قراءة إمبريقية في أنثروبولوجيا الشبكة العنكبوتية

عماد خالد رحمة

ما تزال الإنثروبولوجيا (علم الإنسان) تواجه تحدياتٍ عديدةٍ، لتنامي وتطور المجتمعات البشرية عبر سيرورتها التاريخية، ومنذ صيرورتها الأولى، فإذا تم الإقراربشكلٍ لا يَدَع مجالاً للشك في مجالِ التحوّل النوعي لطبيعة المجتمع ذاته ومكوناته.
في حقيقة الأمر أنَّ العالم لا يزال مستمراً بالتطور، لكن تطوره خلال مسيرته التاريخية السابقة كانت بطيئة للغاية، فقد شهد العالم منذ بدء التاريخ البشري الإنساني

ولأول مرة، تغيّرالسمات العامة والخاصة للتواصل الإنساني بشكلٍ مكثف ونوعي في عصرنا الحالي، ليتجلى مفهوم المجتمع ومدلوله بمعناه المباشر الذي عرفناه، مفهوماً قديماً إلى حدٍ كبير، بعد منافسة المجتمع الذي استخدم الشبكة الأليكترونية العنكبوتية له، الذي فرض نفسه بقوة، بشكلٍ متزايد إثر الانفجار المعلوماتي العولمي الكوني الذي أحدثته الثورة الصناعية الرابعة في العالم، بما قدّمته من منتجات أليكترونية وبرامج ذكية، هائلة في قدراتها في مجالي التقانة والاتصالات، واستخدام الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وهي المرة الأولى أيضاً التي تشهد فيها البشرية هذا القدر الهائل من التواصل السريع والمباشر ودون انقطاع، عبر الفضاء الإلكتروني الواسع، والمرشّح يومياً لحدوث طفرات تواصلية جديدة شديدة السرعة وقادرة على نقل كميات هائلة جداً من المعلومات.
في هذا السياق لا يمكننا أن نقول أنّ هناك أية مبالغة إذا ذكرنا إن المجتمع الشبكي (مجتمع الشبكة العنكبوتية ـ الإنترنت ـ ) يمثّل روح العصر ووجدانه الذي نعيشه منذ مطلع تسعينات القرن العشرين الماضي، وذلك ضمن ما أطلق عليه اسم (الحداثة المتواصلة)، بما تتضمنه من تناقضات واختلافات ومتشابهات، أو حتى بما تتضمنه من تحوّلات كبيرة في العلاقات الإنسانية نفسها، علاقة الأفراد بعضهم ببعض وعلاقة الأفراد بالمجتمع، وعلاقة الأفراد والمجتمع بالدولة أو الدول، محمولة على تحوّلاتٍ عميقةٍ في بنية النظام الرأسمالي، أو نظام التَموّل، الذي فرض نظاماً اقتصادياً يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وخلق السلع والخدمات لأجل الربح . وتحوّلات موازية في العلاقة بين الفرد والمجتمع، والانتقال من مركزية الفرد وفرادنيته التي بدأت بترسيخ نفسها بشكلٍ لافت منذ القرن الثامن عشر إلى فردانية متمحوِّرة على ذاتها ولها كينونتها الخاصة في المجتمع الشبكي.(مجتمع الشبكة العنكبوتية ـ الإنترنت ـ) .إزاء هذه الروح الجديدة والمتجدِّدة لعصرنا الحالي الذي نعيش.
لقد واجه علماء الإنثروبولوجيا (علم الإنسان) العديد من التحديات، فإذا تم التأكيد التام على التحوّل النوعي للمجتمع ذاته وطبيعته الخاصة به، من حيث التأثّر والتأثير كعلاقة جدلية، متساوقة ومنسجمة ،ومختلفة ومتعارضة فيما بينها، فإن تحليل العلاقات في المجتمع الشبكي (مجتمع الشبكة العنكبوتية ـ الإنترنت ـ)، وما توجده من أنماط ثقافية ومعرفية استهلاكية ،ووضع مجموعة من الإجراءات المتتابعة والمنطقية، والتي تستهدف دراسة موضوع علمي من خلال المناهج التي تعبّرعن طريقة للتفكير المنظم،هذه المناهج تحتاج إلى أدوات مختلفة، تتناسب طرداً مع هذه التحوّلات العميقة التي يشهدها التاريخ الإنساني الطويل، بخاصة أنَّ هذا المجتمع الشبكي (مجتمع الشبكة العنكبوتية ـ الإنترنت ـ) يربط من الناحية العملية بين نقاط مختلفة ومتباينة واحتمالية في الوقت ذاته، ما يجعل من الاعتقاد بردود الأفعال السريعة الناتجة عن طرق التأثّر والتأثير الجديدة أمراً شديد الصعوبة وبالغ التعقيد.
الجدير بالذكر أنّ الإنثروبولوجيا بما يتفرّع منها من علم الإنسان الاجتماعي الذي يدرس سلوك تصرفات البشر المعاصرين، وعلم الإنثروبولوجيا اللغوية ،وعلم الإنثروبولوجيا الثقافي الذي يدرس بناء الثقافات البشرية وأداءها وظائفها في كل زمان ومكان، وعلم الإنثروبولوجيا الحيوي.له دور هام في قراءة بنية التفكير العقلي والمعرفي للبشر.
من هنا ينصبّ التركيز الأساسي لعلم الإنثروبولوجيا على دراسة الظواهر الإنسانية، وما يطرأ عليها من تحوّلاتٍ وتغيرات، بخاصة تلك التحوّلات التي تُحدث تغيّرات بنيوية واضحة في السلوك، والجديد الأساسي الذي طرحته العولمة هو قوة الافتراضي، التي فرضت بقوة، ربما لا عودةَ عنه، تقسيم العالم إلى عالم واقعي، وعالم افتراضي، في حالة جدل مستمرة فيما بينهما، في طريقها ـ أي حالة الجدل بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي ـ إلى تكريس كينونة إنسانية جديدة لها خصوصيتها، يصبح للعالم الافتراضي فيها قوة كبيرة ومؤثّرة لا تقلّ عن العالم الواقعي، وفي كثير من الأحيان تتفوّق عليها من حيث التأثير المباشر.
إنَّ واحدة من أهم المتغيّرات والتحولات التي حدثت في العصر الشبكي (عصر الشبكة العنكبوتية ـ الإنترنت ـ) هو تقلّص القدرة على الحد من تدفق المعلومات، أو منعها وحجبها بشكل تام، وهو ما يدفع بالتالي نحو حدوث تحوّلات تطال كبيرة مفهوم السلطة أيضاً، مفهوماً مركزياً أساسياً في العلاقات الإنسانية.
إنَّ فهم الظواهر وما تم رصده التي يطرحها العصر الشبكي (عصر الشبكة العنكبوتية ـ الإنترنت ـ)، تفرض تعاوناً شبه إلزامي بين علم النفس وعلم الإنثروبولوجيا، بل يمكن القول إن الإنثروبولوجيا التي تستخدم البرمجة الرقمية تأخذ مساراً نفسياً – ثقافياً لفهم الظواهر الإنسانية الجديدة، ففي العصر الشبكي،(عصر الشبكة العنكبوتية ـ الإنترنت ـ) هناك شيء من الإلحاح الفعلي والعملي لقضايا الهوية والذات، فللمرة الأولى يصبح الإنسان معرّضاً لهذا الكمّ الهائل من التدفق المعلوماتي المتنوِّع، دون أن يمتلك بالضرورة الإمكانات المعرفية أو الثقافية أو النفسية للتحليل ،أو الاستقبال، أو حتى النأي بالنفس عما هو مزعج للذات، فالتعرّض العشوائي، للمفاهيم والأفكار والصور، يضع الذات أمام تحدياتٍ كبيرة وصعبة غير مسبوقة، بخاصة مع تنوّع المصادر والمناهل الأساسية، وما ينطوي عليه هذا التنوع من اختلافات وتناقضات.
أتاحت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) للفرد أن يعرض ويستعرض في الوقت ذاته نفسه أمام الآخرين بحرّية وبدون قيود، وهذه الإمكانية بحد ذاتها تنطوي على مخاطر كبيرة غير محسوبة العواقب، لا تتعلق فقط بالفرد أو الفردانية، بل تتعدّاه إلى المجتمع الواقعي الذي نعيشه والمجتمع الافتراضي.
لقد فرض المجتمع الشبكي،( مجتمع الشبكة العنكبوتية ـ الإنترنت ـ) بطبيعة التحوّلات القيمية للفرد، بخاصة أنَّ القراءات الإنثروبولوجية الجادّة لهذه التحوّلات ستكون في معظم جوانبها ذات نتائج مهتزة وغير مستقرّة، فهي لا تتعاطى مع مجتمع ذي خصائص متبلورة بشكلٍ نهائي، بل مع مجتمع لا يزال في طور التحضّر والتبلور، وطرق التأثّر به أو التفاعل معه، ليست واحدةً في كلِّ مكان من العالم،في هذا السياق نجد أنه تم الاعتماد على المناهج التقليدية في فهم معطيات الكينونة الإنسانية الجديدة وليس غيرها.
المصدر: موقع الحياة برس
الرابط: https://www.alhayatp.net/?app=article.show.117013

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.