مصطلح البــــداوة nomadism

أحمد الأصفر الشهير باللحام

بدو رحل

شاع مصطلح البداوة nomadism للدلالة على أسلوب الحياة في البادية، وعلى تأثر الإنسان فيها بالبيئة المحيطة به، حيث يكثر التنقل والترحال تبعاً لضرورات المعيشة التي تفرضها الطبيعة والتي تتفاوت من فصلٍ إلى آخر على مدار العام.

ويختلف مصطلح البداوة عن مصطلح البدائية primitive الذي درج علماء الاجتماع على إطلاقه للدلالة على نمط معين من المجتمعات الإنسانية التي لم تعرف ثقافة الكتابة، والتي تخلفت فيها الوسائل الفنية أو النظم الاجتماعية والاقتصادية فعطّلتها عن التقدّم. ويعزى تخلّف مجتمعات البداوة أيضاً إلى أنها عاشت أمداً طويلاً بمعزل عن التيارات الحضارية الكبرى، وعن المجتمعات المتطورة.

تختلف حياة البداوة في تنقلها وترحالها عن حياة الجماعات الأخرى غير المستقرة كالغجر (النَّوَر) في أن للبداوة قدراً من الاستقرار النسبي يربطها بالبادية ويمنح أفرادها صفة الانتماء إلى الأرض.

وينحصر هذا الاختلاف في مسألتين أساسيتين هما: الانتماء القومي والمكاني، ونمط الإنتاج. فالبداوة تنسب عادة إلى حيز جغرافي محدد نادراً ما تتجاوزه تنقلات البدو ورحلاتهم، بحسب الشروط التي تقتضيها فصول السنة، لذلك لا تأتي حركية البدو عشوائية بحسب ما تقتضيه شروط الترحال، إنما تأخذ طابع التنظيم والإعداد تبعاً لمقومات كل موقع من المواقع التي تنتقل فيها العشائر، وتبعاً لخصائص الموقع الطبيعية والإنتاجية.

ومع ذلك يلاحظ أن بعض الباحثين في العلوم الاجتماعية لا يفرق بدقة بين البدائية والبداوة، فذكر بعضهم أن البداوة: «أقدم نمط اجتماعي للحياة عرفه الإنسان فهي أول سعي له في التكيف مع الشروط الطبيعية. فبالبداوة افتتح الإنسان صلته بالبيئة من حوله، ينتزع منها رزقه، فطلبه متطفلاً على مائدة الطبيعة المبسوطة أمامه في كرم واسع حيناً، وفي شح ضيق حيناً آخر، يجمع ثمار الأشجار من على وجه الأرض يطعمها، ويعالج جذور النباتات في باطن الأرض فيتبلغ بها».

غير أن هذه الخصائص والشروط تنطبق على المجتمعات البدائية أكثر من انطباقها على مجتمع البداوة، فإذا اعتمد مبدأ استخدام التقنيات في إنتاج الطعام معياراً للتفريق بين المجتمعات البدائية ومجتمعات البداوة لوحظ الفارق الكبير بين الأشكال الأولى التي لجأ إليها الإنسان للتكيف مع الطبيعة وبين الأشكال المستخدمة في مجتمع البداوة، فاستخدام النار والطهي والتفريق بين الحيوانات التي تصلح لأن تكون غذاء والحيوانات التي لا تصلح لذلك، هذه الأمور لم تكن معروفة في المجتمعات البدائية كما هي واضحة تماماً في مجتمعات البداوة والمجتمعات المتطورة الأخرى.

كذلك يذهب بعض المفكرين إلى التفريق بين ثلاثة أشكال للبداوة هي: فئة الرعاة، وفئة الصيادين، وفئة الباعة. أما الفئة الأولى التي تعتمد في معاشها على تربية المواشي فتنزل حيث تجد الماء والكلأ، حتى إذا نضب الماء أو نفد الكلأ نزحت عن المكان وأخذت تبحث عن غيره. وفئة الصيادين التي تعتمد على الطرائد فتتبعها حيثما تجدها، وقد يكون ترحال هذه الفئة يومياً، وقد يكون شهرياً أو موسمياً. وكثيراً ما تستقر جماعاتها في أرض بعينها مدة طويلة إذا أسعفتها في ذلك شروط العيش. والفئة الأخيرة فئة الباعة التي تعتمد في حياتها على بيع المنتجات الأولية، أو أداء بعض الخدمات للمجتمعات الحضرية.

ولا تفرق هذه التعريفات بين البداوة والبدائية من جهة، ولا بين البداوة وظاهرة الغجر من جهة ثانية، ففئة الصيادين، ومن يعتمدون على مهنة الجمع والالتقاط هم أقرب إلى البدائية منهم إلى البداوة بدلالة الاختلاف في استخدام التقنيات، وأشكال صنع الطعام. كما تختلف البداوة عن ظاهرة الغجر في المجال الجغرافي الذي تتم فيه عملية التنقل والترحال، ففي ظاهرة البداوة تأتي حركة التنقل ضمن حيز جغرافي محدد تنتمي إليه العشائر المتنقلة في حين تأتي حركة الغجر محررة من القيود الجغرافية، أو الارتباط بالأرض.

ومردّ التفريق بين البداوة والبدائية من جهة، والبداوة وظاهرة الغجر من جهة ثانية إلى اعتبارات كثيرة أهمها:

ـ سعة مفهوم البداوة في اللغات الأجنبية واختلافه عن مفهوم البداوة باللغة العربية، فالبداوة باللغة الفرنسية تعني الترحال والانتقال، والبدوي من ليس له مسكن ثابت أو مستقر. ويتيح هذا التعريف النظر إلى البداوة بمعناها العام الذي يندرج في مظاهر التنقل والترحال بصرف النظر عن مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي المرافقة له، وبصرف النظر عن مقاصده وأسبابه والعوامل المؤدية إليه، لذلك من الطبيعي أن يجد الباحثون للبداوة أنواعاً منها التنقلات المقترنة بتصورات غير محددة عن الأماكن المنشودة، ومنها التنقلات المقترنة بتصورات واضحة ومحددة ضمن نظام اجتماعي أشمل.

أما في اللغة العربية فلا يأتي مفهوم البداوة من التنقل والترحال، وإن كان مبنياً عليهما، إنما هو من باب الظهور، فبادى الشيء أظهره وجلاه، وبادى بالعداوة جاهر بها، وأبدى الأمر أظهره، وتبدى أي ظهر أو خرج إلى البادية وأقام فيها وصار بدوياً. والبادية تسمية عربية قديمة، جاءت من الجذر الثلاثي بدا بمعنى: ظهر، وقيل للبادية بادية لبروزها وظهورها، وقيل للبرية بادية لأنها ظاهرة بارزة… والبادية اسم للأرض التي لا حضر فيها، وإذا خرج الناس من الحضر إلى المراعي في الصحاري قيل: قد بَدَوا، ويطلق العرب على البَدْو تسمية «الأعراب» إذا سكنوا البادية.

فالبادية في اللغة العربية ليست من البدائية، ولاهي من التنقل والترحال غير المحدَّد المعالم، إنما هي من التبدي أي الانتقال إلى البادية، والتحضر من الانتقال إلى الحضر. وعلى هذا فإن الانتقال من مدينة إلى أخرى ليس من البداوة في معجمات اللغة العربية، وإن اقترن بغياب المسكن المستقر أو الثابت، ولكنه كذلك في معجمات اللغات الأجنبية، وفي ذلك يكمن الفارق بين دلالتي المفهوم الأجنبية والعربية.

ـ يقترب مفهوم البداوة القائم على التنقل والترحال من ظاهرة الغجر، الأمر الذي دفع بعض الباحثين إلى عدم التفريق بين الظاهرتين، فالغجر يعتمدون على التنقل والترحال في حياتهم بحثاً عن مصادر الغذاء على غرار البداوة تماماً، غير أنهم يختلفون عن البدو في أن التنقل والترحال عندهم لا يأتي في إطار نسق ثقافي اجتماعي محدد. لذلك لا تتحدد معالم هذا التنقل ولا اتجاهاته المستقبلية، ولا يمكن لأبناء القبائل الغجرية التنبؤ بالمواقع التي يمكن الاستقرار فيها مستقبلاً، الأمر الذي ينفي عن حركية هذه القبائل صفة التنظيم الاجتماعي التي تبدو واضحة في تنقلات البداوة، حيث تكون كل المواقع التي يمر بها أفراد القبيلة واضحة في أذهانهم على مستوى الزمان والمكان، ويتوقع كل فرد من أفراد القبيلة مكان وجوده أو وجود قبيلته في أي فصل من فصول السنة، الأمر الذي يعطي لحركية القبائل البدوية طابع التنظيم الاجتماعي، وليس طابع التنقل العشوائي كالغجر. وثمة فرق كبير بين التنقل المنظم في إطار حيّز جغرافي محدد، حيث تبرز مظاهر الاستقرار النسبي، ومعالم الانتماء القومي والاستثمار الأفضل للمكان، وبين التنقل العشوائي الذي تنتفي معه صفة الاستقرار النسبي، والكلي، وتنتفي معه أيضاً معالم الانتماء.

ـ تشبه ظاهرة التنقل الملحوظة في حالة البداوة، حالة التنقل الملحوظة بين القبائل البدائية من حيث المظهر أيضاً فالأقوام البدائية التي تمتهن الصيد والقنص والجمع والالتقاط تعتمد على التنقل في حياتها بحثاً عن الغذاء، وربما جاءت حركيتها مقرونة بنوع من التنظيم الاجتماعي البدائي، حيث تكون المواقع التي يتجه نحوها أبناء القبائل ماثلة في أذهان بعضهم على الأقل، من دون أن تكون هناك صورة كاملة لما تكون عليه حركيتهم في المستقبل.

الأساس الاقتصادي والاجتماعي للبداوة

ترتبط أشكال البداوة ومراحل تطورها الاجتماعي بالشروط الاقتصادية التي يعيشها السكان، وغالباً ما تسهم الأوضاع البيئية في تحديد الموارد الاقتصادية التي يعتمد عليها السكان فحيث تنتشر المراعي والأعشاب الصالحة للرعي يظهر الاقتصاد الرعوي.

كما تعد النظم الاجتماعية التي تميز البداوة نتاجاً لتأثر الإنسان بالبيئة، حيث استطاع بهذه النظم أن يتكيف مع شروطها التي تميل في طبيعتها إلى الجفاف وقلة المياه وانتشار العشب الصالح للمرعى، وغياب الاستقرار الدائم والتبعثر في الانتشار وغير ذلك.

وتبدو مؤثرات البيئة بأوضح مظاهرها في نظام البداوة، الذي ينطوي على معايير اجتماعية وأخلاقية وقيم تحدد أشكال التفاعل بين الأفراد والجماعات. ومثال ذلك أن غياب الاستقرار في المكان والاندفاع للترحال وتبعثر أفراد الأسرة الواحدة في مواقع شتى من البادية يجعلهم ينشدّون أكثر إلى نظم القرابة والاحتكام إليها في مشكلاتهم وقضاياهم حتى صارت الركن الأساسي في النظام الاجتماعي البدوي، يقبل بمعاييرها القاصي والداني، ويحتكم إليها الجميع. وبلغت سيطرة القرابة في النظام الاجتماعي للبداوة قدراً جعلها توحد بين الجميع. فالقرابة في نظام البداوة استجابة لواقع التشتت الذي تفرضه شروط البادية .

ويظهر أثر البداوة في النظام الاجتماعي أيضاً بتعرف مضمون القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تحدد أنماط التفاعل بين أبنائها. فإكرام الضيف, وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، وحرمة الجار، قيم إنسانية ترتبط بنظام البداوة أكثر من ارتباطها بنظام الحضر، لمحافظة البدو على كيانهم الاجتماعي، وإلا فإن التشتت والتبعثر قد ينال من وحدتهم، وترابطهم. إذ يجد البدوي نفسه مدفوعاً لإكرام الضيف الذي اجتاز مسافات طويلة حتى بلغ منزله، ولهذا الإكرام وظيفة اجتماعية تعزز الارتباط، وتوحد الجهود لمقاومة الأخطار التي تهدد الجماعات. فإن هو أخل بهذه الوظيفة ولم يؤد واجبه نحو ضيفه كان ذلك دليلاً على تفرده وعدم تعاونه مع الآخرين، الأمر الذي يجعل الجميع أقل قدرة على مقاومة الأحوال الصعبة.

لذلك جاء إكرام الضيف علامةً بارزةً من علامات الترابط والتماسك بين العشائر وغدت جزءاً لا يتجزأ من النظام الاجتماعي البدوي، أو جزءاً لا يتجزأ من نظام البداوة. ويقال الأمر ذاته في المعايير الأخرى التي ينطوي عليها نظام البداوة.

أشكال البداوة وتوزعها الجغرافي

يفرق الباحثون بين ثلاثة أشكال رئيسية للبداوة بالمعنى الواسع لها، ويعد العامل الاقتصادي معياراً أساسياً في هذا التمييز، غير أن أثر العوامل البيئية غالباً ما يبرز في العامل الاقتصادي وبنمط الإنتاج الأساسي المعتمد بين السكان. وتعد مهنة الصيد والقنص، من أقدم المهن التي هي الأساس الاقتصادي للبداوة في شكلها البدائي، وتأتي مهنة الزراعة المتنقلة في الموقع الثاني، وأكثر تطوراً، ثم مهنة الرعي، وتربية المواشي التي تضع البداوة في أعلى مراحل تطورها.

1ـ البداوة البدائية ومهنة الصيد والقنص: تعد حرفة الصيد والقنص من أقدم الحرف التي عرفها الإنسان منذ العصر الحجري القديم، وكانت حتى عهد قريب جداً سائدة في جنوبي إفريقية وشرقيها، وهي ماتزال حتى اليوم منتشرة في المناطق المنعزلة وتمارسها أقوام وشعوب متخلفة لا تزيد أعدادها على بضع مئات الآلاف وأشهر هذه الشعوب هي البوشمن[ر]، في صحراء كلهاري الإفريقية، والأقزام[ر] في غابة الكونغو الاستوائية، وجماعات صغيرة مثل قبيلة السانداوي في تنزانية، وقبيلة الماجو في جنوبي إثيوبية، والدوروبو في شرقي إفريقية وجماعة الدايم وساني في كينية.

ولا تختلف هذه الجماعات في مستوى تطورها الحضاري والثقافي، مع وجود اختلافات محلية كبيرة، فأغلبها يستعمل الحراب المسممة والقسي والسهام في القنص، وتقوم النساء بجمع الثمار وجذور النباتات إلى جانب إعداد الطعام وبناء المسكن وتربية الأطفال، في حين يقوم الرجال بعملية الصيد التي تحتاج إلى جرأة وشجاعة ومهارة وصبر، ويستخدمون في سبيل ذلك أدوات بدائية غير فعالة. ويصيد البوشمن الوعول والزرافات والنعام، وقد تحتاج عملية صيد حيوان واحد إلى يوم كامل، فحين يطعن أحدهم الحيوان بالرمح، ينفر الحيوان ويفر هارباً، وتبدأ جماعة الصيد في مطاردته طوال اليوم حتى يضعف الحيوان ويستسلم متأثراً بجراحه.

2ـ البداوة والزراعة المتنقلة: تأخذ ظاهرة التنقل والترحال شكلاً أكثر تطوراً مع الاعتماد على الزراعة المتنقلة، إذ يميل السكان إلى استخدام المكان استخداماً أكثر وضوحاً، وقد يقترن ذلك مع مهنة الصيد والجمع واللقط، ويفرق الباحثون بين المراحل التالية في الزراعة البدائية المتنقلة التي تقوم بها الجماعات التي تقطن البيئة الاستوائية والمدارية الرطبة:

ـ زراعة متنقلة حقيقية، تتلاءم فيها الزراعة مع حرفة الصيد والجمع، ويعد الجمع والصيد أهم من الزراعة في هذه المرحلة.

ـ زراعة شبه متنقلة، يقيم السكان المشتغلون بها في قرى شبه مستقرة مدة محددة (ثلاث سنوات أو أربعاً)، وحين تفقد الأرض خصبها يضطر السكان إلى الانتقال إلى منطقة جديدة يقطعون نباتاتها الطبيعية ويقومون بزراعة الأرض وإقامة مساكنهم فيها.

ـ زراعة أكثر استقراراً، وهذه هي أرقى مراحل الزراعة البدائية، حيث يقيم السكان في قرى دائمة، ويتبعون فيها نوعاً من الدورة الزراعية بعد تنظيف الأرض من نباتاتها الطبيعية، ثم يزرعونها سنة أو سنتين أو ثلاثاً، ثم يتركونها لتنمو فيها الأشجار مجدداً، ويستغرق نمو الغابة عادة 25- 30 سنة، تستعيد الأرض إبانها خصبها، فيعاد قطع الأشجار وتنظيف الأرض وتزرع من جديد. وكثير من هذه الجماعات يقصر مدة إراحة الأرض إلى أقل من ذلك بكثير، مما يتسبب في النهاية في تدهور التربة، فتضطر الجماعة إلى الانتقال إلى منطقة أخرى.

تعيش الجماعات التي تعتمد على الزراعة المتنقلة بمراحلها، وأنواعها المختلفة في جميع الأقاليم الاستوائية والمدارية الرطبة، في أمريكة الجنوبية، وفي إفريقية المدارية وشرقي جزيرة مدغشقر، وفي جزر الهند الشرقية والملايو.

وتختلف هذه الجماعات بعضها عن بعض في نوع المحصول الذي يزرعونه، ففي أمريكة الجنوبية والوسطى يزرع المنيهوت Manihot وهو محصول يستفاد من جذوره في صنع الطعام بعد أن يحول إلى دقيق، كما تزرع البطاطا والفاصولياء والذرة والفول السوداني وهذه كلها محاصيل أصيلة، ثم قصب السكر من المحاصيل التي أدخلها الأوربيون. وفي إفريقية تقوم الجماعات البدائية بزراعة الذرة الرفيعة واليام Yam، وغيرها من المحاصيل المحلية إضافة إلى الذرة والموز وأرز المرتفعات الجاف والمنيهوت التي دخلت إلى هذه المناطق. وفي آسيا تشمل المحاصيل المحلية الأرز واليام والموز إضافة إلى المنيهوت والذرة الدخيلة.

وتنتشر الزراعة البدائية المتنقلة في غابات شبه جزيرة الملايو، وجزر إندونيسية، وجزر الفيليبين، وتايلند، ومينمار (بورمة)، حيث يعتمد السكان على الأمطار الموسمية، ولا تستخدم فيها الأسمدة لتخصيب التربة، كما لا يعرف المزارعون الدورة الزراعية، وعندما تضعف التربة تترك الأرض، ويبحث المزارعون عن مناطق أخرى لاستغلالها زراعياً.

3ـ البداوة وتربية الحيوان: تأتي عملية التنقل والترحال المعتمدة على الرعي وتربية الحيوان في أكثر المواقع تطوراً في أبعادها الثقافية والحضارية بالموازنة بينها وبين المراحل السابقة، الأمر الذي ينفي عنها صفة البدائية لاستخدامها تقنيات أكثر تطوراً من جهة، ولتحررها من الأشكال البدائية في عملية الصيد والقنص وصنع الطعام من جهة ثانية، إضافة إلى أن تنقلاتها محصورة في إطار مكاني محدد يمنحها صفة الانتماء، وفي إطار زماني يعطيها صفة التنظيم الاجتماعي الذي يميل بها نحو الاستقرار النسبي.

تقسم البداوة الرعوية وفق معايير متعددة، منها المعيار الجغرافي، حيث يميز الباحثون بين البداوة الجبلية والبداوة السهلية والبداوة الصحراوية وغيرها. ومنها معيار اتجاه الحركة كالبداوة الطولية، والبداوة العرضية كما هي الحال في قارة آسيا، وبلدان الاتحاد السوفييتي سابقاً، أو تنقلات التشريق والتغريب عند البدو العرب، وتصنف مجموعة من العلماء السوفييت أنماط البداوة الرعوية، وخاصة العمودية منها على النحو التالي:

ـ طبيعية أو صاعدة إذ تتوزع المراعي الشتوية في السهول أو في التلال المسطحة والمراعي الطبيعية وتتوزع الصيفية في أعالي الجبال.

ـ رجوعية أو هابطة إذ تقع المراعي الصيفية في التلال المسطحة والمراعي الشتوية في الجبال.

ـ متذبذبة أو وسيطة إذ تقع القرى الأساسية في المناطق التي تتوسط المراعي الربيعية والخريفية.

ـ جبلية إذ تقع المراعي الخريفية والربيعية في سفوح التلال وتقع المراعي الصيفية والشتوية في الجبال.

تنتشر مراعي السافانا في أمريكة الجنوبية في شمال وجنوب حوض الأمازون، وتعرف باسم اللانوس lanos في حوض نهر أورينوكو وهضبة غويانة، وباسم كامبوس Campos في البرازيل، وباسم غران شاكو Granchaco في بوليفية.

ففي إقليمي اللانوس وكامبوس يضطر الرعاة في فصل الأمطار إلى مغادرة مناطقهم التي تهددها الفيضانات إلى المناطق الأكثر ارتفاعاً، ولكن فصل الجفاف يؤدي أيضاً إلى سوء حالة الرعي لندرة المياه الصالحة للشرب من جهة، وليبس الأعشاب من جهة ثانية، ومع ذلك فإن رعاة منطقة اللانوس يعدون إنتاجهم الحيواني تجارياً بسبب حاجة بعض الدول في أمريكة الوسطى إلى الحيوانات الحية واللحوم والجلود.

كذلك يقوم السكان في إفريقية برعي البقر والجاموس والضأن والإبل. وتختلف حيوانات الرعي من منطقة إلى أخرى بحسب الأمطار والنباتات، ويعوق تقدم حرفة الرعي عدم كفاية الغذاء للحيوان، واتباع طرائق بدائية في تربية الحيوان، وانتشار الأمراض، وقلة المواصلات، ويعتمد الرعاة على التنقل من مكان إلى أخر بحسب المرعى، ولا يتقيدون بالحدود السياسية مما يؤدي إلى مشكلات وحروب، كما توجد قبائل تجمع بين الزراعة والرعي.

البداوة العربية

يجد المتتبع لتاريخ الحضارة العربية أن البيئة التي كانت البادية أساسها، تجلت في النظم الثقافية والحضارية التي أنتجها العرب في تاريخهم، فالمعايير الاجتماعية الضابطة للسلوك والأخلاق العامة التي يحتكم إليها الأفراد في علاقاتهم، والمنتوجات الثقافية (الأدبية والشعرية) جاءت متأثرة بشروط البيئة البدوية، وتحمل خصائصها، وامتد أثر البادية في الحياة العربية حتى صارت معايير الحروب والصراعات والاتفاقات السياسية مرهونةً بشروط البيئة المحيطة.

ويأخذ التنظيم الاجتماعي للبداوة في الوطن العربي شكلاً يقترب في خطوطه العريضة من نظائره في المجتمعات الأخرى، كما في إيران وأفغانستان وآسيا الوسطى وغيرها، كقيامه على نظام القرابة ووحدة الدم، والتقسيمات العشائرية، واعتماد الرعي وتربية الحيوان مصدراً أساسياً للدخل، وغير ذلك من الخصائص التي أخذت بالظهور منذ مئات السنين.

النشاط الاقتصادي: يعتمد سكان البادية الرعي وتربية الحيوان مصدراً أساسياً من مصادر دخلهم، وتنتشر بينهم أشكال كثيرة لتربية الحيوان، منها تربية الإبل ويعرف مربوها بالبدو الجمالة، وتربية الضأن والمعز ويعرف مربوها بالبدو الغنامة. وتعد تربية الإبل أكثر أنواع التربية قدرة على التفاعل مع الصحراء والمناطق الجافة، وهي تزداد شيوعاً في المناطق ذات الحرارة المرتفعة حيث تكون أحوال المعيشة أكثر صعوبة، والماء أقل انتشاراً. ويلاحظ أن تربية الإبل صارت أقل انتشاراً مما كانت في السابق بسبب وفرة مصادر العيش في المناطق القريبة من المعمورة حيث تنتشر تربية المواشي من جهة، وتتناقص الحاجة إلى الإبل من جهة أخرى بسبب تطور وسائط النقل التي صارت تستخدم على نطاق واسع. ويستفيد سكان البادية من تربية الحيوان في العمليات التجارية التي يقيمونها مع سكان المعمورة، حيث يقدمون اللحوم والألبان والصوف على اختلاف أنواعها، ويستفيدون من المعمورة، وينالون قسطاً من حاجاتهم منها.

التقسيمات العشائرية: يقوم التنظيم الاجتماعي للبداوة العربية على تقسيمات عشائرية تسود بينها صلات وروابط تعاون أحياناً وعداء أحياناً أخرى. وقد بقيت القوة أكثر المعايير أهمية في بسط السيطرة والنفوذ على أراضي البادية بين العشائر، حيث يتاح للأقوى الاستفادة من المراعي الغنية في البادية لتوفير الغذاء الكافي للحيوانات والمواشي التي في حوزته. وتعد عشائر شُمَّر والعْنِزة والبقارة، من أكثر العشائر انتشاراً في المشرق العربي في الوقت الراهن.

وتنقسم العشيرة الواحدة إلى أفخاذ، والفخذ الواحد إلى بطون، والبطن الواحد إلى فصائل، والفصائل إلى أسر ممتدة، والأسر الممتدة إلى أسر محدودة، وقد يصل عدد أفراد العشيرة الواحدة إلى بضعة آلاف أحياناً وقد يجاوز الثلاثين أو الأربعين ألفاً.

وتعد وحدة الأرض من البادية، أساس الصراع والتنافس بين العشائر، وقد عرف البدو العرب شكلاً من أشكال التنظيم الاجتماعي للسيطرة عرف باسم نظام الحمَى، فإذا تمكنت إحدى العشائر من فرض سيطرتها على وحدة جغرافية محددة من الأرض أخذت تمنع العشائر الأخرى من استخدامها للرعي أو الاستفادة من أعشابها ما لم تكن هذه العشائر على اتفاق أو تحالف معها. ويبقى الأمر كذلك إلى أن تسيطر عشيرة أخرى أكثر قوة وأوسع سلطاناً على تلك الوحدة الجغرافية وتستأثر بها لنفسها ولحلفائها من العَشائر. ومع التطور الذي طرأ على التنظيم الاجتماعي اليوم، فإن أشكاله القديمة ماتزال تظهر في المجتمعات البدوية بأساليب وأنماط مختلفة.

التوزع الجغرافي: ينتشر سكان البوادي العربية على امتداد شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وحوض النيل والمغرب العربي. وتتداخل العشائر الموجودة في هذه البلدان، غير أن تنقلاتهم اليوم صارت مرهونة بموافقة الدول التي يتنقلون بينها.

ويلاحظ أن ظاهرة البداوة تختلف في انتشارها بين دول الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق والمغرب العربي اختلافاً بيناً، فهي أكثر انتشاراً في الجزيرة مما هي عليه في العراق والشام، حيث تزداد نسبة السكان المستقرين في المدن والمناطق الحضرية الذين زالت عنهم صفة البداوة من حيث كونها نشاطاً اقتصادياً، ومن حيث كونها تنظيماً اجتماعياً، وصار السكان فيها يتمايزون بأعمالهم، ومهنهم ونشاطاتهم الاقتصادية، ولم يعد للانتماء العشائري القوة نفسها الملحوظة في الحجاز واليمن والخليج العربي التي يظهر فيها التنظيم الاجتماعي للبداوة حتى بين سكان المدن والمراكز الحضرية، ويميل فيها البدو إلى الاستقرار والانتقال من مرحلة البداوة إلى شبه البداوة.

مستقبل البداوة

تدل مظاهر التغير الاجتماعي في بنية البداوة وطبيعتها على أن أشكالها آخذة بالتراجع والاضمحلال التدريجي، خاصة مع التوسع في استخدام التقنيات وتطور الاتصالات والمواصلات، الأمر الذي يجعل التواصل مع المجتمعات الأخرى مفروضاً. فإذا حافظت البداوة على استمرارها مدة طويلة من الزمن بسبب عاملين أساسيين هما: العزلة وعدم تفاعلها مع المجتمعات الأخرى فإن هذين العاملين آخذان بالتراجع.

بيد أن التغير في الأساس الاقتصادي للبداوة يبدو أكثر سرعة من التغير الملحوظ في أساسها الاجتماعي، لذلك تنتقل البداوة في أشكالها الاجتماعية إلى مناطق الاستقرار والمراكز الحضرية، ويلاحظ أن العلاقات العشائرية من تنافس وصراع وتحالف تنتشر أيضاً بين البدو الذين أخذوا بمظاهر الاستقرار غير أن أدواتهم ووسائلهم صارت مختلفة تماماً، وهي أضعف بكثير مما كانت عليه في السابق، خاصة مع ظهور الدولة التي أخذت تمد سيطرتها على كل بقعة جغرافية ضمن حدودها، ولم يعد للعشائر سلطة مباشرة تمارسها على أفرادها أو خصومها إلا بمقدار ما تسمح به السلطة من نفوذ ضمن إطار قانون الدولة. ومع ذلك فالتغير الاجتماعي يمس بنية العلاقات الاجتماعية ضمن السلطة، كما أن التنوع السكاني في التجمعات الحضرية والانفتاح نحو الآخر هما من العوامل التي تقوض البداوة وتهدد مستقبلها.

مراجع:

ـ محي الدين صابر، لويس مليكة: البدو والبداوة، مفاهيم ومناهج (صيدا، بيروت 1985).

ـ مجموعة باحثين سوفييت، عالم البدو (موسكو 1986).

– عادل عبد السلام، البادية السورية (أربعة مجلدات مع وجيز) (دمشق 1997).

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.