شعب النوير «رؤية أنثروبولوجية»

شعب النوير «رؤية أنثروبولوجية»

إن أي شعب يملك ثقافة خاصة به تساعده على استمرارية وجوده عبر تاريخه الطويل، وتتفق مع ذاته ومع الطبيعة من حوله، وليس بمقدورنا أن ننعت شعباً ما حياً ومستمراً بأنه أقل قيمة أو أكثر بدائية واثقين من أن حكم كهذا هو حكم حقيقي لا وهمي قائم على جهل لطبيعة ما هو مغاير لمفاهيمنا وإرثنا الثقافي، ومن جهة أخرى نتساءل هل استطاعت الأنثروبيولوجيا كعلم إنساني محض تجاوز تلك النظرة المتعالية أحادية الجانب إزاء الشعوب الأخرى، وهل نحن بحاجة إلى هذا العلم، وهل هو أمر ضروري لتفهّم وتفاهم الشعوب؟ إننا نعرّف النوع الإنساني الآن بأنه حيوان ذو ثقافة فقط وهذه الثقافة تكتسب بالتعلم وتتيح للإنسان أن يتلاءم مع بيئته الطبيعية والاجتماعية. فالثقافة بالغة التنوع تتجلى في نظم وأنماط من التفكير مختلفة، إن تطور القدرة على التفاهم والسيطرة على الطبيعة هو النمط الرئيسي للنوع الإنساني، فالثقافة تبدوهنا أكثر من كونها مجرد ظاهرة بيولوجية بل تغدوشاملة لكل عناصر صفات الإنسان البالغ التي اكتسبها عن جماعته سواء بالتعلم الواعي أو بالآلية اللاواعية أو بالتعلم للمهارات التقنية أو السلوكية المختلفة التي عن طريقها يصوغ المواد التي يقدمها إليه العالم الطبيعي لكي تلبي احتياجاته، بحيث إن عملية التكيف لم تعد مجرد تغيير ذاتي بيولوجي للملاءمة مع العالم المحيط بقدر ما أصبحت عملية موضوعية تغير المحيط لصالح الذات فغدا الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يعيش في مجتمعه بل إنه يقوم بإنتاج مجتمعه تبع نظراته الخاصة التي طبعت المجتمع الإنساني بالقابلية الهائلة للتغير على اعتبار أن البشر لا ينتجون مجتمعاً وحسب بل ينتجون مجتمعات ذات أشكال عديدة لا حصر لها وكأننا بصفتنا بشراً احتجنا على مدى تاريخنا الطويل أن نغير المجتمع دائماً، تعالوا نمضي جولة سريعة في ربوع إفريقيا لنتعرف على بعض الشعوب البدائية.

تنتمي شعوب أفريقيا إلى عدة مجموعات عرقية، وخلفيات حضارية متنوعة، ففي الشمال على سبيل المثال نجد أغلب السكان من العرب، وفي الجنوب يتواجد معظم الأفارقة، حيث يعيش غالبية السكان من الزنوج موزعين إلى أكثر من 800 مجموعة عرقية، كل لها لغتها وديانتها وأنشطتها الخاصة، ونجد أن العدد الهائل من المجموعات العرقية ذات الأحجام المتفاوتة جعل من الصعب على الكثير من الدول الإفريقية أن تنموكدول موحدة وعصرية.
وهناك تنوع هائل من هذه المجموعات العرقية، لأن مناطق الطبيعة البكر والمدن الحديثة هما جزء من الطبيعة الريفية للقارة حيث يسكن حوالي 70 % من الأفارقة في المناطق الريفية يمارسون زراعة المحاصيل وتربية الماشية، وفي كثير من أنحاء الريف الإفريقي يعيش الأفارقة نمط حياة أسلافهم منذ مئات السنين، مما رسخ الإرث الحضاري الذي ساهم فيه الكثير من السلالات الإفريقية مثل البشمن والهتنتوت والأقزام، وزنوج السودان والبانتووالقوقازيين من الحاميين والساميين والنيليين الحاميين والنيليين.. ولسوف نستعرض إحدى قبائل الشعوب النيلية ألا وهي قبيلة النوير. والنيليون مجموعة من الشعوب موزعة بين أوطان متباعدة في كينيا وأوغندا من السودان والجزء الجنوبى في أثيوبيا وجميعهم على مقربة من النيل، ولا شك أن أهم مجموعة منهم هي التي تعيش في السودان.
والمجموعة النيلية تتألف من جماعة اللووــ شعب أتشولى ــ شعب الدنكا ــ شعب النوير ــ شعب الشلك ــ شعب الأنواك، والنيليون متشابهون في لغتهم وتقاليدهم. ولذلك سوف نتعرف على الملامح الخاصة التي تميزشعب النوير عن بقية المجموعة، من خلال التعرف عليهم، وأهم الصفات والملامح التي تميزهم، وأيضا لابد أن نبين الموقع الجغرافي والصفات الطبيعية لهذا الشعب، والأنظمة المختلفة لديهم من تقاليد وعادات ومعتقدات في شتى الاتجاهات الأجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية.
شعب النوير
قبائل تعيش على النيل بالسودان، وأهم مواطنهم في الجزء الأسفل من بحر الجبل والغزال، وينتمون مع شعب الدينكا إلى أصل وجد واحد، وهم ثاني أكبر المجموعة النيلية، إذ يحتلون المرتبة الثانية بعد الدينكا من حيث التعداد السكاني، ثم يليهم الشلك، وتحكي أساطير النوير شبه المقدسة لديهم أن جدهم الأكبر «لانجور» قد عبر النيل الأبيض عند منطقة «فشودة»، ثم سار بهم إلى شرق ملكال حيث استقر بهم المقام هناك، وهم ينحدرون أصلاً من الجد «ابينوينق» شقيق دينج وهو جد الدينكا، والنوير في كل أنحاء السودان، يتحدثون بلهجة واحدة وأسلوبهم في الحياة واحد ويعتقدون أن تاريخهم يبدأ من منطقة ليج المقدسة لديهم، حيث شهدت هذه المنطقة نشأة جميع فصائل شعب النوير ثم تفرقوا منها إلى جميع مناطقهم الحالية ثم نزحوا غرباً حتى استقروا بمنطقة «ميوم»، ثم اتجهوا شرقاً فسار كثير منهم إلى اكوبوا وواط والناصر وميورد وايود ومن فروع النوير هناك «ليك وجكناج بمحافظة ربكونة» و«نوير جقي واروك وادوار ونونق بمحافظة اللير» وهناك فروع شتى للنوير بمركز فنجاك ويمتدون إلى داخل الحدود الإثيوبية.
الصفات الطبيعية
يتميزالنويريون ببعض الخصائص الفيزيقية التي تميزهم عن الجماعات الإفريقية الأخرى، شأنهم شأن بعض النيليين حيث الرأس المستطيل، والأنف الأفطس والشفاه الغليظة المقلوبة التي تميل إلى التفلطح ، ولكن البشرة فاتحة عن النيليين من الشلك والأنواك واللوووالدنكا، وأما الشعر فلونه أسود خشن مفلفل، والقامة طويلة نحيلة عند الذكور، وهي أقل في الارتفاع والوزن عند النساء.
الظروف الإيكولوجية
في دراسة لأيفانز بريتشارد عن النويروالتي ضمنها على وجه الخصوص في كتابه الأول « النوير ـ طبعة لندن عام 1940» والذي بين فيه مدى تأثر النسق القرابي والنسق الاقتصادي والسياسي بالظروف الإيكولوجية السائدة في هذه المنطقة، حيث تنحصر هذه الظروف في بلاد النوير في عدة عوامل جغرافية أهمها استواء الأرض التي تتكون من تربة طينية ثقيلة تستطيع أن تحتفظ بالماء لفترات طويلة، ثم تعرض الأرض للأمطار الغزيرة التي تسقط في فصل الصيف والتي تؤدي إلى فيضان الأنهار على الجوانب فتحول مساحات كبيرة من الأرض إلى مستنقعات واسعة تغطي الأرض ستة شهو ر في السنة وتكون حشائش السفانا، ويعتبر فصل الشتاء هو فصل الجفاف حيث تجف الحشائش وتتعرض البلاد لفترة قاسية من الجدب الشديد، وهذا التعارض الواضح أدى إلى تأثر الحياة الاجتماعية والاقتصادية على البناء الاجتماعي الشامل، وسوف نلحظ هذا في النتائج المترتبة على ذلك نتيجة للظروف الجغرافية، فبلاد النوير بلاد رعي من الدرجة الأولى ويؤثر ذلك في كل الحياة الاقتصادية والتنظيم الاجتماعي ونسق القيم على السواء.
النظام الاقتصادي للنوير
يعتمد النويريون في معيشتهم على الماشية «البقر» ويعتبرون الرعي أهم وأشرف مهنة يمكن للإنسان أن يمارسها ويحتقرون مادون ذلك من المهن والأعمال، كذلك تعتبر الماشية أيضا أهم عنصر من عناصر الثروة بالإضافة إلى أنها تعتبر المحور المركزي الذي تدور حوله حياتهم الاجتماعية كلها؛ فهي وسيلتهم لدفع المهر والزواج، وهي أداة دفع الدية وتقديم الأضحيات والقرابين للأرواح، فضلا عن كونها عنصراً هاما في غذائهم الذي يتضمن دائما اللبن والدم.
ومقام البقر عند النوير يرتقي إلى مقام الإنسان، واغلبهم لايأكل لحومه، وإذا رأى فرد من قبيلة النوير شخصاً ما راكباً على ظهر البقر غضب غضباً شديداً منه، وإذا لم يكن هناك طعام لا يقترب أحد ليذبح بقرة ويأكلها، حتى لو يبس الأخضر من الحشائش والشجر وانعدم السمك من النهر فلا يذبح ويأكل النافق فقط.
وإذا اشتد الجوع فكل ما يفعلونه هو إجراء عملية جراحية بسيطة للبقر تسمى «باره يانق»، ومعناها «طعن البقر لا ذبحه»، وتحدث العملية بأن يحضر البقر الضخم الممتلىء الجسم ومن بين رقبته يبحث عن وريد ويطعن بحربة خاصة حتى يتدفق الدم بغزارة على إناء يوضع تحت الرقبة مباشرة، وبعد ذلك يتم ربط مكان الطعن بحبل قوي ويؤخذ الدم ويوضع في إناء على النار حتى يتجلط ويوضع بعد ذلك ويؤكل مع اللبن المخزون، ويضعون طعامهم في أطباق من الخشب.
واللبن يتم تخزينه لفترات طويلة من دون أن يتأثر بالفطريات بفضل صب القليل من «بول» البقر عليه كمادة حافظة، وهذه العملية تكسب اللبن نكهة خاصة يعرفها أبناء القبيلة ومن أحب الغذاء لديهم لحوم الحيوان البري كالتمساح وفرس النهر والذرة واللبن.
بيد أن الرعي لايمارس هناك إلا في فصل الجفاف بعد أن تنقطع الأمطار وتجف المستنقعات بحيث يمكن التنقل بسهولة وحرية، كما أن الغذاء لايمكن أن يقتصر على اللحم واللبن والدم ولذا كانت النساء يقمن بزراعة الذرة وبعض الخضراوات في مساحات محددة من الأرض في موسم المطر، وذلك بالإضافة إلى صيد السمك من النهيرات والمستنقعات. وبذلك أمكن تحقيق درجة عالية من التكامل الغذائي هناك نتيجة لتلك الظروف الجغرافية المتعارضة التي تتيح فرصا متعددة للعمل واستغلال الموارد الطبيعية المختلفة على مدار السنة.
الجماعات المحلية
في نهاية موسم الأمطار يحرق الناس الحشائش لتوفير مرعى جديد ويغادرون قراهم للإقامة في معسكرات صغيرة. وعندما يصبح الجفاف شديداً تتركز مساكن تلك المعسكرات الوسطية حول مصادر المياه الدائمة.
وبالرغم من أن تلك التحركات تتم أساساً من أجل الأبقار فإنها تمكن شعب النوير أيضاً من صيد الأسماك، وهو ما يكاد يستحيل من مواقع القرى، ولوبدرجة أقل، فهم يمارسون صيد الحيوانات وجمع الفواكه والجذور البرية، وعندما تهطل الأمطار مجدداً يعودون إلى قراهم، إذ تتوفر حماية للأبقار وتسمح الأرض المرتفعة بممارسة الزراعة.
المساكن
أكواخهم غير منسقة قريبة من الشكل الهرمي، وتتألف تلك الجماعات المحلية من العائلة أحادية الزواج المرتبطة بكوخ مفرد،وتحتل العائلة مسكناً واحداً في القرية الصغيرة، والمعسكر، والمنطقة، والأقسام القبلية ذات الأحجام المختلفة، والقبيلة ومن عاداتهم التدخين رجالا ونساء.
الملابس
دائما مايسيرون عراة تغطيهم بعض الملابس المزركشة من الخامات الطبيعية أو الجلود، ويضعون عقدا من الخرز حول الخصر، ولا يصح للزوج أن يقابل حماه إلا بعد أن يغطي عورته، ويلطخون وجوههم بالرماد وبعض الألوان، يلبسون في اليد سواراً من العاج أو سلكاً من طيتين يبرز منهما خطفان يستعملان في الدفاع وفي تأديب الزوجات، وتعد العائلة، والعائلة المنزلية، والقرية الصغيرة جماعات منزلية أكثر منها سياسية. وتتجمع القرى والوحدات السياسية لأرض النوير في أقسام أو فروع قبلية. وهناك بعض القبائل الصغيرة جداً إلى الغرب من النيل تتألف من قرى متجاورة فقط، وفي القبائل الأكبر إلى الغرب من النيل وفي قبائل شرق النيل كلها نجد أن الإقليم القبلي ينقسم إلى عدد من المناطق التي تفصل بينها أراضي غير مأهولة، والتي تعترض بين أقرب مواقع إقامة لقبائل متماسة أيضاً.
الزواج عند النوير
لا يتزوجون من الأقارب كما لا يصح للنويراوي أن يتزوج من أقارب زوجته إلا بعد موتها، وهم غير مقيدين بعدد من الزوجات، فيكون التعدد حسب الاستطاعة والقدرة فقد يصل أحيانا من 10 ــ 15 زوجة، وعادة يدفع العريس أربعين بقرة هي المهر، فيعطون عشراً منها لوالد العروس وعشر أخرى لوالدتها وعشراً لأقارب الأب وعشراً لأقارب الأم، ومن لايملك بقرا فهو من الفقراء فيدفع له أهله وأصدقاؤه البقر كمهر لأهل العروس، ليقوم أهل العروس بإرجاع جزء من هذه الأبقار إلى بيت الزوجية. ويسمى البقر المرجوع «تيوك»، أما البقر الذي يدفع كغرامة فيسمى «شواي جين روف» وهناك طقوس تقوم بها العروس وهي حلق الرأس.. فإذا كانت كل فتاة تحلم يوم زفافها بارتداء أبهى الثياب وتزيين رأسها بأجمل التسريحات ابتهاجا بليلة العمر التي طال انتظارها، فالأمر يختلف عند قبيلة النوير في الجنوب السوداني، التي تعني ليلة الزفاف عندها حلق شعر العروس لتصبح صلعاء فله دلالات عميقة وعديدة لدى القبيلة، ويدل على ميلاد جديد لها، وبدء مرحلة جديدة من مراحل الحياة، ويدل على خلورأسها من العيوب والتشوهات، والكدمات وتسليمها للعريس كما ولدتها أمها بلا شعر.
وحول أنواع الزواج وطقوسه فإن مراحل الزواج تبدأ بالنشأة، والفطام، وخلع الأسنان، والشلوخ «عمل علامات غائرة في الجلد» والزواج لدى النوير أكثر من تسعة أنواع أهمها زواج الموتى زواج الأرمل، وزواج الأرملة، وزواج المعوق، وزواج المعوق تعتبره القبيلة خيراً، وطالما له قدرة إنجابية يتكفل المجتمع بتزويجه، ولكن لا تقام مراسم لهذا الزواج مراعاة له. أما زواج الموتى فإذا توفي الشخص ولم يتزوج يمكن لأخيه أن يتزوج امرأة باسمه وأن ينسب الأولاد له.
النظام السياسي
يكتنف تحديد الجماعة السياسية في النوير بعض الصعوبات لأن وحدات البناء السياسي في هذا المجتمع تتداخل وتمتد حتى تبدوللملاحظ الذي ينظر إلى المجتمع في مواقف معينة-مثل حروب الإغارة على شعب الدنكا- كأن النوير يكونون بناء هرميا للسلطة التي جعلت صغرى الوحدات الإقليمية تذوب وتتحد في الجماعة الكلية المحاربة، والنوير أنفسهم يشعرون بهذه الوحدة التي تميزهم عن القبائل والشعوب الأخرى المجاورة، فضلا عن أن قيم النسق السياسي تفرض أنواعا من الإلتزام تتعدى حدود القبيلة الواحدة في النوير لتربط بين عدد من القبائل في وحدات إجتماعية مؤقتة، وتنقسم القبيلة إلى أقسام إقليمية من الدرجة الأولى ينقسم الواحد منها إلى أقسام من الدرجة الثانية، تنقسم بدورها إلى أقسام من الدرجة الثالثة ويتكون القسم القبلي من الدرجة الثالثة من عدد من القرى والكفور أو المحلات والوحدات السكنية والأكواخ، بمعنى أن التقسيم يتم هكذا:
مجموعة أكواخ تكون أسراً، ومجموعة الأسرتكون كفراً، ومجموعة الكفور تكون قرية، ومجموعة القرى تكون قسما قبلىا، ومجموعة الأقسام القبلية تكون قبيلة، والقبائل تكون بلاد النوير».
هناك قانون داخل القبيلة؛ وآلية لفض النزاعات والتزام أخلاقي لاحتوائها عاجلاً أم آجلاً. إذا قتل الشخص أحد أفراد القبيلة، فيمكن منع أو حجب الضغينة بدفع أبقار بين القبيلة والأخرى، وليست هناك وسائل للجمع بين الأطراف في النزاع ولا يقدم التعويض، كما أنه غير مطلوب. بالتالي إذا قتل فرد من قبيلة أحداً من قبيلة أخرى، فإن العقوبة يمكن أن تتخذ فقط شكل حرب قبلية. ويجب ألا نفترض أنَّ العداءات داخل القبيلة يمكن حلها بيسر، فهناك سيطرة معتبرة على الثارات داخل القرية، لكن كلما كبر حجم الجماعة المحلية أصبحت التسوية أكثر صعوبة. وعندما يدخل قسمان كبيران من القبيلة في عداء، فإن فرص التحكيم الفوري والتسوية تكون ضئيلة، تختلف قوة القانون باختلاف المسافة في البنية القبلية التي تفصل الأشخاص المعنيين. ومع ذلك طالما أن الإحساس بالجماعة يظل باقياً والعرف القانوني معترفاً به رسمياً داخل القبيلة، بغض النظر عن التقلبات والتناقضات التي قد تظهر في العلاقات الفعلية بين أفراد القبيلة، فإنهم يظلون يعدون أنفسهم مجموعةً متحدة. ومن ثمَّ إما أن يتم الإحساس بالعداءات وتسويتها، وبالتالي الاحتفاظ بوحدة القبيلة، أو أنَّ العداءات تظل غير محسومة بحيث يفقد الناس الأمل والتطلع إلى التسوية وأخيراً يتوقفون عن الإحساس بأن عليهم تسويتها، بحيث تنقسم القبيلة لتظهر عنها قبيلتان جديدتان.
رجال الأبقار
يوجد في كل قبيلة فرد له شرف «افتتاح انتقال المرحلة» التلقين وإغلاقه وأن يعطي التسمية لكل طبقة عمرية. ينتمي هذا الفرد إلى واحدة من سلاسل النسب التي لها علاقة طقوس بالأبقار ويعرف هؤلاء الأفراد «برجال الأبقار». ويفتتح فترات التلقين ويغلقها في منطقته وتحذوالمناطق الأخرى لقبيلته حذوه. بمجرد أن يتم افتتاح الفترة، فلكل قرية ولكل منطقة أن تلقن أطفالها وقت ما تشاء. ولا ترتبط الطبقات العمرية بنشاطات مشتركة ولا يمكن القول بأنَّ لها وظائف سياسية. ليست هناك مراتب للمحاربين وكبارالسن حيث ينشغلون بإدارة البلاد، وليست للطبقات العمرية وحدات عسكرية، إذ يقاتل الفرد مع أعضاء مجتمعه المحلي، بغض النظر عن عمره. ليس هناك تدريب تعليمي أو أخلاقي في طقوس التلقين، وليست هناك قيادة في الطبقات العمرية، ولا يوجد عادة أكثر من ست فئات عمرية في وقت واحد، طالما أن ست فئات تغطى حوالي خمسة وسبعين عاماً. وكلما ماتت فئة يظل اسمها عالقاً في الذاكرة لجيل أو جيلين، ومن ثمَّ يرتقى الفرد من مرتبة دنيا إلى مرتبة وسطى، ومن مرتبة وسطى إلى مرتبة عليا في مجتمعه بوصفه عضواً في جماعة. وبالتالي يمثل التراتب في نسق الطبقات العمرية المزيد من التجسيد لمبدأ التشعب للنوير. والدور الأكثر بروزاً للطبقات العمرية في تحديد السلوك يكمن في الطريقة التي تتأثر بها الواجبات والمصالح خلال الانتقال من الطفولة إلى الرجولة. أيضاً فإنَّ كل ذكر من النوير يكون، بفضل وضع طبقته في النظام، وبعض الرجال يكونون «أبناء له»، وبعضهم «أخوة له»، وبعضهم «آباء له». دون الدخول هنا في التفاصيل، ويمكننا القول إنَّ سلوك الرجل تجاه الآخرين في مجتمعه يتحدد بأوضاعهم في نسق الطبقات العمرية. وبالتالي فإن العلاقات العمرية، شأنها شأن علاقات القرابة، وهي محددات أساسية للسلوك، فالنسق السياسي الإقليمي ونسق الطبقة العمرية كلاهما متماسك في ذاته ويتداخلان في حالات، لكنهما لا يعتمدان على بعضهما.
النظام الديني
يعمل النظام الدينى من خلال «زعيم جلد الفهد»، هذا هو واحد من أولئك الذين لديهم قدرات طقوسية، بفاعليات مختلفة لحياة النوير الاجتماعية والطبيعة، وزعماء جلد الفهد ينتمون إلى مجموعة نسب معينة، رغم أن ليس كل أعضاء النسب تلك يمارسون قوتهم الطقوسية الموروثة ولديهم قدرة لجلب الشر لمن لم يستمع إليهم، فعندما يقتل شخص فرداً آخر عليه أن يتوجه فوراً إلى الزعيم، ويقوم الأخير بجرح يده حتى يسيل الدم. وإلى أن توضع علامة معينة، يتوجب على القاتل ألا يأكل ولا يشرب. إذا خاف من العقاب، كما هو الحال دائماً، فعليه أن يبقى في منزل الزعيم، لأنه مكان مقدس عندهم. وخلال الشهو ر القليلة اللاحقة على الزعيم أن ينتزع من أقرباء القاتل وعداً بقبولهم دفع تعويض لتجنب الثأر ويقنع أقرباء القتيل بأنَّ عليهم قبول التعويض. وخلال هذه الفترة لا يشرب أعضاء الفريقين ولا يأكلون من إناء واحد، ولا يحق لهم الأكل، بالتالي في منزل الطرف الثالث نفسه. يجمع الزعيم من ثمَّ الأبقار حتى وقت قريب، ويتألف التعويض من حوالي أربعين إلى خمسين بقرة ويأخذها إلى منزل القتيل، حيث يقوم بأداء طقوس الأضحيات المختلفة للتطهير والتكفير. هذا هو الإجراء المتبع لتسوية الخلافات، وكان هذا هو التقليد المتبع، ذلك أن النوير شعب مضطرب يقدر الشجاعة كأعلى فضيلة ويمتلك مهارة كبيرة في القتال… وهم يعتقدون في روح عليا خلقت الدنيا، ويدفنون موتاهم بعد رش المقبرة بمزيج من اللبن والمريسة، ويوضع بجانب الجثة غليون التدخين لترفيه المتوفي، وجثة الزعيم تطلى بالزبد وتوضع على قطعة من الخشب ويدفن سرا خشية أن يجدها الأعداء فينتقمون منه.

المصدر: مجلة الكويت

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.