كتاب بؤس البنيوية…؟!

سلام مراد

structuralism

الكتاب: بؤس البنوية، الأدب والنظرية البنيوية

الكاتب: ليونارد جاكسون، ت. ثائر ديب
الناشر: دار الفرقد دمشق 2009م.

إن البنيوية في معناها الواسع، هي دراسة ظواهر مختلفة كالمجتمعات، والعقول، واللغات، والآداب، والأساطير، فتنظر إلى كل ظاهرة من هذه الظواهر بوصفها نظاماً تاماً، أو كلاً مترابطاً؛ أي بوصفها بنيةً، فتدرسها من حيث نسق ترابطهما الداخلي لا من حيث تعاقبها وتطورها التاريخيين. كما تُعنى أيضاً بدراسة الكيفية التي تؤثر بما بنى هذه الكيانات على طريقة قيامها بوظائفهما.
أمّا في معناها الضيق والمألوف، فالبنيوية محاولة لإيجاد نموذج لكلِّ من بنية هذه الظواهر ووظيفتها على غرار النموذج البنيوي للغة، وهو النموذج الذي وضعته الألسنية في أوائل القرن العشرين. ففي حين عمل الفلاسفة وعلماء الاجتماع، ونقاد الأدب على دراسة اللغة من وجهات نظرهم المختلفة وتبعاً لغاياتهم المتباينة، نجد أن الألسنيين قد درسوا اللغة بذاتها ولذاتها. ويمثل كتاب فرديناند دوسوسور محاضرات في الألسنية العامة (1916)”، هو نسخة باكرة من النموذج البنيوي للغة كان لها أثرها البعيد. أما محاولات تطبيق هذا النموذج على الأدب فتعود إلى عام 1928، حين وضع كل من جاكوبسون وتينيانوف برنامجاً بهذا الخصوص وكانت تلك بداية البنيوية الأدبية.
ـ طور البنيوية الخلاّق: الثلاثينيات
ثمة أطوار أربعة أساسية مرّت بها الحركة البنيوية، على الرغم من عدم دقة الفصل الزمني بين هذه الأطوار.


وقد كان الطور الأول، والأطول من تاريخ الألسنية، حيث قدّمت البنيوية واحداً من أشد أطر النقاش النظري لفتاً للانتباه في الألسنية منذ أيام سوسور وحتى مجيء القواعد التوليدية في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين. ومن المفارقات الساخرة في تاريخ هذه الحركة أن هذا الإطار الخاص بالألسنية، والذي ارتكزت إليه غالبية التطورات البنيوية غير الألسنية، قد تمت الإطاحة بها تماماً قبل وقت قصير من تحول البنيوية إلى ضرب من الجنون العام في فرنسا.
أما الطور الثاني، الذي يعود في التاريخ إلى أواخر العشرينيات، فقد كان محاولة طموحة لتطبيق المبادئ البنيوية على كامل حقل الألسنية وكذلك على الأدب. ويمكن القول إن الشكلانية الروسية كانت السلف لهذه الحركة على صعيد النقد الأدبي.
كما يمكن القول إن شكلانياً روسياً مثل شكلوفسكي عام 1914، يشبه من بعض النواحي شخصية مثل عزرا باوند في إنجلترا الفترة ذاتها. وفي خلفية المشهد كان ثمة حركات حديثة كالرمزية والمستقبلية في الشعر طرحت بعض المشاكل النقدية ودفعت للبحث فيها. ويبدو أن النقلة الأساسية في هذا الاتجاه قد تمثلت في رفض كل ما هو خارجي بالنسبة للعمل الأدبي، سواء كان التاريخ، أو المجتمع، أو نفسية المؤلف أو شخصيته، والنظر إلى العمل الفني بحد ذاته، وبوصفه شيئاً مصنوعاً. وكان من الطبيعي أن تشتد هذه الحاجة كثيراً مع بداية ثورة اجتماعية راحت تخلق فناً جديداً لم يعد مجرد دعوة لخلق مجتمع جديد، بل جزءاً من خلق هذا المجتمع؛ ذلك أن عالماً جديداً يحتاج لأن يشتمل على أشياء جديدة.
وعلى هذا الأساس فقد ولدت الحاجة لإدراك الأهمية الفائقة للعمل الفني، أو الشيء المصنوع، مقابل ضآلة شأن المادة النفسانية أو السياسية، أو القيمة، أو الحافز، مما صنع منه العمل وخروجه خارج مدار البحث من الناحية الفنية. كما ولدت إمكانية الدفاع عن موقف أشدّ جذرية بَعدُ مفاده أن كل شيء، بما في ذلك موضوع البحث، وخاصةً إذا ما كان شخصياً وسياسياً، ما إن يدخل في عمل أدبي حتى يصبح صنعة أدبية، ويحكم عليه على هذا الأساس؛ إذ أن موضوع البحث الموجود في العمل الفني لا ينفصل عن هذا العمل. وما كان محورياً بالنسبة للشكلانية (التي تلتقي في هذا الصدد مع أفكار ت.س. إليوت 1919) هو حدسها بأن “العمل الفني وحدة جمالية خاضعة لقوانينها الخاصة” ولكن ما هي هذه القوانين؟ أو ما الذي يشكل الأدبية، كما قال جاكوبسون في عام 1919؟. يتمثل ما قدّمته البنيوية (في الإجابة عن هذين السؤالين) في إمكانية وجود إيحاءات في بنية اللغة ذاتها تشير إلى ما يمن أن تكون عليه هذه القوانين، وإلى المكان الذي يمكن أن تكون الأدبية قابعةً فيه. ومع أن هذين السؤالين متكافئين من حيث المبدأ، إلا أن هنالك اختلافاً هاماً في درجة إلحاح كل منهما، ممُا يؤدي في النهاية إلى نمطين مختلفين تماماً من الإجابة. فحين تبحث عن الأدبية، الأرجح أن تبحث عنها في لغة الأدب. وهذا هو الطريق الذي اتبعه جاكوبسون على وجه العموم.
وهو طريق واسع معَبَّد بالدراسات المفصّلة في علم الأصوات والنظم الشعريّ، وفي القواعد والنظم الشعريّ، وهلمَ جّرا.
وهو طريق يفضي إلى تطوير الأسلوبية الألسنية. وقد أفضى بجاكوبسون نفسه في النهاية إلى إعلان أنّ الشعرية فرع حقيقي من فروع علم الألسنية (وكان ذلك في عام 1958، حيث كان مقيماً في أمريكا) (جاكوبسون، 1958 في سيبيوك 1960).
وفي عام 1928، أثناء زيارة قام بها تينيانوف لجاكوبسون في براغ، تّمت كتابة البيان البنيوي الأصيل تحت عنوان “إشكاليات في دراسة اللغة والأدب”، وكان ذلك باللغة الروسية (أورده ماتيجكا وبومورسكا 1971؛ جاكوبسون 1985) ففي ذلك الحين كانت الشكلانية تعاني بعض الضغط السياسي. وكان جاكوبسون قد غادر موسكو إلى براغ عام 1920، حيث أسلم في تأسيس حلقة براغ الألسنية التي خلفت حلقة موسكو الألسنية. ويبدو هذا البيان من نواحي شتى أشبه بوثيقة سياسية، لما فيه من دفاع عن الاستقلال الذاتي لكل من البنية الأدبية والتاريخ الأدبيّ، في مواجهة إلحاح الماركسية الروسية على أن كليهما انعكاسٌ، مباشر وفجّ، للقاعدة الاقتصادية.
وفي خلفية مثل هذه الأطروحات رغبةٌ في إبعاد تاريخ الأدب عن التبعية الشديدة تجاه التاريخ الماركسي الرسمي للمجتمع.
ـ النموذج الألسني الجاكوبسوني.
ولدت البنيوية الفرنسية في نيويورك عام 1942. فجاكوبسون كان قد فرَّ من النازية إلى اسكندنافيا في البداية، ثم إلى أمريكا بعد ذلك، حيث وجد المؤسسة الألسنية غارقةً في أشد مراحل السلوكيّة سوقيّة وابتذالاً، وأبعد ما تكون عن الاحتفاء بباحث أجنبي مميز. غير أن المدرسة الحرّة للدراسات المتقدّمة، التي كانت قد أنشئت حديثاً بهيئة تعليمية قوامها منفيون فرنسيون وبلجيكيون قادمون من المناطق المحتلة ومن فرنسا فيشي، قدّمت له كرسياً في الألسنية العامة، فشرع يلقي محاضراته في الصوت والمعنى باللغة الفرنسية (جاكوبسون 1976).
وقد لعبت سلسلة المحاضرات هذه دوراً عظيماً في طور البنيوية الفرنسي، إذ كانت أول من عرّف كلود ليفي شتراوس على الألسنية البنيوية، الأمر الذي اعترف به هو نفسه في التقديم الذي كتبه لهذه المحاضرات حيث نُشِرت بعد ثلاثين عاماً على إلقائها، وعبر فيه عن شكره وامتنانه. ولذلك فإن من المفارقات الغريبة الساخرة أن تجد بعض أفكار سوسور التي اعتبرها جاكوبسون أخطاءً صريحةً وقد وردت بوصفها مسلّمات لا تقبل النقاش لدى التقليد البنيوي اللاحق مع أن هذا التقليد ينبع جزئياً من عمل جاكوبسون.
في تلك الفترة كان جاكوبسون في أوجه، ألسنياً عظيماً، وواضع نظرية السمات المميزة في علم الأصوات، والمشتغل خلال حياته الطويلة جداً على الاستعارة والحبسة (وهي اضطراب عقلي غالباً ما ينجم عن أذية دماغية ويؤثر على استخدام اللغة) كما اشتغل أيضاً على الحكايات الشعبية وعلى تحليل الشعر.
وظل جاكوبسون بلا جدال واحداً من أبرز دعاة البنيوية وأشدّهم بأساً على الإطلاق، ليس لأنه كثيراً ما عبّر عنه إيمانه بإمكانياتها الكبيرة وحسب، بل لأن منجزاته المتنوعة جداً كانت دليلاً على وجود هذه الإمكانيات فعلاً، ومن غير جاكوبسون، ما كان لليفي شتراوس أن يصير بنيوياً قطّ؛ ومن غير ليفي شتراوس، لعلّ الفرنسيين ما كانوا ليسمحوا بهذه الفكرة مطلقاً.
الطور الفرنسي: انهيارات البنيوية
ليفني شتراوس، لاكان، ألتوسر، فوكو، ديريدا.
يبدأ الطور الفرنسي للبنيوية في الأربعينيات مع تكييف ليفي شتراوس أعمال جاكوبسون بحيث تتوافق مع الأنثروبولوجيا، وربما مع تكييف لاكان بعض المصطلحات السوسورية في الخمسينيات بحيث تتوافق مع طبعته الخاصة من التحليل النفسي.
وقد بلغ هذا الطور ذروته في أوائل الستينيات وكان آنئذٍ ضرباً من الجنون الفكري طغا على كل المباحث التي أمكنه أن يطالها من التاريخ حتى الرياضيات، جنون يصعب إيجازه.
أما العناصر الألسنية في هذا الطور فلم تكن في الغالب أكثر من نثار متفرّق من الرطانة.
في حين تمثل الحدث اللافت بالنسبة للنظرية الأدبية في محاولة التوليف بين النموذج الألسني وفلسفة الذات الإنسانية التي عرفت في فرنسا، حيث تم تفسير العقل والمجتمع بوصفهما أثرين لبنى ألسنية في الغالب.
كما شهدت هذه الفترة إعادة تصّور سوسور بوصفه فيلسوفاً. وحوالي عام 1967، كان انهيار المشروع البنيوي، بتأثير لاكان، وديريدا، وغيرهما، وبتأثير الأحداث السياسية، ليعقب هذا المشروع تشكيلة متنوعة من ما بعد البنيويات التي انتشرت في جميع أرجاء أوروبا وأمريكا.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.