أنثروبولوجيا المرض وحروب كورونا السياسية

عصام شعبان

أصبح فيروس كورونا مرعباً، بحكم توسعه وانتشاره. صحيحٌ أن أعداد الوفيات من مرضاه محدود، قياساً بأنواع أخرى من فيروساتٍ وأوبئةٍ عرفتها البشرية، لكن تواتر الأخبار عنه، بشكل لحظي في مناطق العالم باتساعها، يعمّق صورة المرض، الخطر العالمي الذي استدعى إعلان منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ ودخول الوباء إلى مرحلة وصفتها بالخطرة، بينما آثاره الاقتصادية ضخمة من دون حاجة إلى تفصيل، أو تعداد خسائر لحقت بأسواق المال، وقطاع البترول ومختلف قطاعات الإنتاج والتصدير والاستيراد، وزاد من آثاره أنه ضرب مركزاً تجارياً وصناعياً ضخماً كالصين، ثم انتقل إلى عدة دول آسيوية، بما فيها منطقة الخليج العربي، وتوسع في بلاد أوروبية وبشمال أفريقيا، فأصبح الخوف مشهداً عمومياً لدى الإنسانية، كعولمة الاقتصاد تماماً. ليس الخوف وحسب من المرض، لكن آثاره أيضاً وغموضه وعدم القدرة على حصاره، أو الكشف عن علاج له حتى الآن، مخيفة. مشهد من العجز العالمي ينعكس على مجمل الأنساق الاقتصادية والثقافية والسياسية أيضاً، وكما يهدّد المرض البشر، يتجاوز التحدّي المؤسسات الطبية إلى مؤسسات الحكم في الدول، ويتعاطى معها الفرد والجماعات بمنظورٍ لا يخلو من السياسة أيضاً، أو التوظيف السياسي للحدث.

وتنظر الأنثروبولوجيا وفروعها إلى الظواهر المرضية من زوايا متعدّدة في التناول. فالأنثروبولوجيا الطبية تركز على دراسة العلاقات المتبادلة بين المرض والأنساق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والبيولوجية، وهي، في نشأتها الأولى، اهتمت بدراسة معتقدات الشعوب عن المرض والصحة وطرق العلاج، الشعبية والمحلية، بما فيها الثقافات التي تعطي للسحر مكانةً في تفسير الأمراض، بل والعلاج. وفي الستينيات، أخذت بعداً تطبيقياً، مهتماً بدراسة المؤسسات العلاجية، وتحليل الأدوار والصراعات فيها، فضلاً عن القيام بأدوار الدعم النفسي والاجتماعي

للمجتمعات التي تعاني مشكلات الأوبئة والفيروسات، بغرض تحقيق المرونة والتكيف والقابلية للعلاج، أو ما يعرف بتقاطعه مع الأنثروبولوجيا النفسية بالدعميْن، النفسي والاجتماعي، الذي يركز على علاقات الشخصية والثقافة والمرض. وهدفت جهود المتخصصين منهم إلى معالجة أثر الرهبة المصاحبة لانتشار الفيروسات أو الأمراض المصحوبة بآثار نفسية واجتماعية، كتقديم الدعم لمن يتعرّضون لعمليات البتر أو أمراض السرطان والإيدز، وسبق أن قدّمت منظمة الصحة العالمية، عبر الأنثروبولوجيين، دعماً نفسياً للمصابين بفيروس إيبولا في أفريقيا، وهو ما يمكن الاستفادة منه حالياً، فالأنثروبولوجيا لا تقتصر على أنها علم للتحليل والتفسير، بعد أن أصبحت تطبيقية وضرورة تنموية.
وتفيد هنا الأنثروبولوجيا السياسية في فهم وتحليل ما صاحب المرض من ملامح سياسية على المستويين، الرسمي وغير المؤسسي، خصوصاً في ما يتعلق بتفسير المرض وانتشاره ومصدره، بل ونتائجه التي تغيرت حسب موقع المفسر، ونزوعه السياسي والفكري. فمن الإيمان بنظرية المؤامرة، وبأن جهة ما (غالباً يشار إلى أميركا) خلقت الفيروس، وصدّرته إلى الصين لتعطل حركتها الاقتصادية، إلى تفسيرات أكثر تخلفاً وتتخذ رداءً دينياً، كالقول إن الصين كدولة شيوعية عوقبت بشكل إلهى، رداً على بعدها عن الإيمان وغلبة الإلحاد على أهلها، وفي المقابل تعليقات متعصّبة عن مشهد الحرم المكي بلا مصلين أو إلغاء صلاة الجمعة في إيران، في تهكّم على الدين والرموز الدينية أو استخدام لها في غير موضوعها، وبصورة متخلفة، لإثبات صحة رأي سياسي أو عقائدي.
ولا تغيب المكايدات السياسية عن المشهد. فثمّة نقد لدول اتخذت قراراتٍ ترى فيها محاولة لتقليل المخاطر بمنع السفر إليها، أو المطالبة بشهادات صحيةٍ تفيد بخلوّ من يزورها من فيروس كورونا، فيردّ آخرون على الإجراءات بالمثل، وكأن مقاومة المرض معركة دبلوماسية، كسحب سفير دولة يقابله سفير الدولة الأخرى، وليس الفهم أن المرض خطِرٌ عالمياً، ويجب أن يتعاون الكل في تحجيمه ومقاومته، والبحث عن سبل علاج له، وحماية كل إنسان، أياً كان وطنه وجنسيته ودينه ومعتقداته، ولكل دولة أن تتخذ ما تراه مناسباً في ذلك، من دون تهويل أو توظيف سياسي يعمّق الهوة المتسعة أصلاً بين حكومات وشعوب عربية.
يكشف كثير مما يجري في الوطن العربي من نقاشاتٍ في الفضاء العام بشأن كورونا مؤشراتٍ على ضحالة وتخلف في الفكر السياسي والاجتماعي، وأزمة نظم مستبدة وحكومات غير كفوءة، غير قلة الحيلة، ومنها ما يتعلق ببنود الصحة التي لا تكفي العلاج أصلاً، فما بالكم بقدوم خطر حالاً؟ وتعكس بعض التصريحات والخطابات الهروب من المشكلة التي تتطلب إجراءاتٍ وجهوداً واهتماماً بمنظومة الحماية الصحية إلى ملاسنة ودفاع مؤيدين عن النظام السياسي، وكأن التخوف من المرض غير مشروع، وربما دخلت في تهمة ترديد الإشاعات، وهنا تؤثر المصالح والتحيزات السياسية في رسم المشهد.
تتكرر حالة الإسقاط، فثمة مَن لا يرى في الدولة كياناً ديمقراطياً، ولا تتمتع بالشفافية، ما يدلل

على ندرة المعلومات أحياناً بأنها إخفاء مقصود للمعلومات، من دون افتراضاتٍ تتعلق بمحدودية الإمكانات للمنظومة الصحية أو المسؤولين عنها. وتشكل مجمل هذه الصورة لدى الجمهور مساحات توجس وخوف غير قليلة، وإنْ حاول بعضها التغطية عليها بالسخرية، بوصفها أداة مقاومة. وفي ظل ضبابية الصورة، ربما ذهب بعضهم إلى انتشار الفيروس، بينما ينفي المؤيدون للنظام حالة التوجس، ويرى في جهود الدولة ما يكفي لمواجهة الأزمة، وفي هذا تنازع واضح مغلف سياسياً، وإنْ كان له أساس موضوعي، ويزيد مناخ التوجس وفرص انتشار الإشاعات، غياب الحقائق والمكاشفة حول عدد المصابين، أو الحاملين للفيروس.
حتى وقت قريب، لم تعلن مصر ظهور حالات كورونا فيها. وحتى الحالات الأولى، كان مصدر اكتشافها بلاغات منظمة الصحة العالمية عن أشخاص قدموا من مصر، وثبتت إصابتهم بالفيروس، ما دفع السلطات المصرية إلى فحص المخالطين بهم. وكان من الممكن أن تكون حالة التوجس الملحوظة مصرياً أقل، لو كانت هناك جهود أو خطوات أو مراكز صحية متاحة للكشف عن الفيروس، ولكن شحّ المعلومات، وعدم توافر أماكن للفحص أربعة أشهر، جعلا عدم اليقين ومساحات عدم الثقة تزداد. وقد أعلنت وزارة الصحة المصرية، أخيراً، تجاوز عدد حاملي الفيروس 50 شخصاً، وقد تظهر حالات أخرى، وهذا يستدعي أن تتخذ خطواتٍ للمواجهة، منها مراقبة واتخاذ كل الاحتياطات في المدارس والجامعات وأماكن التجمع، بما فيها مراعاة إجراءات السلامة والنظافة وتوفير أدواتها، القيام بأدوار توعوية وقوافل صحية بالقرى والأحياء. بالإضافة إلى توفير مراكز صحية في كل منطقة مخصصةٍ للكشف عن الفيروس بأسعار رمزية، أو بالمجان كما كانت حملة الكشف عن فيروس سي، وإن كانت حملة فيروس سي قد موّلها البنك الدولي، فلماذا لا تخاطب السلطات المصرية هيئات الصحة الدولية، وغيرها من منظماتٍ، لتوفير سبل الوقاية والكشف، إن لم تكن كافية في مصر، أو لا تكفي الموارد لها؟
أخيراً، لا بد أن يقتنع الجميع بأن الحق في العلاج والصحة والكشف الطبي ليس إطاراً للنزاع السياسي، ولا يجب أن يُستغل لتحصيل مبالغ مالية، كما حدث مع طالبي السفر المصريين إلى الخارج، وطُلب منهم دفع ما بين 65 و160 دولاراً لتوقيع تحليل فيروس كورونا. الخطر حقيقي في مصر، في ظل عدد سكان مرتفع، ووسائل مواصلات مزدحمة ومؤسسات تعليمية كثيفة العدد، وضعف إمكانات القطاع الصحي.. والمتمنّى أن تمرّ الأزمة بسلام مصرياً وعربياً، وعالمياً أيضاً.

 

المصدر: جريدة القدس العربي

https://www.alaraby.co.uk/opinion/2020/3/11/%D8%A3%D9%86%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-1

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.