية بمجموعة من الخصائص كدراسة الباحث الإثنوغرافي، على مستوى العينة، لحالة واحدة في مجتمع صغير أو جماعة معينة، ضمن البيئة الطبيعية للسلوك الإنساني بغية فهم هذا السلوك بشكل علمي دقيق، وتقديم مجموعة من التفاصيل الدقيقة والعميقة حول هذا السلوك المرصود. ناهيك عن عدم وجود فرضيات مسبقة ينطلق منها ذلك الباحث. علاوة على تمثل الملاحظة المباشرة في الاستكشاف والتنقيب. ويعني هذا أن دراسة الإثنوغرافي وحفرياته غير موجهة بشكل مسبق، بل يستنتج معلوماته عبر العمل والبحث الحقلي الميداني.

وتسمى منهجية الإثنوغرافي بالدراسة الحقلية) Ethnographic field work (، أو البحث الميداني؛ لأنه من غير الصائب علميا في مجال الإثنولوجيا والإثنوغرافيا أن يظل الباحث حبيس المكتب، يعتمد على أقوال الرحالة والإخباريين والإداريين والمستشرقين والمبشرين والمكتشفين والعسكريين، دون النزول إلى الميدان الحقلي لجمع الحقائق والمعطيات حول الظواهر الإثنولوجية والاجتماعية والثقافية لجماعة معينة، في زمان ومكان محددين. ومن هنا، كان الأمريكي فرانز بواس (F.Boas) والبريطاني مالينوفسكي (Malinovski)  سباقين إلى الاهتمام بالدراسة الحقلية في مجالات الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا. ثم تبعهم في ذلك مجموعة من الباحثين كراد كليف براون، وإيفانز بريتشارد، وكلود ليفي شتروس، ومارغريت ميد، و لويس مورجان، ومايير فورتس، ودافيد مونتكمري هارت، وباحثي جامعة شيكاغو، إلخ…

ومن هنا، ” فإن المنهجية التي تقوم عليها الأنتروبولوجيا هي الإثنوغرافيا.إنه العمل الحقلي الشهير الذي يشارك فيه الباحث في الحياة اليومية لثقافة مختلفة بعيدة أو قريبة يراقب، ويسجل، ويحاول أن يعبر عن وجهات نظر الشعوب الأهلية، ثم يكتب.يعتبر كل من بواس ومالينوفسكي المؤسسين لهذه الطريقة، أحدهما عند الهنود على الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، والآخر عند سكان جزر تروبريون (Trobriand)على ساحل غينيا الجديدة.بواس بدءا من العام 1886م ومالينوفسكي عام 1914م، وحدهما قد ذهبا يستقصيان عن الحياة اليومية لثقافة ما على الأرض، بدل التفكير انطلاقا من روايات المكتشفين والرحالة والعسكريين والمبشرين، ما أتاح الدخول في مرحلة جديدة من هذا الاختصاص تقوم على دراسات أحدية وافية وعلى وصف دقيق كامل إلى حد ما، يتناول الحقائق المحلية، لقد أسهما بذلك في خلق صورة رومانسية عن الإثنوغرافي الذي يكرس وقته في وصف العادات الغريبة في مناطق بعيدة.إن كلمة حقل (Terrain) التي تشير في وقت واحد إلى مكان، وإلى موضوع بحث، قد صارت الكلمة المفتاح في الوسط الإتنولوجي:” يقوم بتسوية حقله”، ” يعود من الحقل”، لقد تم القيام  ب” حقل أول”، ونقيم” علاقة بالحقل”…إلخ.”[10]

ومن هنا، فالدراسة الإثنوغرافية هي دراسة حقلية ميدانية تطبيقية يختص بها الباحث الإثنوغرافي من جهة، أو بالمشاركة مع الباحثين الإتنولوجيين والأنتروبولوجين. ومن ثم، تبتعد البحوث الإثنوغرافية عن المرويات الغيرية، وتعتمد على البحوث الحقلية والميدانية الواقعية.ومن ثم، يقوم الإثنوغرافي بمجموعة من المهام الوظيفية كالسفر والارتحال إلى المكان المختار للدراسة، ولابد أن يكون مكانا أجنبيا غريبا غير مألوف، سواء أكان قريبا أم بعيدا. ثم اختيار موضوع إثنولوجي معين، كأن يكون دراسة العادات والتقاليد والأعراف والطقوس والمعتقدات عند جماعة معينة كالقبائل الإفريقية، مثلا. وبعد ذلك، يلتجئ الباحث إلى الملاحظة الميدانية، برصد الظاهرة المدروسة ومعاينتها بشكل مركز ودقيق، وجمع المعلومات والبيانات والمعطيات حول الظاهرة المدروسة، و تدوين البيانات وتسجيلها، ومراقبة الظاهرة، ووصف العادات والتقاليد عند تلك الجماعة المعينة وصفا دقيقا وشاملا من جميع الجوانب، في إطار دراسة مونوغرافية متكاملة، ثم تحليل تلك الظاهرة وفهمها وتفسيرها وتأويلها، والكتابة عن ذلك كله في شكل تقرير أو بحث علمي أكاديمي موثق.ويعني هذا كله أن الأبحاث السوسيولوجية والأنتروبولوجية والإثنولوجية والإثنوغرافية أبحاث تجريبية وموضوعية وعلمية وميدانية ومخبرية بامتياز.

وعليه،” فلقد كان من التقاليد العريقة في بريطانيا أن تكون الدراسة الإثنوغرافية الحقلية دراسة مركزة، ومن هنا كان تحقيق هذا بصورة جيدة يتطلب فترة ممتدة من الوقت لاتقل عن عام كامل، وقد تمتد لعامين أو أكثر في بعض الحالات. وفضلا عن هذا فإنه من المتوقع من الباحث الأنتروبولوجي أن يعيش بين أعضاء الجماعة المحلية كواحد منهم طالما كان هذا أمرا ممكنا، وهو ما يعني بقول آخر أنه سوف يتعلم أن يستخدم اللغة المحلية، وقد يستعين في هذا بمترجم من الأهالي الذين يعمل ويقيم بينهم، كما يعني أن لابد أن يهيئ نفسه للنفاذ إلى طرق تفكيرهم وأنساق معتقداتهم وقيمهم. ولعل التقليد الذي يتمثل في الدراسة الحقلية المركزة يدين- إلى حد بعيد إلى البحوث الرائدة التي قام مالينوفسكي (B.Malinovski) في ميلانيزيا والتي وضعت معايير جديدة تماما في الدراسات الأنتروبولوجية الحقلية.”[11]

وبهذا، يوفر الباحث الإثنوغرافي المادة الإثنوغرافية التي تصف عادات الشعوب القديمة وأعرافها وتقاليدها وثقافاتها وفنونها وطقوسها وآدابها الشعبية. ومن ثم، تسعف الباحث الإثنولوجي على التحليل والتفسير والتأويل وفق ما تجمع لديه من معلومات ومعطيات ومعلومات عن مجموعة من الظواهر التي تتعلق بالمجتمعات والإثنيات القديمة.

ومن شروط البحث الحقلي أن يكون بحثا علميا دقيقا مركزا، يتسم بالموضوعية من جهة، والابتعاد عن الأحكام الذاتية والإسقاطية والتعميمية من جهة أخرى. ومن هنا، “تقوم فعالية الاستقصاء الحقلي دون شك، لا على بحث واع وفاعل، بقدر ما تقوم على التعلم العفوي.لذلك إذا ما اقتضى الأمر الاهتمام بالمنهجية، فإن فن الحقل كما جرت التسمية أحيانا لايمكن تعلمه من الكتب. فحين نكون في وسط ثقافة تختلف عن ثقافتنا، فإن هذه الثقافة الغريبة ستعمل على إعطائنا معلومات وعلى تشكيلنا ثقافيا أكثر مما تقدر ذاكرتنا على أن تعطينا إياه لنتفكر فيه. إنها تحدث فينا صدى أكبر من الصدى الذي نحدثه نحن فيها.هذا ما نطلق عليه اسم المعرفة عن طريق المؤالفة أو بالتشبع.إنها معرفة سيناريو الأحداث التي تدور حولنا. تسمح لنا التجربة بأن نقول ماذا يمكن أن يحصل، وبعدم تجاهل القواعد الكامنة في الثقافة. لأن التآلف البطيء والصبور مع الحقل لايجعل الأنتروبولوجي يتعامل بالكلية مع تنوع الظواهر أو أن ينقاد لها: إنه يحسن التمييز بين المعلومة وبين الضجيج المحيط. إنه اختبار الحقل-أو كما نقول منذ سيغموند فرويد- اختبار الواقع الذي يتيح عدم الاستسلام لإبداعات تحكمية وعدم إسقاط مايريد الباحث إسقاطه على الواقع الاجتماعي، وعدم الركون إلى مصالحه الذاتية أو الاستماع بالكلية لمصدري المعلومات الذين يحبذ العمل معهم.على الأنتروبولوجي في بذله جهده توصلا إلى الموضوعية أن يقاوم ضد نزعتين متباينتين: الأولى، أن يترك لعاداته قوة تنظيمها الحر والاعتيادي من حيث التقليل من أهمية الانطباعات الآتية من الخارج، وذلك بجعلها تنساب من المقولات الجاهزة التي تشكل تجميعا للاختلافات، بحيث يحول هذا التجميع كل معلومة خارجية إلى مجموعة الأصل كما لو كان ذلك إشارة إلى غرائبية  باطنية.أما الخطر الذي يكمن في مثل هذه الحالة، فهو المبالغة في التأويل.”[12]

وينبغي على الإثنوغرافي أن يترك مسافة بين ذاته و موضوعه، ويبتعد عن الأحكام الجاهزة التي قد تسيء إلى موضوعه البحثي، وينصت جيدا إلى ما يقوله الحقل الاختباري أو الميداني.

إذاً، ينبغي ” على الأنتروبولوجي في حقل عمله أن يجد نفسه باستمرار طارحا جانبا مقولات واهتمامات لاتتوافق مع مقولات ثقافته الأصلية، ولا مع المحصلات المدرسية في مهنته لقلة الاعتداد بها.إن موهبته تقوم على إظهار نفسه متقبلا.ومن جانبه وفي اتخاذه لموقع العارف، فإن صاحب المعلومة يعطي العالم معرفة يجهد في سبيل فهمها.والمعلومات التي يقدمها تندرج عند الأنتروبولوجي في مجموع لايعرفه.فإذا كان هذا الذي يعرف لايقول كل مايعرفه، فإن المعرفة التي يعطيها تبقى إلى حد ما معرفة منقوصة.فانطلاقا من توتر بين المقال وبين المسكوت عنه، وعلى المعارف التي يقوم كل طرف بنسبتها إلى الآخر، يتكون ما نطلق عليه اسم المعطيات الإثنوغرافية.لذلك على الأنتروبولوجي أن يكون على السمع.فعليه أن يخلق مسافة ليترك مجالا للتعبير ليس عن القيم فحسب، بل ليترك مجالا أيضا لتساؤلات وشكوك معطي للمعلومة.في مرحلتها العلموية، لم تعترف الإثنوغرافيا دائما بمعطي المعلومة كمحدث حقيقي. إن لهذا التمايز قيمته، ذلك أن عبارة معطي المعلومة تسحب النزعة الشخصية عن التجربة التذاوتية في الاستقصاء الحقلي.”[13]

وعليه، فالإثنوغرافيا منهجية وصفية ميدانية وتطبيقية لما خلفه الإنسان من عادات وتقاليد وأعراف وثقافات ومخترعات وصناعات وتقنيات ومعتقدات وقيم  وفنون وفلكلور عند جماعة معينة، أو مجتمع معين، في زمان ومكان محددين.ومن ثم، تشكل المادة الإثنوغرافية قاعدة أساسية للبحث الإثنولوجي.ومن هنا، تكمل الدراسة الإثنوغرافية عمل الإثنولوجي؛ حيث تعضده وتقويه وتدعمه كما وكيفا.

إذا، فالإثنوغرافيا عبارة عن دراسات تطبيقية لمعرفة كيفية تنظيم المجتمع. أو بتعبير آخر،” تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد، والعادات، والقيم، والأدوات والفنون، والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة، أو مجتمع معين، خلال فترة زمنية محددة.[14]”

وعلى العموم، فالإثنوغرافيا بحث تطبيقي ومنهجي وميداني، يهدف إلى دراسة قيم المجتمع، وعاداته، وأعرافه، وتقاليده، وأنشطته الثقافية الخاصة.ومن ثم، يعد الوصف الإثنوغرافي أول مرحلة في العمل البحثي.في حين، تهتم الإثنولوجيا والأنتروبولوجيا بتفسير العادات والأعراف والمؤسسات.أي: مرحلة التوليف أوالتركيب الذي كثيرا ما يتحقق عن طريق المنهج المقارن.” إن هذا المستوى من المسعى البحثي هو الذي يشهد بروز التقنيات أو  المقاربات التي تختلف باختلاف الباحثين، إذ يذهب بعضهم إلى تفسير المراسم والشعائر الدينية مثلا بوظائفها المجتمعية الاستدماجية التوحيدية، بينما يذهب آخرون إلى المقارنة بين مزارعين مستقرين من جهة ورعاة رحل من جهة أخرى ليستخلصوا من أنشطتهم شخصيات ثقافية ونفسيات متباينة.هكذا ينتمي كل نمط من أنماط التفسير إلى مدرسة فكرية معينة.”[15]

وعليه، تتجاوب الإثنوغرافيا – حسب كلود ليفي شتروس- ” مع المراحل الأولى من البحث: المعاينة والوصف والعمل الميداني.والأدروسة التي تدور حول مجموعة محصورة النطاق بما يكفي لجعل الباحث قادرا على تجميع القسم الأعظم من معلوماته بناء على خبرته الشخصية، إنما تشكل نمط الدراسة الإثنولوجية بالذات. ولاحاجة بنا إلا أن نضيف أن الإثنوغرافيا يشتمل أيضا على المناهج والتقنيات المتصلة بالعمل الميداني من حيث تصفيف الظواهر الثقافية المخصوصة ووصفها وتحليلها (سواء أكانت أسلحة أو أدوات أو معتقدات أو مؤسسات).أما بالنسبة  للأشياء المادية، فإن متابعة هذه العمليات تتم عادة في المتحف الذي يجوز اعتباره من هذه الناحية بمثابة امتداد للحقل أو الميدان.”[16]

إذاً، تستند الإثنوغرافيا – حسب كلود ليفي شتروس- إلى الملاحظة الحقلية، والمعاينة العلمية الدقيقة، والوصف التفصيلي، والعمل الميداني.

المبحث السادس: إيجابيات الإثنوغرافيا وسلبياتها

لاشك أن للإثنوغرافيا إيجابيات عديدة لاينكرها إلا جاحد متغطرس.فمن حسنات هذا العلم أن الإثنوغرافيا منهجية بحثية حقلية وميدانية بامتياز. علاوة على كونها منهجية قائمة على ملاحظة الظواهر الإثنولوجية في البيئة الطبيعية، ودراسة السلوك كما يظهر للباحث فهما وتفسيرا وتأويلا. ولا يتأتى ذلك إلا بعد جمع المعلومات والبيانات ووصفها.ومن هنا، فالإثنوغرافيا إجراء كيفي تطبيقي يقوم على الملاحظة الميدانية الموضوعية التي تتجاوز الدراسات الإثنولوجية الذاتية التي كانت تعتمد على أخبار الرحالة، والمبشرين، والعسكريين، والإداريين، والرواة…

بيد أن للإثنوغرافيا كذلك سلبيات وعيوب. ومن بين هذه السلبيات أن الدراسة الحقلية الميدانية ليست هي الطريقة الوحيدة لتطوير البحث الإثنولوجي من جهة، وتنمية الدراسات الأنتروبولوجية من جهة أخرى، فيمكن للباحثين والمفكرين والفلاسفة والعلماء أن يصلوا إلى نتائج مهمة في المجالات الإثنولوجية والأنتروبولوجية دون النزول إلى الميدان، فيكفي أن يجتهد الباحث في استقصاءاته الحدسية، والاستفادة من تجاربه الخاصة، والاعتماد على قدراته الكفائية في إدماج معارفه وموارده ودراساته وتقنياته ومهاراته في بناء البحوث الإثنولوجية بشكل علمي دقيق. ويمكن تعويض هذه المنهجية الكيفية النوعية بالمناهج الكمية المعروفة في مجال البحث العلمي لتحصيل النتائج اليقينية.وفي هذا، يقول مارك أوجيه وجان بول كولاين في كتابهما (الأنتروبولوجيا):” يمكننا، مع بعض المشروعية، أن نعتبر الاستقصاء الحقلي بمثابة الشروط الأولى لعمل أنتروبولوجي، إلا أن ذلك ليس بالترياق أبدا.فكل الباحثين الذين يحاولون الإجابة عن السؤال:” ماهو الإنسان؟” إنما يمارس الأنتروبولوجيا.ثمة لائحة طويلة من المفكرين من إيمانويل كانط إلى تودوروف، في إمكانهم تكوين أفكار عن السؤال دون أن تكون لهم تجربة عمل حقلي، بسبب علمه الغزير وحدوساته اللامعة. مارس مارسيل موس تأثيرا مستمرا في أفكار الأنتروبولوجيا، هذا دون أن يكون رجلا عمل في حقل؛ وإذا ماعلمنا مدى الدقة الواجب بلوغها للوصول إلى ملاحظات مناسبة، فقد كان أيضا أستاذ طرائق استقصاء.من  جهة أخرى، إن التنقل ومصادفة الناس وجها لوجه يمكن أن يثير الاعتقاد بوجود تجريبي لحقل مغلق جدا، إلا أنه ليس في وسع أي أنتروبولوجي أن يثبت إقفال ثقافة أو حقل. إن الاستقصاء لايقتصر على الوصف داخل المكان الذي يجري فيه الاستقصاء؛ ولايمكن أن نحرمه من التحديدات الخارجية التي يدرسها اختصاصيون آخرون، مثل الجغرافيين والديموغرافيين والمؤرخين واللغويين وعلماء النفس …إلخ.”[17]

ومن هنا، يتضح لنا أن الإثنوغرافيا ليست حقلية وميدانية بالضرورة، بل يمكن الوصول إلى حقائق إثنولوجية متميزة اعتمادا على صيغ أخرى من البحث كاستخدام التفكير الفلسفي، والاستعانة بالحدس التأملي العميق، وتوظيف التخييل العلمي الدقيق،وتوظيف الخبرة الكفائية للباحث العلمي، وقراءة الرموز الحفرية والحقلية سيميائيا ونفسانيا واجتماعيا، والاستعانة بالمناهج الكمية والإحصائية…

ناهيك عن كون هذه البحوث الإثنوغرافية تستغرق وقتا طويلا بين سنتين إلى عشر سنوات، وتستلزم الإلمام بلغة الجماعة المدروسة، ويتطلب هذا بدوره وقتا طويلا. ويصعب التعامل مع بعض المجتمعات المحافظة على مستوى اللغة، والعادات، والمعتقدات، والدين، والفصل بين الجنسين. وغالبا، ما يخضع الباحث لخلفيات دينية وفلسفية وسياسية وإيديولوجية وإثنية مسبقة تسقطه في الذاتية والأهواء والمنازع الشخصية.وقد يدفع حضور الباحث في جماعة ما ، في أثناء المعايشة الحية، إلى عدم تصرف الناس بعفوية وتلقائية كما في حياتهم اليومية. وقد يتعاطف الباحث مع المجتمع المدروس، إذا عاش معهم فترة طويلة.وبذلك، يتخلى عن النزاهة والحياد والموضوعية العلمية.

وقد يتعرض الباحث الإثنوغرافي لمجموعة  من الأخطار التي قد تودي بحياته نهائيا، ولاسيما إذا كان الحقل الميداني يقع في أمكنة صعبة وموحشة جدا كدراسة القبائل والعشائر الأفريقية والآسيوية؛ حيث لايوجد الأمن والسلم والاستقرار ؛ مما يؤثر سلبا في استمرار حفرياته التنقيبية، والقيام بالاستكشاف الحقلي.

دون أن ننسى صعوبة التدوين وتسجيل الملاحظات المرصودة بطريقة مباشرة وآنية وسريعة، فعلى الباحث الإثنوغرافي أن ينتظر وقتا طويلا حتى يعود إلى خيمته أو المنزل الذي يؤويه، وهذا سيؤثر في ذاكرته التحصيلية بلا شك.

وينبغي على هذا الباحث أن يمتلك مهارة وكفاءة فائقة في الملاحظة والمعاينة والتسجيل والتوصيف. ومن ثم، يتطلب البحث الميداني التدريب العملي المستمر على آليات الملاحظة والتدوين والمعاينة والتسجيل.

ومن جهة أخرى، يصعب تحليل النتائج التي توصل إليها الباحث الحقلي بسبب كثرة البيانات والمعطيات والمعلومات المحصلة؛ مما يجعل الباحث الإثنوغرافي عاجزا عن الإلمام بالتفاصيل العلمية الدقيقة كلها .

وأكثر من هذا فالبحث الإثنوغرافي مكلف جدا  من النواحي العملية، والمادية، والمالية، والإدارية، والبشرية؛ حيث تعجز بعض الدول الفقيرة أو النامية عن تمويل تلك الدراسات الحقلية مقارنة بالدول الغربية المتقدمة.

ومن عيوب البحث الإثنوغرافي كذلك أنه يعتمد على عينة محدودة ومعينة بدقة كأن يكون فردا واحدا، أو فصلا أو مدرسة واحدة.ومن ثم، تكون النتائج المحصلة مرتبطة بتلك العينة ؛ حيث يصعب تعميمها على باقي العينات الأخرى.

الخاتمة:

وخلاصة القول، إن علاقة الإثنولوجيا بالإثنوغرافيا كعلاقة النحو بالإعراب. ويعني هذا أن الإثنوغرافيا دراسة بحثية ميدانية تطبيقية بامتياز، تقوم على المعاينة الحقلية، والمشاركة الحية، والفحص الحفري، وملاحظة الظواهر الإثنولوجية، وجمع المعطيات والبيانات والمعلومات حول تلك الظواهر التي ستدرسها الإثنولوجيا والأنتروبولوجيا فهما، وتفسيرا، وتحليلا. وبهذا، فالإثنولوجيا نظرية من جهة، والإثنوغرافيا تطبيقية من جهة أخرى. ومن هنا، يوفر الإثنوغرافي مادة إثنوغرافية دسمة للباحث الإثنولوجي ليبني فرضياته العلمية، ويطرح إشكالاته المشروعة، ويقوي نظرياته وتصوراته البحثية.

ومن جانب آخر، يمكن القول، بأن الإثنوغرافيا هي ملاحظة الظواهر الإثنولوجية ملاحظة حقلية ميدانية، وتجميع المادة العلمية بغية توصيفها.وبعد ذلك، تتدخل الإثنولوجيا لتنظيم تلك البيانات وترتيبها،  وتصنيفها، وتنميطها، ومقارنتها. وفي الأخير، تتولى الأنتروبولوجيا مهام التحليل، والتفسير، والتنظير.

وبهذا، تتجاوز الإثنوغرافيا العلمية والحقلية ما كان يسمى من قبل بالتتبع التاريخي للمجتمعات الإثنولوجية، و تبتعد أيضا عن النظريات التطورية التي كانت ترصد مسار الشعوب القديمة وفق تطورها الطبيعي والبيولوجي، وبدأت تنأى كذلك عن تلك المقارنات التي كان يتكئ فيها الإثنولوجيون على روايات الرحالة، والمكتشفين، والمخبرين، والعسكريين، والمبشرين…، مستبدلة ذلك كله بتجارب حقلية وميدانية وحفرية تطبيقية علمية.

…………………..

الهوامش:

 [1] -Jean Copans, L’enquête ethnologique de terrain, Paris, Nathan, 1998.

[2] -Coulon A. L’école de Chicago. Paris : PUF, 1992.

[3]- Louis M. Smith., « Ethnography », Encyclopedia of Educational Research, 5th edition, New York, Macmillan, 1982.

[4] – انظر:  حسين فهيم: قصة الأنتروبولوجيا: فصول في تاريخ علم الإنسان، عالم المعرفة، الكويت، العدد98، فبراير1986م، ص:14

[5] – جاك لومبار: مدخل إلى الإثنولوجيا، ترجمة: حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب،الطبعة الأولى سنة 1997م، ص:12.

[6] – جاك لومبار: مدخل إلى الإثنولوجيا، ص:12.

[7] – جاك لومبار: نفسه، ص:13.

[8] – محمد عبده محجوب: الأنتروبولوجيا الاجتماعية، دراسات نظرية وتطبيقية، دار المعرفة الجامعية، مصر، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:13.

[9] – Sirota.R : (Approches ethnographiques en sociologie de l’éducation : l’école et la communauté, l’établissement scolaire, la classe), in : sociologie de l’éducation (dix ans de recherches), L’Harmattan, 1990, pp : 180-181.

[10] – مارك أوجيه وجان بول كولاين: الأنثروبولوجيا، ترجمة: جورج كتوره، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008م، ص: 71-72.

[11] – محمد عبده محجوب: الأنتروبولوجيا الاجتماعية: دراسات نظرية وتطبيقية، ص:61.

[12] – مارك أوجيه وجان بول كولاين: الأنتروبولوجيا، ص: 72-73.

[13] – مارك أوجيه وجان بول كولاين: نفسه، ص: 71-72.

[14] – عدنان أحمد مسلم: محاضرات في الأنتروبولوجيا (علم الإنسان)، مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى سنة 2001م، ص:55.

[15] – جاك لومبار: نفسه، ص:13-14.

[16] – كلود ليفي شتروس: الأنتروبولوجيا البنيوية،ترجمة: حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1995م، ص: 375-376.

[17] – مارك أوجيه وجان بول كولاين: نفسه، ص: 81.

 

المصدر: صحيفة المثقف

http://www.almothaqaf.com/a/b6/931857-%D9%85%D9%82%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AB%D9%86%D9%88%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.