الثقافة و الإنثروبولوجيا : قراءة في نظرية الأنثروبولوجيين

zaki

الثقافة و الإنثروبولوجيا : قراءة في نظرية الأنثروبولوجيين

زكي الميلاد

ـ 1 ـ
الثقافة والأنثروبولوجيا

تحتفظ الأنثروبولوجيا بتاريخ حيوي وعريق من العلاقة والارتباط بالثقافة، وتختلف هذه العلاقة وتتمايز عن جميع صور وأنماط علاقات العلوم الأخرى بالثقافة، بحيث لا يغني النظر إلى الثقافة بواسطة هذه العلوم على تعدد أقسامها وحقولها الاجتماعية والإنسانية، دون الكشف عن موقف الأنثروبولوجيا من الثقافة.

ومن شدة هذه العلاقة كادت الأنثروبولوجيا تتملك الثقافة، وتجعل منها امتيازاً لها، وتتحول إلى العلم الذي يتحدث باسمها وعنها وحولها. وذلك على خلفية أن الثقافة هي من مكتشفات الأنثروبولوجيا، أو أنها -أي الأنثروبولوجيا- هي التي عملت على اكتشافها بالعودة إلى العقل البدائي والمجتمعات البدائية، ومحاولة البحث عن جذور الثقافة وبداياتها وكيف تنشأ وتنمو وتتطور؟ وتجيب على سؤال لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ وهو السؤال الذي عَنون به مايكل كاريزرس كتابه في الأنثروبولوجيا. ويرى الأنثروبولوجيون أنفسهم أنهم -دون غيرهم- من يمتلكون تجريبات عملية، واستدلالات برهانية، وسجلات اثنروغرافيا، يبرهنون بها على ذلك، من بين جميع المشتغلين في حقول الدراسات الاجتماعية والإنسانية.

وقد ترسخت هذه العلاقة بين الأنثروبولوجيا والثقافة مع تشكل وظهور ما عُرف بالأنثروبولوجيا الثقافية أحد أقدم أقسام الأنثروبولوجيا العامة، ومن أكثرها اهتماماً إلى جانب الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وبين هذين القسمين الثقافي والاجتماعي في الأنثروبولوجيا جدل ونزاع قديم في تحديد من هو الأصل، ومن هو الفرع، وما يترتب على ذلك من صياغة وتحديد هوية وشخصية علم الأنثروبولوجيا. فمن ينتمون إلى الأنثروبولوجيا الثقافية يعدون هذا الحقل هو الأصل، والأنثروبولوجيا هي الفرع. بينما يرى الذين ينتمون إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية أن حقلهم هو الأصل، والأنثروبولوجيا الثقافية هي الفرع.

وتفاقم هذا الجدل والنزاع مع الانقسام الذي حصل بين أشهر مدرستين في الأنثروبولوجيا، وهما المدرسة الأنثروبولوجية البريطانية التي انحازت إلى الجانب الاجتماعي، والمدرسة الأنثروبولوجية الأمريكية التي انحازت إلى الجانب الثقافي. وعُرف هذا الانقسام وظهر على السطح مع صدور كتاب “أنماط الثقافة” عام 1935م للأنثروبولوجية الأمريكية الشهيرة روث بنيديكت، الكتاب الذي وصفه الأنثروبولوجي العربي الدكتور أحمد أبو زيد بأنه من أوسع كتب الأنثروبولوجيا انتشاراً ليس في أمريكا وحدها بل في العالم أجمع.

فقد كشف هذا الكتاب -كما يقول أستاذ ورئيس قسم الأنثروبولوجيا في جامعة دورهام البريطانية مايكل كاريزرس- عن اختلاف عميق في العلاقة بين الأنثروبولوجية الاجتماعية البريطانية، خاصة مدرسة العالم الإنجليزي راد كليف براون ذات النفوذ الكبير آنذاك، وبين الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكية… وفي الوقت الذي كان فيه مالينوفسكي، وهو أحد اثنين من أعظم البريطانيين تأثيراً، ميالاً في أعماقه إلى تأييد النهج الأمريكي كما يقول كاريزرس، كان في المقابل راد كليف براون معارضاً عنيداً للحديث عن الثقافة، وأدى به ذلك إلى شل عزيمة الكثيرين من زملائه وخلفائه في بريطانيا(1). بقصد حماية المدرسة الأنثروبولوجية البريطانية، وخوفاً عليها من الاختراق، أو التأثير على هويتها وملامحها، وشروط استمرارها، خصوصاً بعد التأثير الذي ظهر على برونيسلاف مالينوفسكي الذي يُعد من أكثر العلماء البريطانيين الذين تحدثوا عن الثقافة، وعُدَّ هذا من مظاهر تأثره بالنهج الأمريكي، وترتب على هذا اختلاف كما يقول أحمد أبو زيد نتائج بعيدة المدى، ظهرت بشكل واضح في اختلاف مناهج الدراسة، ومساحة التفسير والتأويل، بحيث تبدو الأنثروبولوجيا كما لو أنها منقسمة إلى علمين مستقلين عن بعضهما، وهما الأنثروبولوجيا الاجتماعية التي تهتم بالعلاقات والنظم والأبنية الاجتماعية، والأنثروبولوجيا الثقافية التي تهتم بدراسة العادات والعرف والتقاليد وكل ما يدخل في مكونات الثقافة.

وظلت هذه الاختلافات كما يُضيف أبو زيد تزداد عمقاً واتساعاً يوماً بعد آخر، لدرجة أن ميلاً متزايداً في الكلام أخذ يظهر في أمريكا ليس عن الاتجاه الثقافي في دراسة الحياة الاجتماعية، كمقابل للاتجاه الاجتماعي البنائي، ولا حتى الكلام عن الأنثروبولوجيا الثقافية مقابل الأنثروبولوجيا الاجتماعية، بل الكلام عن علم الثقافة مقابل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية معاً(2).

وعند النظر في الدراسات الأنثروبولوجية يمكن التوصل إلى ثلاثة عوامل تساعد في تفسير الاختلاف والانقسام بين المنحى الثقافي في الأنثروبولوجيا، والمنحى الاجتماعي، وهذه العوامل هي:

أولاً: هناك من يرجع هذا الاختلاف والانقسام إلى طبيعة تعقيدات العلاقة بين الثقافة والمجتمع، نتيجة التفرقة القديمة التي حصلت بينهما. وفي كل مرة يقترب الدكتور أبو زيد من هذه العلاقة بين الثقافة والمجتمع فإنه يصفها بنوع من التشدد والمبالغة، ويراهما من أصعب المشكلات وأكثرها تعقيداً؛ لأنهما حسب رأيه مظهران مختلفان لشيء واحد، أو حسب قول الأنثروبولوجي البريطاني إيفانز برتيشارد: إنهما تجريدان مختلفان لوجود واقعي واحد.

ويتمم أبو زيد كلامه برأي هوجبن الذي يرى أن التفرقة بين الثقافة والمجتمع تنطوي على كثير من الصعوبات، ويُعرِّف المجتمع بأنه يُشير إلى كل العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين أفراد المجتمع المحلي، أما الثقافة عنده فإنها تعني كل أنماط السلوك المقنن، وبذلك فإن كلاً منهما هو وجه لشيء واحد(3).

ثانياً: وهناك من يُرجع هذا الاختلاف والانقسام إلى تباين الموقف حول تمديد طبيعة الموضوع والمجال للأنثروبولوجيا. وكثيراً ما اختلفت العلوم حول هذه القضية خصوصاً في بدايات تشكلها، وقبل اكتمال تحديد هويتها الثابتة، والاتفاق على نوعية مهمتها، وقبل إنجاز ما تحتاجه هذه العلوم من تراكمات معرفية تدفع به نحو التطور والنضج، وعبور أطوار النمو والتقدم.

وإلى فترة من الوقت كانت هناك وجهات نظر متعددة بين العلماء حول علم الأنثروبولوجيا وإلى أي أقسام العلوم ينتسب، إلى العلوم الطبيعية أم العلوم الاجتماعية. وتجددت لاحقاً وجهات النظر في نطاق العلوم الاجتماعية نفسها، بين من يرى انتساب الأنثروبولوجيا إلى علم الاجتماع، وبين من يرى انتسابها إلى علم النفس أو إلى علم التاريخ.

ويذكر أبو زيد كيف أن الناس في أوروبا سابقاً حين يتكلمون عن الأنثروبولوجيا التي تعني في نظر الإنجليز الدراسة العامة للإنسان، فإنهم يقصدون بها ما يُسمى في إنجلترا بالأنثروبولوجيا الطبيعية، أي دراسة الإنسان من الناحية البيولوجية، وما يُسميه الإنجليز بالأنثروبولوجيا الاجتماعية فإنه كان يُعرف في أوروبا باسم الاثنولوجيا أو علم الاجتماع(4).

وبعد أن تطورت الأنثروبولوجيا، واستقلت بنفسها، ظلت تحتفظ بعلاقة وثيقة مع تلك المجالات التي حاولت أن تنسب الأنثروبولوجيا إليها. مع ذلك لم ينته النزاع حيث انتقل من خارج العلم إلى داخله حول تحديد طبيعة موضوعه ومجاله، بين من يرى في المجتمع موضوعاً ومجالاً، وبين من يرى في الثقافة موضوعاً ومجالاً آخر له. أي بين من يرى “المجتمع هو الحقيقة النهائية التي تجعل من الممكن فهم طبيعة الإنسان والنظم الاجتماعية التي تحكم ذلك المجتمع، وبين من يرى في الثقافة تلك الحقيقة النهائية المتمايزة بذاتها، وأن المجتمع ليس سوى أداة ووسيلة لقيام الثقافة ووجودها واستمرارها، أي أنه مجرد ظرف أو شرط ضروري لوجود الثقافة”(5).

وقد اعترف مايكل كاريزرس بهذا النزاع، وحاول العمل على إظهار التوافق بين الاتجاهين، إلا أن من يُقوِّم هذه المحاولة التي شرحها في كتابه “لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟” الصادر عام 1992م يكتشف أنه كان متحيزاً للأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية، ويسعى للانتصار لها، والدفاع عنها، وإعادة الثقة إليها، وعن التوفيق أو التوافق بين الاتجاهين اللذين يُطلق عليهما تسمية التراثين، يقول: “إن هذين التراثين قد امتزج كل منهما بالآخر فيما بعد، واندمجا على نحو وثيق حتى أصبح بالإمكان النظر إليهما باعتبارها ضربين لتراث واحد أوسع نطاقاً، وما سيشتركان فيه على نحو قاطع هو الالتزام بالبحث الميداني باعتباره المصدر المحدد والنهائي للمعرفة”(6).

هذا من جهة التوفيق، أما من جهة التغليب، فيظهر في قوله الذي لا يريد أن يفهم منه الانتصار لفكرته، حيث يقول: “ليس هدفي هنا إبدال فكرة الثقافة، مثلما حلت الثقافة عن حق محل فكرة السلالة المرذولة، بل هدفي في تغيير مناط التأكيد. ومن ثم فإنني أذكر في المقابل بأن كون الأفراد يعيشون في علاقات، وكذا الطابع التفاعلي للحياة الاجتماعية هي أمور أهم قليلاً وأكثر واقعية من تلك الأشياء الموسومة بالثقافة”(7) وأطروحة الكتاب قائمة على أن الثقافة ليست هي الأساس، وإنما الأساس هي الحياة الاجتماعية.

ثالثاً: وهناك من يُرجع هذا الاختلاف والانقسام إلى أسباب تاريخية وموضوعية، ترجع إلى طبيعة النشأة والتكوين التي فرضت اختيار المنحى الاجتماعي في الأنثروبولوجيا البريطانية، والمنحى الثقافي في الأنثروبولوجيا الأمريكية. وذلك لاختلاف تركيبة وتكوينات المجتمعات التي وصفت بالبدائية، وهي المجتمعات التي تمثل الحقل الدراسي للأنثروبولوجيا، الاختلاف الذي ترتب عليه اختلاف في المنهج بين من وجد في المجتمع منهجاً، ومن وجد في الثقافة منهجاً آخر.

فالظروف العامة -كما يقول أبو زيد- التي لابست نشأة الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر في كل من بريطانيا وأمريكا، مسؤولة إلى حد كبير عن قيام هذين الاتجاهين وتبلورهما، فقد اتجه العلماء البريطانيون في دراستهم للمجتمع البدائي نحو المجتمعات القبلية في إفريقيا حيث كانت توجد معظم مستعمراتهم. في المقابل اتجه العلماء الأمريكيون نحو دراسة قبائل الهنود الحمر في أمريكا ذاتها، ولما كانت القبيلة الإفريقية تعيش في شبه عزلة اجتماعية واقتصادية بحكم الظروف الجغرافية التي تحيط بها، لذلك كان من الممكن النظر إلى هذه المجتمعات بوصفها وحدةً متكاملةً، وبناءً اجتماعياً متماسكاً، وهذا الوضع بخلاف قبائل الهنود الحمر حيث لم تكن كل قبيلة في عزلة عن الأخرى، وإنما كانت هناك دائماً درجة كبيرة من الاختلاط والاتصال بين الجماعات المختلفة. وتبعثر أفراد القبيلة الواحدة وانتشارهم كان يؤدي إلى تداخل ثقافاتهم، إلى جانب أن معظم قبائل الهنود الحمر كانت لها ثقافاتها وحضاراتها القديمة، بالإضافة إلى تراثها وتاريخها وآدابها. وهذه الأمور تفتقر إليها غالبية القبائل الأمريكية، لهذا كان من السهل والأفضل للعلماء دراسة ثقافات هذه القبائل، وهذا ما ذهب إليه إيفانز بريتشارد الذي يُعلل اتجاه الأنثروبولوجيا الأمريكية نحو الثقافة لأن مجتمعات الهنود الحمر التي كان العلماء الأمريكيون يركزون أبحاثهم عليها، كانت مجتمعات مجزأة غير متماسكة، مما يجعل دراسة ثقافتها أسهل بكثير من دراسة بنائها الاجتماعي(8).

ـ 2 ـ تايلور وتعريف الثقافة

لقد ساهم العالم البريطاني الأنثروبولوجي الشهير إدوارد تايلور في تدعيم العلاقة بين الثقافة والأنثروبولوجيا، بحيث أصبح من غير الممكن النظر إلى الثقافة دون العودة إلى الأنثروبولوجيا التي قدمت أجود تعريف للثقافة، وهو التعريف الذي اشتهر به تايلور في عصره وما بعد عصره، وحقق به إنجازاً معرفياً استفادت منه الأنثروبولوجيا في تعزيز مكانتها بين العلوم الاجتماعية الأخرى.

وبهذا التعريف برهن تايلور أن الأنثروبولوجيا في عصره كانت الأقدر من بين العلوم الاجتماعية على تكوين المعرفة بالثقافة؛ حيث قدمت تعريفاً من الممكن القبول به، والتوافق عليه عند معظم المشتغلين بالدراسات الاجتماعية والثقافية، وهذه كانت من أصعب المهام التي واجهت العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتناغمت فيما بينها حول هذه المهمة العسيرة من حيث الضبط والتحديد، وبقيت هذه المهمة شائكة ومعقدة خصوصاً بعد محاولة التفكير في تجاوز التعريف التايلوري.

ومنذ أن طرح تايلور تعريفه للثقافة، دخل هذا التعريف في المجال التداولي بقوة وزخم لا يقارن به تعريف آخر، واحتفظ هذا التعريف بقيمته وفاعليته ولم يستطع أحد أن يخرجه من مجاله التداولي في جميع الأزمنة التي مرت عليه. ومع أنه اليوم لم يعد بتلك القوة والزخم اللذين كان عليهما من قبل، مع ذلك بقي حاضراً داخل المجال التداولي ولم يفارقه.

وقد جاء هذا التعريف في الكتاب الذي أصدره تايلور عام 1871م بعنوان “الثقافة البدائية”. الكتاب الذي عَرف دويًّا هائلاً على حد تعبير لويس دوللو، وكان للعنوان نفسه كما يقول دوللو أثر الصدمة لدى قرائه لجمعه بين كلمتين غير متوافقتين أصلاً(9).

وحين حاول دوللو الكشف عن التطور التاريخي لمفهوم الثقافة الذي وصفه بالتطور البطيء، بالعودة إلى الأزمنة القديمة التي تبتدئ عادة في الدراسات الأوروبية من العصر اليوناني القديم حيث بدأت الاحتكاكات الأولى حسب تعبيره، وهذه العودة الدائمة والمقصودة جداً للعصر اليوناني يُراد منها ترسيخ مفهوم المركزية الأوروبية، مروراً بالأزمنة اللاحقة، فإن دوللو يتوقف أمام صدور هذا الكتاب لتايلور، ويؤرخ له لكونه يشكل إسهاماً تاريخياً في تطوير مفهوم الثقافة، ويُعطي هذه المرحلة وصف المرحلة الاجتماعية، حيث ارتبط فيها مفهوم الثقافة بمفهوم المجتمع.

في هذا الكتاب يعرف تايلور الثقافة في أول فقرة منه بقوله: “هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع” وهذا النص هو أكثر نص عُرف به تايلور، وهناك الكثيرون من الكتّاب والمثقفين الذين لا يعرفون عن تايلور، وعن كتابه المذكور إلا هذا التعريف الذائع الصيت، والذي لا يخلو منه كتاب يتحدث عن الثقافة، أو يقترب منها، وغالباً ما يرجَّح هذا التعريف على غيره من التعريفات الأخرى، وبالذات في الكتابات العربية.

ومع الشهرة الواسعة التي مضى بها تايلور، والذي كثيراً ما يُشار إليه في البلدان الناطقة بالإنجليزية، حسب ما جاء عنه في تعريف الموسوعة العالمية، على أنه أبو علم الأجناس البشرية، وهكذا شهرة كتابه أيضاً “الثقافة البدائية”؛ مع ذلك بقي هذا الكتاب مجهولاً في العالم العربي. ولا أعلم ما هو السر في عدم ترجمته إلى العربية. ومع أنه كتاب قديم بعض الشيء حيث يرجع إلى العقد السابع من القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أنه ما زال يتمتع بحضور وأهمية يفوقان بكثير العديد من الكتب الأخرى المترجمة حتى حديثاً إلى العربية.

وعند النظر في هذا التعريف فحصاً وتحليلاً لعناصره ومكوناته، يمكن تحديدها في النقاط التالية:

أولاً: إن الثقافة هي من المفاهيم الكلية وليست من المفاهيم الجزئية، فهي ذلك الكل كما قال عنها تايلور، والكلي والجزئي من مفاهيم المنطق، وأهل المنطق يعرِّفون الكلي بأنه المفهوم الذي لا يمتنع صدقه على أكثر من واحد، وأما الجزئي فهو المفهوم الذي يمتنع صدقه على أكثر من واحد(10).

وهذا يعني أن الثقافة من المفاهيم التي لا يمتنع صدقها على أكثر من واحد، سواء كان هذا الواحد من أقسام العلوم، أو من أقسام الآداب، أو من أقسام الدين والأخلاق، وذلك بخلاف الجزئي الذي يتحدد وينحصر في عنصر واحد، ويمتنع صدقه على أكثر من واحد.

ثانياً: إن الثقافة هي من المفاهيم المركبة، وليست من المفاهيم البسيطة فهي ذلك الكل المركب حسب عبارة تايلور. والمركب يطلق على المفهوم الذي يحتوي أجزاءً وعناصر متعددة، والبسيط يطلق على المفهوم الذي يفتقد لتلك الأجزاء والعناصر المتعددة.

بمعنى أن المركب يتقدم وجوداً وفاعلية بتلك الأجزاء والعناصر، والبسيط يتقدم وجوداً وفاعلية بذاته دون الحاجة لتلك الأجزاء والعناصر المتعددة. والمركب لا يكون كاملاً بذاته إلا بانضمام أجزائه وعناصره المكونة له. والثقافة بهذا المعنى هي ذلك المركب من أجزاء وعناصر، ولا تتحقق وجوداً وفاعلية إلا بتعاضد تلك الأجزاء والعناصر.

ثالثاً: لهذا فإن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والعرف والقانون، وكل القدرات والعادات الأخرى. وهذا يعني أن الثقافة ليست علماً؛ لأنها لو كانت علماً لتضيقت وتحددت في نطاق ذلك العلم، وبصورة لا تخلو من صرامة، بحيث يمتنع عليها تجاوز الحدود التي يفرضها وبصرامة قانون العلم. ولأن الثقافة ليست علماً لذلك شملت المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون وغيرها.

رابعاً: إن الثقافة هي عملية اكتساب، وحسب تعبير تايلور التي يكتسبها الإنسان. والاكتساب مفهوم يقابل التوريث أو الانتقال الجبري والطبيعي، وله خاصية التأثر والتأثير. بمعنى أن الثقافة هي عملية اكتساب عبر وسائط التربية والتعليم والتنشئة، وعبر جميع طرائق التفاعل الاجتماعي، وليست عملية انتقال فطري أو غريزي، أو عبر طرائق المورثات البيولوجية. ويرى الدكتور أبو زيد أن كل العلماء الذين تعرضوا لمشكلة تعريف الثقافة، يعطون أهمية كبرى لعناصر التعليم أو الاكتساب، ويبعدون عنها كل ما هو غريزي أو فطري أو موروث بيولوجي(11).

خامساً: إن الثقافة مفهوم يرتبط بالمجتمع، فهي -حسب تعبير تايلور- التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع. والاكتساب من المجتمع عملية مستمرة لا نهاية لها ولا توقف، وتحصل بوعي أو دون وعي، برغبة أو دون رغبة، ومن الصغر إلى الكبر. لهذا فقد أصبحت الثقافة تدرس وتعرَّف في نطاق علاقتها بالمجتمع، وفي الدراسات الأنثروبولوجية أصبحت تُربط بمفهوم التراث الاجتماعي. المفهوم الذي يعني أن علاقة الثقافة بالمجتمع هي علاقة تفاعل قديمة، وتمتد إلى أجيال متعاقبة.

ويرى أبو زيد أن من خصائص الثقافة في الدراسات الأنثروبولوجية هي خاصية الاستمرار. وهذه الخاصية تابعة بالضرورة -كما يقول أبو زيد نقلاً عن لينتون- من تصور الثقافة على أنها التراث الاجتماعي الذي يرثه أعضاء المجتمع من الأجيال السابقة، فالسمات الثقافية لها قدرة هائلة على الانتقال عبر الزمن(12).

هذه لعلها أول محاولة لتحليل وتفكيك العناصر والمكونات لتعريف تايلور للثقافة، والعلاقات بين تلك العناصر والمكونات، أما النظرة التركيبية لهذا التعريف فهي النظرة الغالبة على اهتمام الكتَّاب والباحثين. وتصور الثقافة بحسب هذه النظرة التركيبية على أنها تمثل طريقة الحياة في كل مجتمع، وبعبارة أخرى هي التركيب الكلي لنمط الحياة الذي يتعدد ويختلف من مجتمع لآخر. وهذا التعريف هو الذي انتهى إليه إليوت في ملاحظاته نحو تعريف الثقافة، بإدراك منه أنَّ هذا التعريف ينتمي للأنثروبولوجيا التي لها طريقتها في النظر والتحليل البرهاني والاجتماعي، فقد ظل إليوت يقلِّب النظر تفكيكاً وتركيباً، تنوعاً وتوحداً في محاولة منه لتعريف الثقافة، وانتهى إلى تأييد القول الذي يرى أن الثقافة هي طريقة الحياة في المجتمع، وحسب قوله: إن “أول ما اعنيه بالثقافة، هو ما يعنيه الأنثروبولوجيون: طريقة حياة شعب معين، يعيش معاً في مكان واحد. وهذه الثقافة تظهر في فنونهم، وفي نظامهم الاجتماعي، وفي عاداتهم وأعرافهم، وفي دينهم”(13).

وإليوت الذي حاول أن يكوّن تعريفاً للثقافة يستقل به، وجد نفسه يتناغم مع تعريف الأنثروبولوجيين للثقافة ويُظهر التأييد له. وليس إليوت فحسب هو الذي انتهى إلى مثل هذه النتيجة، وإنما كثيرون غيره أيضاً. وأغلب الذين ظلوا حائرين أمام تعريف الثقافة، أو وجدوا أنفسهم مترددين في حسم رؤيتهم للثقافة، هؤلاء بالذات كانوا في وضع أقرب للميل نحو التناغم أو التوافق أو التأييد لتعريف تايلور لأنه الأكثر وضوحاً وشمولية.

وقد ظل هذا التعريف التايلوري مؤثراً وحاضراً في العديد من التعريفات المطروحة للثقافة. ونجد له بعض الأثر حتى في التعريف الذي قدمه مالك بن نبي للثقافة، لو حاولنا القيام بعملية فحص ومقارنة بينهما، وهكذا في تعريفات أخرى.

وإلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كان مفهوم تايلور للثقافة يزداد تعمقاً دون أن يُضاف إليه أي عنصر جوهري هام، ويعزو لويس دوللو -الذي يقول بهذا الرأي- هذا الأمر إلى أن السنوات الثلاثين التي أنهت القرن التاسع عشر تُشكل مرحلة توقف(14).

مع ذلك فقد تساءل دوللو هل كانت نظرية تايلور جديدة حقاً؟ ويقصد دوللو بهذه النظرية أن التعريف الذي طرحه تايلور للثقافة ساهم في الكشف عن العلاقة بين الثقافة و المجتمع. فلم يعد الإنسان حسب رأي دوللو منعزلاً عن الجماعة التي سيتحمل بوعي منه أو دون وعي تأثيراتها عندما لا يجري هو نفسه وراءها.

ويجيب دوللو عن سؤاله بأن نظرية تايلور تنحدر في خط مستقيم عن تقاليد روسو وديدرو، ومن قبلهما عن نظرية أرسطو الذي كان يرى في الإنسان حيواناً اجتماعياً خلق ليعيش في المجتمع. وقد اعترف تايلور -على حد قول دوللو- أنه لم يجدد تماماً في نظريته، وأنه يدين بشكل خاص لكتاب الألماني كليم المؤلف من عشرة مجلدات، وهو بعنوان “التاريخ العام للثقافة البشرية” الصادر بين عامي 1843 و1852م، وهكذا الإشارة لكتاب “الثقافة والفوضى” لمؤلفه الإنجليزي ماثيو أرنولد، والصادر قبل عامين من صدور كتاب تايلور، أي في عام 1869م.

ويرى دوللو أن الإضافات المهمة على نظرية تايلور في الثقافة، ظهرت في القرن العشرين من أمريكيين وفرنسيين وإنجليز وألمان، حيث كانت لهؤلاء إسهامات لا تُنكر على حد تعبير دوللو. فقد وضع علماء الأجناس، وعلماء اجتماعيون من أمثال الفن لويس كروبير وكلايد كلوكوهن حوالي عام 1921م عدة تعاريف إضافية للثقافة يختلف بعضها عن بعض. وحصل ذلك -حسب تعليل دوللو- نتيجة التقدم السريع لعلم أشكال الإنسان، ولأن فكرة الثقافة اندمجت في علوم أخرى ترجع بشكل خاص إلى العلوم الإنسانية والسياسية(15).

والجدير بالإشارة أن كروبير وكلوكوهن أنجزا معاً دراسة نقدية في عام 1951م حول الثقافة، تضمنت ما يزيد على مائة وخمسين تعريفاً لكلمة الثقافة، وردت في الكتابات الأنثروبولوجية والاثنرلوجية والسيوسيولوجية التي ظهرت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر(16).

وهذا يكشف عن مستوى التطور الكبير الذي حصل في الدراسات الأنثروبولوجية والثقافية والاجتماعية حول فكرة ومفهوم الثقافة، لدرجة بات من الصعب الإحاطة التامة بكل هذه المفاهيم والتعريفات، التطور الذي يصفه دوللو بالانطلاق الهائل لمفهوم الثقافة في الأزمنة الحديثة، الانطلاق الذي يزعزع كل يوم القاعدة المكتوبة التي تحتبس فيها هذه الكلمة، وتبسيطها المذهل، كل ذلك صار أيضاً مصدراً دائماً للتباين والاختلاف(17).

كما يكشف هذا التطور أيضاً عن مدى المرونة الكبيرة لمفهوم الثقافة الذي يتسع لهذا المستوى من الانزياح والتعدد والتكثف في التعريفات. وفي نظر الكاتب الفرنسي سيرج لاتوش هذا هو سبب نجاح فكرة الثقافة، فهي تسمح حسب رأيه بأنَّ تفرغ فيها رغبات وطموحات هي عميقة بقدر ما هي غير دقيقة(18).

ومع كل هذا التطور أو الانطلاق الهائل -حسب وصف دوللو- الذي حصل لمفهوم الثقافة، مع ذلك بقي مفهوم تايلور صامداً ومؤثراً، ولم يضمحل كلياً، وإن كان أكثر عرضة للنقد والقدح وحتى الاستنقاص، فقد علّق تيري إيجلتون على عبارة “وكل القدرات” التي وردت في تعريف تايلور السالف الذكر، بأنها تتسم بانفتاح يبلغ حد التهور، حيث يغدو الثقافي متطابقاً فعلاً مع الاجتماعي(19).

وهناك من يرى أن كلمة الثقافة كما استخدمها تايلور، وكثير من العلماء المعاصرين له؛ ليست في حقيقة الأمر إلا اصطلاحاً مختصراً لمفهوم تاريخ الثقافة، كما كان يستخدمه العلماء الألمان. والدكتور أبو زيد الذي نقل هذا الكلام عن بيدني حاول أن يؤكده ويبرهن عليه بقوله: إن تايلور نفسه كان يَعُدُّ الأنثروبولوجيا علماً تاريخياً في المحل الأول، وكان لذلك يهتم بتتبع نمو الثقافة أو الحضارة وتطورها من عصور ما قبل التاريخ حتى الأزمنة الحديثة. ويُضيف أبو زيد أن جميع مؤلفات تايلور تحمل في عناوينها الطابع التاريخي الذي يصبغ كل دراساته باستثناء كتابه الذي سجل فيه رحلاته إلى المكسيك، فكتابه الأول كان بعنوان “أبحاث في التاريخ القديم للجنس البشري” إلى كتابه الأساسي “الثقافة البدائية” الذي تضمن عنواناً فرعياً يوحي بطابعه التاريخي(20).

وهذا النقد والتشكيك جاء لكي يلفت النظر إلى التراجع الذي حصل لمفهوم تايلور، وأنه لم يعد بتلك المكانة المتفوقة بعض الشيء، التي كان عليها لزمن طويل، لدرجة أن بعض الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة أخذت تتجاهله، فمايكل كاريزرس لم يأتِ على ذكره مطلقاً في كتابه “لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟” وكان إيجلتون يتغافله في كتابه “فكرة الثقافة” ولم يأتِ على ذكره إلا مرة واحدة، وبشكل عابر للغاية، وجاء في سياق نقدي له، حين كان يريد الحديث عمّن يجمل الثقافة على نحو غير محكم تماماً وكان مثاله على ذلك تعريف تايلور، مع أنه وصفه بالشهير.

أما في الكتابات العربية فقد بقي تعريف تايلور على حاله دون تحريك أو تغيير، أو حتى اهتزاز لمكانته المتفوقة في كثير من هذه الكتابات، التي ما زالت تُبجل ذلك التعريف، وتبالغ في أوصافه، فهو في نظر الدكتور نصر محمد عارف، يعد حتى اليوم من أوفى التعريفات وأشملها، وما يزال يستخدم في معظم الكتابات الأنثروبولوجية(21).

وعَدُّه الدكتور معن زيادة من أشهر التعاريف وأكملها وأكثرها ضبطاً، ويرى فيه التعريف الجامع والمانع -كما يقول المشتغلون بالمنطق- لأكثر من نصف قرن. وقد التفت الدكتور زيادة إلى التغير الذي حصل في الموقف من تعريف تايلور، حيث عقب على الكلام الذي قاله بـ”أن تطور العلوم، والعلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية بشكل خاص ألفى مزيداً من الأضواء على فهم الثقافة، ودفع إلى تعريفات جديدة، تعكس التحولات التي طرأت على ثقافة الإنسان، وبالتالي على مفهوم الثقافة، وعلى ضوء الدراسات المستجدة أصبح بمقدرونا أن نأخذ على تعريف تايلور عموميته، وطابعه الوصفي، وإهماله حركية وديناميكية الظاهرة الثقافية، إضافة إلى إجماله العلاقة بين الثقافة والمجتمع البشري الحامل لتلك الثقافة من جهة، والبيئة أو المحيط الخاص بتلك الثقافة من جهة أخرى”(22).

تصدق هذه الملاحظات في الإجمال، وتحديداً إذا نظرنا إلى تعريف تايلور في نطاقه الثقافي العام، أما إذا نظرنا إليه في نطاقه الخاص، فتلك الملاحظات تصبح ليست بتلك الدقة. والنطاق الخاص هو الذي يكشف حقيقة التغير في الموقف من التعريف التايلوري، فبعد أن كان النظر لهذا التعريف على أنه تعريف عام للثقافة، وإجابة شاملة لسؤال: ما هي الثقافة؟ تحول النظر إليه على أنه إجابة خاصة، تتحدد في نطاق خاص، هو نطاق الأنثروبولوجيا، ويمثل إجابة أنثروبولوجية لسؤال: ما هي الثقافة؟ بمعنى أنه تعريف يتحدد بمعارف وخبرات الأنثروبولوجيا، ويرتبط بالمجتمعات الصغيرة من حيث التعداد البشري، أو المساحة الجغرافية، أو من جهة شبكة العلاقات الاجتماعية أو ما يطلق عليها المجتمعات البدائية. وهذا ما يفسر صفة العموم في التعريف التايلوري الذي انتقده معن زيادة، في حين أن هذه العمومية تُعد شرطاً ضرورياً وممكناً في التعريف لانطباقه على المجتمعات الصغيرة والمعزولة، ومعظم المدائح والتبجيلات التي كانت تُقال عن التعريف التايلوري، صاحبته وانتقلت معه حين بدأ يتحدد نطاقه في الأنثروبولوجيا، حيث بات يُعَدُّ من أوفى وأجود وأشمل تعريفات الثقافة في الأنثروبولوجيا.

والحقيقة أن هذا التعريف قد أدى وظيفته، واستنفدت الحاجة منه في النطاق العام، ولم يعد يضيف جديداً أو تخلقاً في هذا النطاق، وكان مآله الطبيعي أن يرجع إلى بيئته التي جاء منها، وينتسب إلى مجاله الخاص، وهذا ما حصل فعلاً، وما كان ينبغي أن يحصل حسب قانون العالم.

ـ 3 ـ ماذا أضافت الأنثروبولوجيا إلى الثقافة

لاشك في أهمية وقيمة ما أضافته الأنثروبولوجيا في مجال الثقافة والدراسات الثقافية. ولا أظن أن المشتغلين في الحقل الثقافي يشككون في ذلك، أو يقللون من أهمية تلك الإضافات، لكن قد يجادلون في المغالاة التي يصورها البعض على خلفية أن الأنثروبولوجيا، والأنثروبولوجيا الثقافية تحديداً هي التي جعلت من الثقافة قضيتها الأساسية، واعتمدت عليها بوصفها مدخلاً رئيسياً في دراسة المجتمعات، وهي التي أعلت من شأن الثقافة، وواجهت الشكوك التي اعترضتها، وسعت لتحويل الثقافة إلى علم يستقل بذاته، وهذا لا يعني في نظر المجادلين أن الثقافة أصبحت حقاً وامتيازاً للأنثروبولوجيا.

وما أضافته الأنثروبولوجيا في مجال الثقافة يختلف ويتمايز عن إضافات العلوم الأخرى على تعدد وتنوع أقسامها ومجالاتها، فقد عكست معرفة وخبرة، وحصيلة من التراكمات والتجريبات التي عرف بها هذا الحقل، ولعل من الصعوبة حصر مثل هذه الإضافات وضبطها وتحديدها كاملة وعلى وجه الدقة، وليس هناك مبحث في الدراسات الأنثروبولوجية يُعنى بهذا الشأن في ضبط وتحديد مثل تلك الإضافات، لهذا فإن ما سوف أطرحه لا يُشكل حصراً بالتأكيد، وإنما هو محاولة للتعرف على بعض هذه الإضافات قدر الإمكان. والغاية من ذلك هو التعرف على طبيعة هذه الإضافات ونوعيتها وسماتها وحتى قيمتها وتأثيرها في مجالي الثقافة والأنثروبولوجيا. ومن هذه الإضافات:

أولاً: تحرير الثقافة من البيولوجيا

هذه المهمة جاءت محاولةً لإثبات أن الثقافة هي من خواص الإنسان دون غيره من الكائنات الأخرى، وعلى هذا الأساس فإن الثقافة ترتبط بعالم الإنسان، وتنتمي إلى محيطه، وتتأثر ببيئته. وأكثر من عُرف بالدفاع عن هذه الفكرة مالينوفيسكي الذي ظل يكرر الحديث عنها في أبحاثه وكتاباته؛ لتأكيدها وإلفات النظر إليها.

وتحرير الثقافة من البيولوجيا قد تحدد في ناحيتين: ناحية الاكتساب، وناحية الانتقال.

والمقصود بالاكتساب: أن الثقافة لا تورث عبر العناصر والجينات الطبيعية والبيولوجية، أو عبر المؤثرات الفطرية والغريزية، وإنما هي تكتسب بوسائل وطرائق التنشئة والتربية والتعليم، ومن خلال عمليات التفاعل الاجتماعي المستمر. وبالتالي فإن العلاقة بالثقافة لها خاصية الإرادة والاختيار، بعيداً عن قوانين البيولوجيا التي لها خاصية الجبرية والإكراه.

والمقصود بالانتقال: أن الثقافة لا تنتقل من إنسان إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل آخر، كما تنتقل إلينا الجينات والمورثات البيولوجية، وإنما عبر وسائط وطرائق لها طبيعة اجتماعية وثقافية، وبحاجة إلى اكتشاف واختراع. وقد أثبت الإنسان منذ تاريخه الموغل في القدم، أنه قادر على اكتشاف هذه الوسائط والطرق، ليس هذا فحسب بل كان مبدعاً بدرجة عالية من التفوق في اكتشاف واختراع مثل هذه الوسائط والطرق التي برهنت على مقولة الإنسان الذكي، أي أن الإنسان لم يكن ينقصه الذكاء منذ وجوده على الأرض، بخلاف ما يصوره البعض من أن الإنسان كان همجياً وبربرياً في سابق عهده القديم.

وعن هاتين الناحيتين (الاكتساب والانتقال) في الثقافة يقول العالم هوبل: “إن السلوك المكتسب بصفة عامة يعتبر هاماً وضرورياً في تعريف الثقافة، وعلينا عند تحليل الثقافة أن نحذف كل ما هو بيولوجي أو موروث من مفهوم الثقافة؛ لأنها أي الثقافة حسب رأيه هي مجموع التجديدات الاجتماعية، والتي يمكن اعتبارها في النهاية بمثابة الإرث الاجتماعي الذي ينتقل عبر الأجيال المتلاحقة عن طريق التنشئة والاكتساب الثقافي المستمر”(23).

وفي نطاق العلاقة بين الثقافة والبيولوجيا، هناك نظريتان، واحدة لها علاقة بالإنسان، والثانية لها علاقة بالمجتمع.

النظرية الأولى: منطق هذه النظرية يفيد أن الإنسان يولد بيولوجياً، وهذه الولادة تمثل مرحلة الإنسان الأولى، وبعدها تبدأ مرحلة الثقافة التي تنقل الإنسان من المرحلة البيولوجية إلى مرحلة التخلق بالصفات المعنوية والروحية، حيث تقوم الثقافة بدور تهذيب الغرائز البيولوجية، وتوجيه الرغبات الطبيعية، وبهذا المعنى تكون الثقافة هي التي تكسب الإنسان جوهراً وكينونة ومعنى.

ويذكر الدكتور أبو زيد أن عدداً كبيراً من الأنثروبولوجيين الثقافيين المحدثين يرون أن أية نظرية متماسكة متكاملة عن الثقافة يجب أن تحاول الكشف عن علاقة الثقافة بطبيعة الإنسان البيولوجية والنفسية، وأنه لا يكفي بالتالي دراسة الثقافة على أنها شيء مستقل ومتمايز، أو على أنها نسق مغلق، بمعنى أنه لا يمكن فهمها عن طريق دراستها في علاقتها بغيرها من الظواهر الثقافية مع إغفال مسألة التعرف على أصلها إغفالاً تاماً(24).

النظرية الثانية: منطق هذه النظرية يفيد أن الاختلاف في مستويات التقدم والتحضر في المجتمعات الإنسانية لا يرجع إلى أسباب ذاتية وطبيعية تميز هذه المجتمعات من غيرها، ويكون التقدم حقاً وامتيازاً لها دون غيرها، فمقومات الإبداع والعبقرية كما يقول تيرجو موجودة ومنتشرة بين جميع العناصر البشرية، وأن تنمية المواهب الإنسانية تعتمد على الفرص المتاحة للتعليم، والظروف المحيطة بكل مجتمع، لذلك والكلام لتيرجو فإن التفاوت بين المجتمعات لا يرجع لأسباب وراثية، وإنما للاختلاف في التجارب والظروف المهيأة للتعليم(25).

وإذا كانت فكرة تحرير الثقافة من البيولوجيا تبدو لنا اليوم فكرة سهلة وبسيطة فإنها في مقاييس ذلك الوقت تعد فكرة ناضجة ومهمة.

ثانياً: إحلال فكرة الثقافة مكان فكرة السلالة

في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين كانت السلالات البشرية -كما يقول كاريزرس- هي الموجودات الحقيقية في رأي علماء الأنثروبولوجيا خصوم فرانز باوس، وذهب هؤلاء إلى أن السلالات هي جذور الفوارق الخاصة بالقدرة العقلية والأخلاقية بين الجماعات. غير أن باوس وتلامذته رفضوا بشدّة فكرة السلالات، وطرحوا بياناً مغايراً(26). يدافع هذا البيان عن فكرة الثقافة في مقابل فكرة السلالة المرذولة حسب وصف كاريزرس. ومن المحاولات التي تُذكر في هذا الشأن ما أثبته ودافع عنه عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي الشهير كلود ليفي شترواس الذي طالب بالمحافظة على تنوع الثقافات في عالم يصفه بأنه مهدد بالرتابة والتماثل، والاعتراف لجميع الأعراق بالمساهمة في التاريخ الإنساني، وفي بناء الحضارة الإنسانية، وأن من العبث -حسب رأيه- تكريس الطاقة والجهد للبرهنة على تأكيد التفوق أو الدونية الثقافية لعرق على باقي الأعراق والأخرى.

والحقيقة التي تفرض نفسها -كما يُضيف شترواس- هي أن تنوع الثقافات الإنسانية أكبر بكثير، وأغنى من كل ما نحن مهيَّؤُون لمعرفته على الإطلاق. وحين يريد شترواس أن يبرهن على أن تنوع الثقافات ليس ناشئاً من تنوع الأعراق، يقول: “إن ثقافتين أنتجهما أناس ينتمون إلى العرق نفسه يمكن أن تختلف بقدر ما تختلف ثقافتان تعودان لأناس ينتمون لمجموعات عرقية متباعدة وربما أكثر منها”(27).

وبهذا تكون الثقافة قد ساهمت، ومن خلال الأنثروبولوجيا في الحد من تأثير وتقادم فكرة السلالة التي كان لها دور في تكريس اتجاهات مضادة للنزعة الإنسانية، لهذا يمكن أن يُعَدَّ هذا التطور انتصاراً أخلاقياً للثقافة.

ثالثاً: الاهتمام بتاريخ الثقافة

اهتمت الأنثروبولوجيا بتاريخ الثقافة، وتطبيق منهج التأويل التاريخي في دراسة الثقافات، حتى كادت تُعد علماً تاريخياً. وظهر جدل بين الأنثروبولوجيين في هذا الشأن دفع البعض إلى آراء متشددة، كالذي ذهب إليه ميتلند بقوله: إنه سوف يتعين على الأنثربولوجيا في القريب العاجل أن تختار بين أن تصبح تاريخاً أو لا تصبح شيئاً على الإطلاق. وقد جاء هذا الرأي نتيجة الصبغة العامة التي كانت تميز التفكير الأنثروبولوجي في القرن التاسع عشر حيث كانت صبغة تاريخية.

ويرى الدكتور أبو زيد أن هذا الاهتمام التاريخي ناشئ إلى حد كبير من تصور العلماء للثقافة على أنها حصيلة النشاط البشري، وقبولهم بالتالي فكرة استمرار الثقافة عبر الزمن، وينقل أبو زيد رأي العالم الأمريكي فرانز بواس الذي كان من أكبر أنصار الاتجاه الوظيفي، إلا أنه اتَّجه نحو المنحى التاريخي لأنه يرى أن الثقافات ليست في حقيقة الأمر إلا حصيلة لنمو تاريخي معين، يجب أن يلمّ به الباحث ليتمكن من فهم الثقافة فهماً دقيقاً(28). وكل ثقافة حسب رأي بواس لها ذاتيتها، وتمتاز بخصائص وسمات خاصة بها تتكشف بمعرفة تاريخ هذه الثقافة، لهذا يعتقد بواس أن كل ثقافة لها تاريخ فريد يميزها من غيرها من الثقافات الأخرى.

وبهذا تكون الأنثروبولوجيا الإطار المعرفي الذي تحددت فيه العلاقة، أو نمطاً مهماً من هذه العلاقة بين الثقافة والتاريخ، ورسخت هذه العلاقة وبرهنت عليها بمعارفها وخبراتها وتجريباتها، وكشف من جهة أخرى عن حاجة الثقافة إلى التاريخ، الحاجة التي استعانت بها الأننثروبولوجيا الثقافية في تدعيم اتجاهاتها، وتأكيد مكانتها، وتماسك هويتها. يضاف إلى ذلك أن الأنثروبولوجيا فتحت أفقاً في الاهتمام بالتاريخ الثقافي، يكون النظر فيه ليس للأشخاص أو الوقائع والحوليات وإنما إلى الثقافة.

رابعاً: الثقافة ودينامية الانتشار

لقد برهنت الأنثروبولوجيا على أن الثقافة لا تعرف السكون، وهي في حركة دائمة، وبصورة غير مرئية أحياناً، ولا تتقيد الثقافة بمكان، أو تتحدد بزمان، وإنما هي في حالة تفلت وانتشار، وتنطبق هذه الخاصية على جميع الثقافات لكنها تختلف وتتفاوت من جهة سرعة الانتشار وقوته ونوعيته.

ولأهمية هذه القضية في الدراسات الأنثروبولوجية تحولت إلى اتجاه عرف بالاتجاه الانتشاري، وهو الاتجاه الذي يربط الثقافات في المجتمعات الإنسانية بعلاقات مشتركة، ويحاول تفسير الثقافة على هذا الأساس، بالعودة إلى الثقافات الرئيسة التي حظيت بالامتداد والانتشار، ووصلت إلى مجتمعات كثيرة ومتباعدة، كما يحاول هذا الاتجاه التعرف على دينامية الانتشار في الثقافات، وتوثيق هذه الظاهرة والاستدلال عليها، والكشف عن قيمتها وتأثيرها.

وقد أكدت هذه الظاهرة على حقيقة شديدة الأهمية، وهي حقيقة التفاعل بين الثقافات، أي أن الثقافات تتبادل التأثير فيما بينها كسباً وعطاءً، على مستوى الأفكار والتصورات والمقولات تارة، وعلى مستوى القيم والمبادئ والأخلاقيات تارة ثانية، وعلى مستوى الملامح والسمات والاتجاهات تارة ثالثة.

وهذا يعني أن الثقافات في حركتها وتطورها هي نتاج عملية تفاعل وامتزاج بين عوامل ذاتية ترتبط بالثقافة نفسها، وعوامل خارجية ترتبط بالتفاعل مع الثقافات الأخرى. ولهذا يُقال: إن الثقافات لا تعرف الحدود فيما بينها، تلك الحدود التي نعرفها ونرسمها ونقوم بحراستها والدفاع عنها. والذي كان يتغير باستمرار في تاريخ الثقافات، ويؤثر في دينامية الانتشار فيها، هو تغير الوسائط والطرائق، فقديماً كانت الثقافات التي تجاور البحار والأنهار هي الأكثر تعرضاً لاستقبال مؤثرات الثقافات الأخرى، أما اليوم فقد تعددت تلك الوسائط وتطورت بصورة مذهلة للغاية، وما زالت تتطور وتتقدم.

خامساً: الكشف عن التشابه بين الثقافات

منذ وقت مبكر التفت علماء الأنثروبولوجيا إلى ظاهرة التشابه بين الثقافات، مع أن هذه الثقافات تنتمي إلى مجتمعات متعددة ومختلفة من أبعاد عديدة: دينية وثقافية، لغوية وعرقية، جغرافية وتاريخية. وقد استوقفت هذه الظاهرة اهتمام الأنثروبولوجيين الذين وجدوا فيها ما يغري البحث، ويساعد على تطوير الفهم لفكرة الثقافة، وفحص بنياتها الداخلية، وحركياتها الخارجية.

ومع اتساع الاهتمام بهذه الظاهرة تعددت وجهات النظر عند الأنثروبولوجيين وانقسمت إلى اتجاهات مختلفة. فهناك من يرجع هذه الظاهرة إلى التشابه في العقل البشري الذي يعمل بالطريقة نفسها في الظروف المتشابهة، ويذهب إلى هذا الرأي تايلور ويطلق على هذا التشابه الوحدة النفسية للجنس البشري، فكل المجتمعات حسب رأيه لها القدرات العقلية نفسها، وعندما تواجه هذه المجتمعات معضلات متشابهة فإنها تصل إلى معالجات متشابهة.

وهناك من يرجع التشابه بين الثقافات إلى تأثير ثقافة واحدة على جميع الثقافات الإنسانية الأخرى، وهذه الثقافة هي الثقافة المصرية القديمة التي استطاعت الانتشار إلى جميع دول العالم، ويذهب إلى هذا الرأي العالم إليوت سميث الذين كان متخصصاً في دراسة الآثار المصرية القديمة. فالمصريون القدامى حسب رأيه هم أصحاب الفضل في الإبداعات والاختراعات الثقافية التي كانت أساس كل الحضارة الإنسانية، لما امتاز به المصريون من قدرات إبداعية خارقة من جهة، ولتمكنهم من الوصول إلى آسيا والقارات الأخرى من جهة ثانية. وقد اعتمد سميث في تكوين هذا الرأي على الآثار التي تم العثور عليها في جهات كثيرة من العالم، وكانت تشبه في جزئياتها وتفصيلاتها الآثار المصرية(29).

وهناك من يرجع ذلك التشابه ليس إلى ثقافة واحدة، أو مركز حضاري واحد، وإنما إلى عدد من الثقافات لعبت دور المناطق الثقافية المحورية في التأثير على باقي الثقافات الأخرى. إلى جانب من يرجعها إلى التأثير المتبادل بين الثقافات والمجتمعات الإنسانية. ويمكن النقاش في هذه الآراء، ولعل أصوب رأي هو الجمع بينها.

وهذا التشابه بين الثقافات أوصل علماء الأنثروبولوجيا إلى فكرتين متعارضتين، دارت حولهما نقاشات جادة، بين من يرى أن هذا التشابه يكشف عن وجود قوانين كلية تحكم الثقافة الإنسانية، وتسيرها نحو مراحل ثابتة من التطور بطريقة متتابعة وحتمية، تجعل من ثقافة كل مجتمع مهما كانت هويته ومكوناته أن تسلك مساراً واحداً، وسياقاً ثابتاً متعاقب المراحل، وبين من اعترض بشدّة على هذه الفكرة كالرأي الذي اشتهر به فرانز بواس بأن ليس هناك صيغة واحدة وثابتة للتطور الثقافي تنطبق على جميع المجتمعات دون استثناء في الماضي والحاضر. ولا شك في صواب هذا الرأي لأن الثقافات لا تخضع لقانون المنطق الجبري.

سادساً: المقارنة بين الثقافات والأنماط الثقافية

من أكثر ما تميز به علم الأنثروبولوجيا، ولعل ما برع فيه أيضاً، اهتمامه بالمقارنة بين الثقافات على اختلاف تنوعها، وهكذا بيَّن الأنماط الثقافية على ما بينها من تفاوت وتباين. وقد ظلت هذه المهمة الأكثر قرباً وتناغماً مع الأنثروبولوجيا، وكشفت عن قيمة هذا العلم الذي يكاد ينفرد بهذه المهمة، وفي نطاق هذه المهمة تبلورت معارفه وخبراته، والقسم الأعظم منها، إلى أن أصبحت هذه المهمة في نظر البعض تمثل الغاية الحقيقية من الأنثروبولوجيا. فحين يناقش العالم الأمريكي كروبر هوية ومهمة الأنثروبولوجيا التي دار حولها جدل طويل آنذاك، ينتهي إلى القول بأن الهدف الأساسي للأنثروبولوجيا هو التمييز بين النماذج والأنماط الثقافية المختلفة، وليس الوصول إلى التجريدات العامة أو القوانين.

وهذا ما انتهى إليه أيضاً روبرت بوروفسكي الذي اعتقد أن علم الأنثروبولوجيا يتضمن في جوهره مقارنة وتحليلاً لأوجه الاختلاف والتماثل في الثقافات. وأشار إلى هذا الرأي كاريزرس الذي حاول التشكيك فيه رغبة منه في إظهار الأنثروبولوجية الاجتماعية التي ينتهي ويتحيز إليها، على أنها الأكثر إقناعاً. فقد خصص الجزء الأكبر من كتابه “لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟” لقضية تفيد -حسب قوله- أن علم الأنثروبولوجيا لابد له أن يتجاوز الفكرة العامة عن مهمته التي تحددت بأنها ترجمة الثقافات، وذلك بأن يكون الهدف هو غرس أسلوب أكثر تاريخية، وخلق وعي أكثر حدة بالتحول في الحياة البشرية(30).

ومن الدراسات التي يُبجلها علماء الأنثروبولوجيا، والتي حاولت تأكيد مهمة الأنثروبولوجيا في المقارنة بين الثقافات، كتاب العالمة الأمريكية روث بنيديكت “أنماط الثقافة”.

سابعاً: التعامل مع الثقافة بوصفها وجوداً حقيقياً

لعل الأنثروبولوجيا من أكثر العلوم الاجتماعية التي حاولت أن تبرهن على وجود حقيقي للثقافة، وتعطي الثقافة صفة الوجود الحقيقي، وتعاملت مع الثقافة بهذا المستوى من الوضوح، بعيداً عن التعقيدات والغموض، وتصوير الثقافة وكأنها تنتمي إلى عالم لا يمكن وصفه وتحديده وإدراكه على صورة معينة، كالهيولى التي لا وصف لها ولا رسم ولا حدّ.

ويظهر مثل هذا الغموض في حديث توماس إليوت عن الثقافة، حين يقول: “الثقافة لا يمكن أن تكون واعية كل الوعي، إن فيها دائماً أكثر مما نعيه، ولا يمكن تخطيطها لأنها هي أيضاً الأساس اللاواعي لكل ما نقوم به من تخطيط”(31)، أو حين يقول: “إن الثقافة لا يمكن إبرازها إلى الوعي كاملة، والثقافة التي نعيها كل الوعي لا تكون أبداً كل الثقافة، فالثقافة الفاعلة هي تلك الثقافة التي توجِّه مناشط أولئك الذين يستخدمون ما يسمونه هم بالثقافة”(32). وما توحي به هذه الأقوال وغيرها من هذا النسق، أن من الوهم فهم الثقافة، وتعريفها وإدراكها، ومن يدَّعي ذلك يكون واهماً.

في حين لا مكان لهذا الوهم، أو لهذه الطريقة من التعامل مع الثقافة عند الأنثروبولوجيين الثقافيين، الذين ينزعون في الغالب الأعم -كما يقول كاريزرس- للنظر إلى الثقافة بوصفها واقعاً مستقلاً، ويرى أن الأنثروبولوجيين لديهم ميل إلى أن يقطعوا شوطاً ربما طويلاً أبعد مما تسمح لهم به الشواهد والبراهين، فيضعون على الثقافة وجوداً حقيقياً، وقوة سببية مستقلة(33).

والذين يرجعون إلى الدراسات الأنثروبولوجية يتعرفون على الثقافة بطريقة فيها من الوضوح ما لا يجدونه في الحقول الأخرى، وتتكشف لهم العديد من الفروقات في طرائق النظر إلى الثقافة.

ثامناً: تحليل الثقافة في المجتمعات البدائية

إذا كانت الأنثروبولوجية انفردت بشيء عن باقي العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى، فهو اهتمامها بدراسة وتحليل الثقافات في المجتمعات البدائية، فالأنثروبولوجيا هي العلم الذي يكاد يتخصص في دارسة المجتمعات البدائية، وفي هذا المجال تبلورت خبراته، وتراكمت معارفه ونضجت منهجياته، وتحددت تجريباته، كما أنه العلم الذي وثَّق لنا تاريخ تلك المجتمعات، وكتب تاريخاً لها، وعرَّفنا بها، وكشف عن قيمة هذا النشاط، وأهمية التواصل مع تلك المجتمعات.

وقد وجد علماء الأنثروبولوجيا كما يقول الدكتور أبو زيد جاذبية في دراسة هذه المجتمعات، وحسب قوله: “فليس من شك في أن للشعوب البدائية أهمية وجاذبية، خاصة بالنسبة لكل من يتأمل أو يبحث في طبيعة الإنسان والمجتمع”(34).

وقبل الأنثروبولوجيا كان مصدر الاهتمام بتلك المجتمعات يأتي عن طريق الرحالة والمبشرين المسيحيين وبعض الإداريين في المستوطنات الاستعمارية، وما قدمه هؤلاء كان عبارة عن مشاهدات عامة، أو تقارير خاصة، أو تحليلات تخدم سياسات معينة. ولم تكن الثقافة في صلب اهتمامهم، إلا بقدر ما تتصل بتلك الغايات والضرورات التوظيفية، إلى أن جاءت الأنثروبولوجيا وأصبحت العلم الذي نهض بطريقة منظمة لتكوين المعرفة بثقافات تلك المجتمعات، والكشف عن مصادر تلك الثقافات وطبيعة مكوناتها وملامحها وعلائقها، والعلاقات المتبادلة بين الثقافة والنظم والإنساق الاجتماعية.

هذه بعض الإضافات المهمة للأنثروبولوجيا في مجال الثقافة، التي توثق العلاقات بين الأنثروبولوجيا والثقافة من جهة، وتجعل من الأنثروبولوجيا حاجة ملحة للثقافة من جهة أخرى.

ـ 4 ـ
ملاحظات ونقد

لعل الأنثروبولوجيا من أكثر المعارف والعلوم الاجتماعية والإنسانية التي تعرضت للنقد والهجوم، وصاحبتها الشكوك منذ نشأتها، وظلت تلازمها لزمن طويل. فالأنثروبولوجيا هي العلم الذي كانت ولادته ولادة شبهة؛ حيث ارتبطت هذه الولادة بالمعامل الاستعمارية، وعُدَّت الأنثروبولوجيا على أنها علم ملحق بالنظام الاستعماري الذي يخدم برامجه ومشاريعه الاستعمارية، وتحدد موضوع هذا العلم ومجاله، بمجتمعات المؤسسة الاستعمارية. وهذه حقيقة ثابتة لا يجادل فيها الأوروبيون أنفسهم، وهم الذين اعترفوا بهذه الحقيقة ووثقوها، وتواثرت عنهم وعن غيرهم الكتابات والشهادات التي لا تضع مكاناً للشك في هذا الشأن. ولسنا بحاجة إلى التوغل في تفاصيل هذه الحقيقة، أو الإسهاب في الحديث عنها. والذي يعنينا وما نحن بصدده هو تلك الملاحظات التي ترتبط بعلاقة الأنثروبولوجيا بالثقافة، ومن هذه الملاحظات:

أولاً: تصنف الأنثروبولوجيا على أنها من العلوم الاجتماعية التي ساهمت منذ وقت مبكر في تعريف الثقافة، التعريف الذي كان له أثر في تكوين المعرفة بفكرة الثقافة، وخصوصاً التعريف الذي قدمه تايلور. والتعريفات وهكذا المفاهيم والتصورات غالباً ما تتصف في بدايات نشأتها بطابع العمومية، وهذه حالة طبيعية تصدق على مختلف أقسام العلوم، ولا تمثل نقصاً أو ضعفاً؛ لأن الانتقال من العام إلى الخاص بحاجة لزمن من التطور والتراكم والتكامل، وهو انتقال ضروري ولكن بفعل قانون الحركة وليس آلياً أو طبيعياً.

والملاحظ على الأنثروبولوجيا أنها أعطت المعنى العام والواسع للثقافة، ولعل المعنى العام كان ضرورياً أو مفيداً في وقته، لكنه ليس فعالاً إذا بقي على هذه الحال دون حركة نحو المعنى الخاص، والذي يقصد به المعنى الأكثر ضبطاً وتحديداً.

والمقصود بالمعنى العام للثقافة أن الأنثروبولوجيا تدمج كل شيء بالثقافة، من الدين إلى المعرفة والاقتصاد والأخلاق والسياسة والفن والعرف والقانون، ولا تكاد تترك شيئاً خارجاً عنها. وهو المعنى الذي ظهر متجلياً في تعريف تايلور للثقافة، التعريف الذي ساهم بقوة في تشكيل فكرة الأنثروبولوجيا للثقافة، وقد أدّى هذا المعنى الأنثروبولوجي للثقافة وظيفته، وكان مهماً ولافتاً في وقته، وبقيت له وظيفته الخاصة التي تتحدد في نطاق الأنثروبولوجيا.

وهذه الملاحظة من أكثر الملاحظات التي استوقفت انتباه الكثيرين لشدّة وضوحها، لدرجة أن البعض بات يسخر من ذلك المعنى الواسع للثقافة الذي يتسع لكل شيء مهما علت مكانته، ومهما دنت. ونقل مثل هذه السخرية لويس دوللو مستشهداً بقول عالمة الأجناس مرغاريت ميد: “إن كلمة الثقافة لا تعني التقاليد الفنية والعلمية والدينية والفلسفية في مجتمع معين، وإنما هي أيضاً تقنياته الخاصة، وأعرافه السياسية، وآلاف الاستعمالات التي تميز حياته اليومية، مثل طرق تحضير واستهلاك الأطعمة، ونمط إرقاد الأطفال الصغار، وطريقة تعيين رئيس المجلس، وأصول إعادة النظر في الدستور”(35).

فالثقافة التي تكون بهذا المحتوى من الاتساع فإنها لا يمكن أن تُعَرَّف أو تُحَدَّد، كما لا معنى للحديث عن الثقافة التي تعني كل شيء.

ثانياً: يرتبط مفهوم الثقافة -في منظور الأنثروبولوجيا- بالمجتمعات البدائية، وهو مفهوم خاص بتلك المجتمعات، ويتناغم مع طبيعة مكوناتها وملامحها وكامل خصوصياتها.

والأنثروبولوجيا -كما يقول عنها أبو زيد- هي المعرفة المنهجية المنظمة عن المجتمعات البدائية، فقد جاءت لهذه المجتمعات، ومن أجلها. والرؤية التي شكلتها الأنثروبولوجيا عن الثقافة إنما تُعنى بحاجات وضرورات تلك المجتمعات، ولا تُعنى بحاجات وضرورات المجتمعات ما بعد البدائية وهكذا المجتمعات الحديثة والمتقدمة.

ولعل التوصل إلى هذه الملاحظة كان بداية القطيعة وتغيير المنحى في العلاقة مع الأنثروبولوجيا وفكرتها عن الثقافة، وهذا التغير في الموقف من الأنثروبولوجيا كان مؤثراً في تحريك وتطور مفهوم الثقافة.

وحين يحاول سيرج لاتوش نقد المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة، يرى أن الثقافة في المجتمعات السابقة للعالم الحديث تغطي كافة جوانب نشاط الإنسان؛ لأن هذه المجتمعات حسب رأيه تجهل تماماً ما الاقتصاد، وتجعل من المجال الاقتصادي منتظماً في الكل الثقافي، ويكون صنواً لهذه الاستجابة الشاملة لتحدي الكينونة(36).

وقد فتحت هذه الإشكالية مجال المقارنة بين الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، وفي سعي لتحديد صورة المجتمع الذي يتواصل معه كل علم من هذين العلمين. فعندما صنفت الأنثروبولوجيا على مجال المجتمعات البدائية، صنف علم الاجتماع على المجتمعات الحديثة. ولهذا يرى توماس إليوت أن الأنثروبولوجيا إذا حاولت النظر إلى المجتمعات التي بلغت درجة عالية من النمو كالذي وصلت إليه المجتمعات المعاصرة، فعلينا حسب قوله أن ندخل الأنثروبولوجيا في علم الاجتماع. والفارق في مجال الدراسة بين الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع حسب رؤية أبي زيد أن الأنثروبولوجيا تكرِّس معظم اهتمامها للمجتمعات البدائية، وحين يتكلم الناس عن علم الاجتماع فإنهم يعنون به على العموم دراسة مشكلات أو مسائل معينة في المجتمعات المتحضرة(37).

ثالثاً: لقد ربطت الأنثروبولوجيا الثقافة بسياسات ومشاريع سياسية متحيزة وتوظيفية، وذلك حين خضعت الأنثروبولوجيا إلى معامل النظام الاستعماري، وأصبحت العلم المفضَّل للدراسة الحقلية، وللتحكم في إدارة وتوجيه المجتمعات المستعمرة، وكيفية التأثير فيها، وتحويلها إلى مجتمعات تابعة، ومستوطنات هامشية، ومدارات حزينة. لهذا فقد كانت الأنثروبولوجيا العلم الذي حاول السيطرة على الثقافة وضبطها، وتحويلها إلى منهجيات من أجل تكوين المعرفة بالمجتمعات الخاضعة تحت هيمنة القوى الاستعمارية، والكشف عن أسرار هذه المجتمعات، وتفكيك النظم الاجتماعية فيها، وتحليل تصوراتها وعقائدها وأساطيرها وفنونها. وجميع هذه المهام كانت توظف بشكل أساسي لضرورات ومقتضيات النظام الاستعماري، وليس لضرورات ومقتضيات تلك المجتمعات المستعمرة؛ لأن من يقوم بهذه المهام هم باحثون أو إداريون ينتمون إلى مجتمعات النظام الاستعماري، ولا يمتون بصلة لمجتمعات الدراسات الحقلية. وغالباً ما يكون هؤلاء مكلفون إما مباشرة من الإدارات الاستعمارية، وإما عن طريق جامعات ومعاهد مرتبطة بتلك الإدارات الاستعمارية.

وبهذه النشاطات والغايات تكون الأنثروبولوجيا قد ساهمت في تجريد الثقافة من مكوناتها الأخلاقية، وجعلتها تحت هيمنة السياسة.

وإذا كان هناك من يجادل في هذا النقد، فهذا الجدل ممكن لوجود استثناءات خارجة عن ذلك النسق المنهجي، ولا يفترض من هذه الاستثناءات أن تشكك في صحة ذلك النقد الذي يأخذ بجانب الكثرة الغالبة، وليس القلة الاستثنائية.

رابعاً: لقد تعاملت الأنثروبولوجيا مع المجتمعات التي قامت بدراستها ووصفتها بالبدائية، وكأن هذه المجتمعات أشبه ما يكون بمختبرات بشرية كغيرها من المختبرات الأخرى التي توظف للدراسة والبحث والتحليل، ولاختبار وتجريب فرضيات ونظريات، وأعطيت هذه العملية تسمية الدراسة الحقلية. التسمية التي تفضح طبيعة الدور الذي تنهض به الأنثروبولوجيا وكأنها تتعامل مع طبيعة مختلفة من البشر، أو مع نوع من البشر أقل درجة من الآخرين، الذين يصلحون أن يجرب عليهم الدراسة الحقلية بوصفهم بدائيين، أو أنهم غرباء عن الآخرين، أو أنهم أشبه ما يكونون بالكائنات الطبيعية غير البشر، وحين يصوّر جيمس كليفور -الذي يصفه كاريزرس بمؤرخ علم الأنثروبولوجيا- الثقافة في تلك المجتمعات يَعدُّها كما لو أنها من الأنواع الطبيعية، شأنها شأن تصورنا -حسب قول كليفور- لكيانات العالم الطبيعي، مثل أنواع النبات، وأنواع الحيوانات وأنواع المعادن بوصفها أنواع طبيعية(38).

لهذا يمكن وصف النظرة الثقافية التي شكلتها الأنثروبولوجيا عن المجتمعات البدائية، على أنها نظرة متعالية وفوقية، وتنتهي إلى تأكيد وجود مجتمعات بدائية، ومجتمعات أخرى متقدمة.

لهذا فإن أمام الأنثروبولوجيا مهمة أخلاقية هي تغيير مثل هذه السمعة.

الهوامش:

(1) انظر كتاب: لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟.. الثقافة البشرية نشأتها وتنوعيها، مايكل كاريزرس، ترجمة: شوقي جلال، الكويت، المجلس الوطني للثقافة، 1998م، ص ص 37 – 42.

(2) انظر كتاب: محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، الدكتور أحمد أبو زيد، بيروت: دار النهضة العربية، 1978م، ص ص 38 – 40.

(3) المصدر نفسه، ص34.

(4) المصدر نفسه، ص7.

(5) المصدر نفسه، ص40.

(6) لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ مصدر سابق، ص37.

(7) المصدر نفسه، 93.

(8) محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، مصدر سابق، ص33.

(9) انظر كتاب: الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، لويس دوللو، ص33.

(10) انظر كتاب: المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، بيروت: دار التعارف، 1985م، ص59.

(11) محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، ص42.

(12) المصدر نفسه، ص40.

(13) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، توماس إليوت، ص171.

(14) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، ص35.

(15) المصدر نفسه، ص34.

(16) محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، ص41.

(17) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، ص15.

(18) انظر كتاب: تغريب العالم، سيرج لاتوش، ترجمة: خليل كلفت، القاهرة، دار العالم الثالث، 1992م، ص44.

(19) فكرة الثقافة، ص8.

(20) محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، ص62.

(21) الحضارة الثقافة المدنية، نصر محمد عارف، ص20

(22) معالم على طريق تحديث الفكر العربي، معن زيادة، ص30.

(23) المدخل إلى الأنثروبولوجيا، الدكتور وسام العثمان، دمشق، الأهالي للطباعة، 2002م، ص23. نقلاً عن: Hoeble, E.A: The nature of crlture, In shapiro, H.L -ed- Man, cultureand Society, new york, 1960, P. 198..

(24) محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، ص79.

(25) المدخل إلى الأنثروبولوجيا، مصدر سابق، ص34.

(26) لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟، ص63.

(27) انظر كتاب: العرق والتاريخ، كلود ليفي شترواس، ترجمة: سليم حداد، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1988م، ص7 – 10.

(28) محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، ص57.

(29) المدخل إلى الأنثروبولوجيا، ص27. نقلاً عن كتاب: دراسات في علم الإنسان، حسن شحاته سعفان، القاهرة: دار النهضة العربية، 1973م.

(30) لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟، ص281.

(31) ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ص134.

(32) المصدر نفسه، ص153.

(33) لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟، ص143.

(34) محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، ص199.

(35) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، ص89.

(36) تغريب العالم، ص44.

(37) محاضرات في الأنثروبولوجيا الثقافية، ص17.

(38) لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟، ص 40

المصدر: مجلة الكلمة، العدد (44) – السنة الحادية عشرة – صيف 2004م- 1425هـ

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.