علم الاستغراب والرد على المركزية الأوروبية

د. حسن حنفي

مهمة علم الاستغراب هو القضاء على المركزية الأوروبية، بيان كيف أخذ الوعي الأوروبي مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بيئته الحضارية الخاصة. مهمة هذا العلم الجديد رد ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده أبان عنفوانه الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام وهيمنته على وكالات الأنباء، ودور النشر الكبرى، ومراكز الأبحاث العلمية، والاستخبارات العامة. مهمته القضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي يتوحد بها الغرب، ويجعلها مرادفة لثقافته، وهي الثقافة التي على كل شعب أن يتنباها حتى ينتقل من التقليد إلى الحداثة. فالفن فنه، والثقافة ثقافته، والعلم علومه، والحياة أساليبه، والعمارة طرازه، والعمران نمطه، والحقيقة رؤيته. مع أن الثقافات بطبيعتها متنوعة، ولا توجد ثقافة أم، وثقافات أبناء وبنات. ومن هنا أتت عمليات المثاقفة التي تحدث عنها علماء الأنثروبولوجيا الثقافية والتي يوهم لغرب بأنها تعني الحوار الثقافي أو التبادل الثقافي أو التثقيف وهي في الحقيقة تعني القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافة الغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده، والسير على منواله.والتراث الغربي وكما هو معروف عادة ليس تراثاً إنسانياً عاماً يحتوي على نموذج التجربة البشرية، وليس فقط وريث خبراتها الطويلة تراكمت فيه المعارف انتقالاً من الشرق إلى الغرب بل هو فكر بيئي محض نشأ في ظروف معينة هو تاريخ الغرب وهو نفسه صدى لهذه الظروف. ويعبر الكتاب الغربيون أنفسهم عن ذلك بقولهم: فلسفتنا، حضارتنا، فكرنا، أدبنا، فننا، تاريخنا، موسيقانا، علومنا بل حتى ديننا، إلهنا! فعند الكتاب الأوروبيين إحساس واضح بأنهم ينتمون إلى حضارة بعينها فيقولون دائماً: أما نحن، نحن الآخرون، بالنسبة لنا .. الخ إحساس منهم بالتمييز، وبأنهم قوم لهم حضارتهم الخاصة المتميزة عن الحضارات الأخرى بل لهم جنسيتهم الخاصة، وتاريخهم الخاص المختلف عن باقي الحضارات والأجناس والشعوب. لذلك كان خطؤنا، نحن الكتاب غير الأوروبيين الذين ترجموا مؤلفاتهم وشرحوها وعرضوها بل وانتسبوا إليها واعتنقوها اعتبار الحضارة الأوروبية حضارة عامة للناس جميعاً، ولم نر نوعيتها، أو رأيناها وتغافلنا عنها رغبة في الحصول على الجديد بأي ثمن، وفي فترة لم نكن فيها على وعي كاف بتراثنا القديم أو كان هذا الوعي محصوراً في فئة معينة من المصلحين والإحيائيين.
ولا يعني ربط الحضارة الأوروبية ببيئتها تطبيق أي مذهب وضعي أو منهج اجتماعي بل تقرير الواقع من كتابات الأوروبيين أنفسهم واعترافاتهم وما تكشفه أعمالهم الأوروبية والفنية والعلمية والفكرية عن بناء واحد متجانس للشعور. لم يكن في الإمكان التعرف على هذا البناء في بداية الشعور الأوروبي في العصور الحديثة بل أمكن ذلك في نهايته في العصر الحاضر بعدما تكررت المواقع وتقاربت وجهات النظر، وظهر البناء الشعوري الواحد كمصدر لكل المذاهب والتيارات والاتجاهات الفكرية. كما لا يعني الربط بين الحضارة وبيئتها الرغبة في القضاء على عموميتها أو التقليل من أهميتها بل يعني وضعها في مكانها ا لصحيح كحضارة نوعية خاصة نشأت في ظروف معينة، وشكلت شعوراً ذا طابع معين على فترة من الزمن حتى أصبح المكتسب طبيعة، والواقع مبدأ.
مهمة علم الاستغراب هي القضاء على ثنائية المركز والأطراف على مستوى الثقافة والحضارة. فمهما حاول رجال السياسة والاقتصاد القضاء على هذه الثنائية في ميدان السياسة والاقتصاد دون القضاء عليها مسبقاً في الثقافة فإن تبعية الأطراف للمركز في السياسة والاقتصاد قائمة. وطالما أن الثقافة الغربية هي المركز والثقافات اللا غربية في الأطراف ستظل هذه العلاقة أحادية الطرف، من المركز إلى الأطراف، علاقة المعلم بالتلميذ، والسيد بالعبد. فالغرب هو المعلم الأبدي، واللا غرب هو التلميذ الأبدي، والعلاقة بينهما أحادية الطرف، أخذ مستمر من الثاني وعطاء مستمر من الأول، استهلاك دائم من الثاني وإبداع دائم من الأول. ومهما تعلم التلميذ فإنه يكبر تلميذاً، ومهما شاخ الأستاذ فإنه يظل معلماً. ولن يلحق التلميذ بالأستاذ لأن معدل الإبداع عند الأستاذ أسرع بكثير من معدل الاستهلاك عند التلميذ، فيجري التلميذ لاهثاً وراء المعلم ولن يلحق به. وكلما جرى ازدادت المسافة اتساعاً حتى تدركه الصدمة الحضارية فيقع، ويدرك قدره ويرى مصيره، ويقبل وضعه في التاريخ.
مهمة علم الاستغراب هو إعادة التوازن للثقافة الإنسانية بدل هذه الكفة الراجحة للوعي الأوروبي والكفة المرجوحة للوعي اللا أوروبي. فطالما آن الكفتين غير متعادلتين سيظل الوعي الأوروبي هو الذي يمد الثقافة الإنسانية بنتاجه الفكري والعلمي وكأنه هو النمط الوحيد للإنتاج. وبالتالي يسمر هذا الظلم التاريخي الواقع على الثقافات غير المتميزة في سبيل الثقافة المتميزة. ولا يتضمن هذا العلم الجديد مجرد إعلان لنوايا وتعبير عن أماني لدينا جميعاً بل أنه يمكن أن يحتوي على عدة بحوث عديدة ومراجعات للمفاهيم والتصورات من أجل إيجاد رؤى بديلة عن رؤي الوعي الأوروبي. فمثلاً من ضمن هذه المفاهيم ((الكشوف الجغرافية)) أو ((الاستكشافات الجغرافية)) وهو مفهوم يدل على عدة أمور:
أ ـ النظرة الذاتية الخالصة التي تنم عن عنصرية دفينة وكأن العالم يوجد عندما يعرفه الوعي الأوروبي، ولا يوجد عندما يجهله. فالمعرفة تساوي الوجود. في حين أنه من منظور أمريكا وأفريقيا، البلاد المستكشفة موجودة سواء عرفها الوعي الأوروبي أم لمي عرف. كما أن الأوروبيين بالنسبة للهنود الحمر وسكان أفريقيا لم يكونوا موجودين قبل حلولهم سواحل أمريكا وأفريقيا طبقاً للمنطق الأوروبي للاستكشافات الجغرافية.
ب ـ إنكار التاريخ الحضاري للشعوب اللا أوروبية في أفريقيا وآسيا وأمريكا وكأنها كانت حضارات ما قبل التاريخ، يبدأ تاريخها منذ حضور المستعمر.
ج ـ هي بداية الاستعمار التقليدي القديم الذي خرج فيه الوعي الأوروبي ممتداً خارج حدوده ليحوط بالعالم القديم بحراً حول أفريقيا جنوباً وإلى الهند شرقاً وإلى أمريكا غرباً لما كانت أوروبا في الشمال أي خروج الشمال من نطاقه الجغرافي إلى نطاقه الحضاري جنوباً وشرقاً وغرباً.
د ـ بداية القضاء على الثقافات المحلية بعد تعلمها وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حولها ثم زرع الثقافة الأوروبية محلها كثقافة بديلة ووحيدة، ممثلة الثقافة العالمية وهي ما سمى في علوم الأنثروبولوجيا الحضارية للتعمية والتغطية المثاقفة أو التثاقف.
هـ ـ بداية نهب ثروات الشعوب اللا أوروبية ونقل سكانها في أكبر حركة نهب بشري عرفها التاريخ، عبيد أفريقيا إلى أمريكا، وثروات آسيا إلى أوروبا، وتركزت الثورة البشرية والمادية وانتقلت من الأطراف إلى المركز.
و ـ التشويه المتعمد لثقافات الشعوب ((المستكشفة)) حديثاً مع أنها هي الشعوب التاريخية، وقسمة الشعوب إلى حضارية وبدائية أو متقدمة ومتخلفة أو صناعية وزراعية أو عقلية وأسطورية أو موضوعية وذاتية. وقد وجدت كل هذه التقسيمات صياغاتها المتطرفة في النظريات العنصرية وتقسيم الشعوب إلى آرية وسامية في العلوم الإنسانية خاصة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الحضارات وفلسفة التاريخ.
ومثل آخر مما يهدف إليه علم الاستغراب من تصحيح المفاهيم المستقرة والتي تكشف عن المركزية الأوروبية من أجل إعادة كتابة تاريخ العالم من منظور أكثر موضوعية وحياداً وأكثر عدلاً بالنسبة لمدى مساهمة كل الحضارات البشرية في تاريخ العالم، هو مفهوم ((العالمية)) كما هو الحال في ((الحرب العالمية الأولى)) أو ((الحرب العالمية الثانية))، وهي حروب أوروبية صرفة نشأت بين القوى الأوروبية بسبب أطماعها فيما بينها وأطماعها في غيرها. وروسيا بلد أوروبي وإن كانت امتداداً جغرافياً في آسيا. وتركيا وإن كان بلداً آسيوياً جغرافياً إلا أنه بلد أوروبي تاريخياً. والحرب العالمية الثانية صراع بين قوى أوروبية صرفة من أجل السيطرة على المواد الأولية وعلى البحار والمحيطات. أما اليابان فبالرغم من وجودها الجغرافي في آسيا إلا أنها كانت تتعامل بمنطق الدول الأوروبية من أجل السيطرة على الأرض شرق آسيا وعلى المحيط الهادي شرق الجزر اليابانية. أما أفريقيا فقد انجزت إلى الحرب وتم استعمار أجزاء منها بعد الحرب الأولى، ودارت فوقها أهم معارك الحرب الثانية، فهي الخطوط الخلفية للجبهات الرئيسية، أطراف تخدم القلب، ومحيط يدور في فلك المركز.
ومن نتائج هذه المركزية الأوروبية ((تحقيب)) التاريخ في ثلاثة عصور وجعل أوروبا مواطنها: العصور القديمة (اليونان والرومان)، والعصور الوسطى (المسيحي واليهودي والإسلامي)، والعصور الحديثة. الأول يمتد من هوميروس على أقصى تقدير أو من طاليس أبي الفلسفة اليونانية حتى ظهور المسيح. والثاني من ظهور المسيح حتى عصر النهضة مع تخوم في البداية بين اليونانية والمسيحية في العصر الهلنيستي، وتخوم في النهاية بين الوسيط والحديث في عصر الإحياء (القرن الرابع عشر)، والإصلاح الديني (القرن الخامس عشر) والنهضة (القرن السادس عشر). والثالث من العصور الحديثة ابتداءمن القرن السابع عشر حتى القرن العشرين. ويدل ذلك على عدة أشياء:
أ ـ إلحاق الحضارات كلها بالتاريخ الأوروبي. ويمكن عمل ذلك من منظور كل حضارة تضع نفسها في المركز وبالتالي يضيع التاريخ العالم للحضارات البشرية جميعاً. وقد قام الوعي الأوروبي بذلك واستقر لأنه هو الذي له الريادة في العصر الحديث، وهو الذي قام بالتدوين له.
ب ـ إنكار دور الحضارات القديمة، الصين، والهند، وفارس، ومصر القديمة، وكأن تاريخها سابق على تاريخ البشرية، وكأن البشرية لم تكن قد وجدت في هذه الفترة، أو وجدت وكانت ما زالت في مرحلة الطفولة، ولم تبلغ بعد درجة النضج والرجولة.
ج ـ الحضارة الإسلامية بالنسبة لنا ليست في العصر الوسيط بل لها مسارها الخاص فهي ممتدة عبر خمسة عشر قرناً من الزمان في مرحلتيتن كبيرتين، كل منها سبعة قرون. الأولى الحضارة الإسلامية في عصرها الأول، النشأة (القرنان الأول والثاني) والازدهار (القرنان الثالث والرابع) والاكتمال (القرنان الخامس والسادس) ثم بداية الانهيار بعد ذلك، وظهور ابن خلدون ي نهاية هذه الفترة ليؤرخ لها. والفترة الثانية، عصر الشروح والملخصات وتدوين الموسوعات الكبرى أبان الحكم المملوكي العثماني منذ القرن الثاني عشر حتى القرن الرابع عشر بما في ذلك القرنين الأخيرين، فجر النهضة الحديثة، وحركة الإصلاح الديني، وحركة التحرر الوطني المعاصرة.
د ـ لما كانت العصور الوسطى بالنسبة للغرب هو بالنسبة لنا عصرنا الذهبي فإن العصور الحديثة بالنسبة للغرب هي عصورنا الوسطى أي الفترة الثانية من مسار الحضارة الإسلامية التي توقف فيها الإبداع ثم استمر في الحضارة الأوروبية.
هـ ـ ويظهر هذا الارتباط والتردد والاشتباه في تداخل التاريخين الأوروبي والإسلامي في وعينا الحالي لدرجة زحزحة الوعي التاريخي الإسلامي كلية لحساب الوعي التاريخي الأوروبي. فإذا سئلنا: في أي قرن نحن نعيش؟ لأجبنا في القرن العشرين! أي أننا نجيب بحضور الوعي التاريخي الأوروبي ونحن لسنا أوروبيين. ولو سئلنا: في أي عصر نحن نعيش؟ لأجبنا: في عصر العلم والتكنولوجيا مع أننا ما زلنا في عصر النهضة، نحاول الخروج من العصر الوسيط، وننقل الإصلاح الديني إلى نهضة شاملة.
إن مهمة مفكرينا وباحثينا هي إعادة صياغة فلسفات التاريخ الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر خاصة والتي صاغت التاريخ كله بحيث يصب في النهاية في الحضارة الغربية، ووضع الحضارة الغربية في مكانها الطبيعي كمرحلة من مراحل تطور الإنسانية والتي تكون مرحلة واحدة، مجرد قوس صغير. ولكن ما زال وعينا بالتاريخ غائباً. بل إننا لم نبحث بعد أسباب الغياب. ولم نعرف بعد مقومات الحضور. ولا يوجد شعب ينهض أو يأفل دون أن تظهر لديه فلسفة في التاريخ تعلن عن نهضته، كما نفعل الآن أو تعلن عن نهايته كما هو الحال في فلسفات التاريخ المعاصرة. فلسفة التاريخ هي المؤشر على حركة الشعوب إقداماً أم إحجاماً، تقدماً أو نكوصاً.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.