كيف ينفك العراقي من أسر الجغرافيا؟

iraq

قراءة في كتاب الجغرافية الشقاقية لثامر عباس

يحيى بوزيدي*

حقل الجغرافية السياسية من الحقول المعرفية التي لا تحظى باهتمام كبير في الأوساط الأكاديمية العربية، والانتاج العلمي في هذا المجال محدود جدا ونادر، وتقتصر الاصدارات فيه على الأطر النظرية دون الدراسات التطبيقية، وكتاب الجغرافية الشقاقة لثامر عباس من الأعمال القليلة التي تجاوزت ذلك، من هنا تأتي أهمية هذا المؤلف، الذي جاء في ستة فصول شغلت ستة مائة وأربعة وأربعون صفحة من حجمه.

بلاد الرافدين في الكتابات العراقية

يستعرض المؤلف في البداية جملة من الأفكار الجغرافية في كتابات عراقيين من مختلف التخصصات وفي مقدمتهم الجغرافي شاكر خصباك الذي قسّم العراق إلى ثلاثة أقاليم (الشمالي والوسطي والجنوبي) والتي تتمايز عن بعضها بخصوصية تضاريسية ومناخية ونباتية وأخرى ديمغرافية (توزيع سكاني) وأنثروبولوجية (تنوع إثني وديني) وسوسيولوجية (تراتب اجتماعي وقيمي) والأخيرة هي حصيلة تنوع عوامل الطبيعة الجغرافية لتلك الأقاليم وانعكاسات ذلك التباين والتنوع على الجماعات البشرية التي تقطنها. من جانبه كشف عالم الاجتماع علي الوردي عن جدليات الصراع بيت “البدوية” و”المدينية” داخل سيكولوجية الأفراد والجماعات على حد سواء، حيث يحصل ما يصطلح عليه بـ”المد الحضاري” داخل بنية الدولة عندما يكون المجتمع تحت تأثير (القيم المدينية) ومتناغم معها، ويأتي “الجزر الحضاري” عندما تتمكن (القيم البدوية) من غزو المجتمع والسيطرة على وعي مكوناته. وبدوره يدلي المؤرخ سيار الجميل بدلوه في الموضوع وإن يظهر بعض التعارض في كتاباته حين يقر بالتمايز المجتمعي نتيجة للتنوع الجغرافي إلا أنه ينفي ذلك في مواضع أخرى بتأكيده على وثاق الرافدين (دجلة والفرات) الذي يحول دون تقسيم العراق إلى كيانات قزمية متعددة. فاضل الربيعي له كلمته أيضا حيث يرجع ثقافة الحزن والبكاء الشائعة في المجتمع العراقي إلى ترسبات أسلافهم السوماريين والبابليين والأكديين الذين أسسوا لتلك الثقافة بطقوس فاجعة موت إله الخصب الأسطوري “تموز”، والتي هي في جوهرها نابعة من تداعيات الجغرافيا ومضاعفتها على مكونات السوسيولوجيا وسردياتها عبر مظاهر (جدب الأرض) وما ينجم عنها من جهة و(غضب السماء) وما يترتب عليها من جهة أخرى. وهي الفكرة نفسها التي يتقاطع فيها مع شاكر شاهين وطه باقر في التأكيد على دور العوامل الجغرافية والظروف البيئية في حضارة وادي الرافدين التي لم يقتصر تأثيرها على أطر الاجتماع ونظم السياسة وبنى الوعي وأنماط السلوك فحسب وإنما طالت كذلك تجليات الدين وتمظهرات التدين، ولكل منهم أمثلته التي ضربها لتأكيد رأيه، ويذهب الناقد الأدبي ياسين النصير إلى أبعد من ذلك حين ينسب الابداع الروائي وغيره من الكتابات الأدبية إلى الجغرافيا كون المكان هو الكيان الاجتماعي الذي يحتوي خلاصة التفاعل بين الانسان ومجتمعه وبهذا فإنه كأي انتاج اجتماعي آخر يحمل جزءا من أخلاقية وأفكار ووعي ساكنيه.  أما رشيد الخيون فيدلل على وحدة العراق ككيان جغرافي من اسمه الذي يعود إلى عصور قديمة على الأقل قبل زمن طويل عن الانتداب البريطاني في بدايات القرن العشرين. ويوافق المؤرخ عبد العزيز الدويري الخيون بتفسيره اسم العراق بمعنى السواد وهي الكلمة التي تشير إلى الأراضي الغرينية التي تكوّن عامة أراضي منطقة العراق. ويرى فالح مهدي أن الجغرافية العراقية التي كانت مهدا للحضارة البابلية والسومرية ولكونها منطقة زراعية جعل منها المصدر الأول لبزوغ علاقات وذهنيات الحيّز (العمودي/الدائري) والتي تعتبر ما ينتمي لمجال الجماعة المحدد في أسوار مدنها (الحيز الجماعي المغلق) المتقوقع والمنعزل إزاء الآخر المختلف، الأمر الذي يتمخض عنه تبلور نزعة تنم عن تعالي الأنا الجمعي والإحساس بالتفوق الحضاري.

يجعل الباحث من جل هذا الاشارات لتأثيرات الجغرافية على العراق من مختلف النواحي دليلا استرشاديا ويتعمق في عرض تلك الأفكار وغيرها في الفصول التالية.

المجتمع العراقي والحتمية الجغرافية:

يرى الكتاب أنه رغم التطورات التي عرفتها الجغرافية العراقية عبر عصور قديمة جدا يفترض أنها تجعل من المجتمع العراقي أكثر تحضرا لاستفادته من كل تلك التجارب، غير أن الواقع على عكس ذلك تماما، حيث تظهر الشخصية العراقية المتأزمة شكلا من الحتمية الجغرافية التي تبقي على مكوناته متنافرة وتفاعلاتها مضطربة ويتجلى ذلك في الصراعات السياسية والتورات الاجتماعية، لا سيما وأن لكل جماعة وعيها التاريخي الخاص لترتكز عليه وذاكرتها المكانية المميزة لتحتكم إليها وسردياتها الثقافية المتفردة لتحاجج بها. وتنوع الطوبوغرافيا الإقليمية واختلاف الأنظمة الأيكولوجية لتلك الأقاليم (الشمالية والوسطى والجنوبية)، لم يحد فقط من مسارات التطور الحضاري للجماعات العراقية وفقا لخصائص البيئات التي تقطنها فحسب، بل وكذلك أطرت خياراتها على صعيد التوجهات الثقافية، وكيّفت سلوكياتها على مستوى العلاقات الاجتماعية، ودمغت بالتالي أنماط شخصيتها بالطبيعة المزاجية المتوترة والتعصبية الضيقة.

يستطرد في ذلك بالحديث عن دور العامل التضاريسي في تركيز المجموعات السلالية في جهات معينة من المنطقة؛ فاستأثرت المجموعة الكردية باستيطان منطقة الجبال العالية واحتفظت بمميزاتها الاثنولوجية والاثنوغرافية عبر آلاف السنين محتمية بوعورة أرضها. واستأثرت المجموعات العربية بالجهات المنبسطة التي تكاد تكون امتدادا طبيعيا لصحراء جزيرة العرب. وخلقت المجموعة السريانية لنفسها جيوبا في المنطقة الجبلية واحتمت بها ما أمكنها ذلك. أما المجموعة التركية-التركمانية فقد انتشرت في شكل تجمعات استيطانية في منطقة الهضاب والتلال تمتد على هيئة خط مائل يفصل الجهات الجبلية والجهات السهلية على امتداد خط التجارة الرئيسي بين الجنوب الشرقي والشمال الغربي. وفي الوقت نفسه أصبحت منطقة الهضاب والتلال أو المنطقة الشبيهة بالجبلية وهي المنطقة الانتقالية بين الأراضي الجبلية الوعرة في الشمال والسهول الفسيحة في الجنوب، موطنا لاختلاط المجموعات السلالية المختلفة واحتكاكها ببعضها. وبقدر ما شهد الاقليم الشمالي ظاهرة “التمركز المكاني” و”الانعزال الاقليمي” للجماعات السكانية المتباينة الأصول والسلالات، استجابة لضرورات العامل الجغرافي وشروطه المناخية والبيئية، بقدر ما اضطرت الجماعات السكانية القاطنة في المناطق الوسطى والجنوبية إلى الخضوع لظاهرة “التحول المكاني” و”التخالط الجغرافي”، بناء على ما تفرضه التغيرات الدورية لمسار نهري دجلة والفرات، والتي تمخضت عن معطيات ظاهرة الاطماء.

كما لعبت عمليات سلخ بعض المناطق الجغرافية من الحيّز الإقليمي الطبيعي للعراق وانتقال سيادتها إلى دول الجوار؛ إما نتيجة للحروب الخارجية التي كان العراق –ولا يزال- مسرحا لها، وإما على خلفية المساومات السياسية والتوافقات المصلحية، دورا تخريبيا بالنسبة لنضوج الشخصية الاقليمية وصيرورة الذاكرة المكانية، والتي من دونها يبقى الوعي الاجتماعي قاصرا ومتخلفا عن إدراك الأهمية المصيرية للإقليم الجغرافي الوطني، وتبقى بالتالي سيكلوجيا الجماعات قابلة للتشظي وسهلة التفكك إلى جغرافيات أقوامية متباغضة وطوائفية كريهة.

عنف الايكولوجيا العراقية وقسوتها

أيكولوجية العراق العنيفة تظهر في جغرافيته التي حتمت عليه أن يعاني؛ إما (شحة) متطرفة في سقوط الأمطار يكون من عواقبها زيادة معدلات الجفاف والتملح، وإما هطول مفرط غالبا ما تسبب بحدوث فيضانات اجتاحت المدن واكتسحت القرى. وقد نجم عن هذه الحالة المأساوية أضرار اجتماعية واقتصادية ونفسية وحضارية. فالتملح جعل استمرار زراعة الأرض مستحيلة والسكن فيها متعذر، الأمر الذي يضطر لمغادرتها بحثا عن مكان آخر تتوفر فيه الشروط المطلوبة ليبدأ دورة حياة من جديد. وعليه فإن عملية التنقل المتواصلة هذه لا تتيح للعراقي بناء علاقة وجدانية مع المكان، طالما أنه على يقين مسبق بأن مكوثه فيه مؤقت وأن مشروع مغادرته قائم في أي لحظة.

جغرافية الأحزان

وجود ظاهرة الحزن والبكاء في الثقافة العرقية يعبر عن مشاعر الهلع والاحساس بالفجيعة إزاء (المصير) المقترن بالتهديد الوجودي. (لاسيما وأن علة التشاؤم النافذ في التفكير في أرض النهرين تكمن جزئيا في عدم ثبات الحياة في دول المدن، التي كانت تحت رحمة سورات الفيضان أو الجفاف ومشاغبة الجيران. وعليه فإن تاريخ المجتمع العراقي –لعل الحاضر لا يختلف كثيرا- المليء بوقائع الصراعات البينية وأحادث الحروب الخارجية، فضلا عن تطرف البيئة الأيكولوجية وقساوة الظروف المناخية وغيرها من الوقائع العنيفة، لم يعدم أن يقدم كل الأسباب والمبررات التي تجعل من تلك الظاهرة الانسانية رفيق دربه وتوأم حياته.

التمدن والبداوة

الخصوصيات التي تميز المدن التي نشأت على ضفاف نهري دجلة والفرات مقابل البادية التي تعيشها قبائل تكونت من رحم الصحاري وفي خضم مناخاتها القاسية في حرّها والمتطرفة في جفافها، الأمر الذي ترتب عليه أن تصبح الأولى (المدن) محط أطماع الثانية (البوادي) ومناطق جذب لغزوات قبائلها البدوية على الدوام. ومصادر العداء التاريخي ومظاهر الصراع الحضاري بين الطرفين/الجانبين المتعارضين لن تكون متوقعة الوقوع فحسب بل وحتمية كذلك؛ فقد ساهمت قساوة المعطيات الأيكولوجية وعنف عناصرها المناخية، بشكل كبير في إرساء دعائم ظاهرة البداوة ضمن إطار البيئة الاجتماعية العراقية، وأفضت إلى تمكين علاقات التغالب وقيم المفاضلة لا في أنماط السلوك اليومي المجسد، بل وفي بنى الوعي التقليدي المجرد؛ للحد الذي جعل سكان المدن والقرى يعيشون حالة دائمة من الاستنفار والترقب، حيال الهجمات والغزوات المتوقع شنها من قبل تلك القبائل على مكونات الديمغرافيا المدينية والقروية بشكل دوري، على خلفية ما تتجشمه عناصرها البدوية من مكابدات يومية وما تتحمله من معاناة مستمرة، جراء خضوعها لتقلبات ظروف المناخ القاسية وتأثرها بعوامل البيئة العنيفة. وهو الأمر الذي أبقى مقومات الحضارة في وضعية مستديمة من الضعف والهزال إزاء قوة وشراسة مكونات البداوة التي لم تفتأ تتغذى على معطيات محيطها الصحراوي وبيئتها الميالة إلى الجفاف.

الدين والجغرافيا العراقية

انطلاقا من اجماع مؤرخي الأديان والحضارات أن وادي الرافدين تمثل باكورة الحضارات البشرية، التي نشأت فوق جغرافيتها أولى المدن وأقيمت فوق ربوعها أولى المعابد. فإن أسس بناء تلك العلاقة التكافلية تمت بين المعبد والقصر – القلعة تكون قد وضعت هناك في بداية الأمر، قبل أن تتحول إلى ظاهرة عامة لتغزو بقية الحضارات الأخرى التي لم تلبث أن تبنت واستوعبت الكثير من انجازات ومعطيات الحضارة الرافدينية. ولأن الدين بالنسبة للإنسان العراقي كان ولا يزال لصيقا بالسياسة كما لو أنه توأمها السيامي، فقد استمر ينظر إلى الجغرافيات الدينية (المعابد والمساجد والأضرحة) والسياسية (الحصون والقلاع والقصور) بمثابة أمكنة غريبة وخارجة عن اشتراطات واقعه الجغرافي المعاش، وبالتالي فهي غير معنية بحساب تصنيفه كأمكنة خاصة لها وظائف محددة ضمن تضاريس الجغرافية الوطنية.

يرى الكاتب أيضا أن من أخطر العواقب السياسية والمثالب الاجتماعية التي تمخضت عن مبدأ (الجهاد) الإسلامي، على صعيد تسويغ عمليات (الغزو) العسكري وتبرير سياسات (الفتح) للجغرافيا العراقية، تكمن في وضع مكوناتها الديمغرافية على مفترق طرق كارثية لم تبرح تتجرع مرارتها وتكتوي بنيرانها؛ تمثل الأول ليس فقط في تقسيم الجغرافيا على أسس قبلية وعشائرية صرفة، وإنما في إذكاء وإبقاء حدة الحساسيات بين تلك الكيانات القائمة على علاقات الغنيمة والاستزلام، هذا في حين تمثل الثاني في تأسيس وتكريس ما بات يعرف بالصراع المذهبي/الطائفي الذي لم يفتأ –كما لو أنه نار أزلية- لهيبه مستعرا لحد الآن.

واقعة سوسيولوجية عراقية بامتياز وهي ظاهرة الشخصنة للجغرافيا التي لم تقتصر فقط على الشخصيات السياسية (خلفاء وسلاطين وملوك) فحسب، وإنما شملت –لعله الأهم والأخطر- الجماعات الأصولية (قبائل وأقوام وطوائف). بحيث لم يكتفي بتقسيم وحدة الجغرافيا العراقية على أسس من الإقليمية الثقافية والحضارية التي تعكس التنوع الأقوامي/الإثني والتعدد الديني/المذهبي، والتباين اللغوي/اللساني، وإنما جعلت هويتها ترمز إلى كونها مناطق/أماكن تخص (الأكراد والشيعة والسنة)، بدلا من خصائصها الطوبوغرافية ودلالاتها الأيكولوجية التي تتميز بها ويعرف عنها كما ينبغي أن يكون.

الحروب

من جملة المفارقات العجيبة والغريبة التي حضيت بها بلاد ما بين النهرين؛ هي أنها بقدر ما اعتبرت الأولى في مضامير الإشادة لمعمار الحضارة، والإقامة لصرح التاريخ، والاهتداء لصراط الدين، والاختراع لفضيلة الكتابة. فهي وبالقدر ذاته الأولى في ميادين خوض غمار الحروب والانخراط في حمى الصراعات. وبالرجوع إلى تاريخ الجغرافيا العراقية نجد أنها كانت –ويبدو أنها ستبقى كذلك- بمثابة دريئة عارية لكل طاعن وهدف مباح لكل ماجن، للحد الذي أنه لا يوجد عصر من العصور التاريخية القديمة والحديثة يخلو من الإشارة –بهذا القدر أو ذاك- إلى ابتلاء هذه الجغرافيا بشتى صنوف الحروب الخارجية ومختلف ضروب الصراعات الداخلية، والتي تمخضت عنها وترتبت عليها مجموعة من الظواهر السياسية والاجتماعية والنفسية السلبية التي لم تبرح تنوء بحملها مكونات الديمغرافيا العراقية كما اللعنة الأبدية؛ ليست حالات الانسلاخ عن الأمكنة والانزياح في الهويات النموذج الوحيد في هذا السياق ولن يكون الأخير بكل تأكيد. ويؤكد ثامر عباس أنه منذ تحول الجغرافية العراقية من (الموضع الطبيعي) إلى حالة (الموقع) الجيوبولتيكي، محكومة بواقعة صراع المركزيات الحضارية وتنافسها سواء منها الداخلية أو الخارجية. ويرى أنه على العراقي أن يدرك أنّ ما يعانيه اليوم كما الأمس أو غدا، ليس فقط بسبب أخطاء التاريخ واخفاق الساسة فحسب؛ إنما ناجم بالدرجة الأولى عن تكوين الجغرافيا وتهجين الديمغرافيا.

الهوية الوطنية:

تواجه الهوية الوطنية العراقية العديد من التحديات من منظور جغرافي، ففي تصور الكاتب أنه كلما ساءت العلاقات الاجتماعية ونشطت الصراعات السياسية، وتوترت الحدود الجغرافية، كلما تصدعت بنية الوعي، وتقاطعت أنساق الثقافة، وتناثرت أيقونة الهوية. بحيث لم تلبث تلك الأحوال المضطربة والأوضاع المرتبكة أن مهّدت السبل ويسّرت المحاولات أمام جحافل الغزاة والطامعين من جميع الاتجاهات والمشارب للشروع بعمليات غزو جغرافية العراق واجتياح مدنه واحتلال أرضه ونهب ثرواته. ومنظومات القيم القبلية التي عاش الانسان العراقي وتربى تحت وصايتها أجيالا متوالية، لازالت فاعلة ومؤثرة لا في أطر علاقاته الشخصية الاجتماعية فحسب، بل وكذلك في أنماط تصوراته وأخلاقياته؛ بحيث يبقى احساسه بالمكان إحساسا مفتقرا إلى الذاكرة المشحونة بتراكم التجارب والممارسات من جهة، ومشدودا إلى الآنية البراغماتية التي تمنحه الشعور بالاطمئنان لحالة (اللاتوطن) الناجمة عن ماضي الترحل واللااستقرار من جهة أخرى.

ومن أبرز مظاهر هذا الانفصام الهوياتي ما كان يحصل في المناطق الحدودية حيث شاعت ظاهرة انتقال تابعية الأطراف الاقليمية الشمالية والجنوبية تحديدا لجهة انتمائها الجغرافي وولائها السياسي؛ فتارة تميل لجانب الدولة الفارسية، وتارة أخرى تنقلب لجهة الدولة العثمانية، على وفق حركة بندول قوة المركز واشتداد قبضته وارتفاع هيبته. فما أن تستشعر تلك الأطراف إن قبضة بغداد (العثمانية) قد تراخت وأن زمام الأمور قد أفلت من بين يديها، حتى تسارع لرفع راية العصيان ضد سلطة المركز وتشرع بمغازلة الجانب الفارسي للانضواء تحت جناح سيادته والاحتماء بظل قوة سطوته، هذا في حين تنقلب الأمور رأسا على عقب ويحصل العكس تماما عندما تخل موازين القوى ويتحول مجرى الأحداث لصالح سلطة المركز في بغداد.

ونتيجة لتلاشي ملامح الجغرافيا الوطنية واندثار معالم تضاريسها من حقل تصورات الديموغرافيا العراقية، مثلما تقلص فضاء سيادتها وتراجعت أهمية حدودها، لصالح أمكنة/أقاليم محلية منعزلة اثنيا ومتقوقعة طائفيا ومتخندقة قبليا، بحيث أضحت الأولى مجرد صدى يتردد في أروقة المخيال المحتقن بالعداء والذاكرة المجيشة بالكراهية، بينما تولت الثانية مهام الدلالة على الانتماء الأصيل وتبوأت مقام الإشارة إلى الولاء الحقيقي. يستدرك الباحث في هذا السياق ويشير إلى أنه من الجحود ومجانبة الصواب نكران دور الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكمه وتوافقت على تنميطه، فيما يتعلق بإهمال هذا الجانب الحيوي والحساس من تكوين شخصيته الاجتماعية وبلورة هويته الوطنية، خصوصا لجهة اسقاط قيمة الأمكنة التي تختزن الذاكرة التاريخية للناس مثلما تحتضن تجاربهم الحياتية وعلاقاتهم الاجتماعية عبر توالي الأجيال وتراكم الزمن.

الجغرافية وبنية الأنظمة السياسية

حتّمت الجغرافيا على الدولة أن تتبنى نظاما سياسيا يتصف بالشمول الاستبداد، سواء عبر استحواذها على معظم الأراضي الزراعية أو عن طريق تحكمها بأنظمة الري، والتي كان وجودها يشكل ضرورة قصوى ليس فقط للاقتصاد الذي تديره الدولة فحسب، بل وكذلك لوجود المجتمع الذي تحكمه السلطة. وحسب المؤلف فإنه منذ أن تبلورت ما يسمى بدويلات –المدن في العراق القديم؛ نادرا ما استطاعت سلطة سياسية محلية كانت أم أجنبية حكمت الديموغرافيا العراقية، أن بسطت سيطرتها المطلقة وفرضت سيادتها الشاملة على كامل الأراضي الوطنية التي تقع ضمن إطار حدودها الجغرافية.

الخلاصة:

يبدو أن الباحث متأثر بالمدرسة الألمانية التي تولي أهمية كبيرة للعامل الجغرافي ودوره في التأثير على الانسان من مختلف النواحي وتقييده له، وفي إطار نسجه لخيوط العلاقة الارتباطية بين الجغرافيا والانسان العراقي وكيف عملت على تشكل شخصيته الوطنية كان في الكثير من المواضع يجزم بأن تلك المظاهر الاجتماعية والثقافية التي ارتسمت بين تضاريس المجتمع العراقي في الماضي والتي يعيش الكثير من تجلياتها في الحاضر ستبقى لصيقة به، وسيكون من المحتم عليه إعادة تكرارها في المستقبل.

بكل تأكيد هناك الكثير من القرائن والحقائق التي تدعم أطروحة الباحث ويشاركه فيها الكثير من الكتاب من مختلف التخصصات ومن يحاول تجاوز هذه الحتمية تكون قراءته مشوبة بالعاطفة والذاتية على غرار سيار الجميل، ولكن مع ذلك يمكن للإنسان العراقي تجاوز هذه الحتميات مثله مثل غيره من الشعوب ويبقى السؤال الجهوري: كيف ينفك العراق من الجغرافيا؟ ربما تكون الإجابة في الحراك الشعبي الذي يشهده البلد حاليا!؟

*أستاذ العلوم السياسية الجزائر

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.