نظرية الانتقال للفعل الإجرامي (ج1)

جمال معتوق

تمهيد:

تعد نظرية الانتقال للفعل الإجرامي من النظريات الحديثة نسبيا في مجال تفسير السلوك الإجرامي والانحرافي، كما أن هناك في الحقيقة العديد من المحاولات والتي سميت بالانتقال للفعل الاجرامي والانحرافي Le Passage à l’acte، وعليه في نظرنا هذه المحاولة تعد من المقاربات الكبرى (Macro)، كونها تجمع في طياتها العديد من النظريات الصغرى (Micro)، إلا أن المحاولة الأولى لهذه النظرية والتي اتخذت اسم الانتقال للفعل الإجرامي ترجع إلى عالم الإجرام والروائي والمحلل النفسي إتيان دي جريف البلجيكي.

تسعى هذه النظرية النفسية الاجتماعية إلى فهم كيفية الاقبال على الفعل الانحرافي والاجرامي، كما تهدف إلى فحص العوامل المرتبطة بلحظة المرور نحو الفعل الإجرامي من طبيعة الجاني في حد ذاته، شخصيته الإجرامية، الضحية ومن هو وبما يتميز؟، المكان الذي كان مسرحا للجريمة، الأسباب الدافعة للجريمة، الحالة النفسية للجاني قبل الفعل وبعده. إلخ من المحطات الهامة في السياق الذي حصلت فيه الجريمة.

وعليه سوف نسعى في هذا الفصل إلى تسليط الضوء على بعض الأفكار التي جاء بها العالم البلجيكي دي جريف De Greeff، بالإضافة إلى الباحث والمختص بعلم الإجرام الأطفال أو الأحداث الفرنسي جان شازال Jean Chazel.

التعريف بالعالم إتيان دي جراف Etienne de Greef:

ولد العالم اتيان دي جراف في عام 1898 في مدينة تورناي Tournai، وتوفي سنة 1961 في كورتنبرغ Kortenberg، وهو طبيب نفسي، وعالم إجرام، بالإضافة إلى كونه روائي بلجيكي شهير.

بعد حصوله على شهادة الطب في عام 1924، أصبح في سنة 1930 أستاذا لعلم الإجرام، كما أنه المؤسس للمدرسة البلجيكية لعلم الاجرامEcole de Crimonologie Belge، وصاحب نظرية الانتقال للفعل الإجرامي.

ومن بين أعماله:

– Les faits mystérieux de Beauraing, 1933.

– Amour et crime d’amour, 1942.

– Le retour au silence, 1945, sous le pseudonyme Stéphane Hautem.

– Notre destinée et nos instincts, 1946.

– Introduction à la criminologie, 1948.

– Aux sources de l’humain, 1948.

– La nuit est ma lumière, 1950.

– Le juge Maury, 1956.

– Psychiatrie et religion, 1958.

نظرية الانتقال إلى الفعل الانحرافي والاجرامي عند دي جرايف:

 “يعتبر العالم البلجيكي إتيان دي جريف أحد رواد التحليل النفسي في تفسير الظاهرة الاجرامية، وهو أحد رواد الانتقال إلى الفعل الاجرامي، ونقطة البدء لدى هذا العالم أننا إذ نتصرف، فإننا لا نختار أفعالنا بحرية من بين كافة الأفعال المتاحة لنا، بل الحقيقة أن هذه الأفعال حتى الأخلاقية منها تظل محكومة بغرائزنا”. [1]

نفهم من وراء هذا الكلام أن الانتقال إلى الفعل الاجرامي والانحرافي من عدمه، يرجع إلى جملة من العوامل التي تتدخل لتحدد هذا الفعل، فالفرد يكون حسب دي جريف De greeff مرغما وتحت ضغوطات نفسية غرائزية، هي وحدها التي تحدد مدى اقباله على هذا الفعل، وقد وجدنا هذا الموقف مثالا عند العديد من العلماء فمثلا جان شازال يشاطر آراء معلمه البلجيكي دي جريف، ونفس الشيء عند كثير من من علماء الاجتماع الذين استبدلوا مفهوم الغرائز بعوامل اجتماعية هي في نظرهم من يحدد مدى الانتقال إلى الفعل الاجرامي والانحرافي وحتى الأفعال السوية.

وهذا التصور يندرج في إطار المقاربة المسماة بالسببية Causalité، بالإضافة إلى وجود هناك محدد لأفعالنا وسلوكياتنا وهو ما يطلق عليه Le déterminisme.

ويرى دي جريف أن الحياة النفسية للفرد تخضع لسيطرة طائفتين من الغرائز متضادة فيما بينهما، وهما:

  • غرائز الدفاع، وهي تساهم في حفظ الأنا ويعبر عنها بالخوف والهروب وأحيانا بالاعتداء على الغير.
  • غرائز المشاركة الوجدانية وهي تعلو على غرائز بقاء النوع، وتؤدي دورها من خلال الزهد أو اهمال النفس والقبول الكامل للغير”. [2]

نلاحظ من خلال هذا الكلام أن الفرد تحدد سلوكياته نوعان من الغرائز: غرائز الدفاع Instincts de defenseوغرائز المشاركة الوجدانية Instincts de sympathie، وهي نفس القاعدة التي عمل على أساسها العديد من الباحثين والعلماء ونذكر هنا العالم النمساوي فرويد Freud عندما أشار إلى الغرائز التي تحدد طبيعة سلوكيات الأفرادالسوية وغير السوية:

غريزة إيروس Eros وغريزة تناتوس Thanatos أي غريزة الحب والبقاء – المسالمة – وغريزة الموت، التدمير والأذى.

وابتداء من الفكرة السابقة يفسر دي جريف الظاهرة الاجرامية استنادا إلى العوامل النفسية والعضوية في الوقت ذاته، فهو لا ينكر فكرة التكوين الاجرامي، وإنما يضيف إلى ذلك عوامل أخرى نفسية، حيث يرى أن الطب النفسي أو العقلي لا يكفي لحل مشاكل علم الاجرام، وبالتالي فمن الصعب الزعم بأنه يكفي لحل مشاكل علم الاجرام، وبالتالي فمن الصعب الزعم بأن كل المجرمين مصابين بالأمراض النفسية أو العقلية. “[3]

تعد آراء إتيان دي جريف تحول نوعي في تفسير الجريمة والانحراف، حيث استطاع أن يتخلص من التفسير الأحادي الطرح أو العوامل والتي هيمنت لمدة طويلة على أعمال العديد من المنظرين وخاصة المدرسة الإيطالية التكوينية العضوية ، التي حصرت هذا التفسير في العامل العضوي البيولوجي الوراثي، أي جعلت الجريمة نتاج وراثي ينتقل هذا السلوك عبر الجينات وبالتالي كانت آراءها أحادية، تعتمد على سبب أو عامل واحد وتهمل العوامل الأخرى، وبالتالي تفطن دي جريف إلى هذه المشكلة وقال صراحة أن التحليل النفسي مثلا لا يستطيع وحده تفسير الانتقال من عدمه إلى الفعل الاجرامي، ونفس الشيء بالنسبة للأقوال التي تربط الجريمة بالمرض النفسي أو العقلي والتي هي غير صحيحة ، وهذا ما توصل إليه هذا العالم من خلال أبحاثه ودراساته العديدة ومعايشته للحالات الحية لهذه المشكلة.

ويؤكد دي جريف أنه يتوفر لدى كل فرد عدد من الوظائف النفسية غير قابلة للانحراف، وتشمل الشعور بالحتمية والشعور بالمسؤولية الشخصية، والشعور بالعدالة والشعور بالنظام، استنادا لهذه الوظائف النفسية، فإن الجريمة تظهر حين يكون نظام القيم الذي يحاول الفرد تحقيقه لنفسه متعارضا مع هذه الوظائف، أما الدوافع التي تجعل الفرد يتحرر من قيم المجتمع، وبالتالي يرتكب الجريمة فيردها (دي جريف) إلى الشعور بعدم العدالة الذي يرتبط عادة بمرحلة الطفولة، فالطفل الذي يعاني نقصا عاطفيا لا يتصور أن يخضع فيما بعد لقيم معينة تفرضها الظروف الخارجية، لا يكون الفرد عندئذ مريضا عقليا، وإنما يعد سويا من الناحية الاجتماعية”. [4]

ومن الأفكار الأساسية التي نادى بها دي جريف: ” أن المجرم يكون أداة الجانب اللاشعوري، ويتطلب الأمر أن نبدأ بالجهاز العضوي، إذ أن أثره لا يجوز إنكاره.

ثم ينتقل إلى مدى توافق الفرد مع خبراته الماضية التي توجد منتظمة في الجانب الشعوري واللاشعوري، وتوافقه كذلك مع البيئة المحيطة بالفرد، فالسلوك الاجرامي يبدو للفرد بمثابة رد الفعل الأمثل في موقف معين، وهكذا يخلص أن الجريمة تعد ضمن الأفعال الانعكاسية التي تفصح عن شخصية المتهم وما يتوافر في شأنه من عدم التوازن بين عدة دوافع شعورية ولا شعورية. “[5]

وحسب عالم الاجرام ألان باور Alain Bauer وزميله كريستوف سولي Christophe Soullez، فإن العالم دي جريف: “يتوقف طويلا عند موضوعين هامين وهما: سيرورة الفعل الخطير والشعور بالظلم الذي يعانيه المجرم، كما أنه يهتم كذلك بسيرورة النضج النفسي التي تقود الفرد إلى ارتكاب الجريمة العاطفية، إذ يعتبر عملية بطيئة تمر بعدة مراحل: الموافقة المصاغة والتي من خلالها يقبل تدريجيا أن يكون وراء هذا الاختفاء والأزمة مع قرار الانتقال للفعل. “[6]

تعد كل من سيرورة الفعل Processus de l’acte والشعور بالظلم من أهم القضايا والمحطات في نظرية الانتقال للفعل عند دي جريف، حيث تعد سيرورة الفعل كل الاجراءات والقرارات التي تسبق قرار الانتقال من عدمه الى الفعل الانحرافي والاجرامي، كما أن الشعور بالظلم يعد بدوره من أهم العوامل المؤثرة في الانتقال للفعل، فالفرد يقوم بالفعل الاجرامي كالسرقة، أو الضرب أو التخريب، انتقاما لوضعه وردا للظلم والحرمان الذان يشعر بهما.

هذا وتعد سيرورة النضج النفسي من أهم الحالات النفسية بالنسبة للجاني، حيث تهيئته على الانتقال للفعل وخاصة قبول الفعل الاجرامي الذي عن طريقه يعني تصبح الضحية بمثابة مخفية Cachée، حيث تنعدم بالنسبة للجاني، وبالتالي يصبح لا يوجد هناك أي عائق لمنعه من الانتقال للفعل الاجرامي او الوقوف في طريقه.

“وفي نفس الوقت نجده –الجاني-يفقد طعم الحياة ولا يفكر في مستقبله حيث يصبح لا يبال بشيء، إلا أنه يلقي اللوم والعتاب على اللآخرين، ويقلل من قيمته لدرجة أنه يجعل من نفسه شبه رسم كاريكاتوري، الشيء الذي يسمح له برفع جميع الموانع – الحواجز – “. [7]

ومن الاجراءات التي يتخذها الجاني قبل الانتقال للفعل، وهذا حتى يهيئ الظروف ويشحن نفسه، ايجاد الطرف المسؤول على وضعه أو الحالة التي هو فيها، بمعنى إلقاء اللوم على الآخرين وتحميلهم المسؤولية على فعله، وهذا الكلام لايخص هذا المدخل النظري – نظرية الانتقال للفعل من عدم – بل وجد في العديد من النظريات الأخرى مثل نظرية الوصم الاجتماعي، نظرية الفرص السانحة، اللامعيارية وغيرها من النظريات الأخرى.

يرى دي جريف De Greeff أن الجاني يبحث عن كبش الفداء لتحميله مسؤولية أفعاله والتنصل -الهروب – من أي مسؤولية، وهي استراتيجية كل جاني.

يواصل ألان باوير قائلا: ” الانتقال للفعل الاجرامي يصبح سهلا بفضل الشعور بالظلم، إذ يعبر عن مطالب ويضفي – يعطي – على أفعال الاعتدائة طابع الشرعية. [8]

كما أشرنا سابقا، الجاني يعمل جاهدا قبل الانتال للفعل الاجرامي، على إيجاد المبررات لسلوكياته، خاصة تصوير نفسه على أنه ضحية وأن الآخرين هم المسؤولين على معاناته واحباطاته وهذا يسهل له فرصة المرور للفعل.

فمثلا، حتى نبين أن هذا لا يخص فقط نظرية دي جريف، نقول إن الطرح الماكسي، كذلك قد برر الأفعال الاجرامية التي يقوم بها بعض الأفراد في المجتمعات الرأسمالية، حيث تبرر النظرية الماركسية مثلا انتقال هؤلاء الأفراد إلى السلوك الاجرامي من خلال قولها بأنهم ضحايا للظلم والاستغلال الذي تمارسه الطبقة البرجوزية ضدهم، وبالتالي أفعالهم الاجرامية والاعتدائية مبررة.

ويؤكد ألان باوير Alain Bauer نفس ما أشرنا إليه لما تناولنا اشكالية الغرايز التي ركز عليها دي جريف في تفسيره الانتقال من عدمه للفعل الاجرامي، حيث يقول: “بالنسبة لدي جريف De Greeff: الأفعال تتحدد أيضا من خلال غرائزنا: غرائز الدفاع التي تساهم في الحفاظ على الأنا والممكن أنها تؤدي إلى العدوانية، وغرائز التعاطف التي تهدف إلى الحفاظ على النوع وبالتالي قبول الآخر. “[9]

هذا وتعتقد نظرية الانتقال للفعل الاجرامي والانحرافي، أن السلوك الانحرافي سلوك متعلم من خلال عملية التفاعل الاجتماعي. وتقوم هذه النظرية كذلك على الفكرة القائلة: “أن مستوى الجريمة في مدينة ما يبقى مستقرا لسنوات عديدة ضمن نسبها المئوية، أي أن الانحراف إذا ظهر في مجتمع ما سيستمر فيه، أي أن الانحراف إذا ظهر في مجتمع ما سيستمر فيه، حتى يتعمق ذلك الانحراف في البناء الثقافي والاجتماعي، وينتقل السلوك الانحرافي من فرد لآخر، ومن جيل إلى آخر، دون أن يتغير الدافع الذي يؤدي إلى ارتكاب الجريمة لدى هؤلاء الأفراد. “[10]

نفهم من هذا بأن هذه النظرية قد تأثرت كما هو الشأن بالنسبة للعديد من النظريات الأخرى بما يسمى بنظريات التنشئة الاجتماعية، وهي النظريات التي ترجع سلوكيات الأفراد السوية منها وغير السوية إلى سيرورة التعلم الذي يتعرض له الفرد من خلال احتكاكه وتفاعله بمختلف المجموعات الاجتماعية أو البيئات حتى الافتراضية منها، والتي تعمل على إكسابه السلوك، وتنمية فيه إما النزعة العدوانية الاجرامية أو نزعة المسالمة.

ولهذا كما سبق الإشارة إليه يجب الكلام عن نظريات الانتقال للفعل من عدمه، بدلا من الكلام عن نظرية ما بعينيها، كون أن جل النظريات المفسرة للجريمة والانحراف تبحث في إشكالية الانتقال للفعل من عدمه.

كما أن الانتقال للفعل الاجرامي والانحرافي يمكن أن يكون عن طريق:

  • انتقال فرد واحد واقباله على الجريمة والانحراف.
  • انتقال جماعة أو مجموعات من الأفراد للفعل الاجرامي وهذا ما يخص أو يتعلق بالعصابات أو ما يطلق عليه بالعنف الجماعي والشغب.

كما أن الانتقال للفعل الاجرامي والانحرافي لا يقتصر على الشباب أو الأحداث كما ركزت عليه العديد من الدراسات النفسية والنفسية الاجتماعية وحتى الاجتماعية، بل يخض كل الفئات العمرية.

يضيف الدكتور، بسام محمد أبو عليان: ” الطابع الاجرامي لمجموعة الأفراد المنحرفين يساهم في اتساع دائرة الانحراف عن طريق استقطاب أفراد جدد، حيث يشبه رواد هذه النظرية ظاهرة الانحراف بالمغناطيس الذي يجذب إليه نشارة الحديد فحسب، ويترك نشارة الخشب”. [11]

وتعليقا على هذا الكلام نقول بأن الجماعة المنحرفة أو المجموعات المنحرفة تعمل على جلب أفراد آخرين إليها وذلك لما تتميز به من ثقافة انحرافية اجرامية مرنة، لا تكلف من ينضموا إليها الكثير، سوى مناهضة ورفض القانون والمعايير الاجتماعية، هذا ما يجعل الكثير من الشباب وغير الشباب يلتحقون بها، كونها تعكس طموحاتهم العدائية.

وعندما يدخل الفرد المؤهل للانحراف في الجماعة المنحرفة، يوضع تحت الاختبار لمدة من الزمن، ثم يقييم من قبل أفراد المجموعة المنحرفة، فإذا نجح في الاختبار قُبل، وإن لم يفلح برفض ولم يحظ بعضوية الجماعة، وعندما يحظى بالقبول والموافقة تنقلب الموازنات الاجتماعية في تصوراته الجديدة، فيصبح عندئذ الانحراف اعتدالا والاعتدال انحراف. “[12]

هذا ما أكدته العديد من النظريات والدراسات الميدانية، كما سبق الإشارة إليه، خاصة تلك المتعلقة بجنوح الأحداث مثل التي أجراها العالم ترافيس هيرشي صاحب نظرية الضبط الاجتماعي (الروابط الاجتماعية) وكذلك العالم ترستن سيلين والعالم تراشير وغيرهم من العلماء الآخرين، فالفرد الذي يلتحق بالعصابة أو الجماعة الإجرامية يخضع لما يسمى إجراءات طقوسية “une ritualisation”، والتي من خلالها يسمح له بالاندماج من عدمه للجماعة الاجرامية.

خذ على سبيل المثال: يعتبر عمل الجماعات التهريبي فعل إجرامي، لأن المهربين يخالفون القانون وقواعد المجتمع عموما، على عكس نظرة المهربين لأنفسهم، فهم لا يعتبرون أنفسهم منحرفين ومجرمين، ولا يعتبرون عملهم هذا انحرافا وإجراما، بل يعتبرون أن الانحراف الحقيقي ينبع من المجتمع نفسه الذي يساهم في تجريمهم ولم يوفر لهم سبل العيش الكريم لتحقيق أهدافهم وطموحاتهم وإشباع حاجاتهم ورغباتهم، لذلك فهم يستخدمون التهريب وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية لهم ولذويهم. “[13]

لقد وقفنا على العديد من الأمثلة الشبيهة والتي حاول الجانحون -المجرمون-تبرير مواقفهم وأعمالهم وإرجاع اللوم على المجتمع وبالخصوص الدولة كما يقولون، حيث تجدهم يعطون الطابع الشرعي لسلوكياتهم الإجرامية ويتهمون المجتمع بما هم عليه من أوضاع.

فمثلا في إحدى المرات وأنا عائدا من حفل “عقيقة” أقامها أحد الزملاء على شرف مولد له، وكان معنا أحد المعروضين ويظهر عليه أنه من الملتزمين والمتدينين، ونحن نتحدث عن ظاهرة سرقة الكهرباء من خلال استعمال بعض الحيل وعلى مستوى العدادات الكهربائية، وكنت من بين الذين قالوا صراحة بأن هذا السلوك سلوك اجرامي ولا حق لفاعله وانه لا فرق بينه وبين باقي المجرمين، أجابني الملتحي – الملتزم – الذي كان ضمن المعزومين بافتخار “أنا يا سيدي لا أسدد الثمن الحقيقي لاستهلاك الكهرباء، أضع ”إبر” une aiguille على مستوى ساعة العداد ويصبح يدور ببطء”. فقلت له ما تقوم به هو جريمة وحرام، فرد عليا أنا لا أسرق الشعب أخذ حقي الذي سلبته مني الدولة الطاغية.

هناك العديد من مثل هذه المظاهر التي نعيشها اليوم في مجتمعنا، حيث أصبح الجاني يرى أنه صاحب حق وأن ما يقوم به من سلوكيات انحرافية وإجرامية هي سلوكيات عادية وشرعية، وأن اللوم يعود فقط على المجتمع وبالخصوص الدولة التي كانت وراء ما هو عليه. ففي نظره المسؤول عن معناته ووضعه هو الدولة.

كما نشير إلى أن هذه النظرية تلتقي في هذا الباب مع العديد من النظريات، نذكر من بينها: نظرية الوصم الاجتماع، والتي ترى أن من سميوا بمجرمين ومنحرفين هم في الحقيقة ضحايا الشهادات الأخلاقية” والتسميات التي وصموا بها من طرف أفرادالمجتمع، وبالتالي انتقالهم للفعل الاجرامي يعود إلى هذه التسميات التي وصفوا بها.

كما نجد مثلا: نظرية الدفاع الاجتماعي “La défense Sociale” تعمل بل تجرم المجتمع بدلا من الجاني وتقول إن المجتمع هو المسؤول على انتشار الجرائم ومظاهر الانحراف المختلفة وأن الجاني هو ضحية للمجتمع.

هذا بالإضافة إلى وجود العديد من النظريات الأخرى التي كذلك تعمل على تبرير السلوك الاجرامي لدى المجرمين وتحمل المجتمع مسؤولية حدوث الانحراف والجريمة.

وحول ظاهرة التهريب نجد الدكتور بسام محمد أبو عليان، يقول: “لهذا السبب نلاحظ أن المهربين لا ينظرون إلى عملهم نظرة إجرامية، والدليل أن أغلب المجرمين يرجعون إلى سابق عهدهم في الإجرام بعدما يطلق سراحهم من السجون وانقضاء مدة العقوبة. “[14]

فعلا، العديد من الجانحين والمجرمين يعودون إلى عامل الجريمة بعد أداء ما سماه العالم كيتلي وزميله جيري بالضربة الاجرامية، أي بعد قضاء مدة العقوبة، وتسمى هذه الظاهرة بالعود”la récidive” إلى الجريمة، فالعود ليس دائما نتيجة للحاجة الماسة للحصول على الأموال أو الدفاع عن الشرف وغيرها من العوامل الأخرى، بل هناك من يعود للجريمة عن قناعة وميلا لهذا السلوك والذي يجد فيه الراحة النفسية، او ما يمكن تسميته ب “المكانة الاجتماعية والاحترام”.

ييقى الانتقال للفعل من عدم مرهون بالعديد من الشروط منها:

– الفرصة السانحة للانتقال للفعل.

– وجود الضحية أو موضوع الاعتداء المهيء.

– توفر الأسباب الكافية للانتقال للفعل لدى الجاني.

– المكان المناسب والذي يسهل فيه الانتقال للفعل.

– الوقت المناسب.

هذا بالإضافة إلى العوامل التي أشار إليها العديد من الباحثين والمحفزة على ارتكاب الفعل الاجرامي والتي لخصها لنا الدكتور بسام محمد أبو عليان في:

  • العلاقات الاجتماعية: ارتباط الفرد بالمنحرفين عن طريق الصداقة.
  • عامل العمر: فإذا تربى ونشأ الفرد في بيئة اجتماعية منحرفة، فإن شخصيته تكون أكثر تقبلا للانحراف من شيخ طاعن في السن.
  • النسبية: كلما كانت نسبة اتصال الفرد وانفتاحه على المنحرفين أكبر، كلما كانت فرصة الانحراف أعظم، والعكس صحيح. “[15]

وقد بينت نظرية الاختلاط التفاضلي للعالم الأمريكي إدوين سزرلاند صحة هذا الكلام، عندما أشارت إلى دور الجماعة التي يختلط بها الفرد أو يحتك بها وكيف تعمل هذه الأخيرة على جلبه إلى عالم الانحراف والجريمة، ونفس الشيء قد أكدته مثلا: نظرية التقليد والمحاكاة للعالم الفرنسي جبرايل تارد وغيرها من النظريات الاجتماعية الأخرى.

كلما ارتبط الفرد بأفراد منحرفين وخاصة خلال مرحلة الطفولة والشباب فهذا يغرس فيه الميل والاستعداد لتبني الثقافة الجانحة ويزيد من قدرته على الانتقال إلى الفعل الاجرامي.

كما ان الأفراد الذين ينشئون في أسر منحرفة لهم فرص كبيرة كي يصبحون بدورهم منحرفين في المستقبل.

 

الهوامش

[1]-الدكتور سليمان عبد المنعم، أصول علم الاجرام والجزاء، جمعة للطباعة، القاهرة، 1999، ص. 263.

[2]-طلال أبو عفيفة، أصول علم الاجرام والعقاب وآخر الجهود الدولية واتلعربية لمكافحة الجريمة العابرة للحدود الوطنية، الجندي للنشر والتوزيع، القدس، 20132، ص. 135.

[3]-نفس المرجع، ص. 135.

[4]-نفس المرجع، ص. 135.

[5]– سليمان عبد المنعم، مرجع سابق ذكره، ص. ص. 264، 265.

[6]– Alain Bauer et Christophe Soullez : Criminologie pour les Nuls, First Editions, Paris, 2012, P. 75.

[7]– Ibid, p. 75.

[8]-Ibid, p. 75

[9]-Ibid,p. 76

[10]– بسام أبو عليان، مرجع سابق ذكره، ص. 73

[11]-نفس المرجع، ص. 73

[12]-نفس المرجع، ص. 73

[13]-نفس المرجع، ص. 73

[14]-نفس المجرم، ص. 74

[15]-نفس المرجع، ص. 74

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.