من الاختلاف الثقافي إلى الإثنوغرافيا العفوية

من الاختلاف الثقافي إلى الإثنوغرافيا العفوية

د. بوشعيب الساوري sawrii

قبل أن تكون الرحلة تجربة لاكتشاف الذات والغير، فهي جسر للانتقال من ثقافة إلى ثقافات أخرى، بل هي إمكان لانتقال الثقافة وارتحالها عبر ذات الرحالة. لتصير الرحلة رحلتين: رحلة الفرد القائم بالرحلة وثقافته الخاصة ورحلة الثقافة التي ينتمي إليها. ومن ثمة تتضمن الرحلة بالضرورة خطابا حول الغير الثقافي(1)ينتج عن تصادم ثقافة الرحالة مع ثقافة الغير. فيجد الرحالة نفسه ملزما بتكوين صورة عن الغير وعن ذاته. كما تتميز الرحلة بكونها ميدانا للتعلم بالنسبة للرحالة إذ تجعله ينفتح على كل ما هو جديد، كما يتجاوز التعلم الرحالة إلى القارئ باعتبار الرحلة موجهة إلى قارئ مخصوص.

1- رحلة الثقافة

من أشمل تعاريف الثقافة تعريف تايلور (Taylor) “الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق والقوانين والتقاليد وكل الأعراف الأخرى والعادات المكتسبة من قبل الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع.”(2)وتشمل جميع مظاهر التعبير البشري، سواء تعلق الأمر بالأدب أو الفنون أو المعتقدات أو اللباس والسكن والأكل. وبتعبير ريموند ويليامز “طريقة حياة معينة تعبر عن معان وقيم معينة غير موجودة في الفن والتعلم فقط، بل أيضا في المؤسسات (الأعراف) والسلوك الاعتيادي.”(3)

كما تعرّف الثقافة باعتبارها هوية (Identité) “تفهم الثقافة على أنها كيفية للنظر إلى الوجود وإلى الحياة وأسلوب في العيش والسلوك والإحساس والإدراك والتعبير والإبداع، يتميز به مجتمع بشري معين، في ما يملكه من أصالة عريقة ومتجذرة، في تاريخه. تُعبّر الثقافة هنا عن نظرة أمة معينة إلى الكون وإلى الحياة والموت، وإلى الإنسان ومكانته ورسالته في الوجود.”(4)وتبعا لذلك يعتقد كل شعب من الشعوب البشرية أنه “ينتمي إلى ثقافة فريدة من نوعها ومتميزة عن غيرها، بسبب الطابع الخصوصي الذي قد تأخذه عند مجموع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية؛ وأن تأثير ثقافة ما يظهر في جميع أنشطة وفعاليات وأنماط السلوك عند المنتمين إليها.”(5)

تبعا لذلك تتحول الرحلة من انتقال في المكان إلى انتقال في الخصائص المميزة للثقافات عبر رحلة تقوم بها الثقافة بوساطة القائم بالرحلة.

لقد أنتج الإنسان ثقافات متعددة ومختلفة بسبب البعد الجغرافي والإمكانات الخاصة بوسط كل مجموعة بشرية، والجهل بوجود باقي المجموعات البشرية الأخرى.(6)بالإضافة إلى عامل البعد الجغرافي المساعد على ترسيخ التمايز بين الثقافات، دون أن نغفل عامل القُرب المؤسس على الرغبة في التعارض والتميز.(7)فكل ثقافة تسعى للتميز عن الثقافات الأخرى القريبة منها، وهذا ما يفسر كثرة الحروب والتوترات بينها.

كل ذلك أدّى إلى تولُّد ردود أفعال تلقائية تجاه بعض الممارسات الأخلاقية والدينية والاجتماعية لبعض الجماعات البشرية كأن نقول مثلا: “عادات متوحشة” “نحن لا نقوم بمثل هذا” “نحن لا نسمح بمثل هذا”. وغيرها من ردود الأفعال تجاه طرق العيش والاعتقاد والتفكير الغريبة عنا.(8)

وقد جسدت النصوص الرحلية، باعتبارها رحلة إلى المختلِف، أرضية خصبة لمثل هذا النوع من ردود الأفعال؛ فكثيرا ما نجد أبا دُلف في الرسالة الأولى(9)التي سنعمل على تحليلها، يردد عبارات تتراوح ما بين النفي والإثبات من مثل: “لديهم”، “لهم”، “ليس لهم”، “وهم”. وغيرها من العبارات التي تعكس المواجهة حينا والتلاقي حينا آخر بين ثقافته والثقافات المرتحل إليها أو عبرها.

فمهما كان موقع الرحالة من ثقافته فإن هذه الأخيرة تخترقه بفعل إكراهاتها؛ إذ تخترق الأنا الجمعية الأنا الفردية وتذوب فيها. وتغدو الأنا الفردية مجرد ممثِّل لها أمام ثقافة الغير أثناء فعل الرحلة، فيصير الرحالة سفيرا لهويته الثقافية. ويتمثل ذلك في استحضار الرحالة لثقافته الجمعية أثناء مقارناته ومشاهداته؛ فلا يمكن له التزام الحياد، فيجد نفسه مضطرا إلى العودة إلى ثقافته كل حين للحكم على ثقافة الغير. يقول أبو دلف مثلا محاكما ثقافة الأتراك: “وهم قليلو الغيرة تجيء امرأة الرئيس فمن دونه أو ابنته أو أخته إلى القوافل إذا وافت البلد، فتعترض الوجوه فإن أعجبها إنسان أخذته إلى منزلها وأنزلته عندها وأحسنت إليه، وتصرف زوجها وولدها وأخاها في حوائجه، ولم يقربها زوجها مادام من تريده نازلا عندها.”(ص49) ويقول في سياق آخر: “ويتزوجون تزويجا صحيحا.”(ص51) فيقابل ما بين خصوصيات ثقافة الأنا وخصوصيات ثقافة الغير، انطلاقا من قوة الانتماء والشعور بتفوق الثقافة المنطلق منها.

تبعا لهذا الوضع المتوتر، في غالب الأحيان، يتحول الرحالة إلى إثنوغرافي دون قصد ودون وعي، فيقدم وصفا لعادات وتقاليد الثقافات المرتحل إليها مخيطا شتات الانتقال في تصنيفات دقيقة تحدد خصائص البلدان والثقافات.

تحاكم الأنا ثقافة الغير انطلاقا من عنصر الدهشة الناتج عن صدمة اللقاء مع المختلِف عمّا هو مألوف في ثقافة الأنا. يقول أبو دلف واصفا مدينة الصين نتيجة الاندهاش من كبر حجمها: “وهي مدينة عظيمة تكون مسيرة يوم، ولها ستون شارعا ينفذ كل شارع منها إلى دار الملك، ثم إلى باب من أبوابها، وارتفاع سورها تسعون ذراعا وعرضه تسعون ذراعا.”(ص54-55) تلك الدهشة التي تدفعه إلى مقارنات ورصد للاختلافات والقيام بتصنيفات وتعميمات، تتراوح مابين الذاتية والموضوعية.

2- الرحالة “إثنوغرافي” من غير وعي

تعرف الإثنوغرافيا بأنّها الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد والعادات والقيم، والأدوات والفنون، والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة في فترة زمنية محدودة.(10)

فإذا نظرنا إليها كممارسة سنؤكد أنها قديمة قدم الإنسان، منذ بدأ هذا الأخير يتفاعل مع بيئته الاجتماعية والطبيعية، وينفتح على الثقافات الأخرى عبر الرحلات التجارية والاكتشافية وعبر الحروب. وهنا تندرج الإثنوغرافيا العفوية. لكن إذا نظرنا إليها كمفهوم وتخصص علمي سنؤكد أنها علم حديث أفرزه العصر الحديث بعد انفصال كثير من العلوم واستقلالها بموضوعها ومنهجها عن الفلسفة.

يقدم الجهد الجغرافي والرحلي العربيين منذ القرن الهجري الثالث (الميلادي التاسع) معرفة إثنوغرافية مكتوبة ضمن مفاهيم عصرها وأدواته المعرفية، يتعلق الأمر بإثنوغرافية عفوية فرضها انتشار الإسلام وتوسع الدولة الإسلامية في المعمور بفعل الأوضاع الجديدة التي أحدثتها الفتوحات العربية الإسلامية، التي فتحت الباب أمام الاهتمام بدراسة أحوال الناس في البلاد المفتوحة وسبل إدارتها، حيث أصبح ذلك من ضرورات التنظيم والحكم.”(11)وتمثلت في ظهور المؤلفات الجغرافية ومعاجم البلدان وكتب المسالك والمالك. وهذا ما جعلها مادة خصبة من ناحية المنهج الإثنوغرافي في دراسة الشعوب والثقافات الإنسانية.

كما كانت لكتب الرحلات خصائص ذات طابع إثنوغرافي، وتجلى بدايتها في خصوصا في اهتمام الرحالة بالناس ووصف حياتهم اليومية، وطابع شخصياتهم وأنماط سلوكياتهم وقيمهم وتقاليدهم.

عالج الجغرافيون والرحالة وكتاب المسالك والممالك خلال العصور الوسطى كثيرا من الظواهر الاجتماعية التي يمكن أن تدرج في إطار الاهتمامات الإثنوغرافية، ولا سيّما التنوّع الثقافي بين الحضارات، وذلك بدراسة ثقافات الشعوب الأخرى ومقارنتها بالثقافة الإسلامية التي كانت في الغالب مرجعا للنظر إلى الثقافات الأخرى. فقدموا صورا إثنوغرافية للشعوب التي عرفوها، وتعايشوا مع أهلها، فتقاربت نصوصهم في بعض جوانبها من انشغالات النص الإثنوغرافي، بما احتوته من كشف لطباع شعوب المعمور في تنوعها الثقافي، وذلك في دراستهم لطرق العيش، وعادات الزواج والطبخ وتنوع الطعام والشراب والتربية وبناء المنزل وترتيب المدن وطقوس الدفن، وأساليب الحصول على المعاش في الزراعة والتجارة والصيد، وفي المعتقدات الدينية، والعبادة، ونظم الحكم والملك، والمرجعيات القانونية.

سيسمح لنا هذا المنطلق اعتبار الرحلة نصاً يحمل بصمات الإثنوغرافيا العفوية الكاشفة عن رؤية الذات للغير وثقافته.

وما يهم هنا في مجال العلاقة ما بين الإثنوغرافيا والرحلة هو مجال رؤية الغير (Autruiَ)الثقافي. ومن هنا يمكن أن نعتبر نص الرحلة إرهاصا أوليا في علم الإثنوغرافيا أو الإثنوغرافيا ما قبل الإثنوغرافيا، أو الإثنوغرافيا العفوية.

تمثل الرحلة الجانب الإثنوغرافي من الأنثروبولوجيا العامة، بما هي الإثنولوجيا النظرة التي تلقيها الأنا على الغير البعيد المختلف. فتولدت إثنوغرافيا عفوية غير واعية انطلاقا من صدمة الاختلاف الثقافي التي تواجه بها ثقافة الغير ثقافة الرحالة.

نجد في نص أبي دلف وصفا لعادات وتقاليد ومؤسسات الغير والناتجة عن حقل المعايشة والملاحظة وتسجيل التفاصيل. والموجه لهذا الوصف هو الاختلاف الثقافي، إذ ينظر الرحالة إلى الغير من موقع نظرة الذات لمن تراه مختلفاً عنها. فقدم مادة غنية عن الغير الثقافي كيف يعيش ويفكر ويحتفل ويحزن ويأكل ويشرب وينظر إلى الأشياء. غير أن هذه النظرة ظلت محكومة بثقافة الرحالة المقوِّمة لما تلتقطه من عادات. تُسَفِّه بعضها وتندهش من بعضها وتقبل بعضها الآخر.

تميزت الخصائص التي قدمها أبو دلف عن الأتراك بالضبط والتدقيق والتعميم والتصنيف، الذي لا يجعل الرحلة فقط سيرا في المكان، وإنما استخلاصا لخصائص من مصادر وتجارب أخرى (كتب المسالك والممالك). مما يجعلنا نؤكد احتمالين، يرجح أن أبا دلف ارتكز عليها في تأليفه وهما:

– الأول: أن أبا دلف كان يدون ملاحظاته هذه أثناء فعل الرحلة، قبل أن تلتئم في النص بالصيغة التي هي عليها الآن.

– والثاني هو معرفته السابقة من مصادر أخرى. يقول كراتشوفسكي: “وقد ثبت أن روايته لا تمثل يوميات أو وصفا بل تم تدوينها من الذاكرة، وبعد مدة طويلة من حدوث الرحلة على ما يظهر ومع عدم مراعاة التسلسل التاريخي حين الكلام على زيارته للقبائل والأماكن المختلفة؛ وإلى جانب ما شاهده بعيني رأسه أضاف أبو دلف غير قليل مما سمع ولم يفرق بين الاثنين.”(12) أي أنه استفاد ما هو متراكم من معرفة في كتب الجغرافيين وكتب المسالك والممالك.

ركز أبو دلف على الخصائص الثابتة والمميزة لكل مجموعة بشرية على مستوى العبادة والأكل واللباس. يقول عن مينة قامرون: “ولهم بيت عبادة على رأس عقبة عظيمة، عليها سَدَنة، وفيه أصنام من الفيروزج والبيجاذي، ولهم ملوك صغار، ولباسهم لباس أهل الصين، ولهم بيع وكنائس ومساجد وبيوت نار، ولا يأكلون السمك ولا البيض، وفيهم ضرب يأكلون النطيحة والمتردية، ولا يأكلون ما مات حتف أنفه.”(ص62) وذلك بحس تعميمي يميز كل قبيلة تركية عن غيرها. فالرحالة وهو يقوم بذلك محتكما إلى ثقافته المنطلق منها، ينجز تصنيفات تجعل عمله قريبا من اشتغال الإثنوغرافي ولكن بأدوات عصره، قبل أن يكون هناك ظهور لعلم الإثنوغرافيا.(13)

نمط حياة أبي دلف الذي تعوده في العالم الإسلامي وجهه في الحكم على الثقافات الأخرى، وحدد له ما هو في حكم المقبول وما هو مرفوض. فكانت الثقافة بهذا حاجزا أمام التفاعل، تمنع أمورا وتبيح أخرى.

ونلمس سيادة لثقافة على أخرى، في رفض الخليفة الذي بعث أبا دلف تزويج ابنته لملك الصين، بالمقابل قبل تزويج ابنه من بنت ملك الصين، مما يفسر تحكم الدين الإسلامي في شخصية المسلم وتوجيهها وأيضا مركزية الثقافة الإسلامية.

تحضر الأنا أو الهوية الثقافية العربية الإسلامية كأداة للمقارنة بين ما لدى الغير من قيم، خصوصا عندما يتعلق الأمر بقضايا دينية. في بعض الأحيان يتجاوز الوصف الخارجي، إلى محاكمة ثقافة الغير انطلاقا من ثقافة الرحالة ونسقه الديني. وذلك لأن “علاقة الرحالة مع القبلي (l’a priori) نادرا ما تكون محايدة.”(14)يقول مثلا عن قبيلة الخرلخ: “والبغي والجور، ويغير بعضهم على بعض، والزنا بينهم ظاهر غير محظور، وهم أصحاب قمار.”(ص48) ويقول كذلك: “وهم قليلو الغيرة…”(ص49).

إلى جانب العامل الثقافي الدافع إلى المقارنة هناك حرص من أبي دلف على جمع الكثير من المعلومات العامة، وذلك في ارتباط باهتمام رجال السياسة بهذه المعلومات التي كانت تقدمها كتب الرحلات وكتب الجغرافيا وكتب المسالك والممالك، فنجد أبا دلف يربط معلوماته بالمتلقي. مستحضرا المتلقي الفعلي للرحلة: “إني لما رأيتكما يا سيدي، ومولاي، ومن أنا عبدهما أطال الله بقاءكما لهجين بالتصنيف، مولعين بالتأليف، أحببت أن لا أخلي دستوركما، وقانون حكمتكما من فائدة وقعت لي مشاهدتها، وأعجوبة رمت بي الأيام إليها.”(ص37) يؤكد هذا النص أن المتلقي كان مهتما بهذا النوع من المعلومات. مما جعل الرحلة محكومة بالمخاطب الموجهة إليه والذي يشترط مادة معينة. يجعل النص استجابة لأفق انتظار أسسته كتب المسالك والممالك.

يقول موجها الكلام إلى المتلقي الفعلي: “وبدأت بعد حمد الله والثناء على أنبـيائه بذكر المسالك المشرقية واختلاف السياسة فيها، وتباين ملكها، وافتراق أحوالها وبـيوت عبادتها، وكبرياء ملوكها، وحلوم قوامها، ومراتب أولي الأمر والنهي لديها، لأن معرفة ذلك زائدة في البصيرة واجبة في السيرة.”(ص38).

لذلك نجد أبا دلف يركز على الخصائص التالية: السياسة، المسالك، افتراق الأحوال، (الوعي بالاختلاف) بيوت العبادة، ذكر الملوك، حلوم القوام، مراتب أولي النهي والأمر. كما يوجه قراءته بالتركيز على ما لم يعهده في بلده من عادات وتقاليد.

مما يؤكد إرهاصات الإثنوغرافيا هو تركيز الرحالة على البعد التعليمي من خلال مقدمة الكتاب التي تؤكد أن رجال السياسة كانوا يهتمون بمثل تلك المعلومات. وذلك بحصر الغاية من الكتاب والمسوغ منه هو الاعتبار، انطلاقا من النص القرآني الذي يوجب ذلك. يقول: “قد حضَّ الله عليها أولي التيقظ والاعتبار، وكلفه أهل العقول والإبصار، فقال جلَّ اسمه: [أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت عاقبة الذين من قبلهم]”(ص38).

كما نلمس غلبة المعلومات والمشاهدات على السرود والسماع (طغيان الحس المعلوماتي) انسجاما مع الرغبة في التوثيق، وأيضا تمشيا مع براديجم العيان الذي أسسته الكتابات الجغرافية والرحلية. يقول عبد الرزاق موافي: “اهتم أبو دلف بالوصف الخارجي الظاهر العام، ولم يهتم بالداخلي الباطن.”(15)لكن اهتمام يتخذ الصبغة التعميمية جعله يقترب من العلم. فيصف عادات وتقاليد مثيرة لدى الشعوب التي مر منها (العبادة، الزواج، طرق الأكل، واللباس…) لكن الجديد مع أبي دلف هو أنه جعل كل ذلك في إطار نص رحلي يقوم على سفر ينتظم في مسار وذهاب وعودة.

3- آليات الاشتغال الإثنوغرافي عند أبي دلف

يؤكد تصريح أبي دلف بمنهجه في بداية الرحلة سيادة براديجم العيان على براديجم السماع، بالتركيز على الوصف الإثنوغرافي الخارجي الذي يتم عبر التماس الأولي بواسطة حاسة البصر. يقول عن قبيلة البغراج: “إنهم ذوو لحى وإنهم قيام الأنوف وعيونهم واسعة.”(ص44) بالتقاط ما تراه العين فقط، من مظاهر ثقافية خارجية، يتعلق الأمر بمحاولة توثيقية ووثائقية، خصوصا بالعالمين التركي والصيني. و”تختبئ وراء هذه الأوصاف التي تبدو بدون معنى العديد من المرجعيات والتمثلات القبلية التي تشرط (conditionne) نظرة الرحالة.”(16).

كل ذلك بهدف التنميط والتعميم بإلصاق بعض الخصائص بالغير. وتساعده في ذلك الثقافة على التمييز بين فرد وآخر، وبين جماعة وأخرى، وبين مجتمع وآخر، بل الثقافة هي التي تميز الجنس البشري عن غيره من الأجناس.(17) كما أن الثقافة “تعتبر، على نحو ما، متفقة بين المجتمعات، وعلى نحو ما مختلفة كذلك. فإذا نظرنا إليها على قدر عال من التجريد، نجد قدرا كبيرا من التشابه بين الثقافات. أو بمعنى آخر إنه الاتفاق في العموميات والاختلاف في التفاصيل.”(18).

وتبعا لذلك نلمس موجهين ثاويين وراء رسالة أبي دلف: أحدهما معلن، وهو الاختلاف الثقافي، والثاني خفي وهو التشابه والتقاطع الثقافيين. وكل واحد منهما يتأسس على الآخر.

يجمع أبو دلف بين الإثنولوجيا الطبيعية والثقافية. إذ يحدث التماس ما بين الثقافات على مستوى ما هو طبيعي الذي يقود إلى الثقافي. وعليه أمكننا التمييز بين نوعين من المختلف لدى أبي دلف:

الطبيعي: هبة تمنحها الطبيعة لتلك الجماعات ولم تمنحها للذات (المعادن، النباتات الفواكه….)

الثقافي: ما أضافه الإنسان إلى المعطى الطبيعي، وهنا يبلغ الاختلاف ذروته، ما يفعله الغير وما لا تفعله الذات على مستوى اللباس، الأكل، العبادة، الزواج، نظام الحكم، الأخلاق، والحدود، أي كل ما يدخل في إطار العادات والتنظيم الاجتماعي (الحلال/ الحرام، الخير/ الشر…)، المميز لكل قبيلة مر منها، مع التركيز على المختلف والشاذ الباعث على الاندهاش. يقول مثلا عن قبيلة الجكل: “يأكلون الشعير والجلبان ولحوم الغنم، ولا يذبحون الإبل، ولا يقتنون البقر ولا يكون في بلدهم، ولباسهم الصوف والفراء لا يلبسون غيرها، وفيهم نصارى قليل، وهم صباح الوجوه، يتزوج الرجل بابنته وأخته وسائر محارمه، وليسوا مجوسا ولكن هذا مذهبهم في النكاح.”(ص41- 42).

هكذا يركز الرحالة على ما يميز كل قبيلة وما أثاره وأدهشه بها، فالاختلاف هو المحفز على الاندهاش، الذي يجعل الرحالة يصر على معرفة هذا المدهش وما لم تره العين من قبل. يقول عن قبيلة بالكيماك: “وعندهم عنب نصف الحبة أبيض ونصفها أسود، وعندهم حجارة هي مغناطيس الماء”(ص45) لأن ما يميز نظرة أبي دلف إلى الغير هي الدهشة والاستغراب من عادات وسلوكات وممارساته، مع الاعتراف ببعض العادات الإيجابية أحيانا. لكن مع التشديد على ما يفرق وبالأخص الشرائع التي كانت تفرق بين الأمم. وتؤسس المقارنة بين الأنا والغير يقول عن إحدى مدن الهند: “وهي مدينة عظيمة جليلة القدر عند أهل الهند والصين لأنها بيت حجهم ودار عبادتهم (كمكة لنا وبيت المقدس لليهود والنصارى)”(ص71- 72).

يحضر الحس المعلوماتي ويغطي على فعلية الرحلة والانتقال. بطغيان خصائص البلدان الثقافية على فعل الارتحال. فتغيب الذات القائمة بالرحلة وتحضر الذات الثقافية المحاكمة لما لدى الغير من قيم ثقافية مختلفة عن قيم الثقافية للأنا. إذ “يلقي الرحالة، بكل شجاعة، بالمتخيل الجمعي الذي ينتمي إليه على البقاع التي يكتشفها أو الأشخاص الذين يكتشفهم”(19)فيتم النظر إلى الغير انطلاقا من المعارف المسبقة والمعطيات التي تتوفر عليها الذات، فتتم مقارنة الغير بما لدى الأنا. وذلك وفق قاعدة وهي كلما ابتعد موطنه تزداد المعلومات وكلما اقترب تقل وتنعدم.

والرحالة وهو يرصد هذه الاختلافات وكأنه يقوم بإثنوغرافيا عفوية يُشغل فيها حواسه كلها تقريبا: الذوق، البصر، اللمس، السمع، الشم، مما يعكس الحس المعلوماتي الذي راهن عليه صاحبها ويعطيها واقعية أكثر. ويتقوى ذلك بعدة آليات أسلوبية تحضر مجتمعة في حديثه عن كل قبيلة مر منها:

– ثنائية الإثبات والنفي: “يفعلون” و”لا يفعلون”، حاضرة لدى الرحالة. يقول عن قبيلة الغز: “يلبسون الكتان والفراء، ولا يلبسون الصوف”(ص46) يضطلع النفي بدور أساسي وهو تأكيد خاصية لدى الأنا الثقافية أو لدى قبائل أخرى مر منها وغيابها لدى الآخر. كما يفيد النفي الإطلاقية بالمقارنة مع ثقافته ومع ما آلفه، وبالمقارنة مع الثقافات الأخرى.(20).

– و”هم” التعميمية التي لا تستثني أحدا من الجماعة المتحدث عنها، تركز على ما هو مثير وشاذ ومعارض لثقافة الأنا. يقول عن قبيلة الخرلخ: “وهم قليلو الغيرة”(ص49).

– “ولهم” “وعندهم” و”وليس لهم”: وترتبط دائما بالمزايا التي تكون لديهم سواء كانت طبيعية أو ثقافية، وأخرى ليست لهم قد تكون لدى الذات أو لدى القبائل التي مر منها. يقول عن قبيلة الختيان: “وليس لهم ملك، وكل عشيرة ترجع إلى شيخ فيهم له عقل ورأي فيحتكمون إليه ويقبلون قوله. وليس عندهم أذى لمن يجتاز بهم ولا اغتيال. ولهم بيت عبادة يعتكفون فيه الشهر والأقل والأكثر […] ولهم بقول كثيرة في أكثرها منافع وعندهم حيات تقتل من ينظر إليها” (ص51).

– صيغ التفضيل وهي صيغة قيمية تتضمن الإيجاب والسلب، شيء أو فعل أحسن أو أقبح أو أكثر من آخر، وآخر لا مثيل له(21)يقول عن وادي المقام بالصين: “وهو أنزه بلاد الله وأحسنها” (ص54).

هكذا تقدم لنا رحلة أبي دلف إرهاصات أولية للإثنوغرافيا العفوية السابقة على نشأة علم الإثنوغرافيا الوصفية، إذ قدم وصفا خارجيا حضاريا لعادات وتقاليد الثقافات التي ارتحل إليها مخيطا شتات الانتقال في تصنيفات دقيقة تحدد خصائص البلدان والثقافات، واضعا بين أيدينا مادة غنية عن الغير الثقافي كيف يعيش ويفكر ويحتفل ويحزن ويأكل ويشرب وينظر إلى الأشياء. وذلك وفق ما أملته التجربة الرحلية الفعلية وتماسها مع المختلف والمثير، انطلاقا من الوعي بالاختلاف الثقافي، الذي دفع الرحالة منهجيا إلى ترجيح كفة براديجم العيان على براديجم السماع. استجابة لأفق انتظار مؤسس آنذاك لكن الجديد عند أبي دلف أنه أدخله في قالب سردي رحلي.

هوامش:

1. BARTHÈLEMY، Guy، Littérarité et anthropologie dans le Voyage en Orient de Nerval (1996).p.1

2. M. J. Herskovits، Les bases de l’anthropologie culturelle، Ed. Payot، Paris، 1967، pp.5-6.

3. ريموند وليامز،”تحليل الثقافة”، ترجمة خالدة حامد، ضمن مجلة الأوان تصدر عن جامعة البحرين، العدد السادس، 2006، ص41

4. عبد الرزاق الدواي، “الهوية الثقافية: جدلية الثقافة والمثاقفة”، ضمن مجلة المناهل، وزارة الثقافة، المغرب، العددان71- 72، شتنبر2007، ص77.

5. نفسه، ص78.

6. Lévi- Strauss، Race et histoire، Ed. Folio، 1987، p.16.

7. Ibid، p.17.

8. Ibid، pp.19-20

9. أبو دلف، الرسالة الأولى، تحقيق مريزن سعيد مريزن عسيري، منشورات جامعة أم القرى، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، مركز إحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، 1995.

10. حسين محمد فهيم، أدب الرحلات، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد138، يونيه 1989، ص49.

11. عيسى الشماس، مدخل إلى علم الإنسان، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2004، ص24.

12. كراتشكوفسكي، ص206- 207.

13. وهنا لا نتفق مع من يذهب إلى جعل إرهاصا أوليا للأنتروبولوجيا.إذ يغيب فيها أحد شروط الأنثروبولوجيا وهو “البحث في العوامل المهيئة لسببية الظواهر.(رشدي فكار، عن الحوار ص23.) فنجد الرحالة في أحيان كثيرة لا يهتم بالأسباب التي تعلل الظواهر الثقافية. مما يجعلنا نؤكد أن عمله قريب من عمل الإثنوغرافي أكثر من عمل الأنثروبولوجي. وللمزيد من التفاصيل ينظر رشدي فكار، عن الحوار الحضاري في بعد واحد الإثنوغرافيا والسوسيوغرافيا ولزوم التعريف في مدخلهما برحالة الإسلام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1988.

14. Odile Gannier، la littérature de voyage، Ed. Ellipses، Paris، 2001، p.21

15. عبد الرزاق الموافي، الرحلة في الأدب العربي حتى نهاية القرن الرابع الهجري، دار النشر للجامعات المصرية، مكتبة الوفاء، مصر،1992، ص128.

16. Odile Gannier، Ibid، p.28.

17. ميكائيل تومبسون وآخرون، نظرية الثقافة، ترجمة علي سيد الصاوي، سلسلة عالم المعرفة، العدد223، الكويت، 1997، ص8.

18. نفسه، ص8.

19. Odile Gannier، Ibid، p.28.

20. بوشعيب الساوري، الرحلة والنسق: دراسة في إنتاج النص الرحلي، رحلة ابن فضلان نموذجا، منشورات دار الثقافة، المغرب، 2007، ص194.

21. نفسه، ص191.

د. بوشعيب الساوري

رأيان حول “من الاختلاف الثقافي إلى الإثنوغرافيا العفوية”

  1. السلام وعليكم احيي الكاتب المتميز على هذا الموضوع القيم والشيق واتمنى ان يتحفنا بهكذا من الكتابات القيمة وتقديري البالغ للموقع على اتاحتهم الفرصة لهكذا نوع من الكتابات للنشر
    مع التقدير

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.