الباحث السوسيولوجي عبد الرحيم العطري ليومية “الصباح”

“يتوب على اليوتوب”..احتجاج و انتقام و تفريغ للمكبوت الجنسي و السياسي

حاوره: المصطفى صفر


سؤال: أولا نود الحديث عن ظاهرة التعاطي مع الأشرطة المصورة وبتها عبر مواقع في الأنترنيت، إلى ماذا ترجعون هذا السلوك الجديد على المجتمع؟

جواب:الأمر أشبه ما يكون بحالة من الانتقال العفوي و القسري من الواقعي إلى الافتراضي، ثمة هجرات متواترة تتواصل بلا انقطاع، عبر أودية السيليكون، و تحديدا إلى ما أسميه دوما بالقارة السابعة، فالأنترنيت يحيل فعلا على قارة جديدة، بمقدور الجميع الإفادة منها و الإبحار في عوالمها، فقط تكفيك نقرات بالماوس و صبيب نت ليتحقق السفر اللانهائي نحو الافتراضي بدل الواقعي.

بالطبع فدخول الإنترنيت إلى المغرب، و انتشاره بين مختلف الأوساط، لم ليكن دخولا و انتشارا مأمون العواقب، فثمة ضرائب و فواتير مدفوعة كرها من نسقنا القيمي و علاقاتنا الاجتماعية و انتماءاتنا و هوياتنا، فمن كان يعتقد أن أودية السيليكون ستصير بديلا سريعا و فعالا لأنماط الاتصال و التفاعل الاجتماعي التقليدية؟ من كان يتصور أن يصير الشات chatحاضرا بقوة في حياة الأفراد و الجماعات؟ و أن نعيش عالم الصورة و السيليكون بهذا الشكل و المحتوى، الذي يفوق قدرتنا على المسايرة و الفهم؟

إن عبارة “يتوب على اليوتوب” التي يتم ترديدها على نطاق واسع بين صفوف مدمني الأنترنيت، تدل على أن هذا الموقع قد فتح أبوابا كانت موصدة، و قد مكن من اختبار مساحات جديدة للتعبير السوي أو المرضي بعيدا عن كل رقابة مفترضة، فاليوتوب، صار من أبرز قنوات الاحتجاج أو الانتقام أو التعبير عن الرأي أو تفريغ المكبوت الجنسي و السياسي، فاليوتوب ثمرة من ثمار القارة السابعة توظف سلبا أو إيجابا تبعا لمحددات سلوك المبحر عبر الأنترنيت.

سؤال: اشتهر اليوتوب بنشر فضائح المسؤولين، سيما في جهاز الدرك، كيف تقيمون ذلك؟

جواب: إن الانتقال من الزمن الواقعي إلى الأزمنة الافتراضية و تحديدا إلى القارة السابعة، حيث العناوين و المواقع الإلكترونية، لا يحتمل عبورا هادئا و سعيدا خصوصا في ظل هذا الهنا و الآن، فانتشار ثقافة الإنترنيت بالمغرب أفرز العديد من الظواهر و الأعطاب، و ساهم في تغيير ملامح اليومي، و هو ما يتوجب الانتباه إليه، و في هذا المستوى بالضبط ينطرح التوظيف السلبي للأنترنيت خصوصا في جانب التعامل مع اليوتوب و الدردشة بالصوت و الصورة.

لقد ساهم قناص تارجيست في تجذير طقس جديد من طقوس ارتياد الشبكة العنكبوتية، فبسبب أشرطته الفضائحية عن الرشوة بين صفوف رجال الدرك، صار مدمنو التجوال عبر وادي السيليكون يقرؤون السلام لموقع يوتوب كلما هموا بالاستفادة من خدمات القارة السابعة، فقد آثر هذا الشاب أن يترصد عمليات الإرشاء ببلدته الصغيرة الواقعة في عمق جبال الريف، و أن يقدمها إلى العالم أجمع تحت مسميات متعددة من قبيل “الوعد الصادق” و”البركان الثائر” و”البركان القاطع” و”الإنذار الصارخ”. و بذلك سيصير لكل مدينة قناصوها الذين لم يفتهم بأسفي تصوير مشهد هبوط طائرة الهليكوبتر التي أقلت الملك محمد السادس، خلال زيارته للمدينة مع ما خلف ذلك من غبار و تناثر للأتربة، بالرغم من أن الهبوط تم في مكان يسمى مطار أسفي.

كل هذه الأحداث ستجعل عبارة “يتوب على اليوتوب” تردد على نطاق واسع بين صفوف الشباب، احتفاء بهذا المنبر الإلكتروني الذي لا يعمل بمنطق حارس البوابة، بل يسمح بالتعبير من غير رقابة أو تزوير أو تحوير، تكفي نقرات بسيطة للانتفام أو الاحتجاج أو التفريغ…

سؤال: لم يتوقف اليوتوب على الاستعمال في محالات كمحاربة الرشوة أو الانتقام من المسؤولين بل تعداه إلى نشر صور فتيات يتعاطين الدعارة، أو تلميذات في أوضاع إباحية، و ينهج واضعو هذه الصور أو الأشرطة أساليب متنوعة للتشهير، كوضع الهاتف المحمول للمعنية بالأمر أو الإشارة إلى عنوان سكناها، هل لكم أن تحددوا ملابسات هذه الأفعال سيكولوجيا وسوسيولوجيا؟

جواب: إننا اليوم نعيش في زمن التكنولوجيات الحديثة في الإعلام و الاتصالNTIC ، و في الآن ذاته نعيش زمن التحولات القيمية و المجتمعية الكبرى، و ما بين هذين الزمنين يعسر الفهم و تتواتر الإنتاجات و التبادلات الرمزية و المادية التي تفوق المستوعب و الممكن، إنها انقلابات على الفائت و المستأنس به، تحتمل دهشة البداية و صدمة العلاقة مع الجديد و المختلف، فبعد أن كانت الرسالة الخطية دليلا إلى التبادل و الإخبار، صار البريد الإلكتروني مستحوذا على هذه الوظيفة، و انطلق زمن الانتقال من المشهد الواقعي إلى العوالم الافتراضية، و كأن المجتمع يحدث لنفسه انزياحا مفاهيميا و إجرائيا نحو فضاء آخر لا نهائي. و بالطبع فهذا الانتقال في مجتمع يعرف جملة من الطابوات، و من أبرزها السؤال الجنسي، لا بد و أن يعرف مجموعة من الأعطاب على مستوى الإفادة من الإنترنيت، لهذا و بدل أن توظف خدمات القارة السابعة في التحصيل الدراسي و البحث العلمي، فإن إحصائيات موقع الإنترنيت في العالم: “أنترنيت وورد ستيت” تؤكد أن العرب هم أكثر الشعوب بحثا عن كلمة جنس عبر موقع غوغل.

فممارسة نوع من السوسيولوجيا العفوية بإحدى مقاهي الأنترنيت قد تقودنا في الغالب إلى هكذا نتيجة: الكل غائص في بحث عن الخلاص، فتيات في عمر الزهور، يتكلمن باللهجة الخليجية، يطلقن قهقهات ماجنة، ذكور يتكلمن بفرنسية رديئة و إنجليزية أردأ منها، يحاولون إقناع من يتحدثون إليهن أنهم مستعدون للالتحاق بهن حبا و إلى غير المنتهى. في أقصى السيبير شباب و أطفال آخرين تتسمر عيونهم على شاشة الحاسوب، يقرأون تضاريس العري في وقت مبكر من نموهم الجنسي، الكل منهجس بالبحث عن اللذة أو الألم.و لا عجب إنها ضريبة النت في المجتمع المغربي.فالاستخدام السوي و الإيجابي للأنترنيت بالمغرب يظل محدودا، في حين يظل الاستخدام المرضي و المفتوح على استعمالات الجنس و الانحراف الأخلاقي، هو الأكثر حضورا في المجتمع المغربي.

في اليوتوب نقرأ جانبا من العطب المغربي المفتوح على المسألة الجنسية، لقد وجد مجموعة من الشباب و غيرهم في هذه الوسيلة ممكنات لتفريغ المكبوت الجنسي و الانتقام من بعض الفتيات، عبر التشهير بهن، و لو كن قد دردشن معهم قبلا بكل براءة و احترام، فإذا كان النزر القليل من المغاربة قد استغل اليوتوب في الاحتجاج السياسي و الاجتماعي و التعبير عن رفض القائم من الأوضاع، تماما كما هو الأمر بالنسبة لقناص تارجيست، و إذا كان آخرون قد وجدوا فيه منبرا للإعلان عن مواهبهم الفنية، فإن الغالبية العظمى وجدت في اليوتوب فضاء بلا رقابة للتعبير الجنسي.

سؤال: يظهر من خلال تلك الأشرطة أن الواقفين وراءها، يتمسكون بالاختفاء وعدم إشهار أنفسهم، كيف تفسرون ذلك؟

جواب: ما يوفره الانتقال من الواقعي إلى الافتراضي، هو طابع المجهولية، ففي هذه القارة السابعة، تحضر الأضداد كلها، فالحضور يكون برفقة الغياب، فنحن نرتحل من موقع لآخر، بلا انتقال، و نحضر و نشارك، بلا وجود، و نتحدث و نقترب، بلا جيرة، إن الأنترنيت يؤشر على الشيء و نقيضه في نفس الآن، فبالرغم من احتلال المغرب للمرتبة الأولى من حيث عدد المستخدمين على مستوى العالم العربي، فإن ذلك لا ينفي واقعة سوء الاستعمال، فأغلب المبحرين لا يلتحقون بالعوالم الافتراضية بحثا عن المعرفة و توسيع دوائر النقاش، و الإفادة من ثمرات القارة السابعة، بل يرغبون في تحقيق الحراك الاجتماعي عن طريق الماسنجر، أو إشباع الرغبات الممنوعة عن طريق مواقع الجنس.

و لأن من يبث الشريط الانتقامي أو التشهيري عبر اليوتوب، يعي جيدا أن ما يقوم به يندرج في خانة الممنوع أو المرفوض من قبل العقل الجمعي، فإنه من الطبيعي أن يرتكن إلى خيار المجهولية، فالاستعارة تصير بديلا للوضوح و الواقعية، خوفا من المتابعة أو الرفض الجمعي، إنه الانتقال من الواقعي إلى الافتراضي. فالموقف المتناقض من الجنس و هشاشة التربية الجنسية و انتشار الفوبيات المرضية المرتبطة بالمسألة الجنسية هو ما يجعل مساحة الاشتغال الجنسي على الأنترنيت و على اليوتوب تحديدا، وفق جدل الخفاء لا التجلي، هي الأكثر بروزا بدل الاستعمال العلمي أو الثقافي أو حتى الترفيهي

سؤال: من خلال بعض الوقائع التي ظهر فيها رجال درك متلبسين بالرشوة على موقع اليوتوب، تحركت الأبحاث وتم توقيف المعنيين بالصور، وبدا موقع اليوتوب أنجع من توجيه شكايات إلى المسؤولين، إذ ميزت السرعة القرارات التي اتخذت بعد ذلك، وهذا شجع أكثر على اللجوء إلى هذه الوسيلة من أجل التشهير، هل لكم أن تشرحوا لنا دواعي تلك النتائج، وكيف تبوأ اليوتوب هذه المكانة؟

جواب: بالأمس القريب كانت الجريدة أو الجدران أو الطاولات تحتضن الممنوع و المسكوت عنه، لكن اليوم بدا واضحا أن هناك وسائط جديدة يمكن أن تحتضن قيما و خطابات و ممارسات يرتفع فيها منسوب الجرأة أو تقفز على المعتاد و القائم من الأوضاع، بدون أدنى قيد، لقد ظهرت ممكنات اليوتوب و الفايس بوك و أضف مقال… إنه منطق الاستعاضة عن سلطة و رقابة الواقعي بحرية و لا محدودية الافتراضي، فهل هو سر التحول إلى كائنات إلكترونية افتراضية؟

فاليوم يمكن استبدال الكوجيطو الديكارتي: أنا أفكر أنا موجود، بكوجيطو جديد: أنا أبحر في النت، أنا موجود، لهذا يبدو طبيعيا أن يصير الإنترنيت معبرا عن عطبنا و اتزاننا، عن انتمائنا و لا انتمائنا، إن الأمر متعلق بهجرة سيليكونية، نحاول من خلالها أن نعبر عن انوجادنا و نعلن عن حضورنا. فالفعل الاحتجاجي لم يعد ممكنا عبر النزول إلى الشارع في مسيرات و انتفاضات أو حمل للشارات، فها الأنترنيت يساعد اليوم على التعبير عن الاحتجاج و ممارسة سلوك احتجاجي إلكتروني عبر البريد أو الفايس بوك أو اليوتوب، فيمكن للمرأ أن يسجل مواقفه و يعبر عن قضيته بعيدا عن كل رقابة، و فضلا عن ذلك، و هذا هو الأهم، فسلوكه الاحتجاجي هذا، يحتمل طابع الفضيحة بالنسبة لمن ينتهكون حقوقه، فما يبثه عبر اليوتوب، يتابعه الملايين من كل بقاع العالم.

فاليوتوب يحوز فعالية قصوى بسب فضائحيته، فالنت اليوم يشكل لوحده سلطة فوق السلط، و ليس مجرد مكون من مكونات السلطة الرابعة، لكنه بالرغم من ذلك فإن هذه الحساسية التي يحوزها النت لا يتم استثمارها قويا في السلوك الاحتجاجي المغربي، فمعالم الأمية الإلكترونية ما زالت تسيطر على أدائنا و ممارساتنا، إن اليوتوب و الفايس بوك و تقنية أضف مقال، جعلت الكثيرين في غنى عن النشر الورقي و اعتذارات هيئات التحرير أو سلة المهملات، فبمقدر أي كان، بث السلبي و الإيجابي من غير قيد في اليوتوب.

و عموما فإن ظاهرة سوء استعمال الأنترنيت بالمغرب تلوح أيضا في الجانب القانوني، فهناك العديد من الخروقات القانونية التي تتم عن وعي أو لا وعي عن طريق الإنترنيت، فهناك السرقات الإلكترونية و انتحال الشخصيات و السرقات الأدبية و التحرش و الاستغلال الجنسي للصغار و الكبار، فالأنترنيت تحول إلى طريق من المطبات القانونية و على الإنسان أن يكون حذرا في استعماله، فاليوم يمكن القول بأننا نعيش زمن النصب و الاحتيال الإلكتروني، و بث الأشرطة المصورة باليوتوب هو ملمح من هذا النصب و الاعتداء. و إلى ذلك كله تظل استعمالات الأنترنيت مغربيا مفتوحة على مظاهر العطب المغربي، فيها نقرأ ما تعانيه البلاد من فقر و هشاشة و ما تعيشه من تحولات قيمية.