ماذا بعد البنيويَّة؟ ـ عبد النبي اصطيف

عبد النبي اصطيف

يشير بتركوس في مراجعته لكتاب “البنيوية مدخل”(1) (من تحرير وتقديم د. ديفيد روبي، مطبعة جامعة اكسفورد، 1973) والتي ظهرت في مجلة الأدب المقارن في عدد الخريف من عام 1979، إلى أن للتأخير فضائله، لأن الكتاب الذي بين يديه يبدو اليوم –وعلى وجه الإجمال- أكثر أهمية منه عندما ظهر عام 1973، “ففي خلال هذا الوقت، انحسرت موجة البنيوية، وثمة ما يشبه الإجماع الآن إلى أنه إذا ما كان هناك “بنيوية” فقد انتهت، إنها بالنسبة إلى النقد المعاصر أشبه ما تكون باللا نسونية المزدراة”(2).‏

ورغم أن دارس النقد المعاصر يقرأ ملاحظات كهذه في مختلف الكتب والمجلات المتخصصة، وخاصة من قبل بعض الدارسين. والنقاد الذين لم يروا في البنيوية غير تقليعة فرنسية لا تقوى على مجابهة تحدي الزمن، تقليعة يحلو للمرء أن يصفها بأنها لم تصمم لتناسب أو لتدوم”، فإنه يظل أميل إلى الاعتقاد بأنها ما زالت تمارس تأثيراً لا بأس به في الأوساط النقدية. وحتى ما يسمى اليوم بالنقد ما بعد البنيوي Post-Structuralist Criticism يتخذها أساساً له، سواء أفترض في نفسه تطويراً لها أم ردة فعل معاد ومناهض.‏

إن نهاية السبعينات التي بشرت بانحسار موجة البنيوية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إلى حد ما، قد أرهصت بولادة ما بعدها. وهكذا ومن خلال المزاوجة الواعية بين النقد الأنكلو- أمريكي الجديد، والنقد الأسطوري اللذين سادا الساحة الأدبية الأمريكية لعدة عقود من جهة، وبين الفكر الأوربي (والفرنسي بشكل خاص) من جهة أخرى، ولد نقد جديد جديد New New Criticism نقد ربما كان أهم ما يميزه هو أنه لا يعتمد أساساً على النصوص الأدبية، بل هو يستنكر أن يكون تابعاً لها. وينظر إلى نفسه على أنه فعالية فكرية خلاقة تنهض للمقارنة مع الأدب كنشاط إبداعي مكافئ للأدب في القيمة والمستوى.‏

وهو غالباً ما ينحو منحى إشكالياً ويفضل أن يتعامل مع النصوص النقدية، وأن يناقشها ويعلق عليها أكثر من التعامل مع النصوص الأدبية. وربما كانت شهادة البروفيسور إدوارد سعيد أحد النقاد الطليعيين في أمريكا في مقدمته للكتاب الجديد الذي حرره تحت عنوان “الأدب والمجتمع” Literature and Society والذي نشرته مطبعة جامعة جون هوبكنز مؤخراً، ذات مغزى، يقول البروفيسور سعيد والذي يدرّس نظرية النقد الحديث وفلسفته في جامعة كولومبيا:‏

“إن أي امرئ حضر (جلسات) في “المعهد الإنكليزي” English Institute خلال العقد الماضي، سيوافق على أن تحولاً فكرياً هاماً قد حدث خلال تلك الفترة.. وأبسط طريقة لوصف هذا التغير هو القول بأن أناساً كثيرين أصبحوا مهتمين بالنقد ليس كنوع من الأدب، كتعليق أو شرح مميز لنص أولي، ولكن كنشاط يمتح من معارف كاللغويات، والتحليل النفسي، والأنتروبولوجيا، والفلسفة، وجعل معظمه مختصاً جداً، نمطاً نظرياً متحيزاً من القول.‏

وكواحدة من النتائج فقد تم التخلي عن الاعتماد المقبول على العمل الأدبي على أنه متقدم ليس من الناحية الزمنية قفط بل من القيمة أيضاً. إن الناقد /الناقدة الآن يبدو/ تبدو أنه/ ها يستمد كثيراً من رؤاه/ ها عن ناقد آخر، وينظر إلى النقد الآخر وليس إلى الشعر من أجل أفضل أفكاره/ ها. لقد كان هذا الوضع غالباً بالتأكيد منذ تولوردج ولكن النقد نادراً ما بدا مكتفياً بذاته إلى هذه الدرجة”(3) (إدوارد سعيد، الأدب والمجتمع، مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1980، ص 7).‏

وبالطبع فإن أسباباً عديدة تقف وراء هذا التحول. ولكن تطعيم النقد الأمريكي بالنقد الأوروبي بشكل عام والفرنسي بشكل خاص ربما كان من أهمها.‏

لقد شهدت نهاية السبعينات وبداية الثمانينات ولادة اتجاهات جديدة كالتفكيكية Deconstructionism والسيميائيات Semiotics وقد ظهرت مؤخراً عدة كتب تعلن عن بداية مرحلة جديدة في النقد المعاصر، ومما يلفت النظر في أغلبها أنها تكاد تكون بيانات نقدية تمهد لسيادة الاتجاه الذي تدعو إليه بقوة واندفاع وحماس وعنف أحياناً.‏

وكتاب “استراتيجيات نصية: منظورات فيما بعد النقد البنيوي”: Textual Strategies Perspectives in Post-Structuralist Criticism هو أحد هذه البيانات الهامة والتي أود أن أتوقف عندها وقفة سريعة غايتها لفت انتباه القارئ إلى بعض مؤشرات التطور في النقد العالمي المعاصر.‏

لقد تعاون على إخراج الكتاب مجموعة بارزة من النقاد الأمريكيين الطليعيين والأوربيين، وحرره وأعده وجمع مقالاته وترجم بعضها عن الفرنسية وقدم لها جوزي، ف، هواري Jousué V. Harari أستاذ اللغات الأوربية المساعد في جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة الأمريكية. والكتاب هو بالفعل من أكثر البيانات النقدية التي صدرت في السنوات الأخيرة أهمية، لجملة من الأسباب أرجو أن تتوضح فيما يلي من سطور.‏

وربما كان أهم ما يجمع هؤلاء النفر من النقاد، إطلاعهم المتمكن على النقد الأوربي بشكل خاص والفكر والفلسفة الأوربيين بشكل عام، فأغلبهم يمارس التدريس في أقسام اللغات الأوربية أو أقسام الأدب المقارن، بل إن بعضهم من أصل غير أمريكي، ومعنى هذا أنه يكتب ويقرأ بلغة أخرى –وربما أكثر- غير الإنكليزية التي ربما لم تكن لغته الأم.‏

ولا شك أن الرغبة في إيضاح الاتجاهات التي يمثلونها والتي أتيح لهم تطويرها من خلال عملية المزاوجة بين النقد الأمريكي والفكر الأوربي والتي أشير إليها سابقاً تشكل هدفاً آخر يجمعهم.‏

تشمل موضوعات الكتاب الذي بين أيدينا، والذي يضم خمس عشرة مقالة ومدخلاً مطولاً، السيمائيات والأدب والأنتروبولوجيا والأدب، والعملية الأيديولوجية التي تشكل المفاهيم النقدية، وفن الشعر الأمريكي الحديث ودراسة النماذج الجبرية كعوامل معرفية، وأنماط اللغة الشعرية وسبل إنتاجها، وهي في مجملها موضوعات إشكالية ستثير دون شك الكثير من النقاشات والمعارك النقدية.‏

ولعله تحسن الإشارة إلى أن هذه المقالات تناقش مجموعة أعمال هامة لفرويد، وباسكال، وشكسبير ولويس كارول، وجوزيف كونراد، وعزرا باوند، وفلوبير، ومارسيل بروست، وبول فاليري. وهي تحاول من خلال هذه المناقشة أن تستكشف الطرق التي يتحدى فيها النقد الطليعي الجديد وبشكل علني أولية الأدب أو أسبقيته.‏

والحقيقة أن الكتاب لم يقصد به القارئ المختص أو مريد النقد فقط، ولا أساتذة الأدب والنقد فحسب، بل إنه يتوجه كذلك إلى الطلبة والمهتمين بالأدب والنقد بشكل عام.‏

وقد حفل بجملة من الأمور المساعدة التي تجعل الإطلاع عليه ومراجعته على درجة كبيرة من الفائدة. وربما كان المدخل المطول الذي قدم به جوزي هراري للكتاب والذي يقع فيما يقرب من خمس وخمسين صفحة (ص17-72) أوضح مؤشر على هذه الفائدة. فهو يتضمن محاولة طموحه وغنية بالمعلومات لوضع هذه الاتجاهات النقدية في سياقها العام من تطور الحركة النقدية في أمريكا وأوربا. كما يشمل فيما يشمل مناقشة نقدية لكل مقالة من مقالات الكتاب، ولصلاتها فيما بينها وبالكتاب كشكل أيضاً. إضافة إلى دراسة كاشفة للنظريات التي يستقي كل ناقد محاكاته منها وللاستراتيجيات المستخدمة في كل منها على حدة.‏

أما مقالات الكتاب الخمس عشرة فهي لرولان بارت “من العمل إلى النص” وجاك ديريدا “ملحق الصلة” الفلسفة قبل علم اللغة” وبول دومان “السيمائيات والبلاغة” وميشيل غوكو “ما المؤلف؟” وإدوارد سعيد “النص والعالم- بفتح اللام- والناقد” ورينيه جيرارد “الأسطورة والطقس في شكسبير” ويوجينو دوناتو “أتون المتحف: ملاحظات نحو قراءة سياقية لـ Bouvard and Pécuchet ولويس مارين: “حول تفسير اللغة العادية” وميشيل سيرز “علم جبر الأدب –لعبة الذئب” وجيليس ديلوز “الفصام واللغة” السطح والعمق في لويس كارول وأنتونين آرتور، ونيل هيرتز “فرويد والرمَّال” (بتشديد الميم) وجوزيف رديل “بعثرة الصورة، مشروع فن الشعر الأمريكي، وجيرارد جينيه “فاليري وفن شعر اللغة” ويوجين فانس “رولاند وفن شعر الذاكرة” وميشيل رفاتر “توليد نص Lautréamont.‏

هذا وقد ألحق محرر الكتاب بالمقالات خاتمة تشير إلى مباحث أخرى، وثبتاً مفيداً جداً بالمساهمين في المختارات من النقاد، يضم كل مدخل فيه تعريفاً بالناقد وإشارة إلى أهمية أعماله ومكانتها بالنسبة إلى غيرها، ثم حديثاً موجزاً عن منهاجه وأبرز كتبه، وقائمة بمؤلفاته، وذكراً لأفضل ما كتب عنه من مقالات أو كتب أو ما أجري معه من مقابلات، مع اقتراحات للمبتدئين بدراسة هذا الناقد.‏

كما وضمن كتابه بيبلوغرافيا ممتازة للموضوعات التالية المتصلة بنظرية وفلسفة النقد المعاصر:‏

-البنيوية‏

-ما بعد البنيوية‏

-النقد الأدبي‏

-الفلسفة‏

-التحليل النفسي‏

-الأنتروبولوجيا‏

-اللغويات والسيميائيات‏

إضافة إلى بعض الموضوعات ذات الصلة، وثبت بالدوريات الضرورية في دراسة النقد المعاصر في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص.‏

ولما كان من المتعذر التوقف عند مقالات الكتاب جميعها ومناقشتها واحدة واحدة وهو أمر يجده المرء في المدخل الممتاز الذي كتبه جوزي هراري، فإن حسب القارئ أن يشير إلى أنه يخرج من قراءة هذه الدراسات بانطباع واضح بأنها مقالات أصيلة. والحقيقة أن جميعها هامة وتسعاً منها تنشر للمرة الأولى، أما المقالات الأخرى فقد ترجمها المحرر عن الفرنسية كما ذكرت. وهي في مجموعها تشكل إضافة ذات شأن للنقد الأدبي المعاصر.‏

***‏

وأخيراً يشير جوزي هراري في نهاية مدخله إلى أن “النقد استراتيجي كله” ثم يسأل:‏

“كيف ينبغي للناقد أن يباشر المعرفة؟”‏

ويقول أنني أعرف جواباً واحداً فقط لهذا السؤال هو، (استراتيجياً)، أن قوة النقد وإنتاجه، أرباحه وخسائره، تقدمه أو حفره للخنادق يكتب بهذا المصطلح: استراتيجية، مذكراً إيانا بتعريفه القديم- الأثري: (فعل دموي عنيف)، لقد غدا المنهج في لعبة المعرفة استراتيجية، الفاعل الدموي العنيف والذي (يعدم) به النقد العمل، ومن خلال إعدامه هذا له وللمفارقة- يمجده”(4)‏

قد يحلو للمرء أن يفسر نشر كتاب “استراتيجيات نصيَّة…” على أنه إعلان حرب شعواء على الأدب بمفهومه السائد، وعلى النقد كفعالية تابعة. وقد يرى فيه مجرد تقليعة عابرة تزول فيما بعد، ولكنه لن يراوده الشك في أن هذا الكتاب سيثير نقاشات حادة، ومعارك نقدية عنيفة، لأنه سيطلق القطة بين الحمائم وما دام النقد تحركاً استراتيجياً وفعلاً دموياً عنيفاً، فلتأذن ساحة الثمانينات بسقوط الكثير من شهداء النضال بحثاً عن المعرفة.. وما دام كل شيء قد غدا أدباً، أو نصاً، أو كتابة فلن ننتظر طويلاً حتى ننعي الأدب كأول شهيد في هذه المعركة.‏

حزيران 1980‏

هوامش:‏

*المقالة هي الثالثة في سلسلة المقالات الموجزة التي يكتبها صاحب هذه السطور بغرض تعريف القارئ العربي بآخر تطورات النقد في الغرب، وانظر:‏

عبد النبي اصطيف- “لهجات جديدة والبنيوية والسيمائيات: سلسلة جديدة وبداية واعدة” الموقف الأدبي، العدد 100، آب 1979، ص ص 139-142.‏

-قراءات غير متأنية في النقد المعاصر- النظرية الماركسية في الفن، المعرفة، السنة التاسعة عشرة، العدد 218، نيسان 1980، ص ص233-240.‏

(1)David Robey (Editor), Structuralism: An Introduction, Oxford University Press, 1973.‏

(2)انظر مراجعة بيتركوس Peter Caws في‏

Comparative Literature, Vol. XXIX, fall 1977, No. 4, pp. 351-3.‏

3-Edward W. Said (Editor)‏

Literature and Society, The John Hopkins University Press, 1980, p. vii.‏

4-Josué V. Harari (Editor),‏

Textual Strategies: Perspectives in Post-Structuralist Criticism, Cornell University Press 1979, & Co. Ltd., 1980, p. 72.‏