كتاب “الضحك: أنثروبولوجيا الإنسان الضاحك” لدافيد لوبروتون 

شهرة بلغول

يعود دافيد لوبروتون Davide Le Breton في كتابه Rire : Une anthropologie du rieur، الصادر في ترجمته العربية عن دار معنى للنشر والتوزيع سنة 2021 (ترجمة فريد الزاهي) إلى أحد الموضوعات الوثيقة الصلّة بالجسد، ألا وهو موضوع الضحك، بوصفه التجلي المادي لفاعليّة الجسد البشري في التواصل الاجتماعي، تلك الفاعليّة التي تكتسب مزيّتها من أنّها – خلافاً للكلام – تنبثق في لحظة انقطاع ما (صمت)؛ لتفجِّر اللغة عبر قهقهات خارقة لانسيابيّة الفعل التواصلي؛ فتقلب المواضعات الثقافيّة، وتنتهك صرامتها أو قداستها، محوّلة نمطيّة الفعل التواصلي إلى لعبة مرحة، تعزِّز أحيانًا أواصر الصداقة والجوار، وتجرِّد أحيانًا أخرى الخصم من أسلحته، راسمة الحدود بين الأنا والآخر.

يُفتتح الكتاب بمقدمة جامعة، تلخِّص المحاور والقضايا التي سيتطرق إليها، ولعلّ أهم ما ورد فيها هو دحض التصوّر الساذج الذي يختزل الضحك في التعبير عن الفرح والبهجة، والتأكيد على أنّه طقس اجتماعي بالدرجة الأولى، يكتسب خصوصيّته من طبيعة الظروف المحيطة به، ممّا يجعله أشبه بشفرة ثقافيّة يتوقف انبثاق معناها على طبيعة الموقف ودور الفاعلين فيه؛ ذلك أنّ الضحك ” ليس صادراً عن الطبيعة أو البيولوجيا، وإنما عن وضعيات اجتماعيّة خاصة اعتاد الناس ربطها بالضحك، فحين يضحك شخص ما؛ فإن المجتمع بكامله يعبر عن نفسه من خلاله”، لكنّ معناه، وعلى الرغم من ذلك؛ لا يتبلور إلا من خلال حساسيّة الإنسان الضاحك ” إن ضحك كل شخص يكون خصوصيا، فهو امتداد لوجهه وتوقيع صائت لشخصه وانتشار لصوته. فالضحك-مهما كان الباعث عليه- شأن يخص الجسد والمعنى”.

أسهمت كل المعطيات السابقة في إضفاء تنويعات وتلاوين على الضحك، تحكّمت –على مدار التاريخ-  في تحديد طبيعة الموقف منه، فهناك الفكاهة التي تعد قيمة سامية من قيم التواصل الاجتماعي؛ بالنظر إلى كونها تتيح اتخاذ مسافة نقديّة من الحياة، إضافة إلى السخريّة والتهكّم اللذين يسائلان سلطة رمزيّة ويجردانها من طابعها التراتبي، ممّا يسهم في إضفاء التشنج والمرارة على المواقف التي يولِّدها تبادل العنف الرمزي، والذي يصل أحياناً حد جلب نتائج كارثيّة غير متوقّعة كالموت مثلاً، ولعلّ هذا ما كشفت عنه واقعة الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة للمسلمين. كما يتمظهر الضحك عرفيًا وفق ألوان كاشفة عن حقيقته وزيفه، فهناك الضحك الأبيض والضحك الأصفر والضحك الأسود، وكل هذا تحدّده مواضعات بشريّة لها خصوصيتها الثقافيّة.

يتحوّل العالم بفعل الضحك إلى فضاء للعب، بعد أن كان مسرحاً لجديّة الفعل، وهذا ما يمنحه قدرة على التلاعب بالصلات الاجتماعيّة وخلخلة تراتبيتها، فضلاً عن إضفاء الالتباس عليها، فبقدر ما يولّد التواطؤ بين الأصدقاء، يوسّع الهوّة بين الفرقاء والأعداء، لذا فإنّ “فهم الدلالات الوفيرة للضحك يعني: الاعتراف بحصة الالتباس والغموض والفرح والقسوة، والبراءة والتلاعب”، وهذا ما يجعله حسب وصف لوبروتون تعليقاً على العلاقة؛ أي أنّه يمثل بوصفه تواصلاً على تواصل؛ لكنّ تأثيره لا يعقب السياق الأوّل بقدر ما يتزامن معه.

الضحك بتلاوين جندريّة:

يشير دافيد لوبروتون إلى أنّ التوجهات الثقافيّة للنوع قد أسهمت في إضفاء الفروق الجندريّة على الضحك، فصارت غواية النساء موضوعاً لسخريّة الرجال، وفحولة هؤلاء موضوعاً لتندرهن، كما أسهمت بشكل بارز في إزاحة أحدهما عن ممارسة الضحك في الفضاء العام، نتيجة ضوابط أخلاقيّة أو دينيّة قضت بحصر النساء في دائرة الحِشمة، بل وصل الأمر حد اعتبار الضحك تجاوزاً منهن أكثر منه صفة لهن، وتكمن أهميّة هذا الطرح في أنّه يتيح للقارئ تدبر موضوع ضحك المرأة تاريخيًّا، من خلال العودة إلى استحضار الآثار العالميّة الدالّة عليه؛ إذ تستوقفه ملاحظة أولى وهي غياب كل أثر فني ينقل بورتريهات لنساء ضاحكات؛ فجل ما يمكن العثور عليه هو وجوه باسمة، ولعل أشهرها لوحة الموناليزا لليوناردو دافنشي، ممّا يدعو إلى التساؤل عن سر هذا الغياب؟

بالعودة قليلاً إلى الوراء، نكتشف أن الضحك قد ارتبط في تصّورات قروسطويّة بالساحرات والعاهرات؛ أي أنّه كان مظهراً من مظاهر القبح، الذي يتولّد عن تغيير ملامح الوجه وفتح الفم، وإظهار الأسنان بشكل صادم منشؤه ارتباط هذه الصورة بالعض والتوحّش، إضافة إلى ما تحيل إليه من أبعاد جنسيّة، في حين تتسم الصورة المثاليّة للجمال عادة بالسكون، وهذا ما ترسخ في بعض قصص الأطفال مثل “الجميلة النائمة”؛ لذا قضت الأعراف والمواضعات الأخلاقيّة والدينيّة بمنع هذا الفعل في الفضاء العام؛ لأنّه يخرق سلطتها الرمزيّة مولّداً الاضطراب ومهدّداً بالثورة عليها، ليظلّ مباحاً في حدود الفضاء الخاص، ولعلّ هذا ما يفسِّر قيام النساء اللواتي تفاجئهن موجات الضحك في الوسط العام بتغطية أفواههن، بطريقة لا شعوريّة نتيجة رقابة داخليّة ولّدتها التنشئة الاجتماعيّة، وفي المقابل يملك اللاشعور دائماً حيله للإفلات من سلطة الرقيب الداخلي أو الخارجي، عبر “المستملحة” التي تحمِّل الكلمات ظلالاً لمعانٍ مسكوت عنها.

في البدء كان الضحك:

يرتبط الضحك في أحد أوجهه بعالم الطفولة؛ إذ يتجلّى بوصفه مسافة لهوانيّة تتيح العودة إلى زمن الطفولة المفقود، لاستعادة تلك البراءة التي توارت خلف المواضعات البشرية الراشدة، وهذا ما يجعل انفجاره المفاجئ، خلال المواقف الحياتيّة المختلفة، انبعاثاً لـ”الأنا الطفولي” في مواجهة “الأنا الراشد”، مذكراً بنسبيّة الأعراف والمنظومات الأخلاقيّة، ومبددًا نزعتها اليقينيّة حين يلقي بالمعنى في البلبلة، مقترحاً بدل ذلك، عودة ارتكاسيّة ساخرة إلى الجسد الذي “ينحو إلى الامحاء في الطقوس اليومية”.

كما نجد صدى هذه الرؤية في المستوى الرمزي المتعلِّق بالوجود البشري، وفي هذا المقام يستحضر لوبروتون تصوّرات شرقيّة مستمدة من الحضارة اليابانيّة، تفسِّر خلق العالم برده إلى ضحك الإلهة الشمسيّة “أماتيراسو” بعد أن حجبت نورها عن العالم واعتزلته في مغارة؛ كرد فعل على مضايقات أخيها إله البحر “سوزانو”، إلى أن نجحت وصيفتها “أوزومي” في إضحاكها وإدخال البهجة إلى قلبها، معلنة بذلك عودة النور المتوهّج لتبديد الظلمة الحالكة. تذكِّرنا هذه الأسطورة بما يقابلها في الحضارة الإغريقيّة، ونقصد بذلك  أسطورة الألهة ديميتر (الإلهة النباتات والفلاحة) التي تدخل هي الأخرى في حالة حزن جالبة للقحط، بعد اختطاف ابنتها برسيفون من قبل هاديس (إله العالم السفلي)؛ إذ كان لمربيتها “بابو” الدور ذاته الذي لعبته “أوزومي” في الأسطورة الشرقيّة، حين تدخّلت لتسليتها؛ ممّا أتاح عودة الربيع والحياة إلى العالم، ونلحظ في هذا المقام التقاء الأسطورتين في فكرتين هما صناعة البهجة وارتباط انبعاث الحياة بحضور المؤنث.

الضحك بين الفلسفة والدين:

ينتقل الكتاب إلى استحضار المواقف المختلفة من الضحك، مقابلاً الرؤية الروحانيّة للفلسفات الشرقيّة بالرؤية العقلانيّة للفلسفة الغربيّة، معرِّجاً على الأديان التوحيديّة الثلاث، راصداً تقلباته وتمظهراته في المجتمعات الغربيّة، ضمن فضاءات المركز وفضاءات الهامش عبر العصور المختلفة، ليؤكِّد على حضوره المتميِّز في الديانة اليهوديّة التي “تفصح عن ضيافة كبرى للضحك”، حين تقابل الرؤية المأساويّة للعالم بحس ساخر يكسر ديمومتها، ويحرِّر الضحيّة من إكراهات الواقع، وهذا ما جعل الضحك شكلاً من أشكال المقاومة في ظل الأنظمة الشموليّة، وسلاحاً بيد الضحيّة يجرِّد الجلاد من سلطته، خلال أحلك الظروف وأقسى التجارب التي عايشتها البشريّة، فليس غريباً أن يرافق المساجين والمعتقلين في معسكرات العزل والاعتقال النازيّة.

يقدّم كتاب “الضحك أنثروبولوجيا الإنسان الضاحك” ما يشبه الوليمة التي يشكّل الضحك بمختلف أنواعه وأذواقه طبقها الرئيس، وكما أنّ الوليمة لا تغدو كذلك دون مشاركة، لا يتجلّى الضحك إلا عبر التضايف الذي يولّده التفاعل الاجتماعي، ليغدو دعوة للحياة ووعداً بها، وعلامة نضج وتحرّر، عبر الانتصار للهشاشة على قسوة العالم، وهذا ما تلخصه هذه العبارة: “حين يتحرر الفرد من كل وهم، تلفيه يعترف بهشاشة الحياة وحتى بقدرية الفاجعة التي يراها أمامه، وهو يعلم أن المخرج الوحيد منها هو معارضة قساوة القدر بالضحك”، الذي يعيده إلى زمن الطفولة المفقود، مبقياً الطفل بداخله على قيد الحياة.

المصدر: دافيد لوبروتون: الضحك أنثروبولوجيا الإنسان الضاحك، تر: فريد الزاهي، دار معنى للنشر والتوزيع، 2021.

Le Sexe Du Rire, un documentaire diffusé sur France5, le 10/12/2021.

 

 

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.