الضحك والفكاهة الشعبية – مقاربة

laughter1

يختصر “برغسون” الإنسان إلى “حيوان ضاحك”[1] ، وُيعتبر الضحك أحد الأدوات للترويح عن النفس ، إن لم نقل أهمها . فعن طريقه ترتفع عن كاهل الأفراد مشاغل المعيشة العادية ، وتسقط عنهم تبعات الحياة الجدية[2] .

    أولاً ، ما المقصود من كلمة “شعبية” ؟ وذلك كي أوضح أن هذه الكلمة لا تحمل حكماً تقييمياً ، بمعنى (أرقى/ أدنى) ، فالشعبي هو “ما يمارس أو ينتقل بين الشعب”[3] .

    ومن خصائصه[4] :

  • الشفاهية .
  • استخدام اللهجة المحكية ( العامية ) .
  • الجمعية ، فكلمة شعبي تعني شيئاً جمعياً غير فردي .
  • متكيفة مع ثقافة الجماعة ، وتتسم بالعراقة ، فالشعبي يصدر عن جماعة يرتبط أفرادها بتراث مشترك وشعور خاص بالتعاطف قائم على خلفية تاريخية مشتركة .    

    والأدب الشعبي[5] هو الأدب الذي يصدره الشعب ، وهو غني بالمغزى والرموز ، وهو ككل عملية إبداع ، يصدر عن فرد ، إلا أنه لا يحمل طابع الشعبية إلا إذا تبنته الجماعة ، فيصبح بذلك معبراً عن وجدانها ، حاملاً خبرتها وتجاربها ، راصداً تطورها، عاكساً اتجاهاتها ، ويتضمن : الأغاني ، الأساطير ، الأمثال ، الحكايات ، النوادر ، السير … إلخ .

    الفكاهة ، إذن ، هي من أشكال التعبير في الأدب الشعبي . ومعنى فكاهة “مزاح … وفكههم بمُلَح الكلام : أطرفهم … ورجلٌ فَكِهٌ وفاكه وفيكهان ، وهو الطيب النفس المزاح”[6] .

    واعتبر فاروق خورشيد “أن كل ما يسبب الضحك فكاهة”[7] . وتشمل الفكاهة عند شوقي ضيف “السخرية واللذع والتهكم … والنادرة والدعابة … والكاريكاتور”[8] . وحددها أنيس فريحة بأنها “صفة قائمة في القول والفعل والحركة من شأنها أن تستأنف إلى القلب فتخلق جواً من البهجة والحبور والراحة النفسية … والفكاهة في بواعثها محاولة لتحويل الألم والكبت إلى نوع من التعبير الذي يخفف من وطأة البؤس .. (و)تظهر .. بأشكال مختلفة ، فقد تكون قصة أو نادرة أو نكتة”[9] .

    يظهر الإختلاف واضحاً بين هذه التعريفات ، فحين يهتم فاروق خورشيد بالنتيجة ، يعمد أنيس فريحة إلى الإهتمام بالبواعث ، وحين يجعلها شوقي ضيف شاملة لعدة أنواع ، تقتصر عند فريحة على ثلاثة فقط .

     أما النادرة فهي “ما شذ وخرج من الجمهور”[10] . واعتبرها شوقي ضيف أنها “الخبر القصير أو القصة القصيرة التي تضحك”[11] ، وهو يتفق مع رأي محمد قرة علي[12] . إلا أن نبيلة إبراهيم تحدد النادرة أكثر فهي تعدّها من “أنواع الفكاهة … وهي الأقصوصة التي لا تطول إلى درجة الحكاية الهزلية ولا تقصر إلى النكتة”[13] .

    والنكتة لغة هي “النقطة … وأيضاً : نقطة سوداء في شيء صاف”[14] ، وتحددها نبيلة إبراهيم بالقول أنها “تركيبة لغوية معقدة … تهدف من خلال المعنى المزدوج إلى إدراك العبث أو المحال أو … متناقضات الحياة … والنكتة تقف في قمة كل أنواع الفكاهة”[15] . أما أنيس فريحة ، فيعمد إلى إجراء مقارنة بين الفكاهة والنكتة بعد تعريفها ، إذ يقول : “النكتة قدرة عقلية على جمع كلمات أو أفكار ، متناقضة أصلاً ، في قولٍ يثير فينا الدهشة فالتعجب فالضحك … والنكتة لغوية بخلاف الفكاهة التي قد تكون أحياناً في الملمح أو الحركة”[16] . نلاحظ هنا التقارب بين التعريفين من خلال اعتبار النكتة تركيبة لغوية . ويعتبرها حامد زهران من أسلحة الحرب النفسية[17] ، ولا تتخذ النكتة هذا الموقع إلا لكونها في قمة كل أنواع الفكاهة ، من حيث الشكل (القصر الذي يسهل الذيوع) والمضمون (التهكمي اللاذع) .

    أما الطرفة ، فقد ورد في لسان العرب “شيء طريف : طيب غريب … واستطرف الشيء أي عدّه طريفاً”[18] .

    يبقى هناك بعض المصطلحات التي أود الإشارة إليها ، فهناك :

  • المفارقة : وهي حدوث ما لا يُتَوقَّع .
  • المبالغة : وهي ما يتخيل بطل الفكاهة القيام به وإن كان من المحال تحقيقه  في الواقع .
  • الموقف الفكاهي : هو العمل الذي يقوم به بطل الفكاهة (لا يعتمد على اللفظ فقط) .

أما الضحك لغوياً ، فقد ورد في لسان العرب ، في مادة ضحك : “ضحك يضحك ضحكاً … وفي الحديث : يبعث الله السحاب فيضحك أحسن الضحك ، جعل انجلاءه عن البرق ضحكاً استعارة ومجازاً كما يفتر الضاحك عن الثغر”[19] .

    وهناك الكثير من الأحاديث والروايات التي تؤكد أهمية الضحك والإبتسام ، وإن كانت في الوقت نفسه تشدد على التزام حدود معينة . فـ”لا بأس بالمزاح ما لم يكن سفهاً”[20] ، هذا ما يقوله الأبشيهي ، أما الماوردي فهو يحاول تقنين حالات المزاح باعتبار أن “العاقل يتوخى بمزاحه إحدى حالتين ، إحداهما إيناس المصاحبين والتودد إلى المخالطين ، والثانية أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم وأحدث به من هم”[21] .

    ويروى في الحديث: “روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة ، فإن القلوب إذا كلّت عميت”[22] .

    ولست هنا بصدد حصر الروايات التي تدعو إلى الضحك ، وتلك التي تشجبه . ولا أجد في الأمر مفارقة أو مغالطة ، فالحدود واضحة ، وعلى عكس إنزعاج أنيس فريحة وإستغرابه ، يصل ابن عبد ربه إلى حل هذه المسألة ، ولحدود كل من الإفراط في الضحك والمزاح أو الغلوّ في الهيبة بقوله : “إنما المحمود منها التوسط ، وأن يكون لهذا موضعه ولهذا موضعه”[23] .

    وفي “الضحك تخفيف للتوتر وهو ضرورة حيوية لاستمرار النشاط”[24] . ويرتبط الضحك بما هو إنساني ، فـ “القبعة لا تثير الضحك ، لكن ما يثيره شكل الإنسان الذي يعتمرها”[25] .

    ومن الغريب ، أننا في طفولتنا كنا نؤنب لكثرة الضحك باعتبار أن ( الضُّحْكْ مِنْ غيرْ سَبَبْ مِنْ قِلِّةِ الأدَبْ ) ، وإن كان لدينا دائماً سببٌ أو أكثر للإفراط في الضحك ، الأمر الذي كان يزعج أهلنا ويجعلهم يستعيذون بالله من كل شر سوف يلم بهم جراء ذلك . هذا الخوف من الضحك ما زلنا نعيشه ، وما زلنا نستدرك أنفسنا ونقطع ضحكنا لنقول : “اللهم اجعله خيراً ” .[26] .

    ما سر هذا الخوف ؟ وهل يرتبط الضحك بأسطورة ما ، تعتبره منبّهاً للمصائب جالباً لها ، مُذكّرها بهذا الشخص الضاحك (أو الجماعة) ، لتختاره فتصبّها عليه ؟! 

ربما ..




الهوامش :

[1] هنري برغسون ، (1987) ، الضحك ، ترجمة : علي مقلد ، بيروت ، مجد ، ط 1 ، ص 10 (بتصرف) .

[2] رياض قزيحة ، (1998) ، الفكاهة في الأدب الأندلسي ، بيروت ، المكتبة العصرية ، ط 1 ، ص 74 (بتصرف) .

[3] أما الرسمي فهو ما تقوم السلطة بفرضه وتعليمه (إيكه هولتكرانس ، قاموس مصطلحات الإثنولوجيا والفلكلور، ترجمة : محمد الجوهري وحسن الشامي ، مصر ، دار المعارف ، ص 238) .

[4] أنظر : عز الدين أحمد حسن ، الأدب الشعبي في السودان ، مكتبة الكاملابي ، ص 14 . وأيضاً ، م.س. ، إيكه هولتكرانس ، ص.ص. 235-238 .

[5] أنظر : م.س. ، عز الدين أحمد حسن ،  ص 14 (بتصرف) ؛ وأيضاً ، نبيلة إبراهيم ، (1981) ، أشكال التعبير في الأدب الشعبي ، مصر ، مكتبة غريب ، ط 3 ، ص 14 (بتصرف) .

[6] إبن منظور ، (1956) ، لسان العرب ، بيروت ، دار صادر ، مجلد 13 ، ص.ص. 523-524 .

[7] فاروق خورشيد ، (1997) ، عالم الأدب الشعبي العجيب ، مصر ، دار الشروق ، ص 181 .

[8] شوقي ضيف ، الفكاهة في مصر ، مصر ، دار الهلال ، ص 13 .

[9] أنيس فريحة ، (1962) ، الفكاهة عند العرب ، بيروت ، مكتبة رأس بيروت ، ط 1 ، ص.ص. 14-17-19 (بتصرف) .

[10] م.س. ، ابن منظور ،  مجلد 5 ، ص  199 .

[11] م.س. ، شوقي ضيف ،  ص 14 .

[12] محمد قرة علي ، (1972) ، الضاحكون ، بيروت ، دار الكتب ، ط 2 ، ص 19 .

[13] م.س. ، نبيلة إبراهيم ، ص 227 .

[14] م.س. ، إبن منظور ، مجلد 2 ، ص 101 .

[15] م.س. ، نبيلة إبراهيم ، ص.ص 220 – 234 .

[16] م.س. ، أنيس فريحة ، ص 19 .

[17] حامد عبد السلام زهران ، (1984) ، علم النفس الإجتماعي ، القاهرة ، عالم الكتب ، ط 5 ، ص 406 .

[18] م.س. ، إبن منظور ،  مجلد 9 ، ص 214 .

[19] المصدر نفسه ، مجلد 10 ، ص 459 .

[20] الأبشيهي ، (1986) ، المستطرف في كل فن مستظرف ، بيروت ، دار مكتبة الحياة ، مجلد 2 ، ص 311 .

[21] الماوردي ، أدب الدنيا والدين ، تحقيق : مصطفى السقا ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط 3 ، ص 299 .

[22] إبن عبد ربه الأندلسي ، (1983) ، العقد الفريد ، تحقيق : عبد المجيد الترحيني ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ط 1 ، جزء  8 ، ص 90 .

[23] م.س. ، إبن عبد ربه ، مجلد 8 ، ص 91 .

[24] م.س. ، أنيس فريحة ، ص 16 .

[25] م.س. ، رياض قزيحة ، ص 73  

[26] أنظر أيضاً : محمد رجب النجار ، (آب/2000) ، الحكايات المرحة ، مجلة العربي ، الكويت ، وزارة الإعلام ، عدد 501 ، ص 184 .

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.