الهوية – مقاربة 1

إن معاجم كـ “كتاب العين” للفراهيدي [ت 789 م]، و”مقاييس اللغة” لإبن فارس [ت 1004 م]، و”الصحاح في اللغة” لـلجوهري [ت 1008 م]، و”العباب الزاخر” للصاغاني [ت 1252 م]، و”لسان العرب” لإبن منظور [ت 1311 م]، و”القاموس المحيط” للفيروز آبادي [ت 1415 م]، تخلو تمامًا من تعريف لغوي للهُوية كما نفهمها اليوم.. 

وجلّ ما تجده ضمن “الصحاح” هو تعريف للهُوية بمعنى “الهَويَّةُ: موضع يَهوي من عليه، أي يسقط”. (الجوهري، ج 4، 147). وضمن “لسان العرب” (إبن منظور، ج 15، 374) هوية (على وزن فُعيلة) تصغير هوة، وقيل: الهوية بئر بعيدة المهواة، وقد قال الشاعر:

ولما رأيت الأمر عرش هوية             تسليت حاجات الفؤاد بشمرا

أراد لما رأيت الأمر مشرفًا بي على الهلكة تركته ومضيت وتسليت عن حاجتي من ذلك الأمر، وشمّر إسم ناقة، أي ركبتها ومضيت.

إن الفرد في ذلك العصر، لم يكن بحاجة لإثبات هويته عبر ورقة، لتدخل بطاقة الهوية حيّز الإستخدام المجتمعي! لم يكن من دولة بالمعنى الذي عرفناه بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أفرزت (أي الحرب) الدول القومية بالحدود التي نعرفها، والتي تبدل بعضها إنكماشًا أو توسعًا تبعًا للتصور الهوياتي الذي يحمله الأفراد (الإتحاد السوفياتي، يوغوسلافيا، تشيكوسلوفاكيا… مجرد أمثلة).

لا معنى للهوية (أي السؤال من أنا؟) إلا في مقابل آخر، أراه معيارًا و/أو مرآةً!

يعرّف معجم اللغة العربية المعاصرة الهوية بـ: “بطاقة يثبت فيها إسم الشخص وتاريخ ميلاده ومكان مولده وجنسيته وعمله وتسمى البطاقة الشخصية أيضًا… حقيقة الشيء أو الشخص التي تميّزه عن غيره… إحساس الفرد بنفسه وفرديته وحفاظه على تكامله وقيمته وسلوكياته وأفكاره في مختلف المواقف” (أحمد مختار عمر، 2008، ج 3، 2372).

الهوية (بضم الهاء)، مشتقة من هو، وهي إلتفاتة جوهرية في مدلولات الهوية وتمظهراتها! هي ليست “أنوية” بل “هوية”، متجهة ضمنًا وفعلًا إلى الآخر، مني نحوه، ومنه نحوي! أنا|هو، علاقة تبادلية صيرورية!

ضمن الذات وإستدخالًا للهو الفرويدي، الذي ينغمس أساسه في اللاوعي ولا يتمظهر إلا عبر صراع مع أنا أعلى ثقافي إجتماعي، وكأن فرويد يضع الهوية أساس المأزم النفسي لبناء الحضارة! إما هوية أنوية وإما أن تكون غيرية! ولا مجال للحسم إلا عبر صراع يتوسل عقدًا إجتماعيًا جديدًا، وأواليات دفاعية ضرورية للإرتقاء من الغريزة نحو الحضارة!

بالعودة إلى أصل كلمة (identity) في اللغة الأجنبية ، نجد التالي :

ظهرت حوالي عام 1600 : وتعني التماثل ، الوحدانية ، من اللغة الفرنسية الوسيطة (identité) (القرن الرابع عشر) ، من اللاتينية المتأخرة (القرن الخامس) ، مشتقة من “نفس” (idem) ، كما من “تكراراً ومراراً” (identidem) . الشكل الأبكر للكلمة في الإنكليزية كان (idemptitie) ! تم إستخدام تعبير “أزمة الهوية” لأول مرة عام 1954 مع عالم النفس إريك إريكسون!

بدأ للهوية معنى سياسي مع الأيديولوجيا القومية! شعور الجماعة أنها ذات تاريخ مشترك، ولغة مشتركة، وحضارة واحدة! هذا الشعور ماهى بين الأفراد ضمن إطار الجماعة القومية، ومحققًا عصبيته في موازاة (وعلى تضاد) الآخر، الجماعة القومية الأخرى.

فنحن متمايزون عن الآخرين بالمعنى الفوقي، نحن أفضل من الآخرين. إذ أضحت الهوية تكرارًا لمعزوفة النفس الجماعية المتحدة ضد الجماعة الأخرى التي توقفت عن كونها جارة، فأضحت عدوة!

لا يمكن إستعداء غرباء! ولا يمكن مقارنة أنفسنا مع من لا نعرف! نحتاج من الآخر لأن يكون قريبًا، كي يكون هناك إمكانية عملانية في تصويره وتحجيمه، فيشدّ عصب الجماعة، ونصبح أمامه متحدين!

الهوية إذن، هل هي هو؟ وهو هو أنا، عبر متصل زماني – مكاني، لا تتغير، مع تغيري، وإلا أصبحت أنا هو! وما عدت كما بدأت “أنا”! هل هي ثابتة أم متغيرة؟! فما يتغير هو عوارض، مظاهر، ويبقى جوهرها ثابتًا؟! [وهذا نقاش فلسفي بين الإسمانية والجوهرانية]

وهو نقاش (قد) يكون له تتمة…




ملاحظة: نشرتها مسبقًا على مدونتي..

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.