حكاية البلبل …تلفيـق السـّرد

فاضل الربيعي

الأنثروبولوجي في ثياب الأعرابي 1-2

حكاية البلبل …تلفيـق السـّرد

فاضل الربيعي*

ماذا يفعل الأنثروبولوجيون؟ مبدئياً، وبأبسط وأقل عدد ممكن من الجمل الإنشائية الطنانة، يجب أن نفترض أن هؤلاء- وكما بينت التجربة الأوروبية في الشرق العربي وفي مجتمعات القبائل (البدائية في إفريقيا) وسواها- هم منْ يتولون مهمة دراسة المجتمعات المحلية من خلال عمل ميداني، يساعد في جمع كل المواد الضرورية عن أنماط الحياة العامة (الزواج، الطبخ، الحكايات، العادات الخ).

وأن هذا العمل، هو الذي مكنّ أجيالاً من العلماء، والباحثين في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من فهم هذه المجتمعات، ورسم إطار مناسب للتعامل معها. لكن هذه النشاطات وطوال القرن السابع والثامن والتاسع عشر، ظلت حكراً على الأوروبيين الذين استكشفوا العالم، بما في ذلك أمريكا، وفقط في سياق التجربة الاستعمارية وفتح الأسواق بالقوة. ولهذا الغرض فقد تنكرّ كثرة من الأنثروبولوجيين في أزياء وأردية سياح وجوابي آفاق ومستطلعين، وحتى فضوليين يرغبون في التعرّف على الثقافات الأخرى. هذا النوع من العمل هو ذاته الذي قام به الأصمعي في العصر العباسي(740 – 831 م). أي قبل أكثر من ألف ومئتي عام من التجربة الأنثروبولوجية الأوروبية؟ فماذا يحدث حين يتخلى الأديب عن الصورة الشائعة عنه، ويتنكر في زي أعرابي، ثم يتسلل إلى بلاط الخليفة (أو السلطان) ويقوم بتحدي سلطته الثقافية، كمستمعٍ للشعر ومتذوق وعارف به؟ لقد تخيّلت حكاية ذات طابع أسطوري من العصر العباسي المتأخر، وقوع مثل هذا التحدي، وأن الأديب المتنكر في زي الأعرابي انتصر على الخليفة، وبرهن له أنه عاجز عن مجاراته في الشعر وفي معرفة أسراره اللغوية ؟ إن تحليل حكاية (صوت صفير البلبل) التي ألصقها بعض الرواة زوراً وبهتاناً بالأصمعي، وأثارت جدلاً لم ينته بعد حتى في أوساط القرّاء، تدلل على طبيعة الفهم السائد، وطبيعة الصور النمطية الزائفة والشائعة في ثقافتنا القديمة عن تجربته، إذ يقال في الكثير من المصادر إنه سمع ذات يوم، أن الخليفة العباسي «أبو جعفر المنصور»، حرم الشعراء من الحصول على الأعطيات، ولم يعد في وسع أي شاعر أن يرضي الخليفة بأي عمل شعري. تقول الحكاية:
كان الخليفة يحفظ الشعر، وما من قصيدة يقولها شاعر، إلا وادعى أنه سمعها من قبل، وأن في وسعه أن يعيدها على أسماعه بألفاظ أخرى؟ وما أن ينتهي الشاعر من قول القصيدة، حتى يبادره إلى القول، إنه ليس الوحيد الذي يحفظها، وإنما جواريه وصبيانه وخدمه, ثم يطلب من إحدى الجاريات أن تقول القصيدة نفسها. وهكذا فقد أصيب الشعراء باليأس وبالخيبة، ولم يعد في إمكانهم الحصول على الاعطيات. ثم إن الخليفة خصص جائزة كبرى لأي قصيدة تقال في بلاطه، شرط ألا يكون يعرفها من قبل أو حفظها، وللشاعر أن يحصل ما يعادل وزنها ذهباً. فسمع الأصمعي بذلك، وقرر أن يخدع الخليفة بقصيدة غريبة المعاني والكلمات والتراكيب اللغوية. ولذا تنكر في لباس أعرابي وقصد البلاط، فأدخله الحاجب على الخليفة. وحين سأله عن مطلبه، قال: لقد كتبت يا أمير المؤمنين، قصيدة لم تسمعها ولم تحفظها. فقال الخليفة: وكيف ذلك؟ وهكذا، سمع الخليفة مندهشاً القصيدة التي ذاع صيتها في الثقافة العربية المعاصرة (صوت صفير البلبل):
صَوْتُ صَفيرِ البُلبُلِ
هَيَّجَ قَلْبَ الثَّمِلِ
الماءُ و الزَّهْرُ مَعاً
مع زهرِ لَحظِ المُقَلِ
وأنتَ يا سيْدَدَلي
وسيْدَدي ومَوْلَلي‎

الخ….وما أن سمع الخليفة العباسي القصيدة الغريبة المعاني، حتى أسقط في يده، إذ لم يفهمها ولم يكن قادراً على حفظها. ولذا صاح غاضباً :
– يا غلام.. يا جارية، من منكم يعرف القصيدة ؟
فردت الجارية: لم نسمع بها يا أمير المؤمنين من قبل.
وعندئذ ٍ قال الخليفة مخاطباً الأعرابي:
– على أي شيء كتبت القصيدة؟ سوف نعطيك وزنه ذهباً.
فقال الأديب المتنكر:
– يا مولاي. لقد ورثت عمود رخام من أبي وقد كتبتها عليه، والعمود لا يحمله إلا عشرة من الجند؟
فقال الخليفة:
– أحضروا العمود.
لكن الوزير اعترض قائلاً :
– يا أمير المؤمنين ما أظن هذا الأعرابي إلا الأصمعي؟
فقال الخليفة مندهشاً: أمط لثامك يا أعرابي. فأزال الأعرابي لثامه، فإذا هو الأصمعي. فقال معاتباً الأديب: أتفعل ذلك بأمير المؤمنين؟ فقال الأصمعي: يا أمير المؤمنين، قد قطعت رزق الشعراء بفعلك هذا، ولم أجد مفراً مما فعلتُ. وعندئذِ قال الخليفة: أعد المال ؟ فقال الأصمعي، أعيده بشرط. أن تعطي الشعراء أرزاقهم. وهكذا وافق الخليفة أن يواصل إعطاء الشعراء أعطياتهم والاستماع إلى قصائدهم.
تستحق هذه المروية الملفقة والتي لا أصل لها (لأن الأصمعي عاصر هارون الرشيد ولم يدخل بلاط المنصور) أن تقرأ من منظورين.
أولاً:
من المنظور التاريخي، بمعاملتها كحكاية تقليدية، تندرج في النسق الثقافي القديم ذاته للمرويات العربية- الإسلامية المتأخرة، وبوصفها من تلفيق رواة عاشوا في أواخر العصر العباسي. وممّا يؤكد أنها من تلفيق رواة الأخبار المتأخرين، أن سارد النص أخطأ في نقل خبر تاريخي محدد، يتعلق بصلة الأصمعي بالخليفة «أبو جعفر المنصور»، وهذا خبر لا أساس له في التاريخ الثقافي العربي، لأن الخليفة العباسي توفي، قبل أن يصبح الأصمعي شاباً، وكانت صلته بهارون الرشيد لا بأبي جعفر المنصور. ويبدو أن الأساس الذي انْبَنت عليه الحكاية يتعلق بأجواء التشهير ببخل الخليفة وقطعه أرزاق الشعراء، فقد عرف عنه أنه كان شحيح العطاء واشتهر بلقب (الدوانيقي) وهي أجواء سادت في المجتمع العباسي في بدايات تأسيس الإمبراطورية.
ثانياً:
ومن المنظور الأسطوري، بوصفها أسطورة إسلامية، تروي أخباراً ( تاريخية) ولكنها لا تقول التاريخ، ولا تتقيد بقواعد سرده الصحيحة من حيث التسلسل الزمني وأحوال الشخصيات، وأنها لذلك، تبدو مشحونة بمحمولات رمزية تعرض على متلقيها فكرة ما عن مجتمع الخلافة، وعلاقته بالشعر. ويتعيّن لفهمها بطريقة صحيحة، تفكيك شيفراتها وقراءة المسكوت عنه في دلالاتها الثقافية.

*مفكر عربي من العراق

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.