الكتابة في الفن.. تنسجُ ثقافتنا البصريّة؟
د. إيمان طهّاري
تعدّ الكتابة في الفن ركيزة من الركائز الأساسيّة التي تقوم عليها المنظومة الفنيّة، لتأثيرها البالغ على الفنون التشكيلية، خاصّة وأنّها تلعب دور الوصف والتحليل والتفسير والتقييم والتقويم والتأويل وما إلى ذلك من أفعال تحاول تقديم الإبداعات التشكيليّة والتجارب الفنيّة ككل ومحيطها العام وتبرز أهمّ سماتها. وإن اختلفت صياغاتها وتمثّلاتها بين نقد أو استيطيقا وفلسفة فن أو تاريخ فن أو علم دلالة أو كتابات مصاحبة للنّصوص التشكيليّة وغيرها، وتنوّعت انتماءات الذوات الممارسة لها وهويّتهم، تتّحد في ما بينها في ارتباطها بالعمل التشكيلي الذي يكون نقطة بداية العمليّة النّظريّة والمؤسس للمفاهيم والمعاني التي نتوق باستمرار لتلمّسها وهي تتجدّد وتتبدّل مع كلّ تجربة إبداعيّة ومع كلّ عمل فنيّ، مع كلّ فنّان أو اتّجاه أو قضيّة فنيّة، فتستنطق الدّلالات وتفسّر الإشارات، في سجلّ هدفه الوصول إلى ما وراء الأشياء لتصوير المشهد الفني.
تكون اللّغة في هذا الشأن، أداة وآليّة جوهريّة وأساس الكتابة النظريّة الفنيّة “لأنّه ما من خطاب إلاّ وتكون اللّغة جسده وما من نصّ إلاّ ويمكن عدّه إنجازا لغويّا بمعنى من المعاني أكان شعريّا أم فلسفيّا أم علميّا“.[1] بحيث، ينبني الخطاب الفني في هذا الشأن من خلال لغة لها مفاتيحها النظاميّة وآليّاتها الإجرائيّة وتراكيبها وعلاماتها الجماليّة التي تحدّد خطابها. واقع يتطلّب تفاعليّة نشيطة مع علم اللّسانيّات والعلامات من أجل تركيز منهج لغويّ متكامل الأطراف، قادر على مجابهة الرموز التصويريّة والأشكال التّعبيريّة والخطاب الفنيّ التشكيلي عامّة. وهو ما يعني بأن لا يكتفي المنظّر في عمليّة الكتابة وتفسيره للظّواهر الفنيّة، بعلامات الخطاب الأدبي التي تعتبر منطلق الكتابة الإبداعيّة والتواصليّة، بقدر ما يعمل على التنسيق بينها وبين اللّسانيّات وعلم العلامات وعلم الفنّ التشكيلي، الذي سيساعد حسن التعامل معها وتوظيفها وبلورتها، في تحديد بؤرة الفعل الجمالي في كلّ تجربة فنية وإبداعيّة.
تعدّ اللّغة في هذا الإطار بخصائصها وتراكيبها وسيطا إنشائيّا وتواصليّا، يتجاوز حدود الإبلاغ لكي يأتي على الإثارة، عندما يتجاوز الخطاب مستوى الإخبار والإعلام ليهتمّ بالجانب التأثيري والجمالي، في ازدواجيّة إنشائيّة ووظيفيّة طريفة يكون فيها الكلام وسيطا لنقل المحتوى الدّلالي الذي لا يقف عند هذه الحدود التواصليّة بقدر ما ينشد الجانب التأثيري الذي يحرّك سواكن المتلقّي للانفعال والتفاعل مع ذلك الخطاب النظري الموجّه إليه. من ثمّة، نجد أنفسنا إزاء خطاب لغويّ مركّب يكرّس في ذات الحين الصّياغة التّعبيريّة التي تتعلّق بالجانب المادّي والحسّي للحدث اللّغوي، والصّياغة الدّلاليّة المجرّدة التي تشمل الجانب الذهني التجريدي المُتمثّل من وراء تلك التراكيب اللّفظيّة المجسّدة، في جانب يتحمّل فيه الكاتب وصانع اللّغة النظريّة دورا رياديّا في مستوى وضع الكلام وتركيب الأدوات اللّغويّة تركيبا بعيدا كلّ البعد عن الصدفويّة والاعتباطيّة في البناء والأداء.
في هذا المستوى، يتّضح لنا جليّا بكون اللّغة هي بداية كل فعل إنشائي في جميع ميادين العلوم، وهو أمر بديهيّ بما أنّها الوسيط المباشر لنقل الأفكار والمناهج الإيديولوجيّة التي تمرّ من الفكر المجرّد الكامن في أذهان الذّوات إلى الواقع الملموس عبر أدواتها ومناهجها. يكون لها على هذا النّحو مسؤوليّة كبرى لكونها بداية ممارسة الفعل النظري، الذي يفترض قدرا معيّنا من الكياسة والوجاهة في الكتابة، التي تشترط بدورها تمكّنا وحذقا للدّلالات اللّغويّة المميّزة للحقل الإبداعي التشكيلي والتّنظير الفنيّ. فليس كلّ ما يقال يمكن أن يقال عن الإبداع الذّي يتحدّد وفق نظم وخصائص ومعايير لغويّة مضبوطة، تتجاوز كلّ أشكال الكتابات العرضيّة واللّغة السّقيمة التي لا تمتّ للإبداع بأيّة صلة، وكما جاء في بعض اتّجاهات الألسنيّة “أنّ لكلّ لغة بنيتها ونظمتها الدّاخليّة التي تفرض نمطا معيّنا من التفكير. بمعنى آخر الدّخول إلى لغة ما يعني الدّخول إلى عالم خاصّ، له بناؤه الخاصّ ونظمته الخاصّة وأولياته الفكريّة الخاصّة“،[2] نظم في حدّ ذاتها غير جامدة ومسلّمة بالحقائق المطلقة بقدر ما هي قابلة للتّجديد والتبدّل والتحوّل بحسب ما تفرضه مقتضيات الزّمن وخصوصيّاته، كما بيّنت ذلك “منى فيّاض”: “افترضت الألسنيّة لعبة اللاّوعي الجماعيّة منذ اللّحظة التي قاربت فيها اشتقاق اللّغات، حيث بيّنت انتظام التحوّلات في الأصوات والمعاني: يطبع تعدّد المتكلّمين بعد مدّة اتّجاهات جديدة –بسبب التعابير المستخدمة من قبلهم. ولا توجد سلطة لغويّة مسؤولة عن الطّريقة التي يتغيّر فيها التّعبير أو الكتابة، لكن هذه الأخيرة لا تتطوّر بشكل سديمي (Chaotique): إنّ منطق الاتّصال ينصّ التحوّلات“.[3] حذق اللّغة ههنا، بدلالاتها التركيبيّة ومعاييرها الفنيّة، من الركائز الأوّليّة والجوهريّة في العمليّة التنظيريّة التي لا بدّ من التفطّن لها وإدراك ميكانيزماتها والوقوف عند أهمّيتها قبل الشّروع في الفعل النّظري. لذلك رأى “والتر بنجامين” (W. Benjamin) في التنظير قوّة، وهي قوّة استمدّها هذا الأخير من قوّة اللّغة في حدّ ذاتها المرتبطة بملكة العقل المكرّس لمنطق الحكم والتأمّل والملاحظة والاتّصال، وفي ذلك عمل جادّ يرى فيه “بنجامين” عبقريّة وسحرا متأتّ عن سحر اللّغة.
في الكتابة مسؤوليّة كبرى من شأن حذقها أن يكسب خطاب الذّات المعرفي شرعيّة منهجيّة يتقيّد فيها بالحدود والمقوّمات البنيويّة للنصّ، كما من شأنها أن تكون مجرّد معطى لغوي عام يلمس الجانب الإبداعي في جزء من خصوصيّاته أو يحيد عنه تماما، عندما ينحرف خطابه عن المبادئ اللغوية والدّلاليّة الجماليّة والفنيّة المتّصلة بالإبداع. هي بالتالي حقائق ثابتة جعلت من بعض دارسي نظريات اللّغة والجمال في التّنظير العربي، يرون انتفاءً لأثر اللّغة وإمكانيّاتها في مكامن الكلمات والصّياغات، إلى درجة ضعفت فيها الدّلالات وفاعليّة الكلمات، مأتاها إجمال أو إهمال، أو سوء فهم وتقدير تجاوزت الخصوصيّات الدّقيقة في كيفيّات إنشائيّة الخطاب الجمالي. وهي من الآراء التي وجدت عديد المآزق في التركيب اللّغوي الذي قلّ ما اهتم ببنية العبارات وتفاصيل معانيها، ليكون الهاجس الأكبر من اللّغة ذلك الجانب الذي يرى فيها وسيطا يفعّل النشاط المعرفي ومعبّرا عن هواجس الذوات الفكريّة الذي ينتفي فيه في عديد الأحيان المعنى الحقيقي المراد إبلاغه، لتعلاّت اصطلاحيّة ومنهجيّة بالأساس.
يبدو وأنّنا إزاء واقعين إثنين يقرّ أوّلهما بأهميّة تركيب خطاب لغوي سليم ومختصّ وممنهج في الكتابة حول الفن والوقوف عند تفاصيله بما يتماشى مع متطلّبات هذا الفن، وثانيهما بكون هذا الواقع وعلى أهمّيته البالغة، لم يجد اهتماما كبيرا من الكتّاب والمنظّرين العرب سوى كونه وسيطا في التعبير عن أفكارهم وأداة لتحويلها إلى مدلولات لغويّة دون البحث في البنى والتفاصيل والتّراكيب واللّغة التي يختصّ بها المجال الإبداعي. هو رأي لا نتبنّاه بقدر ما ننقله على الملء ليكون موقفا من بين مواقف متعدّدة يرى جمود لغة الكتابة التشكيليّة العربيّة وعدم حركيّتها، رغم ما تقدّمه من مزايا لا حصر لها ومن إمكانات دلاليّة من شأنها التأثير على الواقع النّظري وبشدّة.
يتطلّب الحديث عن كتابة نظريّة فنيّة، قواعد وآليّات إجرائيّة محدّدة في الممارسة، تكون اللغة إحدى أبرز مقوّماتها وسبلها. هي مسؤوليّة تحمل على عاتق الدّارسين المتخصّصين في العلوم النّظريّة والمسؤولين على وضع اللّبنات الأولى في الدّراسة الجماليّة. فهل شملت هذه الخصوصيّات واقع الكتابة في الفنّ العربي على وجه التّحديد؟ يبدو هذا السّؤال من ضمن عدّة استفهامات مطروحة، خاصّة في ظلّ وضع لم تكن فيه المدارس الأكاديميّة النظريّة شاغلا من شواغل الثّقافة العربيّة، بالرغم من المجهودات التي بادرت بها حكومات الدّول في إنشاء المدارس والكليّات الفنيّة. وهو ما من شأنه أن يعكس وبطبيعة الحال، التجاء إلى تبنّي المواقف الغربيّة في معاييرها وأدواتها الإجرائيّة في الممارسة النظريّة التي وقع فيها التعويل وبصفة هامّة، على القدرات الذّاتيّة للمنظّرين وتصوّراتهم الفكريّة في النظر إلى الظّواهر الإبداعيّة.
حقيقة، لا يمكننا أن ننفي الوضع الذي انعدمت فيه قاعدة أو قواعد أكاديميّة رئيسيّة ومركزيّة تكون بمثابة نواة للعمليّات التنظيريّة الفنيّة، فتنظر في مقوّمات اللغة المناسبة لهذا المجال وتعرض آليّاته الإجرائيّة وقواعده ومناهجه اللاّزمة التي يجب أن يلتزم بها المنظّر والكاتب المنشغل بالفن. إذ تعدّ التجارب المعرفيّة والكتابات المتعدّدة المعروضة على الساحة العربيّة، مجرّد محاولات لا يمكن أن نشكّك في جدّيتها إجمالا، خاصّة وأنّها تعبّر عن مساعي الذّوات في الخوض في مشاغل الفن والإحاطة به، ولكن لا يمكن أن تكون في ذات الشيء مرآة عاكسة للفن العربي وموازية لحركيّة الفن العربي وانفعالاته، لتتأكّد على هذا النّحو مقولات الهشاشة والنّقصان التي امتدّت زمنيّا ومجاليّا فأثبتت حضورها على السّاحة الثّقافيّة العربيّة إلى يومنا هذا.
كان من الطّبيعي وأمام هذا الوضع الشّائك، أن يبحث منظّري الفن العرب عن سبل للممارسة المعرفيّة الجماليّة في ظلّ غياب قاعدة أكاديميّة نظريّة فنيّة عربيّة. فمن بين الحلول التي تمّ الالتجاء إليها، العودة إلى المدوّنة الغربيّة بمناهجها وآليّاتها التي اتّخذت حلولا إجرائيّة لسدّ الثغرات المحليّة أو لتجاوز العجز السّياقي النظري في العمليّة الإنشائيّة وفي الكتابة حول الفن. لكن ألا يعدّ من الغريب أن تتناول المسائل والفنون العربيّة بآليّات غربيّة غريبة عن الواقع التشكيلي العربي بمميّزاته وأشكاله وخصوصيّاته الثّقافيّة، التي من المفروض أن تتّخذ لنفسها مسارا نابعا من واقعها المحليّ ومن ينابيعها الثّقافيّة المحليّة؟ فإن وظّفت الأكاديميّات والمدارس الغربيّة لنفسها معايير ومناهج نظريّة فنيّة، فقد كانت في سياقات فنيّة معيّنة ووفقا لتطوّرات الفنّ الغربي وتحوّلاته وبما يتلاءم وخصائص مجتمعه، في محاولة لمواكبة مضامينه وممارساته المختلفة. وهو المأزق الذي وقعت فيه المغامرة النقديّة الفنيّة العربيّة التي حاولت معالجة مسائل فنيّة عربيّة بأدوات غربيّة، وما لذلك من انعكاسات في حجب الرؤية عن الهويّة والمفاهيم التّصويريّة العربيّة، فـ”كيفما كانت الكتابات البصريّة فلا بدّ أن تكون لها رسالتها التي تجعلها موضع الاهتمام، باعتباراتها التوثيقيّة والتحليليّة والمنهجيّة.. الثّقافيّة والفكريّة والفلسفيّة.. ومختلف الطّاقات التي تؤهّلها لمخاطبة الذّات والآخر، وعبر المقارنات التي تقود تجاوزا لتطبيق نظريّات الكتابة الغربيّة في دراسة العمليّة البصريّة المنتجة عربيّا، والتي تنتج عنها الكثير من الإشكاليّات المتّصلة باللّغة والبناء الفنّي وأساليب التّعبير وعسر التّطبيقات المتداولة بفعل الترجمات، لعدم تكيّف مفاهيمها بشكل عام مع الظّواهر البصريّة المحليّة، أو مع مرجعيّات الأفكار ومصادرها ورموزها. ممّا يغلق الطّريق على عديد التّجارب في الوصول إلى الدّلالة والهويّة المميّزة للاشتغالات النّقديّة والمعرفيّة العربيّة، والتي يحاول العديد من الكتّاب والباحثين تمييز خصائصها وبناها، ليس من خلال اتّباع الأفكار والنّظريّات، وإنّما بالمشاركة المبدعة فيها، وفي نقدها، والإضافة عليها”.[4] وقد تعمّق هذا المأزق، من خلال الحيرة التي تعيشها الثقافة الجماليّة الغربيّة خاصّة في ظلّ الفن المعاصر والحركات الفنيّة المتسارعة والمتجدّدة التي عكست واقعا تضاربت فيه الآراء وتعدّدت فيه معايير التناول، لتعكس تشنّج المعرفة بالمناهج النّقديّة. فكيف يمكن أن تكون هذه الوضعيّة بتفاصيلها مرجعا للمنظّرين والكتّاب العرب، وهي تشهد في حدّ ذاتها أزمة فكريّة في أعماقها وعدم اتّفاق حول مراجع ومناهج محدّدة في الممارسة المعرفيّة الفنيّة؟
تتضّح في خضمّ هذه الحقائق عدم استقلاليّة الكتابة الفنيّة العربيّة. وإن التزم بعض المنظّرين بالخصوصيّة العربيّة، فقد التجأ معظمهم إلى معايير الذّات وميولاتها أو بالأحرى إلى ما صدر عن تصوّراتهم وتخميناتهم وبما يتماشى مع منطقهم ورؤاهم الشخصيّة. وبالرغم من هذه التقديرات التي قامت فيها الكتابة على الانطباع بدرجة أولى، فإنّ ذلك لم يمنع عديدا من الممارسين والكتّاب في الفن من البحث عن قواعد نظريّة فنيّة عربيّة ذاتيّة تتماشى وروح الفنّ العربي. ربّما وجدت هذه البحوث في تجربة الكتابة الأدبيّة ضالّتها خاصّة بعد نجاح مناهج وآليّات التجربة المعرفيّة الأدبيّة العربيّة، أو في الكتابة الصّحفيّة الفنّيّة منفذا وغيرها من المعايير المتوخّاة، إلاّ أنّنا نرى في ذلك أزمة لا محالة، تتضّح من خلال استمراريّة اللّجوء إلى وسائط دخيلة عن الواقع التشكيلي، حتّى وإن كان ذلك معتمدا على مراجع لها صلة بالتنظير الفني في سياقه العامّ، بتعلّة وأنّ لكلّ ميدان خصوصيّاته ومميّزاته التي تفرض عليه تمشّيات معيّنة دون أخرى، فلا تعالج مسائل تشكيليّة بمفاتيح أدبيّة أو صحفيّة أو فلسفيّة أو علميّة، وإن كان ذلك فهو في بعض المواضع التي تقتضيها وحسب ما تمليه عليها خصائص التّجربة الفنيّة. هي أزمات لازمت الكتابة التشكيليّة العربيّة، لا بدّ أن تكون لها أسباب وخلفيّات عديدة مرتبطة بميادين ومجالات أخرى تتحمّل فيها قدرا من المسؤوليّة. ربّما هي مسؤوليّة الذّات الباحثة أو المؤسّسات الرّاعية للفنون أو وزارات الثّقافة في شكلها الموسّع، وهي احتمالات واردة في ظلّ وضع يبعث حيرة عميقة حول هذه الوضعيّة، بالرغم من مجهوداتها في هذا الميدان إلى يومنا هذا.
يحيلنا هذا الواقع إلى الحديث عن المأزق الذي يحيط بالكتابة في الفن العربي، في مستوى اللّغة التي تفترض مناهج ومعايير وآليّات وأدوات متخصّصة من أجل الخوض في العمليّة الإجرائيّة وفي مواجهة المنجزات الإبداعيّة. هو واقع قد بشّرت ملامحه بوضع حرج أقرّ حضوره العودة إلى عديد الكتابات الفنيّة العربيّة الموجودة على الساحة الثقافيّة، والتي على وفرتها وتعدّد إنتاجاتها في عديد المؤلّفات من كتب ومجلاّت وجرائد ومواقع الكترونيّة وغيرها من الوسائط التّعبيريّة، فقد بيّنت مكامن نقصان في عديد الجوانب المتعلّقة بهذه المسائل.
أثّرت هذه الحقائق في التّنظير للفن، الذّي وإن حاول مواكبة المنجز التّشكيلي ومُسايرة الفعل التّطبيقي، فقد اصطدم بواقع هشاشة تمثّلاته وصيغه وتعابيره وتطبيقاته التّي اعترضتها عديد الصّعوبات، قد غاب فيها التخصّص وحادت عن متطلّبات ومقتضيات التّجربة النظريّة في مستوى المنهج الإجرائي واللّغة والآليّات وغيرها من الموجبات، خاصّة وأنّها قد اعتمدت بالأساس وبدرجة أولى على المرجعيّات الغربيّة في الممارسة التّشكيليّة كما في التّنظير نتيجة افتقارها للمفاهيم والمصطلحات الإنشائيّة والأدوات والآليّات الإجرائيّة، دون أن تعي بتلك الفروقات والاختلافات الجوهريّة بين الثّقافتين العربيّة والغربيّة، الأمر الذّي أقرّ اختلاطا وبعثرة في المفاهيم وفي المنتجات النّظريّة. نحن إذن إزاء عالم عربيّ يكتفي بالفلسفات الجماليّة الغربيّة وقوالبها الجاهزة في الكتابة الجماليّة، وتقف فيه التّظاهرات عند حدود المبادرات النّظريّة الفرديّة التي تتّخذ شكل الحوارات العامّة حول بعض المسائل النّظريّة أو الكتابات العرضيّة والنّقاشات التي تسجّل بعد ذلك في مدوّنات أو مؤّلفات تنقل الآراء والمواقف، رغم المحاولات الجادّة التي ما انفكّت تسعى إلى تأسيس خطاب جمالي عربي واضح المعالم.
تتطلّب الممارسات النّظريّة الفنيّة قدرا بالغا من الحذق والإتقان والتمرّس في الأداء وفي الكتابة والإنتاج المعرفي التّشكيلي، خاصّة وأنّها ستكون المرآة العاكسة للتّجارب التّشكيليّة في مستوى تقديمها وبسطها وتشخيصها لخاصيّاتها ومستوياتها وسماتها التي تميّزها في خضمّ تضخّم ووفرة الإنتاجات التّشكيليّة العربيّة الحديثة والمعاصرة. ولكن يبدو وأنّ الكتابة العربيّة حول الفنّ في المنظومة التشكيلية العربيّة قد اعترضتها عديد الصعوبات الهيكليّة التي حالت دون أن تكون صورة معبّرة عن المشهد التشكيلي العربي في أدقّ تفاصيله وجزئيّاته. هي عقليّة الباحث والمنظّر الفني العربي الذي أبى أن يجد لنفسه مخرجا ذاتيّا من شأنه أن يتجاوز به سلطة الآخر وأدواته الإنشائيّة في ما يشمل الميدان الفني أو خارجه، وهي من المؤثّرات المباشرة التي تسبّبت في ذلك بالرغم من المجهودات الهامّة التي اتّخذتها الدّول العربيّة ومؤسّساتها الراعية للفنون وللبحوث النظريّة، والتي لعبت فيها دورا رياديّا في مواجهة هذه الأوضاع وفي مساعي العمل على الإصلاح والتّغيير والنّهوض بوضع الكتابة التّشكيليّة العربيّة، التي لازالت تشكو إلى وقتنا الراهن سوء تمثيل للمنجز التشكيلي العربي، ساهمت بدورها في تعطيل الحركة الفنيّة العربيّة التي لازالت تسعى إلى تكريس هويّتها وثقافتها، في ظلّ غياب المتابعة بالكتابة الرسميّة الأكاديميّة المتخصّصة والمؤطّرة.
الهوامش:
[1] علي حرب، نقد النص (النصّ والحقيقة I)، المركز الثقافي العربي، بيروت- لبنان، ط.1، ص. 207.
[2] منى فيّاض، العلم في نقد العلم: دراسات في فلسفة العلوم، دار المنتخب العربي للدّراسات والنشر والتوزيع، 1985، ط.1، ص. 145.
[3] منى فيّاض، المصدر نفسه، ص. 171.
[4] طلال معلاّ، بؤس المعرفة في نقد الفنون البصريّة العربيّة، الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب، دمشق، 2011، ص. 9- 10.