أنثروبولوجيا التواصل في ألف ليلة وليلة

أنثروبولوجيا التواصل في ألف ليلة وليلة

” دراسة في البنية الأسطورية لقصة (عاشقان من بني عذرة) “

عماد علي سليم أحمد الخطيب 

ملخص البحث

ينقسم هذا البحث إلى قسمين، نظري وتطبيقي، يحاول البحث في القسم النظري، أن يربط بين دراسة البنية اللغوية، ودلالتها الأسطورية، من خلال مصطلحات تتداخل لتوضيح مفهوم ( أنثروبولوجية التواصل) في الحكاية القديمة. وسيتحدث البحث عن مفهوم مصطلحي الصلة والتواصل، وعوامل التواصل، ونمطي أنثروبولوجيا التواصل اللغوي وغير اللغوي، ثم حديث نظري عن البنية، والأسطورة والدلالة والأثر.
ثم يدرس القسم التطبيقي في البحث واحدة من حكايات ألف ليلة وليلة، هي (عاشقان من بني عذرة)، وهي حكاية من حكايات عديدة، تشمل ثلاث ليال تقع بين الليلة (689) والليلة (691)، وسيدرس البحث أنثروبولوجية التواصل في الحكاية من خلال مشاهد ثلاثة هي:
– مشهد صورة الحب.
– مشهد صورة الموت.
– مشهد صورة التضحية.
وسيختم البحث بنتائج، وقائمة للمصادر والمراجع.

أولا : حديث في التنظير .
-1-
سيبدأ الباحث الحديث عن النظرية، بالتعريفات التي تصب في نظرية ( أنثروبولوجية التواصل)، والبداية مع مصطلح الوصل : (Conjunction)فهو واحد من تقنيات الصلة بين الذات والهدف ( ) .
(Constitutive factors of Communication) أما العوامل المؤلفة للتواصل
فهي العناصر الداخلة في أي فعل ( قولي ) تواصلي والتي لا يستغنى عنها لأداء وظيفته وقد حددها بوهلر (Büuhler) بثلاثة عناصر هي: المرسل والمتلقي والسياق، ثم اقترح ياكوبسون(Jakobson ) – فيما أصبح بعد ذلك من أكثر نماذج الاتصال تأثيرا في السرد- ستة عوامل للتواصل اللغوي، هي :
• المرسل ( باعث الرسالة أو القائم بتشفيرها ).
• المرسل إليه ( المتلقي أو القائم بحل شفرة الرسالة ).
• الرسالة نفسها.
• الشفرة التي بموجبها يتحدد معنى الرسالة.
• السياق ( المرجع الذي تشير إليه الرسالة ).
• الصلة contact (2) .
في حين يرى ( هايمز (Hymes أن عناصر التواصل تكمن في:
• الموضوع Topic) )بدلا من السياق.
• مكان وزمان المشهد (Setting) .
• المشهد scene) ).
• الموقف.
• سياق الفعل التواصلي.
ويرى (هايمز) أن مقابل كل عنصر هناك وظيفة من وظائف التواصل، وأن كل فعل تواصل ينطوي على وظيفة من هذه الوظائف(3).
: التي يقول بها (هايمز) فهي ( Contact) أما تعريف الصلة
واحدة من العوامل المؤلفة ( للفعل القولي ) للتواصل، والصلة هي التواجد الجسماني، وهي العلاقة السيكولوجية التي تسمح للمرسل والمتلقي بالدخول والبقاء في عملية الاتصال. وهكذا فإن العوامل المؤلفة لعملية التواصل أي : الوظيفة التواصلية(Phatic Function) تكون عندما يكون فعل الاتصال متعلقاً بهذه (الصلة) (4).
ويرى (ياكوبسن) أنّ حالات التواصل تحتوى على وظائف تؤديها اللغة، وهي:
• المرجعي( (The referential : وهو ما يتعلق بمحتوى الرسالة.
• المثير (The Emotive) : عندما يتعلق فعل التواصل بالمرسل أو المتكلم.
• التواصلي The phatic) ) : عندما يكون فعل التواصل متعلقا بالصلة بين المرسل والمتلقي .
• المثار( The connective ) : حينما يكون فعل التواصل متعلقا بالمتلقي 0
• الشفرة المستخدمة (The multilingual) في حل محتوى الرسالة (5) .
ويرى الباحث أن تعريفات الأسطورة (Myth) كثيرة، ويضبطها الباحث، وفق ما يرتبط معها في المدروس سردًا أو شعرًا، ولقد استخدمت كلمة “أسطورة” أو “حكاية خرافية” استخدامات متعددة ومختلفة على مر الأيام إلى أن وصلت إلى اصطلاحها الفني الحالي.
والأسطورة -كما يراها محمد خان- (1) عبارة عن : تفسير علاقة الإنسان بالكائنات، فالأسطورة مصدر أفكار الأولين، وملهمة الأدب، والأسطورة -عند مصطفى الجوزو- تشترك في أمرين هما: أن الأسطورة، أولاً: حكاية، وأنها، ثانياً: تتحدث في عالم وهميّ يرمز إلى أشياء وأحداث حقيقة لكن منحرفة أو مضخمة (2).
وفي التطبيق التحليلي، يأخذ الباحث برأي أن الأسطورة – برأي (شلنج) تخفي في طياتها نوعاً من المنطق الذي لا يمكن إرجاعه إلى منطق آخر(3). وهي عند كاسيرر Cassirer)) شكل حياة رمزي. فيتناول (كاسيرر) الأسطورة باعتبارها “شكلا رمزيًا أصليًا “، أي، كواحدة من تلك الأشياء، (كاللغة نفسها) التي نوسطها بين أنفسنا والعالم الخارجي لكي ندركه (1).
فيرى الباحث أن العمل في التحليل الأسطوري يبحث عن فكرة لها قيمة عند كاتبها، تجعل من اللغة صانعة بطولة ما ! وقد تكون الأسطورة صورة عن إبداع المؤلف نفسه؛ فإن هذه الصورة تخلق عالمه الذي يلتزم بوصفه، ثم بلحظة استبصار يجتمع الفعل والفكر في عملٍ يخلق نفسه في لحظة جمالية.
فهل لأسطورة ألف ليلة وليلة ذاك الوصف الذي يخلق منها صورة إبداعية لشيء من نفس مبدعها ؟
إنّ دراسة الأسطورة تحليق بالخيال بين ظلَلٍ من الغمام، مع قضاء الأمر على الأرض، وبذلك نعمل على توسيع الآفاق الفكرية، وفي الوقت نفسه نربط الدراسة بالقيم الإنسانية، والحياة الواقعية ، لِتُرْجَعْ الأمور إلى صانِعها. ففضلاً عن الآلهة والقوى غير المرئية؛ كالشياطين والجن والملائكة، هناك صورة لبشر متفوِّقين ووحوش، وأخيراً، صورة أسطرة للأدب.
وعن علاقة الأسطورة بالأنثروبولوجيا، نتحدث عن أنها تحوي عناصر أساسية لحقيقة الإنسان ووجوده، وتضع الإنسان في كل زمان ومكان أمام مرآة صافية مصقولة يرى فيها وجهه السليم وحقيقة وجوده، بفعل تنامي القوة الخيالية للإنسان، وتفكيره التأمليّ، قفزت القوى الطبيعية والكونية في إطار حياة ذلك الإنسان البدائي -من كينونتها الأولى كقوى متمثلة في عناصر الطبيعة نفسها، إلى آلهة مجسدة، ومشخصة تتحرك على مسرح خيال ذلك الإنسان، وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة من أمور وجوده، كما أنها تعيش معه وتجاذبه أطراف حياته وتشاركه في تصميمها؛ إذ يتألف الكلام الإنساني من سلسلة من الأصوات الصادرة طواعيةً واختياراً عن الإنسان في الموقف اللغوي المعين. والإشارة إلى الموقف اللغوي هنا تعني أن هُناك في الصورة شخصاً أو أشخاصاً آخرين يستقبلون هذه الأصوات التي تربطهم بالمتكلّمَ ربطاً اجتماعياً من شأنه أن يؤدّي إلى التعاون وتسيير دفة الأمور وتصريف شئون الحياة، أو التي تؤثر في هؤلاء السامعين تأثيراً يقتضي منهم سلوكاً معيناً أو ردّ فعل من نوع خاص. وتعني هذه الإشارة كذلك: أنَّ الأصوات يجب أنْ تكون مرتبة على نسق خاص، وأن تكون جارية على سنن المعهود لدى أهل البيئة المعينة. ومعنى ذلك بالضرورة أنّ اللغة لا يتحقق وجودها دون حضور متكلّم وسامع: موجودين معاً في مكان واحد وزمان واحد. أو بعبارة أخرى -كما صرّح بذلك (جاردنر)- الكلام لا يتحقق إلاّ بأربعة جوانب: المتكلمّ والسامع والكلمات والشيء المتحدّث عنه (2).
وهكذا يرى الباحث أن البحث في أسطرة حكاية ألف ليلة وليلة يكون في مراحل يجمله في النقاط التالية :
• البحث في العمل الفنّي لغويًا.
• الدلالة بالدلالة المكانية والزمانية المصاحبة للدلالة اللغوية.
• البحث في أشكال الصورة الفنية، وربطها بالحيز الزماني، المكاني واللغوي.
ويترتب على هذا أنّ المعنى لا ينفصل عن اللفظ إذا كنّا نتحدث عن معنى اللفظ بما هو عنصر من عنصري الصورة الجزئية الأولى، وهو ينفصل عنه إذا كنا نتحدَّث عن المعنى الذي يُكَوِّن الصورة الكلية الثانية. فإذا كانت الصورة الثانية هي ما وراء السطح، فعلى أي شيء إذن تدل في العمل اللغوي، كان طبيعيا أن يخيل إلينا أن الصورة الأولى في اللغة لا بُدَّ أن تكون في تنسيقها الصوتي فحسب، ذلك أن الدلالة المكانية (أو المفهومة) للألفاظ هي المعاني التي تدلّ عليها هذه الألفاظ (1). ومن الناحية الأدبية، ففي الأسطورة: صورة اجتماعية، وجانب قصصي لمجريات الأحداث، ووجه رمزي متعلق بالمستقبل. وهناك “عفوية” للتفكير لدى الأفراد في مجتمعاتها تكمن في اللاشعور أو العقل الباطني وليس في العقل الواعي. وعلى هذا الأساس فالتصورات اللاعقلانية أو غير الموضوعية التي تجري في ذهن جماعات الأسطورة تمثل حالة ذهنية كامنة في اللاشعور عندهم، وهذا يرجع إلى غموض المستقبل وكثافة صافية من الاحتمالات الخطرة المهددة لمختلف جوانب حياتهم القلقة (2).
وسيعتمد الباحث في تحليله للأسطورة على ما تقدم من تعريفات، ثم يدمج كونها ( فكرة، وقصة، وحكاية، ولها دلالة، ولها سرد مميز، وتحوي الخارق وما هو فوق الطبيعي، إضافة للتعريف الذي يربطها بالسرد، في أنها :
سرد تقليدي يتعلق في العادة بالاعتقاد الذي يعبر عن الوضع المثالي للأشياء ويبرره، ووفقا لـ (ليفى ستروس) فإن بنية الأسطورة يمكن أن يعبر عنها بمجموعة رباعية من المتشابهات تتعلق بزوج من الميتيمات المتباينة Mythemes ) ). بتركيبة تولد لنا دلالة الأسطورة حيث يتم فيها تبسيط نوع من التناقض غير القابل للنقض بتعليقه بآخر أكثر شيوعا (3). وفي إطار فكرة التواصل عرض (ليفي ستروس) نهجه في كتابه الشهير الابنة الأساسية للقرابة ( Les structures) (١٩٤٩) elementaires de la Parente والذي اكتشف فيه ” أن البنية الأساسية لكل نظم القرابة تقوم على أساس التبادل أيا كان الشكل الذي يتخذه ” أي سواء أكان عاما أم خاصا ملموسا أم رمزيا أم مباشرا أم غير مباشر.. فالعلاقات الاجتماعية في نظام أنثروبولوجيا جديدة لعالم متغير لا بد أن تفهم في إطار عملية التبادل والاتصال وأن يتم دراسة طبيعة العمليات العقلية لفكر الإنسان(4). وذاك الذي يعنيه الباحث في الجانب التطبيقي لفكرة أنثروبولوجية التواصل، وهو يجيب عن تساؤل :

هل كتبت قصص ألف ليلة وليلة لهدف تحقيق أنثروبولوجية التواصل بين الشعوب ؟
ويمكن دراسة أنثروبولوجية التواصل، من خلال تعريف العلاقة التواصلية (Phatic function ) التي تعني كونها :
إحدى وظائف التواصل التي يتم وفقا لها بناء وتوجيه أي فعل اتصالي أو قولي، وحين يوجه فعل التواصل نحو الصلة أو العلاقة ( بدلا من الوظائف الأخرى للتواصل ) فإنه يؤدي في الغالب وظيفة تواصلية، وبالذات في مقاطع السرد التي تركز على الصلة السيكولوجية بين السارد والمسرود له يمكن أن تؤدى وظيفة تواصلية (1) 0 ولذلك سيقف الباحث مع مفهوم أنثروبولوجية التواصل، من خلال مفاهيم السرد. ومعنى الحكاية.

-2-
تعد (أنثروبولوجية التواصل) التي يتبناها إيف وينكن (Yves Winkin )، واحدة من مفاهيم التواصل. وقد اهتم بها غير واحد من علماء النفس والإثنولوجيا بدلالة تعدد وجوه التعبير.. ولها نمطان، ولكل أنماطه، ومنها:
• الحركية Kinesique ، وأسسها الأنثروبولوجي الأمريكي راي بير دو يستل (Ray Birdwistl)، و تعني الحركية ” دراسة التواصل عبر حركات الجسد “.
• الجوارية Proxemique ، و أسسها الأنثروبولوجي الفرنسي إدوارد . ت . هال (E.T.Hall)، و تعني الجوارية ” تدبير الفرد لفضائه وللمسافات التي تفصل بين الشخوص ضمن سيرورة تواصلية “.
• الشكل الموسع لأنثروبولوجيا التواصل، ويتبناه (إيف وينكن) مثل ما يجري في ميادين العمل من اجتماع أو مقابلة أو في البيت. وذلك قصده فهم الكيفية التي يصوغ بها السياق و الثقافة أنماط التواصل.
أما التواصل اللغوي وهو الأهم و يقدم دور الكلمة التي تشكل البنية، وما عرف بلغة الالتماس والإنذار والتحذير وعلامات التحية وغيرها من البنى. إلا أن الكلمة ارتقت بالإنسان إلى دائرة ذهنية جديدة تكاثفت ضمنها قدراته التواصلية. فصار من الممكن حينئذ طرح الأسئلة وحكاية القصص وإيجاد عوالم متخيلة، بمعنى إقصاء الذات المتكلمة من التواصل المباشر والفوري. فاللغة أداة فريدة من نوعها تجعل المرء يعبر عن لامتناهية من الإرساليات المتنوعة. و يقول عالم الألسنيات أندريه مارتيني ((Andre Martinet، بأن اللغة فريدة بما تتأسس عليه من ( شكل مزدوج) أي بناؤها من وحدات ذات معنى تشكلها الكلمات، وتتكون هذه الوحدات نفسها من وحدات صوتية أصغر(2).
فهل يمكن أن نعد حكايات ( ألف ليلة و ليلة ) من الحكايات الأسطورية ؟ وهل يمكن أن نسميها بالحكاية؟ وما هي الحكاية؟
الحكاية هي عالم من الحكي الداخلي Intradiegetic)) يتعلق بالمادة المحكية أو المبنى الحكائي المقدم في سرد أولي داخلي بوساطة سارد من عالم الحكي الخارجي، فنرى راويا ينتمي إلى المادة المحكية، وينتمي في الوقت نفسه إلى المادة المحكية (intradiegetic) باعتباره يمثل شخصية في المادة المحكية التي يقدمها. وإن المنتمى إلى عالم الحكي الداخلي لا يعادل السارد المتجانس homdiegetic) ) ونحن نبحث عمن يقوم بوظيفة سارد من خارج مادة الحكى(heterodiegetic) ، ووظيفته هنا أنه لا يحكى حكايته الخاصة، ولكنه ينتمي إلى المادة المحكية وهو الذي يعبر عن شخصية السرد الإطاري الذي ليس من وظائفه في الحكي(1) .
يظن الباحث أن الحكاية الأسطورية الحديثة لها خصوصية في بنائها الفني، ورسم شخصياتها، والفكرة الأساسية التي تبلورها واستعمال العنصر الخارق في صياغتها.. وتقترب منها حكاية ( ألف ليلة و ليلة ) رغم أنها براوٍ واحد، ولكنه راوٍ فنان ذو موهبة وحرفي يتحكم في تكوين عمله، ويرجع ذلك إلى تأثره بالمناخ الثقافي والفكري الذي كان سائداً حين ألفت ( ألف ليلة و ليلة ) ! مما يجعل تكوين الحكاية الأسطورية في ألف ليلة و ليلة متأثرا بالحركات الفكرية في مجتمعها المتلقي. ويظن الباحث أن الأسطورة تخرج من إطارها الزماني أو المكاني لتكون صالحة أن تقال في مناسبات عدة، وهذا سر اهتمام النقاد بها، و أنها تصلح أن تقال في مناسبة تشبه تلك التي قيلت فيها. و نقف عند الدافع وراء نسجها.
وهل ثمة شبه بين الحكاية الأسطورية الحديثة وقصص ألف ليلة وليلة؟
لعل الدافع وراء الحكاية الأسطورية هو تقديم أحداث الحكاية، بسلسلة الأحداث المتتالية المختلفة التي تشكل بناءها، التي تقودها إلى نهايتها… وهي بذلك لا تقدم عالماً كاملاً مليئاً بالإيحاءات التي لا نهاية لها. ثم إنها تقدم مجالا من ( وجهة النظر) من خلال النظر إلى (وجهة نظر الراوي)، وربما يكون في هذا شيء من التضييق على وجهة نظر القارئ / الناقد. بل ربما يقف الراوي نفسه موقف المتفرج الذي يصف الأحداث، لكنه من النادر أن يعلق عليها – كما سيظهر في النص والتحليل القادمين- . ثم إن العنصر الخارق فيها يظهر الحدث الخارق الذي يدهش القارئ، لكنه يتركه مندهشاً دون أن يفهم أبعاده، فهما مباشرا.. لأن الحدث الخارق في مثل هذه الحكايات كثيراً ما يعجز عن الإيحاء بأبعاد غير قائمة في النص، أو دلالات خارجة عن إطار المفقود من النص؛ لأنه ربما قد تؤدي الدلالات في نص الحكاية الأسطورية غرضاً محدوداً في المكان الذي وضعت فيه(2).
وهذا ما يجعل بعض النقاد الغربيين يسمون الحكاية الأسطورية الحديثة modren fairy tale بـِ ( الخرافة ) fantasy ، كما يفعل مانلاف(1)، إذ يستعمل المصطلحين على قدم المساواة . ولأن ترجمة كلمة ( fantasy ) لا يوجد لها في اللغة العربية رديف.. فهناك من يسميها بالقصة العجائبية أو ( بحكاية الجان )، ومن هنا فقد فضلت منى مؤنس (2) أن تسمي قصص ألف ليلة وليلة بـالحكاية الأسطورية الحديثة .. و تقول إنه بالرغم من طول المصطلح فهو على الأقل يوضح المعنى المقصود، ثم إنه يوحي بأنه شكل متطور للحكاية الأسطورية التقليدية ( Traditional Fariy Tale )، التي بها يعرف السرد الإطار.
فما معناه ؟ وما علاقته بتحليل البنية الأسطورية لحكايات ألف ليلة وليلة؟
:(Frame narrative) ونقف الآن مع السرد الإطار
وهو سرد يطمر فيه سرد آخر، سرد يؤدى وظيفة إطار لسرد آخر وذلك بقيامه بوظيفة القاعدة أو الخلفية التي ينطلق منها، ويسمى أيضا (السرد المطمور)، ولعل أعظم مثل للسرد الإطار / المطمور في تراثنا هو قصص ألف ليلة وليلة. فالكثير من الحكايات تنطمر فيها حكايات أخرى (3).
ومن هنا فيريد الباحث عند دراسة نظام العلاقات القائمة في بينة الحكاية، التي يفترض دخول الأسطورة عليها، أن يقف على :
1- البنية التي تشكل النظام الأدبي للحكاية.
2- الخطاب الأدبي الذي تقدمه الحكاية.
3- أسلوب التواصل الأنثروبولوجي إلى كل ماله علاقة بالبنية الزمانية والمكانية والسردية، في تحصيل معنييّ اللغة والكلام، كما عند (دي دو سير) .
ولقد فرق ( دي سوسير ) بين اللغة و الكلام؛ فافترض أن اللغة هي القوانين والأنظمة العامة التي تحكم إنتاج الكلام، وأن اللغة منظومة اجتماعية لا شعورية كما عدها ذات شعور عيني يخضع للدراسة والتصنيف(4) . كما افترض ( دي سو سير) أن الكلام هو التطبيق الفعلي للقوانين والأنظمة التي تحكمها اللغة، وأنه اختيار فردي مقصود، وأنه مستوى مشخص يبدو عصياً على الدراسة إلا في ضوء اللغة نفسها (5).
وإن هذا الباحث يفترض علاقات ثنائية بين التزامن والتعاقب ويدرسها في لحظة الإجراء التحليلي كما يلي :
1- التزامن هو لحظة السكون الحيادي للذات أثناء الكتابة .
2- التعاقب هو لحظة تحويل الحركة إلى سكونات تغيب الذات أثناء الكتابة .
وهذا يعنى أن هذا البحث يهتم ببنية التزامن والتعاقب أي: بنية ( الذات وتغييب الذات ) فيما قد يبدو ظاهراً في الحكاية .
ولقد لعب النقد الفلسفي للبنيوية دوراً بالمعنى الذي أفادته لغة النموذج الإجرائي للبنية. فكان للفلسفة دورها في تعريف من يكتب نصاً أومن ينطق بخطابات النص، فافترضت الفلسفة النقدية للبنيوية ثلاث افتراضات جميعها ترتبط بالإنسان، وهو المقصود الأول بالتواصل الأنثروبولوجي، وهي :
1- أن الإنسان هو معيار كل شيء.
2- الإنسان موضوع دقيق.
3- الإنسان مجال مشترك يمكن أن يدرس.
فعلاقة الأنثروبولوجيا بالإنسان معروفة من تعريف علم الأنثروبولوجيا، وأنه مصطلح يعني باللغة اليونانية علم الإنسان، ويدرس نشأة الإنسان وتطوره وتميزه، كما أنه يقسم الجماعات الإنسانية إلى سلالات وفق أسس بيولوجية، ويدرس ثقافة الإنسان ونشاطه .
وللدخول في تعريف الأنثروبولوجيا، فإنّ لفظة أنثروبولوجيا ((Anthropology، هي كلمة معربة عن الإنكليزية ومشتقّة من الأصل اليوناني المكوّن من مقطعين : أنثروبوس(Anthropos) ، ومعناه ” الإنسان ” و لوجوس ((Locos، ومعناه ” علم “. وبذلك يصبح معنى الأنثروبولوجيا من حيث اللفظ ” علم الإنسان ” أي العلم الذي يدرس الإنسان(1) .
ولذلك، تعرّف الأنثروبولوجيا، بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظلّ ثقافة معيّنة .. ويقوم بأعمال متعدّدة، ويسلك سلوكاً محدّداً (2) .
ف الأنثروبولوجيا بوصفها دراسة للإنسان في أبعاده المختلفة، ومنها الإبداع الإنساني في مجالات الثقافة المتنّوعة التي تشمل : التراث الفكري وأنماط القيم وأنساق الفكر والإبداع الأدبي والفني(3).
فهل يجوز للتحليل أن ينطلق من هذا النموذج اللغوي الذي تمثله الحكاية التي وصلتنا الآن للانطلاق إلى التحليل الذي يبحث في عمق الإطار السردي وليس سطحه ؟
ثم سيبحث التحليل في نمطين للصورة، هما :
1- الصورة الكلية وهي تلك البنية المقصودة لذاتها التي تكون مركزاً وهيئة معبرة وموحية في آن معًا.
2- الصورة الجزئية التي تنطلق تأويلاتها من الصورة الكلية.
ثم سيقف التحليل أسطوريا عند :
1- الدلالة المقصودة.
2- الأثر، وهو الدال الناتج عن مؤثرإبداعيّ.
ومفهوم الأثر هو الذي أسس له (دريدا) في التفكيكية ويعده أساسًا إجرائيًا للفهم النقدي باعتباره القيمة الجمالية التي تسعى وراءها النصوص الإبداعية. ويسعى إلى تلقفها كل متلقٍ للإبداع ذلك؛ لأن الأثر هو التشكل الناتج عن الكتابة بالفحص الاستبدالي(1).
إن الأثر الذي يريده الباحث في هذه الحكاية: هو ذاك الذي ترسله بنية الفعل نحو المتلقي؛ فالفعل له وظائف لغوية يؤديها من أجل بعث التواصل، من خلال كونه :
1- يحرك العبارة.
2- يؤسس الجملة.
3- يبعث الدلالة في التركيب.
والمقصود من ذلك هو البحث في الغاية والمغزى من بعث التواصل الأنثروبولوجي الذي هو ليس شيئا خارجاً عن مضمون بنية الحكاية، لكنه أثر فعلي لكل ما هو مؤثر علينا.
وبعد،
فيريد هذا التحليل أن يستفيد من نظرية التواصل الأنثروبولوجية، من جانبين :
الأول : من تحليل بنية التواصل الأنثروبولوجية؛ بالبحث عن تسلسل تلك البنية بين أركان الحكاية.
الثاني : من ربط تلك البنية مع الصورة الأسطورية؛ وذلك بالبحث عن مغزاها.
والبنية التي يريدها الباحث هي البنية الأدبية التي هي شكل من أشكال انفتاح عالم اللاشعور على الخارج، وترتبط بالرؤية الاجتماعية في تحليل الحكاية، كما ظهرت عند دعاة البنيوية التكوينية وفي مقدمتهم (جورج لوكاش)، و(لوسين جولدمان)، على أساس أن النقد الأدبي يتبلور في شكل منهجية سوسيولوجية وفلسفية لإضاءة البنيات الدالة(2). كما يؤكد الباحث على أنه لن يدرس السرد والزمان والمكان باعتبارهما أداة له، من وجهة نظر النقد القصصي الحديث، بل سيكون للسرد موقفه من تحرك البنية لخلق تواصل أنثروبولوجي كما هي النظرية المعمول بها.

 

نص الحكاية :
الليالي ( 689 – 691 ) (1)

وحكي أن مسرور الخادم قال : أرق أمير المؤمنين هارون الرشيد ليلة أرقاً شديداً فقال لي : يا مسرور من بالباب من الشعراء فخرجت إلى الدهليز، فوجدت جميل بن معمر العذري، فقلت له : أجب أمير المؤمنين .
فقال : سمعاً وطاعة . فدخلت ودخل معي إلى أن صار بين يدي هارون الرشيد فسلم بسلام الخلافة فرد عليه السلام فأمره بالجلوس ثم قال له الرشيد: يا جميل، أعندك شيء من الأحاديث العجيبة فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أيما أحب إليك ما عاينته ورأيته أو ما سمعته و وعيته؟ قال : حدثني بما عاينته ورأيته قال: نعم يا أمير المؤمنين ، أقبل علي بكلك واصغ إليّ بأذنك.
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أمير المؤمنين هارون الرشيد لما اتكأ على مخدة من الديباج قال هلم بحديثك يا جميل. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني كنت مفتوناً بفتاة محباً لها و كنت أتردد إليها إذ هي سؤلي و بغيتي من الدنيا. ثم إن أهلها رحلوا لقلة المرعى فأقمت مدة لم أرها ثم إن الشوق أقلقني وجذبني إليها فحدثتني نفسي بالمسير إليها. فلما كان ذات ليلة من الليالي، هزني الشوق إليها فقمت وشددت رحلي على ناقتي وتعممت بعمامتي ولبست أطواري وتقلدت بسيفي واعتلقت رمحي، و ركبت ناقتي و خرجت طالباً لها و كنت أسرع في السير فسرت ذات ليلة وكانت ليلة مظلمة مدلهمة وأنا مع ذلك أكابد هبوط الأودية وصعود الجبال فأسمع زئير الآساد وعي الذئاب وأصوات الوحوش من كل جانب، وقد ذهل عقلي و طاش لبي ولساني لا يفتر عن ذكر الله تعالى.
فبينما أنا أسير على هذا الحال إذ غلبني النوم فأخذت بالناقة على غير الطريق التي كنت فيها وغلب علي النوم وإذا أنا بشيء لطمني في رأسي فانتبهت فزعاً مرعوباً وإذا بأشجار وأنهار وأطيار على تلك الأغصان تغرد بلغتها وألحانها وأشجار تلك المرج مشتبك بعضها ببعض. فنزلت عن ناقتي وأخذت بزمامها في يدي ولم أزل أتلطف في الخلاص إلى أن خرجت بها من تلك الأشجار إلى أرض فلاة فأصلحت كورها ثم استويت راكباً على ظهرها ولا أدري أين أذهب. لا إلى أي مكان تسوقني الأقدار فممدت نظري في تلك البرية فلاحت لي نار في صدرها فوكزت ناقتي. وصرت متوجهاً إليها حتى وصلت إلى تلك النار فقربت منها، وتأملت، فإذا بخباء مضروب ورمح مركوز ودابة قائمة وخيل واقفة وإبل سائمة .فقلت في نفسي : يوشك أن يكون لهذا الخباء شأن عظيم فإني لا أرى في تلك البرية سواه .
ثم تقدمت إلى جهة الخباء فقلت : السلام عليكم يا أهل الخباء ورحمة الله وبركاته، فخرج إليّ من الخباء غلام من أبناء التسعة عشر سنة فكأنه البدر إذا أشرق والشجاعة بين عينيه فقال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أخ العرب، إني أظنك ضالا عن الطريق فقلت: الأمر كذلك أرشدني يرحمك الله، فقال : يا أخ العرب إن بلدنا هذه مسبعة، وهذه الليلة مظلمة موحشة شديدة الظلمة و البرد، و لا آمن عليك من الوحش أن يفترسك فانزل عندي على الرحب والسعة، فإذا كان الغد أرشدتك إلى الطريق، فنزلت عن ناقتي، وعقلتها بفضل زمامها، ونزعت ما كان علي من ثياب وتخففت وجلست ساعة، فإذا بالشاب قد عمد إلى شاة فذبحها وإلى نارٍ فأضرمها، فأججها ثم دخل الخباء، فأخرج إزاراً ناعماً، وملحاً طيباً، ثم أقبل يقطع من ذلك اللحم قطعاً ويشويها على النار ثم يعطيني ويتنهد ساعة ويبكي أخرى .
ثم شهق شهقة عظيمة و بكى بكاءً شديداً وأنشد يقول هذه الأبيات :
لم يبق إلا نفسٌ هافــتٌ ** ومُقلةُ إنسانهــــا باهتُ
لم يبق في أعضائه مَفصلٌ ** إلا وفيه سَـــقَمٌ ثابــت
ودمعُـهُ جارٍ وأحشــاؤُه ** تَوَقَـــدُ لكنّــه ساكـت
تبكي له أعداؤه رحــمةً ** يا ويح من يرحمــه الشامت
قال جميل: فعلمت عند ذلك يا أمير المؤمنين أن الغلام عاشق ولهان ولا يعرف الهوى إلا من ذاق طعم الهوى . فقلت في نفسي: هل أسأله ?
ثم راجعت نفسي وقلت: كيف أتهجم عليه في السؤال وأنا في منزله؟
فردعت نفسي وأكلت من ذلك اللحم بحسب كفايتي فلما فرغنا من الأكل قام الشاب ودخل الخباء وأخرج طشتاً نظيفاً وإبريقاً حسناً ومنديلاً من حرير أطرافه مزركشة بالذهب الأحمر وقمقماً ممتلئاً من ماء الورد الممسك فتعجبت من ظرفه ورقة حاشيته وقلت في نفسي: لم أعرف الظرف في البادية .
ثم غسلنا أيدينا وتحدثنا ساعة ثم قام ودخل الخباء وفصل بيني وبينه بفاصل من الديباج الأحمر، وقال : ادخل يا وجه العرب وخذ مضجعك فقط لحقك في هذه الليلة تعب في سفرتك هذا نصب مفرط . فدخلت وإذا أنا بفراش من الديباج الأخضر فعند ذلك نزعت ما علي من الثياب وبت ليلة لم أبت في عمري مثلها .
و أدرك شهرزاد الصباح و سكتت عن الكلام المباح .
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جميلاً قال: فبت ليلة لم أبت عمري مثلها وكل ذلك وأنا متفكر في أمر هذا الشاب إلى أن جن الليل ونامت العيون فلم أشعر إلا بصوت خفي لم أسمع ألطف منه ولا أرق حاشية، فرفعت الفاصل المضروب بيننا وإذا أنا بصبية لم أرَ أحسن منها وجهاً وهي في جانبه، وهما يبكيان ويتشاكيان ألم الهوى والصبابة والجوى وشدة اشتياقهما إلى التلاقي فقلت : يا الله ! العجب من هذا الشخص الثاني فحين دخلت هذا البيت لم أرَ فيه غير هذا الفتى وما عنده أحد .
ثم قلت في نفسي: لا شك أن هذه من بنات الجن تهوى هذا الغلام وقد تفرد بها في هذا المكان وتفردت به . ثم أمعنت النظر فيها فإذا هي إنسية عربية إذا أسفرت عن وجهها تخجل الشمس المضيئة وقد أضاء الخباء من نور وجهها فلما تحققت أنها محبوبته تذكرت خيرة الحب فأرخيت الستر وغطيت وجهي ونمت، فلما أصبحت لبست ثيابي وتوضأت لصلاتي وصليت ما كان علي من فرض، وقلت له : يا أخ العرب، هل لك أن ترشدني إلى الطريق فقد تفضلت علي، فنظر إليّ وقال : على رسلك يا وجه العرب إن الضيافة ثلاثة أيام وما كنت بالذي يدعك إلا بعد ثلاثة أيام .
قال جميل: فأقمت عنده ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع جلسنا للحديث فحدثته وسألته عن اسمه ونسبه فقال: أما نسبي فأنا من بني عذرة، وأما اسمي فأنا فلان بن فلان، وعمي فلان، فإذا هو ابن عمي يا أمير المؤمنين، وهو من أشرف بيت من بني عذرة .
فقلت: يا ابن العم ما حملك على ما أراه منك من الانفراد في هذه البرية ? وكيف تركت نعمتك ونعمة آبائك ? وكيف تركت عبيدك وإمائك وانفردت بنفسك في هذا المكان.
فلما سمع يا أمير المؤمنين كلامي اغرورقت عيناه بالدموع والبكاء، ثم قال: يا ابن العم إني كنت محباً لابنة عمي، مفتوناً، بها هائماً بحبها مجنوناً في هواها لا أطيق الفراق عنها فزاد عشقي لها فخطبتها من عمي فأبى وزوجها لرجل من بني عذرة ودخل بها وأخذها إلى المحلة التي هو فيها من العام الأول . فلما بعدت عني واحتجبت عن النظر إليها حملتني لوعات الهوى وشدة الشوق و الجوى على ترك أهلي و مفارقة عشيرتي و خلاني و جميع نعمتي فانفردت بهذا البيت في هذه البرية وألفت وحدتي .
فقلت : وأين بيوتهم ?
قال : هي قريب من ذروة هذا الجبل وهي كل ليلة عند نوم العيون وهدوء الليل تنسل من الحي سراً بحيث لا يشعر بها أحد فأقضي منها بالحديث وطراً و تقضي هي كذلك وها أنا ذا مقيم على ذلك الحال أتسلى بها ساعة من الليل ليقضي الله أمراً كان مفعولا أو يأتي الأمر على رغم الحاسدين أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
ثم قال جميل: فلما أخبرني الغلام يا أمير المؤمنين غمني أمره وصرت من ذلك حيران لما أصابني من الغيرة فقلت له: يا ابن العم، وهل لك أن أدلك على حيلة أشير بها عليك و فيها إن شاء الله عين الصلاح وسبيل الرشد والنجاح وبها يزيل الله عنك الذي تخشاه. فقال الغلام: قل لي يا ابن العم فقلت له : إذا كان الليل وجاءت الجارية فأطرحها على ناقتي فإنها سريعة الرواح واركب أنت جوادك وأنا أركب بعض هذه النياق أسير بكما الليلة جميعها فما يصبح الصباح إلا وقد قطعت بكما براري و قفار أو تكون قد بلغت مرادك وظفرت بمحبوبة قلبك وأرض الله واسعة فضاها وأنا والله مساعدك ما حييت بروحي و مالي وسيفي .
و أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جميلاً لما قال لابن عمه على أخذ الجارية ويذهبان بها في الليل ويكون عوناً له ومساعداً مدة حياته . فلما سمع ذلك قال : يا ابن العم حتى أشاورها في ذلك فإنها عاقلة لبيبة بصيرة في الأمور . قال جميل : فلما جن الليل وحان وقت مجيئها فإذا هو ينظرها في الوقت المعلوم فأبطأت عن عادتها فرأيت الفتى خرج من باب الخباء وجعل يتنسم هبوب الريح الذي يهب من نحوها وينشق رياحه وينشد هذين البيتين :
ريح الصبا تهدي إلي نسيم ** من بلدة فيها الحبيب مقيم
يا ريح فيك من الحبيب علامة ** أفتعلمين متى يكون قدوم ?
ثم دخل الخباء وقعد ساعة زمانية وهو يبكي ثم قال: يا ابن العم إن لابنة عمي هذه الليلة نبأ و قد حدث لها حادث أو عاقها عني عائق . ثم قال لي : كن مكانك حتى آتيك بالخبر . ثم أخذ سيفه وترسه ثم غاب عني ساعة من الليل ثم أقبل علي وعلى يديه شيء يحمله، ثم صاح علي فأسرعت إليه فقال ابن العم: أتدري ما الخبر، فقلت: لا والله! فقال: لقد فجعت في ابنة عمي هذه الليلة؛ لأنها قد توجهت إلينا فتعرض لها في طريقها أسد فافترسها ولم يبق منها إلا ما ترى.
ثم طرح ما كان على يده فإذا هو مساس الجارية وما فضل من عظامها، ثم بكى بكاءً شديداً ورمى القوس من يده وأخذ كيساً على يده ثم قال لي: لا تبرح إلى أن آتيك إن شاء الله تعالى. ثم سار فغاب عني ساعة ثم عاد وفي يده رأس أسد فطرحه عن يده ثم طلب ماء فأتيته به فغسل فم الأسد وجعل يقبله ويبكي وزاد حزنه فجعل ينشد هذه الأبيات :
ألا أيها الليث المغر بنفسه ** هلكت و قد هيجت لي بعدها حزنا
و صيرتني فرداً وقد كنت إلفها * * و صيرت بطن الأرض قبراً هنا
أقول لدهرٍ ساءني بفراقها ** أعوذ بربي أن تريني لها خذنا
ثم قال: يا ابن العم سألتك بالله و بحق القرابة والرحم التي بيني وبينك أن تحفظ وصيتي وفستراني الساعة ميتاً بين يديك فإذا كان ذلك فغسلني و كفني أنا و هذا الفاضل من عظام ابنة عمي في هذا الثوب وادفنا جميعاً في قبر واحد واكتب على قبرنا هذين البيتين :
كنا على ظهرها والعيش في رغدٍ * * والشمل مجتمعٌ والدار والوطن
ففرق الدهر والتصريف إلفتنا * * وصار يجمعنا في بطنها الكفن
ثم بكى بكاءً شديداً ثم دخل الخباء وغاب عني ساعة وخرج وصار يتنهد ويصيح ثم شهق شهقة ففارق الدنيا. فلما رأيت ذلك منه عظم علي وكبر عندي حتى كدت أن ألحق به من شدة حزني عليه. ثم تقدمت إليه فأضجعته وفعلت به ما أمرني به من العمل وكفنتهما جميعاً في قبر واحد وأقمت عند قبرهما ثلاثة أيام، ثم ارتحلت وأقمت سنتين أتردد إلى زيارتهما . فهذا ما كان من حديثهما يا أمير المؤمنين . فلما سمع الرشيد كلامه استحسنه وخلع عليه، وأجازه جائزة حسنة .
تحليل الحكاية :
يرى الباحث أن تحليل بنية التواصل الأنثروبولوجية أسطوريًا، في قصص ألف ليلة وليلة، يتشكل بثلاثة مشاهد ذات أثر في الحكاية، وأسطرتها، هي :
1- مشهد صورة الحب.
2- مشهد صورة الموت.
3- مشهد صورة التضحية.
وهي صور أسطورية بمجملها شكلتها بنية متسلسلة سيحللها الباحث.

***
يقول السارد:
” أرق أمير المؤمنين ليلة أرقاً شديداً .. فوجدت جميل بن معمر العذري .. فدخلت ودخل معي … فسلّم … وأمره بالجلوس: أعندك شيء من الأحاديث العجيبة ”
تتحرك بنية الحكاية في فعلها نحو المعنى ولكنها تعطي لكل سببٍ مسبباً. وإن الفكرة تلو الفكرة تصبح حديثاً معايناً مرئياً كأنه مزركش بالذهب.. ثم يفتن القارئ أيما فتنة يدرك خلالها أن الفتنة أساسها الحب، إلى أن قال جميل لأمير المؤمنين:
يا أمير المؤمنين إني كنت مفتوناً بفتاة محباً لها وكنت أتردد إليها . فانتهى الكلام وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح .
فربما ترتبط فكرة عمد أمير المؤمنين إلى مخدة من الديباج الأحمر المزركش بالذهب المحشو بريش النعام إلى فكرة قدرة جميل العذري على الجذب والترك حتى أن أمير المؤمنين في الليلة الثانية قد استعجل جميلاً بالحديث. وزاد جميل أن قال :
” إذ هو سؤلي و بغيتي من الدنيا ” .
إن البنية التي تتحرك في الليلة رقم ( 689 ) تتحرك بغية سؤال أمير المؤمنين عن الحب، الذي وافق بين فكرة الأثر من المحب والمؤثر له فوافق شأن أمير المؤمنين شأن جميل حتى أنه ذكر حركات متعددة تدل على مركزيته في الصورة المطلوبة فيما يقول :
” قمت ، شددت ، تعممت ، لبست ، تقلدت ، اعتقلت ، ركبت ، خرجت ، سرت ، … ”
وهذه كلها تأتي مع نتيجة للصورة البصرية المشاهدة بقوله :
” ولساني لا يفتر عن ذكر الله تعالى ”
فكيف لنا أن تصور هذا الذكر وشوق جميل لحبيبته يقلقه و يجذبه إليها فتحدثه نفسه بالمسير إليها وهذا التركيز لبنية حدث الفعل عند جميل هوالذي وافق هوى جميل، وهوى أمير المؤمنين معاً كلاهما عاشق محب لعشيقته .
إن البنية الفعلية لأثر الشوق ظاهرة في المؤثر أصلاً إنه القلق وشيء باطني مجهول عنه جذبه إليها ثم شيء باطني حدثه بالمسير إليها. إنه الشوق هزه إليها، فعمد إلى كل ما عمد من هذه الأفعال المتحركة التي صورت لنا كل ما يريد فعله ولسانه لا يفتر عن ذكر الله تعالى.
فقد يجوز لنا بعد هذا العرض أن نستنتج أن المؤثر الصغير(الشوق للمحبوبة)
قد صنع أثراً كبيراً وهو (كل ما فعله جميل) .
تنتقل الآن البنية للحديث عن فكرة بنية الفكر الذي انطلق منه جميل وعاينه أمير المؤمنين !
قال جميل :
” فبينما أنا أسير على هذه الحال إذ غلبني النوم فأخذت بي الناقة على غير الطريق التي كنت منها ، وإذا أنا بشيء لطمني في رأسي فانتبهت فزعاً مرعوباً .. فنزلت عن ناقتي و أخذت بزمامها .. إلى أن خرجت بها .. واستويت راكباً على ظهرها ، و لا أدري إلى أين أذهب و لا إلى أي مكان تسوقني الأقدار فمددت نظري .. فلاحت لي نار .. فركزت ناقتي حتى وصلت إلى تلك النار فقربت و تأملت .. ثم تقدمت إلى جهة الخباء و قلت : السلام عليكم … ” .
إن البنية التي تحرك جميل هي بنية غياب الشعور المتضمن إقناع أمير المؤمنين بالحدث الأكبر و هو الصورة الكبرى التي تكونها مجموعة الصور الجزئية من كل فعل يصور حدثاً و يمهد لحدث لاحق أيضاً ، وصولاً إلى صيرورة أسطرة الموقف الرمزي نحو مقصود ذي أثر، وصولا لحيوية الإطار السرديّ العام الذي يرجعنا لواقعٍ كانت تعيشه قبيلة بني عذرة .
فكيف بالناقة أن تسير جميلاً لولا أنه كان نائماً، وهل نومه ثقيل فلا يستيقظ ؟ فاستيقظ من تلك الأشجار التي ضربت على رأسه رغم أنه يمشي في الصحراء . ولاحت له فجأة نار … ولكنه امتلك كل شيء وتقدم إلى جهة الخباء وقال: السلام عليكم ، فتتبع بنية غياب الشعور السابقة بنية فكرية أخرى تدعم رأي جميل فيما يمكن أن نسميها بنية تشكل صورة من طرفين :
• الأول أظهره جميل.
• والثاني يبقى يتحرى في البنية ذاتها إلى أن تنتهي مع آخر نقطة مشاهدة منها .
أما البنية التي تتحرك، وتتوالد، وتنتهي رغم توالدها عند نقطة معينة هي البنية المقصودة عند جميل مثل كل الأوصاف التي ينسبها لنفسه مثل :
” نزلت عن ناقتي وعقلتها … ونزعت ما كان علي من ثياب وتخفضت وجلست ساعة ”

لأن مقابل كل عنصر هناك وظيفة من وظائف التواصل الأنثروبولوجي، وإن كل فعل تواصل ينطوي على وظيفة من هذه الوظائف – كما يقول هايمز – وإن كل هذه البنى وجميل – منها – قد وضح لأمير المؤمنين أنه لاقى غلاماً من أبناء التسعة عشر سنة . و رد جميل عليه ( إنه ضال عن الطريق) . ثم طلب إليه أن يرشده . و طلب الغلام إليه أن ينزل عنده و يسير في الغد ، لأن بلدهم موحشة مظلمة .
هكذا أنهى جميل بنيته. وعلل نزوله عن ناقته وعقلها ونزع ثيابه وتخففه وجلسته بما كان قد قدم من تصوير خلا من البنية التي بدأ بها وهي بنية كلامه عن حبه للفتى .
فهل كانت البنية الفعلية ترتبط بجميل و أفعال جميل و أوصاف جميل كما يبدو ؟
أظنني لن أكشف عن هذه البنى وأهميتها في هذه الليلة وهو ما حصل فقد انتهت الليلة عند شهق الظلام و بكائه و إنشاده لعشقه و ولهه .
انظر إلى صورة الغلام: إن صورته في البنية الفكرية عند جميل :
( غلام عاشق ولهان )
وكان جميل قد صور هذا الغلام :
( كأنه البدر إذا أشرق ) .
ثم جاءت أفعال صورة جميل تصور فكرة عن نفسه .. لأنه قال لها أن تسأل الغلام عن عشقه، ولما راجعها تبين أن تهجمه عليه لا يجوز ( وهو في منزله ) .
انظر كيف انتقلت بنى التصور من تصوير كُلي يمثل غلاماً وبدراً وعاشقاً و ولهان … إلى تصوير جزئي: وكل جزء فيه يمثل فعلاً خاصاً يتحرك لغاية يريدها جميل لتصور نهاية صورة كلية، تصنع كلها تواصلا أنثروبولوجيًا، كما يقول في إطار السرد:
” ردعت نفسي وأكلت اللحم … تعجبت من ظرفه .. فدخلت …
و بت ليلة لم أبت في عمري مثلها .. ” .
هذه البنى تقول عن جميل ـ كما قال هو ـ :
” و لا يعرف الهوى إلا من ذاق طعم الهوى ” .
و يقول السارد :
” لم أعرف الظرف في البادية ”
مستنكراً أن يجتمع الهوى والظرف في بادية لا تعرف إلا التعب و السفر والجفوة . وذاك من إطار السرد المعروف بالباعث على التواصل الأنثروبولوجي، وكانت البنى فيه مقصودة لذاتها وتخفي وراءها سردًا آخر.
وهذا دليل أهمية ما سيأتي ذكره في الليلة رقم ( 690 ) من أن تلك البلدة المقصودة و هذه البادية المضيافة هما لبني عذرة .
فربما أصبح لجميل حق في أن يتفكر في أمر هذا الشاب وقد شعر بصوت خفي فرفع الفاصل المضروب بينه وبين الشاب و إذا بصبية لطيفة رقيقة لم ير أحسن منها وجهاً . والغلام ي دانها . وهما يبكيان و يتشاكيان ألم الهوى وشدة الاشتياق إلى التلاقي فقال جميل :
يا الله !! …
إن ارتباط جميل ببنية الحدث عنده تميزها عن أية بنية في الحكاية جعلها الآن يكثر من لغة حديث النفس وهذه بالطبع تلتزم بالبنية الفكرية التي يريد جميل اكتشافها، فمن هؤلاء وعند من يقيمون ؟
قال جميل :
” قلت في نفسي لا شك أن هذه من بنات الجن تهوى هذا الغلام ” .
لكن سرعان ما اكتشف أنها ( إنسية عربية ) تخجل الشمس المضيئة إن هي أسفرت عن وجهها و لما تحقق أنها محبوبة الغلام تذكر غيرة المحب فأرضى الستر وغطى وجهه و نام و لما أصبح : ( توضأ و صلى الفرض ) ثم طلب أن يرشده الغلام إلى الطريق فرفض الغلام إلا أن يقيم عنده ثلاثة أيام … فلما كان اليوم الرابع ( وهذه بنية فكرية عربية معلومة لها أثر ) سأله عن اسمه ونسبه. أما اسمه ففلان بن فلان وأما نسبه فمن بني عذرة ولما قال اسم عمه عرف جميل أنه ابن عمه وأنه من أشرف بيت في بني عذرة .
” فقال: يا ابن العم، ما حملك على ما أراه منك ، و كيف تركت نعمتك ، و كيف تركت عبيدك و إماءك ؟ ثم اغرورقت عينا الغلام بالدموع “.
وقال: يا ابن العم إني كنت محباً لابنة عمي هائماً بحبها فخطبتها من عمي ، فأبى و زوجها لرجل من بني عذرة، و دخل بها، وأخذها إلى المحلة، فكلما بعدت ، واحتجبت عن النظر إليها حملتني لوعات الهوى، وانفردت بهذا البيت :
و في كل ليلة تنسل من حيها سراً * * أقضي منها بالحديث وطرا
و تقضي و هي كذلك .
عندما ننظر إلى هذه البنية الكبيرة التي شكلت صورة كبيرة لمضمون شكل الحب عند بني عذرة فكرًا أسطوريًا قابلا لأن يشكل بنية تواصل أنثروبولوجية، نجد أمامنا لغة مشتركة لم يستطع جميل أمامها إلا أ يقف حيران لما أصاب ابن عمه، وكان من المفروض أن يخلي جميل بينه و بينها . هذا المفروض هو البنية المتوقعة . ولكننا في الحكاية نفترض المتوقع ، و تفاجئنا بما هو غير متوقع . لكن هل استطاعت البنية الكلية التي شكلت صورة العشق أن تقنعنا بالبنية الكلية المجاورة التي شكلت صورة حيلة جميل لخلاص ابن عمه . و أي خلاص ؟!
قال جميل :
” يا ابن العم ، أدلك على حيلة ، و فيها إن شاء الله عين الصلاح و بها يزيل الله عنك الذي تخشاه . حتى إذا كان الليل و جاءت الجارية فأطرحها عن ناقتي فإنها سريعة الرواح و اركب أنت جوادك وأنا أركب بعض هذه النياق وأسير بكما الليلة جميعها ثم تكون قد ظفرت بمحبوبة قلبك و أرض الله واسعة ” .
وتحققت (الصلة) التي هي إحدى عناصر التواصل، وهي واحدة من العوامل المؤلفة (للفعل القولي) في التواصل؛ بالتواجد الجسماني(لجميل وابن عمه والجواد والناقة) وهي العلاقة السيكولوجية التي تسمح للمرسل والمتلقي بالدخول والبقاء في عملية الاتصال (الحكاية صحراوية المشهد في مكانها وزمانها)، وذالك التواصل الجسماني في المضمون اللغوي المستخدم أبقى الرسالة متصلة بين المرسل والمتلقي.

نحن الآن في الليلة الأخيرة رقم ( 691 ) و فيها تنتهي حكاية عاشقين من بني عذرة فهل سينهي جميل تلك البنى التي صورت حالة منذ تيه ناقته إلى أن احتال وخلص العاشقين ؟
قال جميل بحيلته، وشاور ابن عمه، وابنة عمه، لأنها عاقلة بصيرة بالأمور . وهذه بنية ظاهرة فيها صورة ظاهرة متوقعة. فجاءت الحكاية بالبنية الباطنة ( إطار السرد)؛ لأنها تحمل أنثروبولوجية التواصل فيما تقدمه، فمن غير المتوقع و ليس المقصود بالبنية هنا قوله :
” فأبطأت عن ذاتها .. خرج الفتى و جعل يتنسم هبوب الريح … ثم دخل الخباء .. وقعد ساعة و هو يبكي ..”
لكن المقصود بتغير البنية المتوقعة هو شعور ابن العم بأن حادثاً عاق ابنة عمه عنه. ولم يكن للبنية أن تغني الحكاية بفعل يحركها فتحرك ابن العم بذاته وقال لجميل : كن مكانك حتى آتيك بالخبر .
فانتهت جميع الأفعال التي يمكن أن تصور حدثاً يروى أو حدثاً يتصور .
تقول الحكاية :
” ثم أخذ سيفه و ترسه .. ثم غاب .. ثم أقبل .. ثم صاح .. فأسرع جميل .. فقال .. لقد فجعت .. بابنة عمي .. تعرض لها في طريقها أسد فافترسها .. ثم بكى بكاءً شديداً .. ثم سار فغاب .. ثم عاد و بيده رأس أسد .. ثم غسل فم الأسد و جعل يقبله و يبكي ” .
إن هذه البنى التي كونت صورة النهاية ستقول فيما تقول قولها الختامي عندما قال ابن العم :
” ستراني الساعة ميتاً بين يديك ، فإذا كان ذلك فغسلني و كفني أنا وهذه الفاضل من عظام ابنة عمي وادفنا جميعاً في قبر واحد ” .
فتتناسب حركة الأثر في البنية مع مؤثرها في لغة كاشفة نستطيع معها أن نستشف بنية أسطورية للحكاية القديمة في ألف ليلة و ليلة . هذه البنية الأسطورية التي نعنيها هي الحكاية القديمة المروية رواية يعرفها الجميع ثم تتوالد فيها روايات تنسج قصصاً حول الرواية الأصلية. ولا نظن أن تكون هذه الحكاية ملفقة على جميل وصاحبته بل على أمير المؤمنين ذاته .
لقد شهق الغلام وصاح وفارق الدنيا وقام جميل بتكفينه مع عظام حبيبته، وقبرهما معاً وبقي سنتين يتردد إلى زيارتهما.
ترتبط بنية الحدث (الفعل) الذي شكل وفاة الغلام مع بنية فكر بني عذرة بأنثروبولوجية تواصل أسطورية البنى، تنكشف عقدة سردها الزمانية والمكانية في ثلاثة مواطن هي :
• الأول: عندما لاحت النار لجميل فاكتشف خباء الظلام.
• الثاني عندما شعر جميل بلطف الجنية واكتشف أنها إنسية عربية.
• الثالث عندما عاد الغلام برأس الأسد.
وكل هذا يحدث في صحراء عربية نعرفها وتعرفنا أن هناك فكراً أسطورياً واقع فكراً بنية جديدة تؤسس علاقة بين الواقع المعاش في الصحراء العربية والأسطورة التي قد تحكى ويتداولها الناس. وإن علاقة ما هو واقعي بما هو أسطوري يتم خلالها نقل بناء الرؤيا للسارد من الواقع إلى الأسطورة.فقد وظف السارد ما يقوله عن واقعه و ليس ما تقوله الأسطورة فتشكلت لديه رؤيا فيها مبنى رؤيوي خاص ذو علاقة بين الواقع في الحالة الواقعية ، لتشكيل وجوده كصاحب فلسفة معاشة تمثلها قبيلة بني عذرة . ثم عاد السارد، في إطار السرد، إلى اللحظة الأسطورية كلما غيب واقعه عنه وأراد أن يرجع إلى المبني المتخيل وهو حركة الحياة التي تقابلها حركة الأسطورة.
وإن هذه الأسطورة التي اختارها السارد لم تكن بالغريبة غير المعيشة لكنها صنعت حركة دائرية في بنيتها. فتخيل لو لم تلح النار لجميل أصلاً وتخيل لو لم يشعر جميل بلطف الجنية، وتخيل لو لم يعد الغلام برأس الأسد . لما اكتملت بنية الحركة الدائرية و لبقيت البنية موظفة في لحظة يعيشها جميل وحده. ولما شارك القارئ جميلاً في اكتشاف ما وراء كل هذه البنى وهو ما يسمى بقلب حدث البنية باستعمال لغة ( لو لم يكن ) .
إن حكاية الأسطورة كما رواها السارد من حكاية الملخصة (النار والجنية والأسد) تصنع رمزًا بين بنيتين:
• الأولى بنية المجاز / غير الواقع.
• الثانية بنية الاستعارة غير المعيشة.
فكان بحث جميل في حركة بنيته في النص عودة إلى ( اللحظة الأسطورية ) ليفيد منها في لحظة العبور للبحث عن إنسانيته التي هي ( معيار كل الأشياء من حوله). و هي لحظة الاختزال القادرة على كشف الواقع، بكل ما فيه من إيجابيات أو سلبيات. وفسّر كيفما شئت أن تفسر.
المصادر والمراجع
• الكتب العربية والمترجمة:
• إبراهيم، عبد الله ، عواد علي، سعيد الغانمي : معرفة الآخر( مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة)، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط(2)، 1996م.
• إسماعيل، عز الدين: الأسس الجمالية في النقد العربي، دار الكتاب، بيروت، 1982م.
• ألف ليلة وليلة، أربعة مجلدات، المكتبة السعيدية، مصر، دون تاريخ.
• برنس، جيرالد برنس : المصطلح السردي: معجم مصطلحات، ترجمة: عابد خزندار، مراجعة : محمد بريري، المجلي الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، مصر، ط(1)، 2003م.
• بشر، كمال محمد: علم اللغة العام، دار المعارف، مصر، 1986م.
• الجوزو، مصطفى: من الأساطير العربية والخرافات، دار الطليعة، بيروت – لبنان، ط (2)، 1980م.
• جولدمان، لوسين، وآخرون : البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، تر: محمد سبيلا، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط(1) ، 1984م.
• خان، محمد: الأساطير والخرافات عند العرب، دار الحداثة، بيروت – لبنان، ط (4)، 1982م.
• راثفين، ك. ك.: الاسطورة، ترجمة: جعفر صادق الخليلى، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط(1)، 1981م.
• ريد، إيان: القصة القصيرة، ترجمة: منى مؤنس، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م.
• أبو زيد،أحمد : ماذا يحدث في علوم الإنسان والمجتمع ؟ عالم الفكر، مج 8، ع 1، الكويت، 1977م.
• الشماس، عيسى: مدخل إلى علم الإنسان ( الأنثروبولوجيا ) ، اتحاد الكتاب العرب، دمشق – سوريا، 2004م.
• كاسيرر، أرنست: في المعرفة التاريخية، ترجمة: أحمد حمدي محمود، دار النهضة العربية، القاهرة، دون تاريخ.
• النوري، قيس: الأساطير وعلم الأجناس، مؤسسة دار الكتب للطباعة، الموصل – العراق، 1981م.
• أبو هلال، أحمد: مقدّمة في الأنثروبولوجيا التربوية ،المطابع التعاونية، عمّان – الأردن، 1974م.
• وهبة، مجدي: معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان، بيروت، 1975م.

• الدوريات العربية :

• حمودة، حسين: مدينة الجغرافيا .. مدينة الخيال، مجلة فصول، مج 12، ع4، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، شتاء 1994م.
• غزول، فريال: البنية والدلالة في ألف ليلة و ليلة، مجلة فصول ، مج 12، ع4 ، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، شتاء 1994م.
• فهيم، حسين: قصة الإنثربولوجيا ( فصول في تاريخ علم الإنسان)، سلسلة كتب علم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الكتاب رقم ( 98 )، فبراير، 1986م.

المصدر: موقع الأنطولوجيا على الرابط: https://goo.gl/iYbPne

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.