مجتمع المخاطرة والأمن الاجتماعي في الوطن العربي

أ.شفيقة سرار

جامعة جيجل / الجزائر

مقدمـة:

منذ أن وجذ الإنسان على الأرض وهو يواجه المخاطر ففي بداية الأمر كانت المخاطر تأتيه من الطبيعة فحاول السيطرة عليها فأبتكر الأدوات والوسائل فتمكن من استغلال خيراتها، ومع مرور الزمن تطورت تلك الوسائل إلى أن أصبحت على ما هي عليه الآن، فتضخمت ثروات الإنسان، لكن رغم هذا فإحساسه باللاأمن يزداد يوما بعد يوم، فهو يحس بالخطر على حياته وعلى قوته ومصدر رزقه، وهذا الإحساس يعتبر من أهم تحديات التنمية، وحتى هذه التنمية التي شغلت ولعقود كثيرة عقول المفكرين الاقتصاديين والاجتماعيين والسياسيين تشير إليها بعض أصابع الإتهام، كونها بدلا من أن تؤدي إلى رفاهية الإنسان والمجتمع وتحقيق أمنه، فقد أدت إلى زيادة فقره وبؤسه وانعدام أمنه، ذلك أن التغير الاجتماعي الناتج أحيانا عن التحديث السريع، والدخول في تجارب تنموية غير ملائمة وغير مكيفة مع واقع وثقافة المجتمعات، كما حدث ويحدث في دول العالم السائرة في طريق النمو وخاصة منها الدول العربية، كل هذا أدى إلى انتشار العقلية النفعية والأنانية والفردائية، إذ رغم الوفرة والثروات الهائلة المتوفرة على مستوى العالم، إلا أنه بالمقابل تعاني المجتمعات من سوء توزيع تلك الثروات مما أدى إلى حدوث الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطارئة والمزمنة من تضخم اقتصادي وبطالة وضعف القدرة الشرائية لمحدودي ومعدومي الدخل، فانتشرت ألوان من السلوك الانحرافي وكبت الحريات، وكل مظاهر الاضطهاد والتمييز.

فمجتمع اليوم هو مجتمع المخاطرة يعاني من مشاكل مروعة من حوادث الطرقات إلى الجريمة بكل أنواعها من قتل وسرقة الجرائم الجنسية إلى مشكلة الإدمان على المخدرات وجميع السموم، وفساد الأغذية، وانتشار الأمراض والأوبئة، وتلوث البيئة ومشكلات البطالة والفقر وغيره من ظواهر باثولوجية خطيرة تهدد أمن المجتمع بكل فئاته حتى تلك المصنفة في قمة السلم الاجتماعي حيث انتشر الخوف والقلق لدى الجميع على حاضرهم ومستقبلهم.

فما الأمن الاجتماعي؟ وما هو مجتمع المخاطرة؟ وما هو واقع ومشكلات الأمن الاجتماعي في الوطن العربي؟ وأين المجتمعات العربية مما يحدث في مجتمع المخاطرة؟.

كل هذه الأسئلة نحاول الإجابة عليها بتحليل ومناقشة النقاط التالية:

أولا: إطار مفاهيمي

ثانيا: مشكلات الأمن الاجتماعي في الوطن العربي

ثالثا: الأمن الاجتماعي في الوطن العربي بين الوعد والوعيد في مجتمع المخاطرة

أولا: الإطار المفاهيمي:

في هذا الإطار المفاهيمي يمكن طرح التساؤل التالي: ما هي المعاني والدلالات التي يمكن أن يستخدم بها مفهومي الأمن الاجتماعي ومجتمع المخاطرة؟

1- الأمن الاجتماعي:

يبدو أن الأمن كمفهوم مركب من كلمتي: الأولى: أمن والثانية: اجتماعي، والأمن لغويا: “الطمأنينة-السلام-الوثوق، ويقال: الآمن هو الواثق المطمئن”(1)، وأبرز معاني الأمن بالمفهوم العام هو ما ورد في القاموس العالمي الجديد بأنه: «التحرر من الخطر، ويعني التحرر من الخوف والقلق، وعدم اليقين أو الشك أو الثقة أو الضمان والحماية ضد التقلبات المختلفة وأهمها الاقتصادية…أما الثانية فتشير إلى مجتمع سياسي»(2) وعلى ذلك فإن الأمن الاجتماعي يشير ضمنيا إلى تحرر المجتمع من كل ما سبق.

أما الأمن الاجتماعي كمصطلح ضمن مصطلحات العلوم الاجتماعية فهو: «يستخدم للدلالة على مجموعة متنوعة من أنساق دعم الدخل، وفي المملكة المتحدة يعطي الأمن الاجتماعي معاش التقاعد والمرض وتعويض الإصابة والأمومة، كما يشمل المزايا الأخرى مثل تعويض العجز وتعويض البطالة والمزايا الإضافية وتعويض الطفل، وتعويض دخل الأسرة»(3).

«كما أن معنى الأمن الاجتماعي في القانون الفرنسي مؤسس على التضامن الوطني ويؤمن العمال وعائلاتهم ضد المخاطر التي تؤدي إلى تخفيض أو إنهاء قدرتهم على الكسب، إنه يضمن مايلي:

– ضمانات اجتماعية: أمراض- أمومة (أبوة)- إعاقة- شيخوخة-وفاة.

– ضمانات حوادث العمل- أمراض مهنية.

وعندما يعرف الأمن الاجتماعي في فرنسا قاعدة مهنية قوية سيضمن لكل الأشخاص المقيمين على التراب الفرنسي، الحماية من أخطار المرض- الأمومة- الأبوة وكل التكاليف العائلية»(4).

ورغم هذا التوسع في مفهوم الأمن الاجتماعي في القانون الفرنسي بحيث يمكن أن يشمل كل المقيمين على التراب الفرنسي أي حتى أولئك الذين لا يدفعون اشتراكات إلا أن مفهوم الأمن الاجتماعي يجب أن يكون أوسع من ذلك فبالعودة إلى مفهوم مصطلح الأمن في موسوعة العلوم الاجتماعية «فثمة البعض يجادلون بشأن تعريف مختلف حيث يرون أن الأمن الاجتماعي ليس ببساطة مجرد مصطلح شامل جامع للأنساق الخاصة بدعم الدخل، إنما هو مفهوم مختلف عن الضمان الاجتماعي ففي حين أن الضمان الاجتماعي وسيلة تحوط من مخاطر محددة على أساس الحصول على مزايا مرتبطة بقيمة إشتركات تدفع، فإن الأمن الاجتماعي يعتبر محاولة أوسع مجالا لحماية المجتمع بأسره من كافة المخاطر الاجتماعية»(5).

لذلك فمفهوم الأمن الاجتماعي في القانون الفرنسي يغطي المجتمع بأسره غير أنه لا يحميه من كافة المخاطر الاجتماعية لأنه يبقى محدودا في أشكال متعددة لدعم الدخل، وبعبارة أخرى فهذا المفهوم وغيره يرتبط بما نسميه ضمانا اجتماعيا أي يتعلق بالكفاية المادية فقط دون التطرق إلى مايمكن أن نسميه بالكفاية المعنوية، فنجد في سورة قريش: بعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ(2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)﴾ (6).

فالأمن كي يكتمل يجب أن يشمل الأمن الغذائي (المادي) والأمن من الخوف أو ما يسمى الأمن العام أي اطمئنان الفرد والمجتمع على أنفسهم وأموالهم ودينهم وأعراضهم ونسلهم أن يتعدى عليها.

2- مجتمع المخاطرة:

وهو أيضا مصطلح من كلمتين: مجتمع ومخاطرة والمخاطرة من الخطر ويحتمل في اللغة معنيين: «الأول: معنى ارتفاع القدر فيقال خطر بمعنى صار عالى المقام، والمعنى الآخر لكلمة خطر فهو: الإشراف على هكلة»(7) ، كما يعرفه لاروس الصغير: «هو إمكانية أو احتمال فعل حادث فيه أذى أو ضرر»(8).

وحسب المعنى المقصود لدينا في هذه الدراسة وهو المعني الثاني أي الإشراف على هلكة أو احتمال فعل حادث فيه أدى أو ضرر، فيصبح لدينا مفهوم لمجتمع المخاطرة هو المجتمع الذي يشرف على الهلاك، وهذا بالذات ما يتوافق مع الوصف الذي قدمه “أولريخ باك” ULRICHBECK بأن وصفه من خلال الموقف الذي يمكن أن ينتج أقل قرار فيه أخطر كارثة»(9).

وكما عرفه  Rober Castel في كتابه اللاأمن الاجتماعي: «مجتمع المخاطرة هو مجتمع الكارثة أين تكون فيه الحالة الاستثنائية تهدد بأن تصبح حالة عادية»(10).

فكلمة تهديد وكلمة الكارثة كلها توحي بالخوف والهلاك وباختصار فالمصطلح في مجمله يشير إلى مجتمع اللاأمن.

ثانيا: مشكلات الأمن الاجتماعي في الوطن العربي:

قبل الخوض في موضوع واقع الأمن الاجتماعي وما يطرحه من مشكلات على الساحة العربية ارتأيت بداية تقديم بعض الإحصائيات حول(11).

* عدد السكان في الوطن العربي حوالي: 290 مليون نسمة

* 159 مليون في سن العمل: أي تتراوح أعمارهم بين: 15 و59 سنة

* يعمل منهم: 104 مليون فقط

* 74 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر

* 70 مليون لا يقرؤون ولا يكتبون

* بلغت معدلات البطالة 18% سنة 2002، وإذا استثنيت دول الخليج العربي فإن نسبة البطالة: 25%

* قفزت البطالة بين حملة الشهادات الجامعية والمتوسطة خلال العقد الماضي إلى ثلاثة أضعاف في الجزائر و05 أضعاف في المغرب وضعفين في مصر والأردن.

* العمالة العربية تتسم بصفة عامة بانخفاض مستوى المهارة نتيجة عدم فعالية سياسات التعليم والتدريب في الدول العربية وعدم قدرتها على خلق العمالة الماهرة القادرة على التجديد والإبداع، وبهذا فقد قدرت إنتاجية، العامل العربي في القطاع الصناعي: 800 دولار سنويا وفي المقابل قدرت إنتاجية، العامل الغربي في القطاع الصناعي، 60000 دولار سنويا.

* مستوى الجودة 1700 مواصفة في مقابل 15000 مواصفة قياسية دولية…الخ وانطلاقا من هذه الإحصائيات يمكن لأي واحد أن يستقرئ ما يمكن أن يعاني منه الأمن الاجتماعي العربي من مشكلات في مقدمتها:

1- مشكلة الفقر:

يظهر الفقر في شكل الحرمان المادي بصوره المختلفة وفي مقدمتها نقص المأكل والملبس والتعلم عدم ملائمة المسكن أو التشرد.

وفي الوطني العربي ذكر الإعلان الصادر عن القمة العربية الاقتصادية والتنموية الاجتماعية المنعقدة في الكويت: «أنه على الرغم من الإنجازات المحققة فلا يزال الوطن العربي يواجه تحديات محلية ودولية تمس أمن وسلامة واستقلال دولة وسلمه الاجتماعي، ومنها على المستوى المحلي: الفقر والبطالة وتواضع المستوى المعيشة، وتدني معدلات التجارة البينية، وهجرة الأموال والكفاءات العربية إلى الخارج، وضعف البنية التحتية، ومستوى التعليم وعدم مواكبة المخرجات التعليمية لمتطلبات التنمية والمنافسة العالمية»(12).

وتعتبر البطالة من مسببات الفقر وهي أيضا إحدى نتائجه ونسبتها متضخمة (18%) وهي في حالة تزايد مستمر (كما أشارت إليه الإحصائيات السابقة) مما يبرر تزايد طلبات الهجرة للعاملين العرب إلى خارج الوطن العربي ويمكن إرجاع أسباب استفحال ظاهرة البطالة إلى ما يلي(13):

أ- المستوى المتدني لنسبة النمو الاقتصادي الحقيقي في البلدان العربية مما جعل الاقتصاد العربي غير قادر على امتصاص جزء معتبر من قوة العمل العربي الراغب في العمل.

ب- تراجع دور الدولة والقطاع العام في أغلب الأقطار العربية نتيجة الاتجاه نحو الخصخصة وحرية الأسواق بدرجة كبيرة.

ج- تسرب جزء كبير من الأنفاق العربي إلى استيراد مقومات البذخ الاستهلاكي.

د- ضعف وانعدام مساهمة الفعاليات الطفيلية في خلق فرص عمل.

أما إذا نظرناإلى حالة السكن والناحية الحضرية فيما يخص المدن العربية فإن: «أسعار المساكن وأجرتها السنوية في العديد من العواصم والمدن العربية تتجاوز بكثير إمكانيات غالبية الناس إذ توجد باختصار أزمة سكن في العديد من هذه العواصم، كما أن هناك نقصا كبيرا في الرعاية الصحية في العديد من الأقطار العربية غير النفطية بأسعار لا يمكن لشريحة كبيرة من الناس دفعها»(14).

بالإضافة إلى هذا فإن نسبة سكان المدن إلى إجمالي عدد السكان في الوطن العربي لا يمكن أن نتخذ منها مؤشرا للتحضر ذلك أن: «ما لدينا هو تكدس مستمر، أدى إلى تدهور في نوعية الحياة في أغلب المدن العربية، وارتفاع درجات التلوث واختناقات وسائل النقل، عجز المرافق الأساسية عن الوفاء باحتياجات السكان»(15).

وحسب الدراسات والتوقعات المستقبلية فإن السكن الفقير وغير المنتظم يمثل أكبر من ثلث عدد المساكن الجديدة في معظم الدول العربية وهو يزيد على النصف في عدد كبير منها، مثل: القاهرة- دمشق- تونس- الدار- البيضاء…الخ.

وحسب ما توصلت إليه بعض الدراسات فإن أبرز الأزمات التي تواجه الحياة في المدن العربية هي الآتية(16):

– تدهور الظروف السكنية وانتشار الفقر الشديد

– تكون أحزمة البؤس في الضواحي وانتشار ظاهرة السكن العشوائي

– انخفاض مستوى الدخل الفردي وانتشار البطالة في المدن

– التفاوت في المداخيل وتركز الدخل في أيدي فئة صغيرة مهيمنة

– تدهور البيئة الحضرية في ضواحي المدن الكبرى، ثم نقص الخدمات من ماء وكهرباء وطرق ومجاري صحية.

أما فيما يخص ظاهرة الأمية(17)، فلا زالت تعاني منها المجتمعات العربية، فبالرجوع إلى الإحصائيات السابقة نجد أن هناك 70 مليون أمي أغلبيتهم نساء، حسب الدكتور إبراهيم قويدر المدير العام لمنظمة العمل العربية فإنه رغم «ارتفاع متوسط مستوى التعليم إلى 140% وهو معدل لم تشهده أي منطقة أخرى بالعالم، ومستويات الأمية أخذت بالإنخفاظ الشديد، إلا أن التردي في نوعية التعليم في زيادة مستمرة وهو يعني تردي التحصيل المعرفي وضعف القدرة على الابتكار والإبداع والتجديد في وقت يتزايد فيه بإلحاح أهمية توافر هذه القدرات»(18).

إن كل هذه المشاكل من فقر وبطالة وأمية ونقص الرعاية الصحية وتكدس سكان بالمدن العربية لها علاقة تكاد تكون مباشرة ببعض المظاهر الباتولوجية المرضية التي تعاني منها منها المجتمعات العربية: كالعنف والجريمة والسرقة والإدمان على المخدرات والتفكك الأسري والجرائم وغيرها…

وفي هذا يقول ميشال كامدسيوس: Michel Camdessus: «إن ترك الفقراء هكذا بدون أمل ولا مساعدة إستراتيجية فإن الفقر سيؤدي إلى إضعاف المجتمعات عن طريق المواجهات والاضطرابات والعنف والفوضى المدنية»(19).

وهذا ما تؤكده الدراسة التي قام بها الدكتور: علي مانع والتي عنوانها: «عوامل جنوح الأحداث في الجزائر» حيث توصل إلى العوامل الرئيسية المرتبطة بالجنوح كان أهمها وحسب الترتيب(20):

1- الفقر والحاجة

2- شروط سكنية سيئة: بيت مكتظ وبلا وسائل ضرورية

3- سلوك أبوي سيء متعلق بطرق تأديبية غير ملائمة ترتبط بنسبة الأمية المرتفعة في أوساط الآباء (86% من آباء المنحرفين أميين)

4- الطرد من المدرسة

5- البطالة ونقص التشغيل الدائم

6- عدم توفر نشاط ترفيهي سليم

وبعد هذا الإطلاع على واقع الأمن الاجتماعي العربي الذي أقل ما يوصف به أنه واقع خطير بل إن الأمن الاجتماعي العربي حقيقة في حالة أزمة، فلا يبقى الآن سوى تساؤل يطرح نفسه بشدة على هذا الواقع المتأزم: كيف سنتفاعل نحن كدول ومجتمعات عربية مع المعطيات الجديدة في ظل مجتمع المخاطرة الذي من أبرز سماته ظاهرة العولمة؟.

ففي سؤال طرح على صاحب نظرية مجتمع المخاطر: أولريخ باك Ulrich Beck حول العدة الضرورية التي يحتاج إليها الإنسان في عالم العولمة قال: «يحتاج المرء إلى تعليم يحتاج إلى ضمانات حياتية ومواقع شغل وتأمينات اجتماعية، هذه الشروط قد يغدو في ظلها من الممكن التفاعل مع علاقات بمثل هذا التعقيد، أما إذا ما كانت هذه الشروط غير مضمونة فإن العملية ستكون صعبة»(21) .

ثالثا: الأمن الاجتماعي في الوطن العربي بين الوعد والوعيد في مجتمع المخاطرة

إن الأمن الاجتماعي يتطلب على الأقل تحقيق الحاجات المادية الأساسية لبقاء الإنسان أي المستوى الأدنى من الطعام والمأوى والتربية والعناية الصحية، ثم تأتي بعد ذلك إتاحة الفرصة للمشاركة في الحياة الاجتماعية والتحرر من كل أشكال القمع، وعلى هذا الأساس فالسؤال المطروح الآن على الساحة العربية هو ما مدى تحقيق الإصلاحات الاقتصادية التي أملاها على الدول العربية كل من البنك وصندوق النقد الدوليين للأهداف والوعود لتلك الدول من أجل تعزيز أمنها الاجتماعي؟.

والحقيقة أن واقع الساحة العربية يطرح رأيين مختلفين بين مؤيد لتلك الإصلاحات ومعارض لها.

فالمؤيدون للإصلاحات الاقتصادية متفائلون بنتائجها التي ستحقيق الاستقرار والرفاهية الاقتصادية وبالتالي الوعد بتعزيز الأمن الاجتماعي العربي وإن على المدى القصير أو الموسط ستظهر بعض الاختلالات، أما المعارضون فمتشائمون منها وينذرون بالوعيد الذي ينتظر الفقراء في الوطن العربي جراء تلك الإصلاحات.

ويستشهدون بالنتائج الوخيمة والآثار السلبية لتطبيقاتها في مختلف دول العالم الثالث ومن بينها بعض الدول العربية التي سبقت إلى تطبيق تلك الإصلاحات.

«فالمتحمسون للسير في هذا الطريق يعدون البلدان العربية بأن هذه السياسات الجديدة سوف تحقق آمالهم في التصنيع، والنهوض بأحوال الفقراء، ولن تشكل خطر على الثقافة الوطنية»(22).

إن العصر الذهبي الموعود حسب المؤيدين للإصلاحات: «يعني حلول ثقافة الشفافية محل ثقافة الضبابية، وحلول عهد الوفرة والرخاء والتشغيل الكامل واستقرار الأسعار والتنمية المستديمة، محل عهد النذرة والبؤس والتضخم والتخلف، وحلول عصر الحريات وحقوق الإنسان…وحلول مجتمع العلم والمعرفة والابتكار والانفتاح والتقدم والريادة والمبادرة محل مجتمع الظلامية والجهل والاتكال على الغير وعلى الدولة، وحلول حضارة السلم والاستقرار والتعاون بين الشعوب محل حضارة الحرب والدمار والحصار والحمائية والانكفاء على الذات»(23).

إلا أن هذه الوعود بمستقبل مشرق تصطدم بما يمكن أن يلاحظ أي متتبع لنتائج تلك الإصلاحات ذات الطابع الرأسمالي العولمي من مضاعفات وإفرازات غير مرغوبة التي مست صميم الأمن الاجتماعي للمجتمعات العربية التي سبقت إلى تبني تلك الإصلاحات، وإن كان أولئك المتحمسون لها يدعون أنها ظرفية عرضية وزائلة، ويضربون لذلك مثلا في كون بدايات النظام الرأسمالي في البلدان الأوروبية كانت لها انعكاسات سلبية على العمال الذين انتقلوا من الريف إلى المدينة وغيروا نشاطهم من العمل الفلاحي بالأرض إلى العمل الصناعي لدى الرأسماليين، ثم ما فتئت ثمار ذلك النظام أن بدأت تتساقط ليجنيها العمال البسطاء، غير أن تسليمنا بذلك تعترضه الكثير من الشكوك، كون تلك الثمار لم تكن من إنتاج النظام الرأسمالي في حد ذاته، وإنما يذهب الكثير إلى ردها إلى عدة عوامل وأسباب أخرى مثل النضال النقابي للعمال الصناعيين والحركة الاستعمارية التي استفاد منها الغرب جراء استغلاله لقوى العمل والثروات الطبيعية لأراضي الشعوب المستعمرة والتي من بينها الوطن العربي.

ففي حقيقة الأمر أن العولمة بما تحمله من أفكار وسياسات وممارسات تؤكد بما لا يدعو للشك أننا والعالم أجمع أمام مجتمع مخاطرة، فنظرية مجتمع المخاطرة لصاحبها الألماني: أولريخ باك Ulrich Beck تشير إلى إن: «كلمة خطر أوسع من الخطر التكنولوجي، ولكنه يضع في نفس الخط كل ما يمكن أن ينتقد من أخطار صناعية (في الإشارة إلى التحديث الانعكاسي)، شكوك وعدم تأكد علمي (أخطار علمية) واللأمن الاجتماعي (خطر الفردانية)» (24).

ورغم تعدد أخطار هذا المجتمع الجديد مجتمع المخاطرة والتي أشار أولريخ باك Ulrich Beck إلى ضرورة انتقادها فإن أكثر الأخطار أهمية في الوطن العربي هي مشكلة اللاأمن الاجتماعي لكثرة ما نشاهده ونقرؤه اليوم عن نسبة الفقر المتفاقمة وظاهرة البطالة وما تؤدي إليه من عدم استقرار الفرد والمجتمع على حد سواء فكما قال محمد حسنين هيكل أن ثمة «دخان أزرق يخطر الفقراء بأن الدولة قد أعفيت من مسؤوليتها في العصر الحديث، وأنها الآن حكم يبين الطبقات وممثل لأبهة الوطن في المظاهر والمراسم والمناسبات»(25).

فالعولمة وإن كانت تعكس مظهرا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده القرن الواحد والعشرون فإن محتواها الأيديولوجي يعبر مباشرة عن السلوك المفروض من الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الرأسمالية الأمريكية للهيمنة على العالم، إذ حسب حسنين هيكل: «أننا أمام مجتمع ملئ بروح المخاطرة، جاهز لاستعمال القوة عملي في استعمالها لتحقيق مصلحته بغير رادع من أي نوع ثم إنه مجتمع غني وافر الغني، وقد مكنه ذلك الغني من أن يسبق ويتفوق»(26).

ويمكن تحديد وسائل تحقيق السيطرة الأمريكية والغربية على دول العالم الثالث ومن بينها الدول العربية فيما يلي(27):

1- استعمال السوق العالمية أداة الإخلال بالتوازن في الدول القومية، في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية…أي سحب يدها من كل ما كانت تضع يدها فيه من قبل وتسليمه للأجانب وتزعم أنها تحقق المصلحة العامة مصلحة الأمة بما في ذلك مصلحة الفقراء….فهي تبيع الشركات والمشروعات الوطنية وتسمى ذلك خصخصة، وهي تسحب الدعم عن الفقراء وتسميه تثبيتا اقتصاديا، وهي تفتح الباب على مصراعية أمام السلع المستوردة لتحل محل المنتجات الوطنية وتسمى ذلك تكييفا هيكليا.

2- اتخاذ السوق والمنافسة التي تجري فيها مجالا للاصطفاء بالمعنى الدارويني للكلمة أي: اصطفاء الأنواع والبقاء للأصلاح، وهذا يعني أن الدول والأمم والشعوب التي لا تقدر على المنافسة سيكون مصيرها بل يجب أن يكون هو الانقراض» فالرأسمالية العالمية أو العولمة لها نتائج وخيمة رغم ما يدعيه البعض من محدوديتها الزمانية فقد شهد شهود من أهلها ففي كتاب بعنوان المؤسسة المسؤولة “L’entreprise respensable” لصاحبيه:

Alain chauveau و Jan_Jacques Rosé يقولان: «أنه في سنة 1980 دعا “اتفاق واشنطن” الشهير كل من مؤسستي البنك وصندوق النقد الدوليين إلى أن تنصح البلدان السائرة في طريق النمو بجلب رؤوس الأموال الأجنبية عن طريق عملية الخوصصة….لأن إدماج هذه البلدان في مناطق للتبادل الحر سوف يخلق مناصب شغل وعملة صعبة، كما يطور من مهارات اليد العاملة وتنمية عملية تحويل التكنولوجيا، وقد تبين بلا شك بأن هذه المزايا لم تتحقق أبدا، وأنه بالعكس فلم تكن تلك السياسة إلا سوقا للغش والخداع»، ويضيف الكاتبان: «فحسب دراسات أجريت على مناطق للتبادل الحر في المكسيك ثم خلق حوالي 400,000 منصب عمل، لكنها مناصب عمل من نوعية رديئة دون المستوى أين القاعدة الأساسية فيها هي مخالفة قوانين العمل…كما أن الأجور منخفضة لا تكفي العامل سوى لسد حاجات الأكل والإيواء والنقل، وهذا ما لا يتفق مع محتوى النظرية التي تقول أن تلك المصانع تحقق دخولا للعمال تتحول عائداتها بحيث تساهم في التنمية الاقتصادية والمحلية لتلك البلدان.

إذن فتلك المصانع لا توفر إلا وظائف ذات طابع تقليدي على قاعدة العمل المكثف والصناعة الملوثة للبيئة، ربما يريدون تحويل أكبر مساحة من العالم الثالث إلى منطقة واسعة للتبادل الحر مليئة المصانع التجميع التي لا تدفع حتى الضرائب»(28).

كما أن الوصفات التي يقدمها البنك وصندوق النقد الدوليين بمخططاتهما التي تقضي بضرورة تصفية القطاع العام وإطلاق العنان لرأس المال الخاص المحلي والأجنبي «لم تعكس دليلا على صدقيتها، فكل بلد تجرع وصفات هاتين المؤسستين ازدادت حالته خطورة إلى درجة لا يرجى منها عافية إذ يصبح في حالة مرض مزمن في حاجة إلى حقن دورية للبقاء على قيد الحياة، وقد أكد هذه الحقيقة وزير الدفاع الفرنسي الأسبق: ***بقوله: إن السياسات المتبعة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تفرض على بلدان العالم الثالث معايير في الإدارة تؤدي دائما إلى إغراقها دائما أكثر فأكثر في التخلف»(29).

فالتخلف في حقيقة الأمر ناتج عن إضعاف دور الدولة في التنمية وبالتالي حمايتها للمجتمع من جميع أنواع المخاطر وهذا يؤدي من جهة إلى محاولة الرجوع إلى أطر للانتماء سابقة عن الدولة: كالقبيلة والجهة والتعصب الديني والمذهبي والعرقي….الخ بما يفضي إلى الصراعات الاجتماعية والعنف والفوضى ومن جهة أخرى يؤدي إلى سوء توزيع الدخل والثروة وتضاعف حدة عدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية.

أضف إلى ذلك عبء الدين القومي في المجتمعات العربية والذي يؤدي حسب تقرير عن حقوق الإنسان وحقوق العمال لمنظمة العفو الدولية إلى: «شل قدرة الحكومات على اتخاذ قراراتها الحرة أو على التحكم بمصائر دولها، وتظل الحقوق والعدالة في مراتب متدنية جدا على سلالم الأولوية الحكومية مقارنة مع بند القروض الأجنبية ويجري نسق حقوق الإنسان جراء الانعدام شبه الكامل لمبدأ المساواة في السلطة والثروة ويكون الظلم في مجال الحصول على الغداء والوقود والمأوى، وأبسط ضروريات الحياة متضافرا مع الفقر والعجز فيفضي إلى البؤس، وسوء التغذية والمرض والأمية والبطالة»(30).

ومظهر آخر من مظاهر مجتمع المخاطرة بل وأشدها خطورة وتهديدا للبشرية جمعاء وخاصة دول العالم النامي ومن بينه الدول العربية ألا وهو الخطر البيئي الذي تسببه النفايات النووية وغيرها من السموم الناتجة عن التكنولوجيا والصناعات الغربية إذ يضيف التقرير السابق الذكر: «أن التغيرات التي تتعرض لها البيئة تنطوي على مضاعفات بالغة الخطورة بالنسبة لجميع حقوقنا كبشر، محقوق العمل مهددة بالمواد الكيميائية السامة وبمواد جديدة وبالنفايات، حقوق الخدمات الصحية مهددة بالتلوث       وبالكوارث الشبيهة بكارثة تشير نوبيل…وما من أحد يستطيع تجنب آثار زيادة حرارة كوكب الأرض، ومن شأن الآثار الفعلية للنظم الاقتصادية أن تسخر من عقلانيتها المزعومة وأن تؤدي إلى تجريدنا من حقوقنا»(31).

لهذا ذهب: إمليو مارديني Emilio mardini  للقول بأن: «شدة الخطر عالميا تسمو بكل الفروق الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية لمجتمع المخاطرة للوصول إلى مجتمع الأمن»(32).

وهنا أضيف إلى هذا القول: هلا سمع وفهم أولئك الذين يمكن أن نطلق عليهم أقوياء العالم هذا، وأن يتخلصوا من بعض أنانيتهم لكي يعيش سكان هذا الكوكب في مجتمع يسوده الأمن الاجتماعي والأمن البيئي والأمن الإنساني….؟!.

خاتمة:

وخلاصة القول: إننا كدول ومجتمعات عربية يبدو أمامنا خيار واحد هو التعايش مع واقع دخولنا في هذا العالم الجديد عالم ومجتمع المخاطرة بكل ما يحتويه المفهوم من أبعاد سوسيو اقتصادية وسياسية وتكنولوجية علمية ومعلوماتية وحتى بيئية حتى وإن اختلفت نظرتنا لطبيعة التحولات وطريقتها في فرض نفسها علينا، فلا ينبغي أن نبقى متفرجين على مسرح الأحداث ينحصر دورنا في التصفيق والتهليل عند نهاية المسرحية أيا كانت نهايتها سعيدة أم مأساوية، وبل ولا حتى بمجرد نقد هذا الواقع، لكن علينا أن نكون فاعلين بل ومشاركين فيه بأن نقدم البدائل المكيفة مع واقع مجتمعاتنا ونكون جادين بل ومجندين في معركة إخراج مجتمعاتنا من براثن التخلف والبؤس الذي تتسع دوائره في مختلف الأقطار العربية يوما بعد يوم مسلحين بالعلم و بمبادئ ديننا الحنيف وثقافتنا العربية الإسلامية.

المراجـع

1- حنا غالب: كنز اللغة العربية، مكتبة لبنان، ط1، 2003.

2- محمد سيد فهمي: الرعاية الاجتماعية والأمن الاجتماعي، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، 2002- ص233.

3- ميشيل مان: موسوعة العلوم الاجتماعية، ترجمة: عادل مختار الهواري وسعيد عبد العزيز مصلوح، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1999.

http://fn.Junipedia.org/index.php/-sociale-(fr) -4

5- ميشال مان: مرجع سابق

6- المصحف الشريف: سورة قريش

7- حنا غالب: مرجع سابق

8-   Frederique Malaval: Développement durable, économica, paris, 1999, p351

9- المسار الكوري نحو التحديث ومجتمع المخاطرة:

www.alhandasa.net.consulté, le 08/03/2009.

10-                     Robert castel:L’insécurité sociale qu’est ce que être protégé?

http://1libertaire.free,fr/Rcaste/04.htm/  consulté le 25/02/09

11- إبراهيم قويدر: وقفة جادة حول مشكلة البطالة في الوطن العربي

http://www.dribrahimguider.com.consulté, le 01/03/09.

12- إعلان القمة العربية الاقتصادية التنموية المنعقدة في الكويت

http://www.matris.net/t49717.htm/ consulté le:08/03/09

13- السيد ياسين وآخرون: العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3، 2000، ص ص430-431.

14- المرجع نفسه، ص432.

15- خير الدين حسيب وآخرون: مستقبل الأمة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 2002، ص140.

16- علي فاعور آفاق التحضر العربي، دار النهضة العربية، لبنان، 2004، ص199.

17- الأمي هو الشخصي الذي لم يصل إلى المستوى الوظيفي في تعلم القراءة والكتابة، ويقصد بالمستوى الوظيفي أن يكون قادرا على توظيف القراءة والكتابة في حياته اليومية والعادية… وأن سن الأمي يتراوح بين:8-45 سنة، انظر محمد سيد فهمي الرعاية الاجتماعية والأمن الاجتماعي، مرجع سابق، ص366.

18- انظر إبراهيم قويدر: وقفة جادة حول مشكلة البطالة عربيا (نظرة شمولية)، مرجع سابق.

19- غسان منير حمزة سنو، علي أحمد الطراح: العولمة والدولة، الوطن والمجتمع العالمي، دار النهضة العربية، لبنان، ط1، 2002، ص95.

20- علي مانع :عوامل جنوح الأحداث في الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1997، ص63.

21- العولمة هذا النسيج المتشابك من الإرهاب:

http://www.ar.qantara.de/webcom/show_article.php/ihtml consulté le: 08/03/09.

22- جلال أمين: العولمة والتنمية العربية (من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواي)، مركز الدراسات العربية، بيروت، ط2، 2001، ص ص189-190.

23- طاهر حمدي كنعان وآخرون: هموم اقتصادية عربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001، ص ص 210-211.

24-                                 Ntialie Beau: L’emergernce d’une société Nouvelle         pages/1-6-63-3963htm/consulté le:22/02/2009. http://www.parution.com/ 25- محمد الأطراش وآخرون: العرب وتحديات النظام العالمي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص322.

26-المرجع نفسه، ص36.

27- أحمد شكر الصبيحي: مستقبل المجتمع المدني في الوطني العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص ص 156-157.

28-            Alain Chauveau, Jan Jaques Rosé: L’entreprise responsable, Edition.d’organisation.paris,2003,p130.                                                                              29- أحمد شكر الصبيحي: المرجع السابق، ص160.

30- فرانك جي ليتشز جون بولي: العولمة، الطوفان أم الإنقاذ، ترجمة، فاضل جتكر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004، ص338.

31- المرجع نفسه، ص 339.

32-               Emilio Mordini: de la société du risque à la société de la sécurité:

http://www.cssc.eu/public/lasoci et eclurisque.pdf consulté le:25/02/09.