التفاعل الاجتماعي مع السخرية في المجالس

د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير

أصبحت المجالس في ضوء التحولات الاجتماعية والاقتصادية، أكبر حاضن لملتقيات الأصدقاء، وقد تكون المجالس على شكل استراحات أو لقاء في المنازل أو المقاهي أو الحدائق وما في حكمها، أو مجالس افتراضية من خلال مجموعات الدردشة المفتوحة والمغلقة، وقد تحول كثير منها إلى ساحات للمزاح أو السخرية أو الطقطقة لتمضية وقت الفراغ، ولعدم وجود قضايا حوارية أو تبادل خبرات وتجارب الحياة في كثير من مثل هذه المجالس.

تعد هذه المجالس الخاصة سوقا اجتماعية رمزية، تعرض فيها السلع المادية المتمثلة في الزي، والسلع غير المادية المتمثلة في الآراء والأفكار المعرضة للتأييد والرفض أو الضحك والصمت والرضا والاحتجاج، وهذا يجعل المزاح والسخرية في المجالس بمثابة السلع الرمزية ذات المخاطر العالية، التي تعود على صاحبها بالربح أو الخسارة في أصول ممتلكات الإنسان مثل: الكرامة والسمعة والمكانة، وبالتالي تكون معرضة إما لبناء علاقات اجتماعية جديدة أو قطعها.

ويتولى الجمهور الحاضر في المجلس مهمة تقييم السلع المعروضة ويثمنها، وتكون قيمتها الرمزية أيضاً في ارتفاع المكانة الاجتماعية للشخص المتحدث أو انخفاضها. وبعد ذلك يأخذ التقييم دورته من خلال انتشاره مرتبطاً بصورة ذهنية جديدة عن الشخص، وهي صورة قد تكون صحيحة أو خاطئة، إلا أن لها تأثيرًا كبيرًا في تحديد مكانة الشخص ومستواه الاجتماعي.

قد يفسر هذا التفاعل في المجالس بروز ظاهرة وجود أشخاص مهمتهم الإضحاك من خلال سرد القصص والأشعار والمواقف من أجل إدخال السرور على الحضور بمقابل مادي، وصار الاستعانة بهم جزء من هوية المجالس الرسمية التي يراد لها أن تكون غير رسمية مع ضمان عدم الإخلال بالآداب العامة للمجلس.

يعد أدب المجالس ساحة مناورة فيها ربح وخسائر ومخاطر، وتؤكد أدبيات الشعر الشعبي والموروث بأن المجالس مصنفة ضمن قائمة الشرف والمكانة، من خلال مدح الشخص الكريم بأن مجلسه نقطة توقف رئيسة للرجال ويعبر عنه بأنه “منصى” و”ومدهل”. وبالتالي صارت المجالس أحد ساحات التمايز واكتساب المكانة الاجتماعية، ولا تقل أهمية فتح المجلس للضيوف عن أهمية حسن إدارته وحماية حرمته وحرمة ضيوفه. ويوجد قواعد سلوك كثيرة في أدب المجالس.

سوف تركز هذه المقالة على عنصر السخرية المباشرة والموجهة في المجالس، نظراً لزيادة تفشيها وإساءة استخدامها بشكل مفرط، في ضوء انعدام الشعور بالذوق العام من قبل من يمارسون السخرية أو من قبل أصحاب المجالس أنفسهم، أو حتى بعض الحضور الذين يعززون الموقف بالضحك وتقبل المشهد.

غالباً ما تشهد هذه المجالس سجالات بين شخصين أو مجموعتين تتضمن اختلافاً حول فكرة، فيطول الجدل حولها، ويكون موضوعها “حديث الليلة”، وفي الغالب فإن حديث الليلة يتأثر بحديث الساعة في الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والدينية. ومجالس العامة غالباً لا تحلو غالباً إلا بافتعال قضية والتشاجر حولها، ومن هنا تنشأ مجالات السخرية والحط من المكانة، وهي ما تسمى في المفهوم الشعبي الجديد بالطقطقة.

ما الطقطقة؟

بحثت عن معنى الطقطقة ومتى ظهرت في المجتمع السعودي، وتركزت أكثر التعريفات على أنها تعني: المزاح والسخرية من الآخرين، ومثل هذه المعاني، ولكني لم أجد تعريفاً يؤدي المعنى المقصود بدقة.

يبدو أن الطقطقة مأخوذة من لعبة الطقطيقة، وهي كرتان حجريتان مربوط بكل واحدة منهما حبل، ويتصلان بخيط قصير موحد يمسكه الشخص بيده، ثم يهز الخيط، وتبدأ الكرتان يضربان بعضهما البعض وتحدث التسلية بهذه الحركة الدقيقة، وهي تسمى طقطيقة. ومن هنا جاء مفهوم الطقطقة، لأن اللاعب يتحكم في ضرب الكرتين بهدوء لتحقيق عنصر التسلية. ويمكن تعريف الطقطقة على هذا الأساس بأنها: التعليق على موضوع محدد بكثافة لكشف خطأ الآخرين وتناقضاتهم بهدوء بهدف إحراجهم أو هزيمتهم معنوياً في المجلس.

لماذا السخرية باسم المزاح؟

زادت ظاهرة اتخاذ أحد أفراد المجلس للتندر عليه، لإضحاك الحضور، وغالباً لا يحدث ذلك إلا تحت غطاء شرعي يتمثل في “الميانة”؛ وذلك لأن الناس عادة تخشى من يهاب جانبه أو من يرجى نفعه أو من يغضب ويفسد الجلسة وربما العلاقة.

وربما يجازف البعض ويستهين بشهادات الآخرين الأكاديمية وتخصصاتهم ومهاراتهم التي أفنوا أعمارهم في تحصيلها، وصارت تشكل هويتهم الذاتية، ومسارهم المهني والأخلاقي، وبالتالي فإن الاستهانة بها أو الحط منها يؤكد حجم الانحطاط الأخلاقي والفكري لدى المستهينين بها؛ وذلك لأنهم يمارسون الإيذاء المعنوي دون امتلاك الحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية، أو فقدان الإحساس بأنهم معرضون للحط من أقدارهم بنفس الأسلوب والمضمون.

وقد تعرض الفيلسوف وعالم النفس الشهير فرانكلين للتعذيب والإهانة في معتقلات هتلر المعروفة بالهولوكوست، وكان أكثر ما آذاه هو تحقير المحققين لشهادته وتخصصه، واتهامهم له بأنه يضحك على الناس البسطاء باسم العلاج النفسي، وقد وثق تجربته في كتاب “الإنسان يبحث عن المعنى”، لذلك يرى أن العلاج النفسي للخروج من أزمات الحط من المكانة يكمن في البحث عن معاني جديدة وإيجابية للأشياء كالصداقة والعلاقات الاجتماعية والوقت، بل حتى توجيه جزء من المعاني السلبية إلى معاني إيجابية قد تكون بداخلها وإبرازها.

يبدو أن أهم أسباب التعرض للآخرين بالسخرية المباشرة في المجالس ناتج عن أربعة أسباب كما يلي:

– إما استضعاف الشخص المتعرض للسخرية، لعدم جدواه الاقتصادية والاجتماعية، وبعبارة أخرى تصنيفه بأنه شخص لا يرجى منه مصالح ذاتية.

– عدم قدرته على الرد.

– تصفية حساب قديم.

– انتصار لشخص آخر من خلال تسجيل موقف قد ينتفع به أمام من دافع عنه.

فيزياء المجالس

قد تكون بعض الجلسات التي تشيع فيها إسقاط الكلفة مجالاً للسخرية المتبادلة، أو المزاح الموجه للحط من كرامة أحد الحضور، وهي أخطر مضاربة بالسمعة تجرى في المجالس، لارتباطها المباشر بمكانة الأشخاص، ولا تكمن خطورتها في مبدأ السخرية، فهذا طبيعي بين الأصدقاء، ولكنها تكمن في القدرة على فهم التركيبة الفيزيائية للمجلس قبل البدء بالمزاح، وحسن تقدير الموقف.

تشتد المحاذير التي قد تؤدي إلى توتر العلاقات الشخصية حالات محددة مثل:

– إذا تبرع أحد الحضور بالسخرية على شخص حاضر والحط من كرامته من أجل إضحاك الآخرين تحت ذريعة المزاح، دون استئذانه أو التأكد من ضمان تقبله.

– إذا انتقص أحد الحضور من مسلمات الآخرين، مثل عقائدهم أو موروثهم أو عاداتهم، وجعلها في درجة وضيعة، بقصد السخرية.

– إذا كان المجلس خليطًا من أشخاص غير متجانسين فكرياً ولا اجتماعياً ولا اقتصادياً. وتكثر هذه الصفة في الأشخاص الذين إذا أقاموا وليمة دعوا الجميع دون اعتبار لمبدأ التجانس ولا مراعاة لرغبة الضيف. فالغالب على هذه المجالس أن يسود فيها الحذر.

إذا كان المجلس متجانس فكرياً وعقلياً وأخلاقياً يكون المزاح متقبلاً من الجميع، ويقصد بالتجانس أن يكون مستوى الحضور الثقافي والأخلاقي متقارباً، سواء كانوا من الطبقة الدنيا أو الوسطى أو العليا أو من طبقات المثقفين أو الاقتصاديين أو حتى طبقات المنحرفين، إذ المهم أن يتحقق التجانس وتقارب المستوى العقلي والأخلاقي، سواء صعوداً أو نزولاً.

دورة حياة المزاح

يلجأ كثير من الأشخاص الذين يتمتعون بذكاء اجتماعي إلى إشاعة أجواء البهجة والمرح بالمزاح الخفيف الموجه لأنفسهم، مثل سرد القصص التي تنتهي بسلوك غير منطقي وقع على الشخص المتحدث أو السارد للقصص، أو باستدعاء الصورة الذهنية الشعبية واستخدامها لأغراض الإضحاك الحذر.

من المؤكد أن مجالس المزاح لن تغلق بمجرد نهاية الجلسة، وإنما تأخذ دورة حياة كالتالي:

– تبدأ من المزاح الذي يقوم أساساً على تصدي شخص للحط من كرامة شخص آخر حاضر.

– ثم يخضع هذا المزاح للتقييم من قبل الشخص الذي تعرض له، ومن قبل الحضور.

– وفي ضوء التقييم، إما يقبلها الشخص فتدفن في لحظتها، وإما يرفضها، فيكون أمام أربع حلات من التفاعل الاجتماعي هي: إما أن يكون مديناً بالرد الآني أثناء الجلسة، أو الرد فيما بعد، أو تخفيض مستوى العلاقة، أو الترويج لمثالب الشخص الذي اعتدى عليه عبر تمرير معلومات لا يرغب في أن يعرفها الناس عنه.

– كما أن موقف الحضور مهم للتفاعل مع الشخص الذي بدأ المزاح، إما بتقبله ومنحه مؤشرات تحثه على الاستمرار مثل الضحك والتعليق المؤيد والإنصات باهتمام، وإما بعدم تقبله وعدم الإنصات له، وذلك بسبب علو مكانة الشخص المعتدى عليه، أو لأن المزاح لا يناسب الجلسة، وتبدأ عمليات دفع الأثمان في جلسات لاحقة، أو في تجنب أي شخص لم يحسن إدارة الجلسة.

من آداب المزاح

يوجد آداب عامة للمجالس، وقد أثرت كتب التراث العربي بسرد آداب المجالس وما ينبغي أن يلتزم به الشخص من قيم مثالية، إلا أن التحولات الجديدة في أدب المجالس تكاد تتركز على المزاح البريء مثل التجاذب في نتائج مباريات كرة القدم، أو التفاضل بين المهن، أو تقييم سلوك الآخرين، مما يتطلب إيجاد آداب جديدة للسخرية أو المزاح الموجه ضد أحد الحضور، من أهمها أربعة شروط أساسية، وهي التالي:

– أن يكون المجلس يجمع أصدقاء، ولا يوجد بينهم غريب أو ضيف.

– أن يتولى الصديق الذي تولى مهمة الحط من صديقه بذريعة الميانة إدارة الجلسة بحيث يحميه من أي تجرؤ عليه من الآخرين.

– أن ينهي الجلسة أو مزاحه بتأكيد أن ما حصل إنما هو مزاح، وأن الصديق المعتدى عليه رفيع القدر، ثم يذكر محاسنه.

– أن تكون العلاقة بين الشخصين وثيقة ومضمونة.

وفي حال تعرض أحد الأصدقاء للحط من كرامته وإنهاء المجلس بذلك فإن العلاقة تكون معرضة للاختلال، ويكون الصديق المعتدى عليه أمام حالتان هما:

إما أن يخفض مستوى الصداقة مع استمرارها بشكل شبه رسمي، وذلك للحيلولة دون تكرار ما حدث وحماية للكرامة الشخصية من التعرض للإهانة.

أو يحتفظ بحق الرد في مجالس أخرى، وفي هذه الحالة غالباً ما يشعر الشخص الجديد المعتدى عليه بالصدمة؛ لأنه نسي موقفه السابق، وأنه في وضع انتقامي، ومن ثم يبدأ بتفاعل جديد إما بإعلان الاحتجاج والرفض، أو بادعاء المظلومية.

المجالس الافتراضية

تمثل ملتقيات الأصدقاء في المجموعات المغلقة في تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل واتساب وتلجرام، أو ملتقيات الأصدقاء والمعارف والغرباء في تطبيقات التواصل المفتوحة مثل فيسبوك وتويتر، والتطبيقات التي تصدر تباعاً، أحد أهم أشكال المجالس الافتراضية الجديدة التي يلتقي فيها الناس على مدار الساعة.

والتفاعل الاجتماعي فيها يكون كتابة أو بالتسجيل الصوتي أو بنشر صور ومقاطع وإيموجيات رمزية، وقد يكون التفاعل على شكل تفضيل المنشور أو مشاركته مع الآخرين. وهي تتضمن جميع ما يتضمنه لقاء المجالس الطبيعية من تفاعل وتبادل وجهات النظر والسخرية أو المدائح أو الحوارات المتنوعة.

وتتميز تطبيقات التواصل المفتوحة بخاصية التخفي، إذ تتيح أن يكون الشخص في مأمن من الملاحقة القانونية أو التعرف على شخصيته إذا كان متخفياً بأسماء وهمية، ولذلك ترتفع عنده مساحة الحرية في كتابة ونشر ما يريد من كلام نافع أو ضار أو موجه للحط من كرامة أحد أو قمع رأيه، مما ينعكس على أخلاقه الحقيقة. على الرغم أن التقدم التقني للجهات الأمنية أتاح الفرصة للتعرف على أصحاب تلك الحسابات الوهمية، ومجازاتهم وفق أنظمة الجرائم المعلوماتية. وبذلك تم الحد من تلك التجاوزات التي كانت تتم سابقًا باستغلال الأسماء الوهمية.

 

ختام

تعد المجالس من أهم الأسواق والفضاءات الخاصة التي ينبغي التعامل معها بحذر، والتعرف على حقوقها وواجباتها، وهذه من الموضوعات التي تملأ أكبر الفراغات في المجتمع، ومع ذلك لم تحظ بالدراسة الكافية للتعرف على محتوياتها وآليات عملها، وأثرها على الأشخاص وعلى المجتمع. فالمجالس ترتبط بشبكة من العلاقات الاجتماعية والصداقة، ومسرحاً اجتماعياً لتمثيل أدوار حقيقية وغير حقيقية، ومجالاً لتسويق الإنسان لنفسه، بحق وبغير حق. وبالتالي لها مخرجات ونتائج وآثار كبيرة تستحق إجراء حفريات على طبقات المجتمع عليها والتعرف عليها.

 

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.