عن الأنثروبولوجيا

ظهر مصطلح الأنثروبولوجيا في بريطانيا عام 1593، وكان المقصود به دراسة الإنسان من جميع جوانبه الطبيعية والسيكولوجية والاجتماعية، وظل يحمل معنى الدراسة المقارنة للجنس البشري.

إلا أن تزايد البحث، وخاصة في المجتمعات البدائية، أدى إلى تطورات مهمة في النظر إلى الأنثروبولوجيا، وخاصة في علاقتها بالعلوم المتفرعة منها وغيرها من الدراسات التي تتصل بدراسة الإنسان.

وكلمة “أنثروبولوجيا” من الناحية الاشتقاقية مشتقة من الكلمة الإغريقية Anthropo، أي الإنسان؛ والكلمة Logy أي العلم، أي أن الكلمة في معناها اللغوي هي دراسة الإنسان. ونتيجة لتنوع الأنشطة التي يقوم بها الإنسان، تبنى الأنثروبولوجيون التعريف اللغوي لعلمهم؛ ولذلك يحاولون دراسة الإنسان وكل أعماله، أي كل منجزاته المادية والفكرية، أي الدراسة الشاملة للإنسان.

ولهذا فإن الأنثروبولوجيا هي أكثر العلوم التي تدرس الإنسان وأعماله شمولاً على الإطلاق. وهناك دلائل وشواهد عديدة على هذا الشمول؛ فالأنثروبولوجيا تجمع في علم واحد بين نظرتي كل من العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية، فتركز مشكلاتها، من ناحية، على الإنسان العضو في المملكة الحيوانية، وعلى سلوك الإنسان العضو في المجتمع، من ناحية أخرى. ثم إن الأنثروبولوجيا لا تقتصر على دراسة أي مجموعة من الناس أو أي حقبة تاريخية. بل تهتم بالأشكال الأولى للإنسان وسلوكه بدرجة اهتمامها نفسها بالأشكال المعاصرة؛ إذ يدرس الأنثروبولوجي كلاً من التطورات البنائية للبشرية ونمو الحضارات منذ أقدم الأشكال التي وصلتنا عنها أي سجلات أو بقايا، فضلاً عن الاهتمام بالدراسات المقارنة في سياق اهتمامه بالجماعات والحضارات الإنسانية المعاصرة.

كما تحاول الأنثروبولوجيا كشف وتوصيف المعايير الفيزيقية، التي تميز الجنس البشري عن سائر الكائنات الحية الأخرى؛ وكذلك تلك المعايير التي تصلح للتمييز بين الأنواع العديدة داخل الأسرة البشرية نفسها. وتركز الدراسة المقارنة للحضارات اهتمامها على أوجه الاختلاف والتشابه في الثقافات، التي يمكن ملاحظتها بين الجماعات البشرية العديدة التي تعيش على سطح كوكب الأرض، وتحاول أن تحدد وتعرف القوانين أو المبادئ التي تحكم تكون المجتمعات البشرية وثقافاتها وتطورها.

وعلى هذا فإن مصطلح “الأنثروبولوجيا” مصطلح شامل وواسع؛ إذ يشمل دراسة الموضوعات المختلفة، كالتطور البيولوجي والحضاري للإنسان، والعلاقات البيولوجية بين المجتمعات المعاصرة، والمبادئ التي تحكم علاقات الشعوب بعضها بعض. بيد أن الموضوعات البيولوجية والاجتماعية هي موضوعات متداخلة ومتحدة لتركيزها المشترك على دراسة الإنسان؛ لكنها في الوقت نفسه موضوعات منفصلة ومستقلة بعضها عن البعض الآخر، بسبب تخصص علمائها، إما في الموضوعات الإنسانية أو الطبيعية.

وصفوة القول إن الأنثروبولوجيا تهتم بدراسة الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً أو حضارياً؛ فتدرس هذه العلوم الأنثروبولوجية ـ بكافة مجالاتها وميادينها الخاصة ـ أشكال الثقافة وأبنية المجتمعات، مع التركيز على دراسة أشكال المجتمعات الأولية ومعالجة ما يُسمى بأنماط الثقافة البدائية Patterns of primitive culture.

والمجتمعات البدائية من الموضوعات الرئيسية التي تضطلع بدراسته الأنثروبولوجيا، حيث تدرس مختلف فروع الأنثروبولوجيا العامة كيفية تكيف الإنسان البدائي مع مختلف البيئات الفيزيقية والجغرافية والاجتماعية والثقافية.

ووفقاً لذلك فإن الأنثروبولوجيا تهتم بالبحث عن المبادئ، التي تحكم تطور الإنسان فيزيقياً وثقافياً، ولماذا تغير التركيب الفيزيقي للإنسان؟ ولماذا توجد أنماط بشرية متميزة بمثل هذه الكثرة، على الرغم من أصلها المشترك جميعاً؟ وما طبيعة الثقافة؟ وكيف تتغير الثقافات؟ وما العلاقة المنهجية المنظمة بين مختلف جوانب السلوك الاجتماعي والثقافي للإنسان؟ وكيف يستجيب الأفراد للمثل العليا والأهداف التي تحددها لهم الثقافات؟ وما العلاقة بين الثقافة والشخصية؟. فالعالم اليوم بما يضمه من بقايا نادرة متفرقة للماضي البعيد، هو العمل المتاح للبحث الأنثروبولوجي.

فروع الأنثروبولوجيا

من اليسير الاتفاق حول الخطوط العريضة التي تحدد ميدان الدراسة الأنثروبولوجية العامة؛ ولكن من العسير الاتفاق حول الفروع الأساسية للأنثروبولوجيا. فلا يمكن أن تظل صورة تلك الفروع في بلد واحد على حالها عبر السنين. فقد تزداد فروعها وفقاً للتطورات والبحوث الميدانية والنظرية، التي تعمل حتماً على تطوير تلك الفروع أو التعديل منها. وقد تزداد عدداً، وقد تُدمج فروع في بعضها وتُستحدث أخرى، وهكذا. لذلك فعند محاولة التعرض لأقسام الأنثروبولوجيا وفروعها الرئيسية، تقدم صورة تقريبية مصحوبة ببعد زمني يلقي الضوء على تغير تلك الصورة عبر الزمن.

1. الأنثروبولوجيا البيولوجية Biological Anthropology

هو علم يدرس السجل البيولوجي للإنسان، إذ يبدأ بدراسة المكانة الحيوانية للإنسان، ويحاول اقتفاء أصل وتطور الإنسان من خلال الدراسات المقارنة، ويفحص طبيعة الاختلافات العنصرية بين الشعوب والأقوام، كما يدرس أثر العوامل البيئية المختلفة ـ على تشابه واختلاف أعضاء الجنس البشري ـ على نمو أو اضمحلال السكان. ويستعمل العالم الأنثروبولوجي الطبيعي تكتيكاً خاصاً في بحوثه وجمع معلوماته، إلا أنه يعتمد في معظم دراساته على علوم مختلفة وكثيرة، أهمها علم التشريح، وعلم الآثار، والكيمياء، وعلم الجيولوجيا، والنبات.

كما تدرس الأنثروبولوجيا الفيزيقية السّمات الفيزيقية للإنسان، أي أنها دراسة الإنسان من حيث هو كائن فيزيقي طبيعي. فتدرس الإنسان العضوي في نشأته الأولى، وفي تطوره عن الرئيسيات، حتى اكتسب الصفات والخصائص الإنسانية في صورة الإنسان العاقل Homo Sapiens؛ لذلك تعالج الأنثروبولوجيا الفيزيقية، مثلاً، حجم الجمجمة، وارتفاع القامة، ولون البشرة، ونوع نسيج الشعر، وشكل الأنف، ولون العين. كما تهتم بدراسة التغيرات العنصرية وخصائص الأجناس، وانتقال السمات الفيزيقية، وتتبع الموروثات الإنسانية. كما تدرس إلى جانب ذلك تطور الإنسان منذ مراحله وأشكاله الأولية، التي كانت تربطه بعالم القردة العليا.

2. الأنثروبولوجيا الاجتماعية Social Anthropology

تهتم الأنثروبولوجيا الاجتماعية بدراسة مجموع البناء الاجتماعي لأي جماعة أو مجتمع، بما يحويه هذا البناء من علاقات وجماعات وتنظيمات. ومن هنا تقترب العلاقة بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الاجتماع. والمفهوم المحوري في الأنثروبولوجيا الاجتماعية هو البناء الاجتماعي Social Structure؛ فالأنثروبولوجي الاجتماعي يفكر في المجتمع الذي هو تكوين منظم لأجزاء متعددة، وليس في الثقافة وواجبه الأول هو اكتشاف هذا النظام وتفسيره (وهو يتكون من العلاقات القائمة بين الأفراد، وهي علاقات ينظمها مجموعة من الحقوق والواجبات المعترف بها).

تدرس الأنثروبولوجيا الاجتماعية ـ تحت مفهوم البناء الاجتماعي ـ الوحدات الرئيسية المكونة لهذا البناء. والمقصود بالبناء: مجموعة العلاقات والروابط والقواعد المتصلة بقطاع أو جانب معين من جوانب حياة هذا المجتمع. فمجموعة العلاقات ـ مثلاً ـ التي تتعلق بتكوين الأسرة، ونظام القرابة، وتربية الأطفال، وشبكة العلاقات بين الزوجين وبينها وبين الأولاد، والعلاقات مع الأصهار… إلخ، كل ذلك يكوّن ما يُسمى: نظام الأسرة أو النظام العائلي. كذلك الحال لمجموعة العلاقات والروابط والتنظيمات المتصلة بمجال كسب العيش، الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، والادخار… إلخ. كل ذلك يكون تحت مُسمى: النظام الاقتصادي. أما توزيع القوة في المجتمع وقواعد استخدامها وآثار هذا الاستخدام، فيُدرس تحت اسم النظام السياسي. وهناك قطاع عريض أخير من العلاقات المتصلة بالمعايير الدينية والأخلاقية والفن والجمال هو نظام المعايير أو النظام المعياري، وإذا اقتصر على الدين والأخلاق فيُعرف باسم: النظام الديني. هذه هي أهم الوحدات الرئيسية للبناء الاجتماعي أو النظم الاجتماعية الأساسية، أي التي لا يخلو منها مجتمع، سواء عاش في الماضي، أو يمكن أن يعيش في المستقبل.

3. الأنثروبولوجيا الثقافية Cultural Anthropology

تدرس الأنثروبولوجيا الثقافية أصول المجتمعات والثقافات الإنسانية وتاريخها، وتتبع نموها وتطورها. وتدرس بناء الثقافات البشرية وأداءها لوظائفها في كل مكان وزمان. وتهتم الأنثروبولوجيا الثقافية بالثقافة في ذاتها، سواء كانت ثقافة أسلافنا، أبناء العصر الحجري، أو ثقافة أبناء المجتمعات الحضرية المعاصرة. فجميع الثقافات تستأثر باهتمام دارسي الأنثروبولوجيا الثقافية، لأنها تسهم في الكشف عن استجابات الناس ـ المتمثلة في الأشكال الثقافية ـ للمشكلات العامة التي تطرحها دوماً البيئة الطبيعية، وفي الكشف عن محاولات الناس في الحياة والعمل معاً، وتفاعلات المجتمعات الإنسانية بعضها ببعض.

ويمكن أن تكون دراسة الأنثروبولوجيا الثقافية بطريقتين:

الأولى، هي الدراسة المتزامنة: أي في زمن واحد، أي دراسة المجتمعات والثقافات في نقطة معينة من تاريخها.

الثانية، هي الدراسة التتبعية أو التاريخية: أي دراسة المجتمعات والثقافات عبر التاريخ.

تتناول الأنثروبولوجيا الثقافية، بمعناها العام، الحياة الثقافية للمجتمعات الإنسانية. وفي هذا الإطار العريض، يتجه علماء الأنثروبولوجيا الثقافية إلى الاهتمام بالفنون المهارية وتصميماتها، وتقنيات تصنيعها.

4. الأنثروبولوجيا الاقتصادية Economical Anthropology

تهتم الأنثروبولوجيا الاقتصادية بدراسة الاقتصاديات القروية أو القبلية الصغيرة. وقد تزامن ظهور الأنثروبولوجيا الاقتصادية ـ علماً فرعياً ـ مع ظهور أساليب العمل الميداني الحديثة، التي أجبرت الأنثروبولوجيين على مقارنة النظريات الاقتصادية والأنثروبولوجية بواقع الإنتاج والتوزيع، والتبادل في الاقتصاديات القبلية أو القروية الصغيرة التي درسوها.

ومن ثم ظهر هذا الفرع من علوم الأنثروبولوجيا محصلة لاهتمام علماء الأنثروبولوجيا بالنظم الاقتصادية في المجتمعات التقليدية، ومحاولة إيجاد صيغة ملائمة لتفسير الظواهر الاقتصادية في هذه المجتمعات. ويرجع الفضل في تحديد مسمى هذا الفرع إلى المؤرخ الاقتصادي جراس، في مقاله الذي عُدَّ نواة لذلك، ونُشر بعنوان: “الأنثروبولوجيا والاقتصاد”. وفيه حدد نطاق اهتمام هذا الفرع بأنه الجمع بين الدراسات الأنثروبولوجية والاقتصادية عند الشعوب التقليدية. وبعد ميلاد هذا الفرع، يوضح ريموند فيرث أنه منذ حوالي العقد الرابع من القرن العشرين، بدأ الاهتمام يتزايد بهذا الفرع من الأنثروبولوجيا العامة.

5. الأنثروبولوجيا السياسية Political Anthropology

تهتم الأنثروبولوجيا السياسية بوصف الأنظمة السياسية وتحليلها على مستوى البُنى، والعمليات، أو التمثيل، والتفاعل، خاصة في المجتمعات القبلية التقليدية. ووفقاً لهذا المعنى، فإن ظهورها تخصصاً مستقل يُعد حدثاً جديداً، على الرغم من أن بداياتها ترسخت في إجراء الدراسات على المجتمعات القبلية. أما اليوم، فلا توجد حدود لميادينها البحثية، إذ تحاول الأنثروبولوجيا السياسية، كما يقول ـ بلانديه ـ أن تتجاوز التجارب والمعتقدات السياسية المحددة، كما تنحو لتأسيس علم لدراسة السياسة ينظر إلى الإنسان بصفته إنساناً سياسية Homo Politicos. كما تبحث كذلك في تحديد خصائص التنظيمات السياسية عبر صورها وتجلياتها التاريخية والجغرافية.

6. الأنثروبولوجيا الطبية Medical Anthropology

تُعد الأنثروبولوجيا الطبية أو أنثروبولوجيا الصحة ـ كما يسميها بعض الدارسين ـ أحد الميادين الفائقة التطور في ميدان الأنثروبولوجيا، إلى حد يجعله يكاد يكتسب مرتبة العلم المستقل. ظهر هذا العلم في بداية القرن العشرين، وقد تزايد الاهتمام به نظراً لتزايد الوعي بجذور الثقافة في القضايا الصحية، مثل تطور المرض، وتوزيعه الجغرافي، والوسائل والأساليب التي تعتمد عليها المجتمعات في مواجهته، والطرق المثلى لتحسين الطب الحديث وتطويره في المجتمعات التقليدية.

وقد أوضح لويس مورجان، أهمية الثقافة في مجال الصحة والرعاية الصحية؛ فالثقافة تتحكم إلى حد كبير في الموضوعات الآتية:

أ. نمط انتشار المرض بين الناس.

ب. طريقة الناس في تفسير المرض ومعالجته.

ج. السلوك الذي يستجيب به الناس لانتشار الطب الحديث.

تؤثر الثقافة في أسلوب الرعاية الصحية، فقد تفشل برامج المساعدات الطبية بسبب الاختلافات في ثقافة مقدمي المساعدة عمن يتلقونها، ما يوجد العقبات التي تحول دون الاتصال الفعّال والتعليم والعلاج. كما تلعب الثقافة دوراً مهماً في الصحة والمرض، من خلال التغذية السليمة؛ فتحسين تغذية السكان لا يتحقق إلا من خلال تقديم مواد غذائية مقبولة ثقافياً لديهم. لذا، أخذ الاتجاه الحديث في الأنثروبولوجيا الطبية بالاتجاه الثقافي للرعاية الفيزيقية والعقلية للأفراد داخل سياقهم الاجتماعي.

7. أنثروبولوجيا الجسد Anthropology of Body

ويأتي أخيراً أحدث فروع الأنثروبولوجيا، وهو أنثروبولوجيا الجسد، ويهتم بدراسة عمليات تجميل الجسد، التي عُدّت أسلوباً يتحول فيه الجسد البشري الطبيعي إلى ظاهرة ثقافية. أما الطرق التي تنفذ بها هذه العملية فتشتمل على تغيرات مؤقتة، كارتداء الزي، والتزين، وأسلوب تصفيف الشعر، وتلوين الجسد… إلخ. كما تتضمن تغيرات دائمة مثل الوشم وغير ذلك مما قد تعده المعايير العربية ضرباً من التشويه الجسدي. فبينما يُنظر إلى تجميل الجسد في المجتمعات الحديثة على أنه تعبير عن الموضة، فإنه يُعد في المجتمعات البسيطة ضرباً من الرمزية الاجتماعية والدينية. فتجميل الجسد يجسد عضوية الفرد في الجماعة، كما يشير إلى المكانة وتغير الدور الذي يقوم به الفرد، ويتم ذلك، في الغالب، بالإشارة إلى خصائص حيوانية أو التأكيد على ملامح جنسية. وقد أوضح التحليل البنائي لاستخدام الجسد في الرمزية الاجتماعية، كيف تتأكد الفروق الطبيعية وتستخدم لغة للتحدث عن الفروق والعمليات الثقافية الاجتماعية. لذا، فإن الجسد البشري ينبغي ألاّ يُعد فقط أداة للتعبير الرمزي، كما في تجميل الجسد أو حركته أو رقصه، ولكنه يمكن أن يُعد أيضاً نموذجاً رمزياً.