الإصابة بالعين والمعتقدات الثقافية

عبدالرحمن بن عبدالله الشقير

يعد “النضل” (الإصابة بالعين) من أقدم الظواهر الشعبية في التاريخ وأكثرها انتشارًا في العالم، وارتبطت بالخرافة والحسد والطب والتعويذة، وكانت تشكل أحاديث مسامرة مبهرة وتشد الانتباه في المجالس لكثرة الحكايات والأشعار والأمثال والنصائح حولها.

وتركز الأنثروبولوجيا في تحليل المعتقدات الشعبية على كيفية تأثيرها في حياة الناس؛ حيث تؤسس المعتقدات الشعبية للعلاقات الاجتماعية وتحدد أشكال التواصل بين الأفراد، والتشاؤم بأشخاص وأسر وبلدان.

وكلما أصيب شخص إصابة مفاجئة أو خسر أو فسد إبداعه، يلجأ التقليديون أصحاب “التفكير السريع”، بحسب تعبير دانيال كانمان، بنسبتها تلقائيًا إلى الإصابة بالعين، ثم البحث عن المتسبب، والسعي لأخذ أثر من عرقه في وضوئه أو نواة تمره أو مقابض يده، ثم تبنى منظومة تفاعل جادة على أسس وهمية.

قد يفسر المجتمع الموت والإصابة بالسرطان والأمراض والحوادث بسبب واحد هو “النضل”، ويستندون في ذلك بحديث مشهور ومتداول بين العامة: “العين حق، تدخل الرجل القبر والجمل القدر”. ورغم أن “العين حق” إلا أن هذا المبدأ أصبح أساس يتكئ عليه التقليديون الذين يكسلون عن التفكير المنطقي والتساؤل العلمي.

مفاهيم أساسية

الحسد والعين الشريرة والإصابة بالعين، كلها مرادفات لمعنى واحد، وتسمى في السعودية “النضل”، وفي القصيم “النحت”، ومن يصيب بالعين يسمى “عائن” و”نضول”.

فالإصابة بالعين والعين الشريرة تعني تأثر شخص أو شيء بنظرة تحمل طاقة سلبية، مع الاعتقاد بأنها تسببت في الضرر؛ ولذلك يقال عن بعض الأشخاص النضولين “عينه حارة”. والحسد شعور جارف بالغيرة مع تمني زوال النعمة والنجاح عن الآخرين.

والعين قد تكون مقصودة وغير مقصودة، وقد تأتي من محب يفرح بالنجاح ولكن عينه مفعمة بالطاقة السلبية، بينما الحسد حالة حقد مقصودة وموجهة مع رغبة في فشل الآخرين.

الرمزية الثقافية للحسد

كانت الإصابة بالعين تعتبر رمزًا عالميًا للخطر والقوة، وتتسم بأنها قديمة ومعروفة لدى جميع الشعوب، إلا أنها تضعف وتتلاشى كلما تقدم العلم وأمكن تفسير المشكلات والخسائر بتفكير منهجي.

وتؤمن الشعوب بقدرة العين على التواصل والتأثير غير اللفظي، فإذا كانت النظرة بالعين قد توحي بالإعجاب أحيانًا، فذلك لوجود دفء ومشاعر قادرة على الوصول النفسي، ويمكن للنظرة أيضًا أن تبث الرعب وتثير المخاوف، وتجعل الآخر يتدخل بطلب ذكر الله أو النفث على مكمن الإعجاب للتخلص من خطر تأثير النظرة.

والمصدر الشرعي لبناء القصة مستمد من قصة الصحابي سهل بن حنيف، وكان جميل الجسد والبشرة، فخلع ملابسه ليغتسل، ورآه الصحابي عامر بن ربيعة، فقال: “والله ما رأيت كاليوم جلد عذراء”؛ فسقط مغشيًا عليه، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “علام يقتل أحدكم أخاه، ألا هل برّكت عليه”.

كما يربط بعض المفسرين آيات من القرآن بالعين، مثل “يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة”، حتى لا يكون تجمعهم مدعاة للإعجاب ثم إصابتهم بعين و”وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم”؛ حيث ربط التعثر بالعين بشكل صريح.

برزت فكرة “اذكر الله” وتكرار عبارة “ما شاء الله” بشكل تلقائي، وهي مستمدة من قصة الرجل الذي تباهى بحديقته، ثم صارت قاعًا صفصفا، وقال القرآن فيه: “ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله”؛ ولذلك أرفق بعبارة “ما شاء الله” معاني اجتماعية مرتبطة بالنضل والحسد.

التعويذات والرموز الشعبية للحسد

تختلف ثقافات الشعوب في التعويذة، وأكثرها يكون إجراءات احتياطية لمنع وقوع ضرر محتمل، ومن أشهرها:

التحصين الشرعي: ويتمثل في أذكار الصباح والمساء، وطلب ذكر الله عند إعجاب الآخرين بهم، وهذا السلوك المنتشر في المجتمع السعودي والعربي عامة.

الخرزة الزرقاء: تعتبر من أقدم التمائم المستخدمة ضد الحسد، وهي شائعة في ثقافات الشرق الأوسط، ويعتقد أن اللون الأزرق له قدسية تحمي صاحبها من الطاقات السلبية التي تطلقها عيون الحساد.

وغالبًا ما تكون الخرزة الزرقاء على شكل عين، مما يعني رد العين بالعين. وبعض الشعوب تربط خرقة سوداء أو ألون غيره على العنق أو على السيارة.

تعويذة البطولات: ارتبطت البطولات العالمية والأولمبياد بتعويذة رمزية، لكن ترجع أصولها إلى الإيمان بقوة اللاعبين المشاهير أو المقاتلين الشجعان، مما يجعلهم أكثر عرضة للحسد من غيرهم، وبالتالي يحتاجون إلى تعويذة تحميهم أثناء البطولات.

ذبح خروف: يذبح كثير من الناس خروف ويريق دمه أمام عتبة باب منزله الجديد، للتحصين من العين والحسد، ولم تتوقف في المجتمع السعودي إلا منتصف الثمانينيات، وانتقلت الفكرة إلى ذبح خروف وإقامة وليمة للجيران والأقارب والأصدقاء، أو توزيع لحومها على الفقراء، وتوقف هذا ايضًا.

البخور: ظاهرة استخدام بخور اللبان والمعمول للوقاية من الحسد والحماية من الأذى وطرد الطاقة السلبية من المكان، شائعة لدى كثير من الثقافات، وغالبًا ما توضع في مبخرة خاصة وتمرر على المكان أو الجسد مصحوبة بتلاوة بعض لآيات القرآنية أو أذكار دينية.

خمسة وخميسة: من أقدم التعويذات من الحسد، وتسمى “خمسة” و”يد فاطمة” نسبة إلى فاطمة الزهراء، و”يد مريم”، وهي شائعة الاستعمال في ثقافات شعوب الشرق الأوسط بجميع الأديان.

امسك الخشب: عبارة تقال مرادفة لكلمة “اذكر الله”، وتأتي مصحوبة بالتحدث عن نجاح.

الملح: انتشرت عادة رش الملح لتجنب الحسد، وهي عادة قديمة، يقول حميدان الشويعر:

أنا من قومٍ تجرتهم       أرطى الضاحي ودوا الغيرة

يشير إلى أن جماعته يتاجرون في الملح، ووصفه بأنه علاج للغيرة والحسد.

الرقية الرقمية: تشغيل أذكار الصباح والمساء وجميع أدعية تحصين المكان بجهاز مثبت، وتتأخذ أشكالًا مختلفة بحسب الحاجة والتقنية المستخدمة فيها، وقد انتشر دعاة يرقون المرضى عبر البث في القنوات الفضائية الدينية.

ماء مقري فيه: يستخدم الماء العادي أو زمزم، ويقرأ الزاهد والعالم فيه آيات من القرآن ثم ينفث داخله، ثم يشربه الشخص المصاب بمس أو حسد بغرض الشفاء.

قراءة رجل الدين أو الواعظ القرآن والأذكار مباشرة على المصاب، ويعتقد أنه يرى من أصابه بالعين في المنام بعد قراءة التعويذات عليه.

أخذ وضوء الناضل؛ حيث يذهب أحد أولياء المنضول إلى المتهم بالنضل وطلب منه الوضوء بماء يحضره ذوي المصاب، بحيث يصب على يديه ويغسلها مع غسل وجهه ورجليه ورأسه، وينسكب غسيله داخل إناء هو الذي يغسلون به مريضهم.

وقديمًا كان الناس يأخذون كل ما له علاقة بعرق المتهم أو ريقه، مثل أخذ نواة التمر وتنقيعها في ماء وشربها أو الاغتسال بها. وأحيانًا يمسح مقبض الباب وعتبته -عندما كان الناس يمشون حفاة والشوارع ترابية- بخرقة مبللة بالماء وتوضع في إناء ويغتسل بها المصاب.

وكانوا أيضًا يعتقدون بأن الصلاة على النضول صلاة الميت، إذا كان نائمًا، تفك عقدة النضل وتبطل مفعوله.

النضل والحسد في الفنون البصرية

ارتبطت عبارة “ما شاء الله” بأشخاص أو بلدان معينة في المجتمع العربي للحماية من الحسد والعين، وصارت العبارة من آداب التعبير الشعبية الدارجة التي تكرر بكثافة عند الإعجاب، بسبب انغراس فكرة الحسد في لاوعيهم، وأصبحت تقال تلقائيًا من غير قصدية لذكر الله، ومن ينساها أو لا يؤمن بارتباطها بالتعويذة يمكن أن يذكر بها، ويطلب منه أن يقول لشيء يستحق الإعجاب “قل ما شاء الله”.

ومع الوقت استبدلت بعبارات تؤدي المعنى مثل “تبارك الله” و”هذا من فضل ربي”، وهي غالبًا تعويذات رأى أصحابها أنها ضرورية، ورسمت بأساليب فنية لتبدو أنها شكل جمالي عفوي.

توسعت تعويذة “ما شاء الله”، ودخلت مجال الفن والتصميم بكتابتها بخط اليد على واجهات المنازل بلوحات رخامية فنية أو بالجبس، وعلى خلفيات السيارات وملصقات صغيرة للأجهزة بخطوط ورسومات فنية، ودخلت في الهوية البصرية للمجتمع كأيقونات على الأكواب والملابس، مما يعكس تحولات ثقافية واجتماعية كبيرة داخل سلوكيات صغيرة.

وتعكس هذه الظاهرة قوة انعكاس الروح الشعبية على الفن، وهذا يعني أن المجتمع التقليدي لا يمكن أن يتعامل مع الأشياء والعلوم والفنون بقوانينها الصارمة، وإنما يعيد تشكيلها بروحه وهويته الخاصة، مما يؤكد على أن الثقافة الشعبية قوة مؤثرة وقادرة على أن تهضم ما تتعامل معه يوميًا بما يلائم ما اعتادت عليه.

الإصابة بالعين والتحولات الاجتماعية

كثيرًا ما يستخدم ادعاء الإصابة بالعين كآليات للدفاعات النفسية لتفسير الفشل وتبرير المشكلات والخوف من المجهول، والتوجس أن النجاح مهدد من أشخاص فاشلين، ومن المؤكد أن للتحصينات جذورًا تاريخية ودينية، تحقق الأمان النفسي.

تؤثر الإصابة بالعين في سلوك الشعوب، من حيث الحذر من أشخاص مشتبه بهم، والتكتم على السلوك والحذر من التفاخر المفرط، وأصبح من يصاب بعد نجاح ينسب السبب إلى الإصابة بالعين.

الحسد والإصابة بالعين ظاهرة مؤكدة، ويمكن الشعور بها، ولكن لا يمكن قياسها، مثل كثير من الظواهر المثبتة علميًا، كالمغناطيس والحرارة، فهي مثبتة علميًا ويمكن الشعور بها ولها قوانين معروفة بينما يصعب قياسها.

ختام

ظاهرة الإصابة بالعين فكرة شعبية متوارثة منذ آلاف السنين، وتكثفت حولها معاني اجتماعية وثقافية ودينية كثيرة، وهي انعكاس لعلاقة الإنسان بالخوف من المجهول، ومحاولته إيجاد تفسير بسيط لتبرير إخفاقه وعجزه.

إن التحليل الأنثروبولوجي يبحث في التأثير العميق للمعتقدات والخرافات الشعبية، أكثر مما يبحث في إثباتها ونفيها؛ وذلك لأنها تؤسس للعلاقات الاجتماعية وتعيد تشكيل الحياة اليومية ويظهر أثرها، دون وعي بتأثيره، في البناءات العامة كالأنظمة والمشروعات التنموية والتعليمية والصحية وغيرها.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.