عبدالرحمن بن عبدالله الشقير
يعتبر الشارب واللحية رمزان كثيفا الدلالة في ثقافات الشعوب، لا سيما في الشرق، حيث امتدت دلالاتهما إلى مفاهيم الرجولة والهيبة والشرف والالتزام، وتحوّلت إلى معانٍ رمزية تعكس هوية الفرد ومكانته الاجتماعية، حتى بات حلق الشارب أو إطلاق اللحية يشير إلى مواقف فكرية أو دينية أو اجتماعية. ويعتبر الشارب واللحية مدخلاً لفهم منظومة معقدة من القيم والسلوكيات والعلاقات بين الأفراد والجماعات.
وقد أنتجت هذه الدلالات تراثًا غنيًا ومتنوعًا من الفقه والأدب والتراث الشعبي، شكّل منبعًا خصبًا لتحليل التحولات الاجتماعية والثقافية بين الأجيال.
فالرموز التي حملها الشارب واللحية في الماضي لم تعد تُقرأ بالطريقة ذاتها في الحاضر؛ إذ تغيرت الأذواق، وتبدلت أنماط التفكير، وتعددت مصادر تشكيلها، وصار من الممكن أن تُعبّر هذه العلامات ذاتها عن معانٍ معاكسة تمامًا لما كانت تدل عليه من قبل.
وتظهر فروق الهوية الذاتية بين الأجيال بوضوح بين جيل يرى في اللحية التزامًا دينيًا، وآخر يتعامل معها كموضة عصرية. ومن هنا تنكشف أبعاد جديدة لفهم الهوية الذكورية المتخيلة في عالم متحوّل.
الشارب واللحية في ثقافة الشرق
تُمثّل اللحية والشارب، ويسمى شعبيًا “شنب” ثنائية رمزية ذات امتداد تاريخي طويل، تجسّد صراعًا ناعمًا بين دلالتين متمايزتين هما: الشارب بوصفه رمزًا للسلطة والهيمنة، واللحية كعلامة على الحكمة والعمق الفلسفي.
احتل الشارب موقعًا مركزيًا في ثقافات عدّة، إذ اقترن بصورة الرجل القوي صاحب القرار، تميز به العديد من الشخصيات التاريخية مثل أدولف هتلر وجوزيف ستالين.
وفي المقابل ارتبطت اللحية بالفلاسفة والمفكرين مثل كارل ماركس وإميل دوركايم، وفيودور دوستويفسكي، باعتبارها علامة تمايز وجودي وفكري، وشكلًا من أشكال التعبير عن التفرد الذكوري في فضاء فكري ظل لعقود طويلة يُحتكر من قِبل الرجال.
كما شكل الشارب واللحية في ثقافة الشرق جزءًا من الهوية الثقافية والاجتماعية للرجل. غير أن هذه الرموز لم تبق على حالها؛ فقد تعرضت لتحولات سيميائية أو دلالات رمزية عبر الأجيال، وتغيرت معها دلالاتها ووظيفتها في المجتمع.
ومن الملاحظ أن الإعلام، عبر المسلسلات والأفلام التاريخية، قد أسهم في ترسيخ صورة ذهنية نمطية لرجال الجاهلية وشخصيات إسلامية، تصورهم بلحى كثة وشعر غزير ينسدل من تحت عمامة، وكأنهم خرجوا من غياهب الكهوف، متناسين أن العرب في الجاهلية عرفوا أدوات الزينة الرجالية وأدوات الحلاقة والعناية بتزيين شعر الوجه وتهذيبه وصبغه أو قصه وحلاقته.
لقد كانت اللحية عند العرب وعند الشعوب السامية رمزًا للرجولة وزينتها، وعلامة على التقدير والإجلال، وكان تقبيلها من مظاهر الاحترام، في حين عُدّ نتفها أو حلقها إهانة لا تُغتفر[1].
وتغيرت الصورة الذهنية للحية في العصر العباسي؛ حيث ارتبطت اللحية الطويلة بالحمق، بسبب فرط إطالتها بلا مبرر، يقول شاعر:
ومقدار نقص الفتى عندنا بمقدار ما زاد من لحيته
ومن هذا المنظور، فإن الصورة الذهنية للحية والشارب أصبحت وسيلة لفهم التحولات العميقة في نظرة المجتمع للرجل ومكانته.
عرفت شعوب الأتراك والشام والعراق بتطويل الشوارب وفتلها والقسم عليها، بوصفها من أغلى ما يملك الرجل. وفي السعودية قد يوصف رجل المروءة والمواقف الصلبة في الثمانينيات بأنه “شنب”، واستبدلت الآن بكلمة “قادح”، وكلاهما تعني العزم على اتخاذ موقف حاسم بقوة.
الشارب واللحية في الثقافة الشعبية
يُعد الشارب واللحية عنصرين محوريين في التراث الثقافي الشعبي العربي، إذ إن لهما دورًا بارزًا في تشكيل صورة الذكورة والهيبة الاجتماعية. ويتجلى هذا الدور في الأمثال والأشعار الشعبية التي أولت الشارب مكانة رمزية عالية، حتى أصبح بعض الأفراد يرون فيه تعويضًا عن مظاهر الرجولة التي قد يفتقدونها.
وقد أفرز التراث الشعبي أمثلة عديدة تؤكد هذه الرمزية، من بينها:
– “أعز من شعر اللحى”[2]، و”أغلى من شعر اللحى”[3]، في دلالة على القيمة العالية للرجولة ومكانة الرجل في المجتمع.
– “إذا شفت الرجال يلعبون بلحاهم العب بلحيتك”[4]، يضرب لإمكانية الخروج عن قواعد المجتمع في حال شيوعها بين الآخرين.
– “إن رفعتها في الشارب وان طمنتها في اللحية”[5]، وهو وصف للمواقف التي تكون خياراتها غير مرغوبة، وفيه تشبيه برمية البندق.
– “شنب يقف عليه الصقر”، يرمز إلى القوة والثبات.
– “خذها من هذا الشارب”، مع الإمساك بطرفه، رمز للوفاء بالوعد والالتزام.
– “احلق شنبي إذا صار كذا”، يستخدم كرهان يحمل تهديديًا بالتخلي عن كرامة الرجولة في حال فشل المتحدث.
– “ونعم الشارب”، مدح وثناء على مروءة الرجل ونخوته.
– “وشو من لحية؟”، سؤال استفهامي عن مستوى مروءته أو مكانته.
ويظهر من محتوى الأمثال والعبارات الجاهزة تكثيف معاني التكريم والإهانة في الشارب واللحية.
ولقد مرت رمزية الشارب واللحية بتحولات عديدة تبعًا للمتغيرات الاجتماعية، ففي المجتمع السعودي على سبيل المثال، كانت اللحية تُختصر غالبًا في شكل “السكسوكة”، وهي لحية خفيفة ومحدودة تتركز في الذقن، وهو ما يعكس دلالة مغايرة لما كانت عليه في مراحل سابقة من التاريخ الشعبي.
تأثير الفتوى على الشارب واللحية
الغالب على لحى رجال الدين وكبار السن في المجتمع السعودي أن تكون إلى أول الخد أو منتصفه؛ حيث أنهم لا يرون أن شعر الخد من اللحية، وعلى هذا كانت الفتوى حتى أواخر السبعينيات.
أما ظاهرة إعفاء اللحية وتركها تطول وتغطيتها للخد حتى التصاقها بالشعر، فهي من الثقافات الدخيلة، وليست من سمت رجال الدين في المجتمع السعودي، وبذلك تكون دخلت نتيجة إما لتعاليم الصحوة الدينية وانتشار الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، أو أنها ثقافة قادمة من أفغانستان وباكستان بعد الاحتكاك الكبير أثناء مشاركة السعوديين في حرب أفغانستان.
وفي المقابل يوجد تراث ديني مناهض للشارب وداعم للحية، وارتبطت الصورة الذهنية للحية في المجتمع في زمن الصحوة الدينية بقيم: الامتثال للشرع، ومخالفة اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والوقار والتدين والعلم الشرعي والورع والزهد والثقة والموضوعية والنبل والتسامح والقوة في الحق.
وصار إعفاء اللحية مجالاً واسعًا للنفاق والاختراق الديني لعدم كلفته مع ما يحققه من مكاسب اجتماعية واقتصادية سريعة ومضمونة، وقد استخدمت بشكل سيئ من قبل البعض، وساعدهم على ذلك سرعة تقبل المجتمع المتدين لهم وتكثيف معاني الثقة والعلم والزهد في اللحية، والدفاع عن مبدأ إعفاء اللحية بحديث “هلّا شققت عن قلبه”، وتحولت اللحية بذلك إلى قوة رمزية وأداة للسيطرة.
وصدر مؤلفات كثيرة وفتاوى دائمة حول حكم إعفاء اللحية والتحذير من حلقها، حتى أصبحت اللحية تشكل خطابًا ثقافيًا دينيًا.
وتُظهر المتون الفقهية الكلاسيكية في بعض المدارس الإسلامية موقفًا صارمًا تجاه اللحية، حيث عُدّ إعفاؤها من سمات الالتزام الديني، وتُشدّد بعض الفتاوى على وجوبها إلى حد اعتبار حلقها منكرًا، بل يصل الخطاب أحيانًا إلى توصيف من يحلق لحيته بأوصاف قدحية تُضعف من مكانته الاجتماعية والشرعية، كاتهامه بالتشبّه بالنساء أو ردّ شهادته في بعض السياقات القضائية[6].
كما خصّ الفقهاء مسألة نتف لحية الرجل بعقوبة مالية تتمثل في “الدية”، ما يعكس أهميتها الرمزية والاجتماعية في تلك السياقات الثقافية والدينية.
ويوجد أكثر من ثلاثين كتاباً عن اللحية صدرت في المدة بين عامي 1980- 1995، مما يؤكد على أنها تحولت إلى علامة فارقة وتمايز بين فئات المجتمع، واختزل فيها معاني كبيرة وصورة ذهنية صريحة بالتدين.
في المقابل، يظهر الفقهاء تعامل مختلف تجاه المرأة، إذ اعتُبرت اللحية أو الشارب لدى النساء خللاً جمالياً أو خروجًا عن الصفات الجندرية المتوقعة، ويُستحب أو يُشرع إزالتهما.
تعكس هذه المواقف الفقهية تصورات مركبة حول الجسد والهوية والنوع الاجتماعي، كما تُبرز مدى ارتباط الرموز الجسدية كاللحية بمفاهيم أوسع تتعلق بالنظام القيمي والأخلاقي في المجتمعات التقليدية.
وترد مسألة حلق اللحية في الفتاوى أحياناً بحدودها وحكم قصها أو تشذيب أطرافها أو صبغها، وبحكم إمامة الحليق وتزويجه وقبول شهادته، ووصفه بالمخنث، مما يؤكد نفيه اجتماعيًا.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ساهمت بعض السياسات الأمنية والخطابات الإعلامية الغربية في ترسيخ صورة نمطية تربط بين اللحية والانتماء إلى جماعات متطرفة أو إرهابية، وانتقلت هذه الصورة إلى الفن.
هذا الربط كان انعكاسًا لمواقف أيديولوجية وعمليات تصنيف ثقافي قائمة على التبسيط والتمييز. وعلى الرغم من أن اللحية تمثل عند فئات واسعة من البشر علامة دينية أو تقليدية، إلا أن توظيفها كمؤشر أمني يُعد ممارسة إشكالية تنتقص من الفهم العميق للفوارق الثقافية والدينية بين الأفراد والمجتمعات.
من الالتزام إلى الموضة
مع تراجع الهيمنة الدينية على الفضاء العام وتزايد مستويات الوعي الفردي والاجتماعي، شهدت الرموز المرتبطة باللحية والشارب تحولات سيميائية (رمزية) سريعة ولافتة، أدت إلى انحسار كثافة المعاني القيمية التي كانت تُمنح لها تقليديًا مع تصاعد حضور الفرد كفاعل مستقل في تشكيل هويته.
أضحت اللحية في العديد من المجتمعات الحديثة، رمزًا من رموز الموضة ووسيلة من وسائل التعبير الجمالي الشخصي، يتفنن الشباب في تشكيلها وتنسيقها وفق أنماط مبتكرة تتجاوز الأطر القيمية التقليدية.
وبينما ما تزال تُستخدم في بعض السياقات كعلامة على الامتثال الديني أو الانتماء الثقافي، فإنها لم تعد تحتكر تلك الوظائف وحدها.
لقد تحولت اللحية من “شعيرة دينية” إلى “موضة بصرية”، ومن “علامة التزام” إلى “تفضيل جمالي”، تعكس طبيعة التحولات العميقة في علاقة الإنسان المعاصر برموزه، وموقع الهوية الذاتية في فضاء اجتماعي يعيد إنتاج دلالاته باستمرار.
ختام
تكتسب اللحية والشارب قيمتها الاجتماعية من المعاني التي تضفيها عليها الشعوب، أو تتأثر بالفتاوى الشرعية في المجتمع. وتتعرض جميع المعاني الشعبية والفتاوى الشرعية للتغير باستمرار.
فقد كانت مرجعية الشارب واللحية عادات المجتمع وقيم الرجولة، ثم أصبحت مرجعيتها دينية، ثم صارت مرجعيتها مشاهير الفن والرياضة العالميين.
وهي حكاية طويلة تؤكد على أن الأشياء تكتسب أهميتها وقيمها من تكثيف المعاني حولها، وأن تحول معانيها إلى حقائق مرهون بالجيل الذي نشأت فيه وليست حقيقة مطلقة؛ لأن الأجيال تأتي بقيمها وتكثف المعاني حول ما يخدم مصالحها.
مما يؤكد على أن المعاني تشكل ضغطًا اجتماعيًا كبيرًا مدعومًا بقوة إما بالعادات والتقاليد وتعاليم الدين، أو بالموضة والفن.
الهوامش
[1] جواد علي، المفصل، مرجع سابق، ج 4 ص 609
[2] عبدالكريم الجهيمان، الأمثال الشعبية، ج 1 ص 192
[3] عبدالكريم الجهيمان، الأمثال الشعبية، ج 1 ص 202
[4] عبدالكريم الجهيمان، الأمثال الشعبية، ج 1 ص 255
[5] عبدالكريم الجهيمان، الأمثال الشعبية، ج 1 ص 386
[6] محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، فتاوي ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، مكة المكرمة، ط 1ـ 1399، ج 2 ص 51، ج 12 ص 20.