نظرية الانتقال للفعل الإجرامي (ج2)

جمال معتوق

– الأهمية الجنائية لدراسة الانتقال للفعل:

إذا كان صحيحا، كما أكد إتيان دي جريف، أننا جميعا جانحون افتراضيون، فإن الانتقال للفعل هو وحده الذي يمكن أن يميز الجانح من عدمه. هذه الملاحظة صالحة من جميع الجوانب ووجهات النظر الاجرامية، لأنه حتى لو كان الجاني هو وحده من ينتقل للفعل، لماذا وكيف يتخطى هذه العتبة الخطيرة التي أمامها نجد الآخرين يحافظون على برودة دمهم وهدوئهم أو انهم لا يتعرضون للإغراءات؟ نحن هنا في صلب مشكلة نشوء علم الإجرام، وهي مسألة بالغة الأهمية لأنه إذا تمكنا من معرفة شروط الانتقال للفعل، فسيكون من الممكن تحديد أعراض الحالة الخطيرة، تلك الحزم من الاعراض التي تنبه عالم الاجرام إلى احتمال حدوث الجريمة، وإذا ذهبنا إلى أبعد من هذا، نجحنا في تفكيك الآلية التي تحول هذه الحالة الخطيرة إلى حالة جنائية، يمكننا إذا التدخل بأكثر فعالية لمنعها من النشاط”. [1]

نلاحظ من هذا الكلام أن كل الأفراد بإمكانهم أن يصبحوا مجرمين أو جانحين، فقط من يحدد من هو الجاني من عدمه، هو الانتقال من عدمه للفعل الاجرامي.

مهمة عالم الإجرام هي معرفة كيف ولماذا ينتقل البعض للفعل الإجرامي؟ ولماذا لا ينتقل البعض الآخر؟ وهذه الإشكاليات قد حيرت العديد من العلماء سواء في علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا وعلم الإجرام.

إن معرفة الكيفيات التي بفضلها يستطيع الفرد اجتياز عتبة عالم الجريمة هي وحدها التي ستسمح لهؤلاء العلماء بالتدخل والحد من الانتقال الفعلي والحقيقي للفعل الإجرامي.

شروط الانتقال للفعل:

1-المظاهر الخادعة للانتقال للفعل، غالبا ما تكون الجريمة مدهشة بسبب مفاجئتها وتفاهة الدوافع التي أدت إليها على الفور، رجل تخلت عنه عشيقته، يطلق النار عليها لأنها كانت تغني أو تنظر إليه بابتسامة معينة، الأب يقتل طفله لأنه يعاني من صداع شديد ولا يتحمل سماع صرخه. أحد المارة تصدمه سيارة، يخرج سكينا فجأة من جيبه ويضرب به السائق ويقتله. سائق السيارة يأخذ في الطريق مسافرة Une auto-Stoppeuse وبعد فترة يغتصبها. بعد جريمتهم، الواحد والآخر سيقولون بصدق: ” لا أعرف الذي أخذني فجأة، لم أعد اتحكم في نفسي. “[2]

في التراجبدية الكلاسيكية، المحصورة في اتفاقية الوحدات الثلاثة للزمان، والعمل والمكان، الجريمة تنحصر في هذا الوقت القصير، “في ذلك اليوم البغيض الذي حدثت فيه المجزرة كما كتب راسين Racine. لكن راسين لم ينخدع وكان يعرف جيدا أن “بعض الجرائم تسبق دائما الجرائم الكبرى” أو أن “يوما واحدا لا يجعل من المقتول الفاضل، القاتل الغادر والجبان المجرم”. القانون الجنائي مثل المسرح “يعزل المأساة من أجل دراستها في أنقى صورها، بالمعنى الذي يعزل فيه الكيميائي الجسد الطاهر”. إلا انه في الحياة اليومية المأساة ليست نقية -صفية-ودائمة الاستمرار. اللحظات المأساوية متقطعة، تقطعها فترات من النسيان بعدها تعاقب الأحداث. [3]

حسب نفس الباحثان: …. “الانتقال إلى الفعل ليس له سوى مظهر المفاجأة، إن الجريمة ليست سوى صبر طويل…”[4]

نفهم من هذا أن المظاهر خداعة ومغالطة فالبعض يعتقد بأن الجريمة أو الفعل الاجرامي قد حدث بسرعة فائقة ولأسباب تافهة، إلا انه في الحقيقة الجريمة هي فعل يقع بعد التخطيط والعمل على ترتيب كافة الإجراءات من طرف الجاني، واختيار الظروف البيئية المناسبة وكذا الضحية وهذا لنجاح فعلته وكذلك التقليل من التكلفة والمخاطر.

ولهذا يظهر لنا لأول وهلة أن الفعل الاجرامي وليد المفاجأة والسرعة في التنفيذ إلا أن هذا ليس دائما بالصحيح.

حسب العبارة السعيدة للسيد بيناتيل Pinatel: “الجريمة هي استجابة شخصية لموقف ما” لذلك، يتطلب العمل من حيث المبدأ وضع “الشخصية الإجرامية” في موقف إجرامي. ومع ذلك لا ينبغي أن نعمم. ليس من الضروري دائما تلبية هذين الشرطين غالبا ما يحدث أن تكون الفرصة وحدها وراء السارق: على سبيل المثال، الجاني المبتدأ، والذي نتيجة لظروف أو عوامل خاصة، يرتكب جنحة ما، قد لا يكون لديه عقلية إجرامية حقيقية. على العكس من ذلك، هناك حالات تسعى فيها الشخصية المهيئة للجريمة البحث وخلق الفرص التي تعرض عليها. “[5]

وكاستنتاج حول ما أسموه بالشخصية الإجراميةla personnalité criminelle، نجد الباحثين يقولان: “مهما يكن، في كلتا الحالتين، مجتمعة أو منفصلة، الشخصية الإجرامية والمواقف الإجرامية هما اللتان ينتجان ما يسمى بالحالة الخطيرةla situation dangereuse. “[6]

الشخصية الإجرامية من منظور نظرية الانتقال للفعل:

يقول كل من روجي ميرل وزميله فيتي: تؤدي التفسيرات البيولوجية، والاجتماعية الثقافية، او النفسية للانحراف إلى مفترق الطريق، والذي من خلاله تتقارب الطرق وتؤدي إلى إنسان يتمتع بشخصية… شخصية مكونة من تأثيرات شريرة متعددة، والتي قد قام بها علماء الإجرام بإحصاء مكوناتها. فالشخصية بعبارة أخرى هي المزاج، طريقة الوجود، والتفكير، والتصرف، ورد الفعل أمام الناس والأشياء، أي الأنا كما يقول علماء النفس. “[7]

وفيما يخص تنمية وإثراء الشخصية الإجرامية ترى نظرية الانتقال للفعل من عدمه، أنه إذا جاز التعبير، يتم إثرائها ببعد جديد عندما يتخذ الفرد الميل نحو الانتقال للفعل الإجرامي وذلك لكونه يصبح يتميز عن الآخرين بهذا العنصر الجديد وهو الانتقال للفعل والذي لا يستطيع عامة الناس الإقبال عليه.

– الانتقال للفعل الإجرامي هو بمثابة العنصر الحي والديناميكي الوحيد الذي يشترك فيه المجرمين.

وحسب دائما الباحث روجي مارل Roger Merle وزميله أندري فيتي André Vitu”…المرء يأتي إلى الجريمة من خلال مسارات متعددة ومتنوعة، ولكن كل أولئك الذين في نهاية المطاف، عبروا العتبة (Le seuil) الأخيرة لديهم سمة توحدهم وتكمل شخصيتهم الإجرامية، لذلك فإنه من المغري بالنسبة للعالم أن يبحث في أغوار ومكونات الشخصية الإجرامية…”[8]

بالنسبة للباحثين والمختصين في دراسة الجريمة والانحراف تعد دراسة الشخصية الإجرامية من المواضيع الرئيسية، وذلك لكونها تتميز عن باقي الشخصيات الأخرى بقدرة الجاني في تعدي وعبور العتبة النهائية للولوج إلى عالم الجريمة، وهذا عن طريق الانتقال للفعل.

وبالتالي كل المجرمين يتقاسمون هذه الخصائص والمتمثلة في القدرة على تحدي الممنوع l’ interditla capacité de défierوالانتقال للفعل الإجرامي، عكس الافراد المسالمين.

مكونات الشخصية الإجرامية:

النزعة الأنانية، والسقوطية، والعدوانية، اللامبالاة العاطفية، كل هذه الصفات أو الخصائص الأربعة الأساسية للشخصية التي تكمن وراء الانتقال للفعل.

إن الجانح أناني، فهو يميل إلى ربط كل شيء إلى نفسه والاعتقاد على أنه مركز الكون. يؤدي هذا إلى العديد من العواقب الهامة بالنسبة للانتقال إلى الفعل والتي أبرزها العالم دي جريف De Greeff جيدا. عند الحكم على مواقفه وفقا لمعاييره الشخصية يميل الجانح دائما إلى إضفاء الشرعية على خطئه” من خلال التنقيص من قيمة القوانين والرجال، من خلال إظهار لنفسه –إقناعها-أن النفاق عالمي، وعلى أنه أكثر صدقا من هؤلاء الذين سيحكمونه -يقاضونه-» لكنه في الوقت نفسه، يميل إلى الاعتقاد أو الشعور بأنه “عرضة للظلم” لأن مفهوم العدالة لا يتوقف أبدا: ” كل هؤلاء البشر يفسرون حياتهم ومواقفهم بالظلم والأخطاء التي كانوا عرضة لها، ضحاياها. ” هكذا يفسر وفقا للباحث بيناتيل Pinatel، الافتقار إلى الكبح الذي يظهرونه اتجاه الوصم الاجتماعي. [9]

كما أشرنا سابقا يلقى هؤلاء المجرمين والجانحين اللوم على المجتمع، اي على الآخرين من خلال نقد القانون الذي يرون فيه ظلم وإجحاف في حقهم وأن العدالة ليست في صالحهم بقدر ما تعمل على إظهارهم مذنبين. كذلك يعملون على نقد كل شيء ووصف الآخرين بالمنافقين، وأنهم هم فقط من لهم الحق. هذه التصرفات التي وقف عليها العديد من العلماء والباحثين والمهتمين بدراسة الشخصية الإجرامية.

ومن الصفات التي وقف عليها العديد من الباحثين، والخاصة بالشخصية الإجرامية نذكر:

– الجانح متقلب، وهو عرضة للسقوط -العود-والضعف عند أدنى صدمة، ونتيجة لذلك، لا يمكن أن يثنيه التهديد بعقوبة جنائية.

– لكنه أيضا عدواني وهذا ما يمكنه من تجاوز العقبات المادية والصعوبات التي يواجهها المشروع الإجرامي. يلخص بيناتيل Pinatel الأعمال المختلفة ويلفت الانتباه إلى أشكال وآليات هذه العدوانية (العدوانية الفسيولوجية أو المرضية أو النفسية أو النفسية الاجتماعية). [10]

– وأخيرا يعاني الجانح من اللامبالاة العاطفيىة، مما يجعله “أعمى وأصم” لما يترتب عن تنفيذ الجريمة من نتائج وخيمة. هذه اللامبالاة العاطفية يمكن أن تكون إما “تركيبة راسخة ومهيكلة للشخصية الإجرامية” أو كما بينه دي جريف De Greeff، مظهرا لسيرورة تطورية وانتقالية للكبت العاطفي أو فك الارتباط العاطفي. [11]

المواقف الإجرامية:

التمييز بين البيئة التنموية وبيئة الفعل:

عند دراسة العوامل الوسطية، يميز علماء الإجرام بين “البيئة التنموية” التي تؤثر في تكوين الشخصية وتطورها (الأسرة، المجموعات الاجتماعية، إلخ) و “بيئة الفعل” أي الوضعيات التي يتواجد فيها الجاني وقت ارتكابه الجريمة. إن بيئة الفعل هذه هي التي تلعب دورا مهما إلى حد ما في تحريك الانتقال للفعل. [12]

هذه بعض القضايا التي ارتأينا أن نشير إليها والتي رأينا بأنها هامة وتستحق الذكر، وهذا نظرا لشح الكتابات العربية حول هذه النظرية، لعل وعسى ان تساعد المهتمين بالدراسات الجنائية في الوقوف على أبعاد ومقومات هذه النظرية.

 

ملخص لأهم الأفكار التي نادي بها العالم دي جريف:

1-إن الطب النفسي الصافي (Pure)، لا يكفي لوحده لحل المشكلات الإجرامية، لأن الجانحين ليسوا في الأساس مجانين او غير طبيعيين عقليا، ما يجب أن يقدمه الطب النفسي قبل كل شيء لعلم الإجرام هو طريقته السريرية.

2-يوجد لدى كل إنسان عدد معين من “الوظائف غير القابلة للفساد” عمياء وغير مبالية بالخير والشر وهي تشمل الشعور بالمسؤولية الشخصية، والشعور بالعدالة، والشعور بالنظام. ترتبط هذه الوظائف غير القابلة للفساد حسب أفكار العالم جير P. Giuraud على الجهاز العصبي اللاإرادي -المستقل-(…) وهذا يعني الاندفاع الخالص والتلقائي: “عندما تكون حماية الفرد مهددة، وعليه يقول دي جريف: دماغنا البيني يقاتل دومًا. ” ويعلق هيسنارد Hesnard على كلام دي جريف فيقول: “لا شيء يمكن أن يمنعه -دماغنا البيني -من القيام بهذا -القتال-إنه يشتغل بداخلنا مثل سمكة القرش أو النمر. الوظائف غير القابلة للاختزال لا تتوقف أبدا”.

3-لدى الإنسان إمكانية بناء نظام من القيم قادر على أن يشل بشكل أو بآخر الوظائف غير القابلة للفساد عندما تؤدي هذه العادة إلى الفعل الإجرامي والتي تشيد ضدها حاجزا صلبا إلى حد ما.

4-إن الأمر الأساسي بالنسبة لعلم الجريمة هو فهم التطور الذي مر به الجانح والذي أدى به تدريجيا إلى فك الارتباط الكامل، إما فيما يتعلق بالمجتمع وقيمه أو فيما يتعلق بالضحية وحدها. هذه هي مشكلة التكوين الإجرامي. في هذا الاتجاه، فإن الشعور بالظلم المرتبط في كثير من الأحيان بماضي الطفولة هو عنصر بالغ الأهمية. على وجه الخصوص، فإن الطفل الذي عانى من الحرمان العاطفي لن يخضع أبدا مرة أخرى لقيمة خارجية بالنسبة له. لن يكون غير طبيعي نفسيا، بل غير طبيعي اجتماعيا. دي جريف De Greeff، إلى جانب فك الارتباط، درس أيضا الكبت العاطفي ذات السيرورة البطيئة والذي يسعى لكي يصبح ميزة أو خاصية مستقرة للشخصية.

5-من الضروري أيضا أن نأخذ بعين الاعتبار، أنه بالنسبة للعالم دي جريف، الحقيقة أن الجانح لا يعرف نفسه (يجهلها)، أو على الأقل يدرك فقط ما هو غير واعي (“الأنا”) وأنه في حد كبير سوى الأداة التي يستعملها الجزء اللاوعي inconscient عن نفسه. [13]

عرض لأراء جان شازال Jean chazel:

يعد جان شازال من كبار المنظرين في علم الإجرام وعلم النفس الجنائي، ولد سنة 1907 بمدينة بيي Puy، في فرنسا وتوفي في عام 1991.

ينتمي إلى أسرة كان الوالد يمارس مهنة القضاء. لقد سار جان على خطى أبيه حيث تقلد العديد من المسؤوليات في سلك القضاء ومنها “قاضي الأفراد” و “وكيل الجمهورية”. امتاز جان شازال بكونه رجل ميدان ومختص في قضايا الأطفال وجنوح الأحداث، له العديد من المؤلفات نذكر منها:

– Les enfants devant leurs juges, 1946.

– Etudes de crimonologie juvénile, 1952.

– L’Enfance délinquante, 1953.

– Les droits de l’enfant, 1959

– Les enfants et les adolescents Socialement inadaptés, 1958.

– Déconcertante Jeunesse, 1962.

– Les magistrats, 1978.

– Sous la direction de Jean Chazel : Education en milieu ouvert, 1982.

في هذا المبحث سوف نعرض أهم الأفكار التي احتواها كتابه جنوح الأحداث حول نظرية الانتقال للفعل الانحرافي والإجرامي.

مع الإشارة إلى أن الباحث ورجل القانون مختص في قضايا الأحداث والجنوح وقد طبق هذه النظرية في تفسير ظاهرة الجنوح عند هذه الفئة الاجتماعية.

فيما يخص نظرية الانتقال للفعل الإجرامي نجد الباحث “جان شازال” Jean Chazel في كتابه ”الطفولة الجانحة”، قد انطلق من هذه النظرية لتفسير كيف ينتقل الأحداث إلى الفعل الانحرافي. كما أنه قد استعرض الواقع الصعب الذي كان يعيشه هؤلاء الأحداث خاصة بعد الخروج من الحرب العالمية الثانية والتي تترتب عنها العديد من المشكلات الاجتماعية: التيتم لأعداد هائلة من الأطفال الأوربيين، التفكك الأسري، البطالة، سوء التغذية، السكن غير اللائق…إلخ.

كل هذا زاد في تعقيد وضعية هؤلاء الأفراد -الأحداث-والزج بهم في عالم الانحراف والجريمة.

وفي هذا السياق يبدأ شازال بالتساءل عن كيفية الانتقال إلى الفعل فيقول: “كيف يحصل بين الأولاد والمراهقين، الذين يوجههم محيطهم أو مميزاتهم الفردية العميقة نحو السلوك العدائي، أن يتحول بعضهم إلى منحرفين دون البعض الآخر؟”

مسألة الانتقال إلى الفعل “هذه دراستها مهمة وشيقة، لكنها تستوجب حذرا شديدًا. “[14]

نلاحظ أن تقريبا نفس السؤال المطروح هنا هو السؤال الذي سبق وأن طرحه مثلا العالم ترافيس هيرشي والمتمثل في “لماذا ينحرف أو يقبل على ممارسة الجريمة بعض الأفراد دون غيرهم؟” وهذا حتى يتمكن من الوقوف على أهم العوامل المساهمة أو الدافعة نحو الانحراف والجريمة.

يضيف شازال: “لا جدال، في أن العوامل الخارجية والداخلية التي نركز عليها انتباهنا، تصيب عمل وظائف المراقبة الذاتية. وهذه الوظائف يكف عملها تحت تأثيرات غريزية عنيفة، مفاجئة، أو تحت ضغط طاقة عصبية مكبوتة. وفي حالات أخرى تكون وظائف أخرى تكون وظائف المراقبة العليا-كوعي المواقف وإمكانيات الإرادة -تكون مصابة بعيب أو نقص، او جهل، أو تعطيل. ويأتي غياب المراقبة الذاتية في حالات أخرى عن سوء تكيف، أو خطأ في إعداد وتركيب القيم الأخلاقية، على صعيدي الوعي والانفعال. “[15]

نلاحظ هنا أن الباحث الفرنسي جان شازال يعترف بالدور الفعال لكل من العوامل الداخلية (العقلية والنفسية) وكذلك العوامل الخارجية (الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية…إلخ) في دفع الأفراد نحو الانحراف والجريمة، إلا أنه يركز خاصة على العوامكل السيكولوجية، كالإحباط Frustrations، وضعف الرقابة الذاتية Auto-contrôleللذات العليا من طرف الأفراد، وبالتالي كل هذا يعمل على جرهم نحو الفعل الانحرافي والاجرامي.

ولهذا نجده يقول: ” ونفهم إذن، أنه يحصل، أو لا يحصل، انتقال إلى فعل الجنوح بحسب ما تكون العوامل التي ذكرنا هنا بطرائق عملها الأساسية، عميقة أو بحسب انصهارها”. [16]

وعليه، فحسب شازال حالة الانتقال إلى الفعل Le passage à l’acte حالة غير طبيعية وغير عادية، بل إنها عظيمة من حيث نفسية المقبل على الفعل الانحرافي أو الاجرامي.

ولهذا فهو يصفها قائلا: “ثم إن الحالة الحيوية النفسية للفرد ساعة تصميم العمل الإجرامي، لعظيم الأهمية هي أيضا، فكم جنحة ارتكبت لأن فاعلها الفني قد كان في مرحلة من التعب، أو تبدد القوى، والحيوية المتدنية، أو اضطراب البلوغ”. [17]

ثم يواصل كلامه موضحا أسباب الانتقال للفعل الإنحرافي والنتائج المترتبة عنه فيقول: “لا نستطيع أن ندرس مسألةالانتقال إلى الفعل الجانح، دون ان نذكر النتائج التي تؤدي إليها أيضا، عند بعض الفتيان، ميولهم إلى الظهور والتعرية الأخلاقية، وحماسهم الخيالي، وتقبلهم لما يوحى لهم، وطيشهم المتلون بالخرافة والعبث. إنهم يتفككون من الواقع. ثم يعيشون شخصيات وعوالم خيالية، يقتلونها من بعد، بسهولة إلى الحيز الواقعي. إنهم يستسلمون لألوان التشرد، والانحراف التي تسكن خرافات عقولهم. وهم مجبرون أحيانا على الفعل – كما قد ذكرنا – كي لا يفضح اختلافهم أمام رفاقهم. “[18]

إن الانتقال للفعل هنا حسب شازال عند هؤلاء الأحداث يتم بدافع إما:

– التحدي للقوانين والمعايير.

– الظهور أمام الآخرين على أنهم لا يخشون شيئ.

– التهور.

– معاداة كل ما له صلة بالمنظومة الأخلاقية والعرفية.

– الحماس المتزايد.

– الطاعة العمياء لزعماء العصابات (قائد العصابة) وهذا كما بينه مثلا العالم تراتشر Thrasher في دراسته الشهيرة حول العصابة (العصبة).

– لا علاقة أو صلة لهم بالواقع، إنهم يعيشون في عالم خاص بهم.

– يسعون من خلال السلوكيات الانحرافية والإجرامية القيام بأدوار خاصة بشخصيات يعشقونها أو يقدسونها.

– يعيشون أقصى صور التشرد والضياع الاجتماعي.

– غالبا ما يكونون مجبرين على الانتقال للفعل الانحرافي أو الاجرامي وهذا مثلا لإرضاء شخص ما أو للبرهنة على أنهم قادرين على ممارسة هذا الفعل وذلك لنيل رضا كل أعضاء العصابة وزعيمها وبالتالي الالتحاق والانضمام لها.

ويشير جان شازال إلى أهمية المخالفة ونوعيتها والتي تحدد مدى الانتقال للفعل الانحرافي والاجرامي من عدمه وهذا ماسبق الإشارة إليه من طرف إتيان دي جراف Etienne De Greeff وغيره من أنصار هذه النظرية، فنجد شازال يصرح: ” ولنلاحظ أيضا أن الانتقال إلى الفعل من عدم يتوقف غالبا على أهمية المخالفة، إن عددا كبيرا من الأولاد الذي يرتكبون جنحا صغيرة لا يرتكبون جرائم مطلقا. إذ يوجد بالنسبة إليهم في مستويات الانحراف، حدود لا يتجاوزونها، فهم يستردون شيئا من المراقبة الذاتية أمام خطورة العمل الإجرامي، فيعون ما ينتج عن مثل هذا العمل من أضرار فادحة لهم ولضحاياهم”. [19]

نشير هنا إلى اننا لا نشاطر شازال فيما يخص تصريحه المطلق والخاص بطبيعة الجنح والقول بأن الذين يرتكبون جنحا صغيرة لا يرتكبون جرائم مطلقا، هذا غير صحيح حيث قد بينته العديد من النظريات في ميدان علم الجريمة، وعلم الاجتماع الجنائي، وبالخصوص منها نظرية النوافذ المكسرة La théorie de Vitres bisées، والتي جاء فيها أن عدم الاهتمام بالجرائم، او الانحرافات الصغيرة والبسيطة، قد يتولد عنه مشكلات او جرائم خطيرة في المستقبل.

إلا أننا لا ننكر بأن هناك ما يسمى بالإقلاع عن الانحراف والجريمة، خاصة بالنسبة للذين قاموا بانحرافات أو جرائم صغيرة، غير الهامة أو المعتبرة.

وحول نفس الفكرة المتعلقة بعملية الانحراف والجريمة، نجد شازال يقدم المبررات والأمثلة التالية، حيث يقول: ” وإن يكن الوسط لا يهيء هؤلاء لرفض السرقة البسيطة، فهم مكيفون بشكل واف لرفض الاعتداء الاجرامي. ويجب أن نثير أخيرا نوع نزعاتهم إلى التضحية. إن ما يحملونه للإنسان من ود يمكن أن يمنعهم من ارتكاب بعض الأفعال. فهم ينشلون محفظة لكنهم لا يعتدون على حياة الآخرين. وهم يختارون ضحايا سرقاتهم، فهناك “الأسياد المتأنقون” وهناك “البسطاء الفقراء” الذين لا يعتدون عليهم أبدا”. [20]

وفيما يخص الامتناع أو الرفض على ارتكاب الفعل أو الانتقال للفعل الانحرافي والاجرامي نجد نفس الباحث يقول: ” وهناك بعض الظروف المحيطة التي تساعد الفاعل – حين تظهر – على رفض ارتكاب الفعل، إذ تسمح له باستعادة توازنه النفسي الحيوي، ومن هذا القبيل، جو يصير متناغما، أو صداقة تبرز أو مهنة جذابة، أو فرصة لتأكيد الذات، أو إخلاصا لحب، لاحقا، وظروف سعيدة أخرى كثيرة. “[21]

وتعليقا على هذا الكلام الخير نقول بأنها نفس المؤشرات او العوامل التي تأكد منها العالم هيرشي Hirshi في دراسته الميدانية حول جنوح الأحداث بالولايات المتحدة الأمريكية والتي أعلن عنها في نظريته الشهيرة بالضبط الاجتماعي –الروابط الاجتماعية-حيث يقول كلما يكون الفرد مرتبطا مع أفراد مجتمعه من خلال الدراسة والنجاح فيها، العمل، تجمعه علاقات صداقة مع الآخرين، علاقات عاطفية…إلخ، كل هذا يمنعه من الانتقال إلى الفعل الانحرافي والاجرامي ضد الذين تربطه معهم روابط اجتماعية قوية.

يقول كذلك الباحث جان شازال: ” وهناك بالمقابل ظروف تساعد على الانتقال إلى تنفيذ الفعل –ويضرب لنا مثلا – إن الطفل الذي يهيئه محيطه، أو اضطراباته النفسية، ليكون جانحا، يمكن أن يجد نفسه على احتكاك بظرف من الظروف التي تشكل بالنسبة له شحنة حقيقية من الإثارة الانفعالية، فتقع في الاتجاه نفسه لميوله وغرائزه، وتتجه إلى الالتقاء بها. ومن هذا الالتقاء يولد فعل الجنوح. فسكين في متناول يد ولد عنيف، وإذا بالاعتداء الجرمي قد ارتكب. وخواتم وحلي في مكان عرض سهل، وإذا بمراهقة ساعية للمتعة، لا تتمكن من مقاومة جاذبيتها. وملاحظة تعطى بشكل تنقصه البراعة في معرض نقاش ما، تكون كافية لهروب صبي في حالة مواجهة مع عائلته. “[22]

رغم أن المنطلقات الأولى لهذه النظرية ذات بعد نفسي محض، إلا ان العديد من العلماء قد استفادوا منها واتضح أن كل النظريات مهما كانت طبيعتها تدور حول ما سمي بالانتقال للفعل passage à l’acte ولكن العوامل الضاغطة والدافعة للانتقال من عدمه تختلف من نظرية لأخرى.

 

الهوامش

[1]-Roger Merle et André Vitu: Extrait du traité de droit criminiel” in https: //ledroitcriminel. fr/la science criminelle/Penalistes/introduction/merle consulté le 10/02/2019.

[2]-Ibid، même article، même site، même date de consultation.

[3]-Ibid, même article, même site, même date de consultation.

[4]– Ibid, même article, même site, même date de consultation.

[5]– Ibid, même article, même site, même date de consultation.

[6]-Ibid, même article, même site, même date de consultation.

[7]– Ibid، même article، même site، même date de consultation.

[8]-Ibid, même article, même site, même date de consultation.

[9]-Ibid, même article, même site, même date de consultation.

[10]-Ibid, même article, même site, même date de consultation.

2-Ibid, même article, même site, même date de consultation.

3-Ibid, même article, même site, même date de consultation.

[13]– Quepourledroit. e – monsite. com/pages/ reflexion-sur- thémes/le passage à l’acte. Consulté le 12/10/2019.

[14]-جان شازال، الطفولة الجانحة، ترجمة أنطوان عبده، ط2، منشورات عويدات بيروت -باريس، 1980، ص. 65

[15]-نفس المرجع، ص. 65.

[16]-نفس المرجع ص. ص. 65، 66.

[17]-نفس المرجع، ص. 66

[18]-نفس المرجع، ص. 66

[19]-نفس المرجع، ص. ص. 66، 67.

[20]-نفس المرجع، ص. 67

[21]-نفس المرجع، ص. 67

[22]نفس المرجع، ص. ص. 67، 68

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.