Site icon

نظرية التوتر عند ميرتون

صك دوركهايم (Durkheim) مصطلح  الأنومي (anomie) والتي يختلف الباحثون العرب على وضع مصطلح لها بلغتهم، فالأنومي هي الخلخلة (خليل أحمد خليل)[1]، الإرتباك (سليم حداد )[2]، الفوضوية (أنسام الأسعد)[3]، والتفكك (المنظمة العربية للترجمة)[4].

الأنومي (سأعتمد المصطلح كما هو حتى الإتفاق على كلمة واحدة) تبعًا لدوركهايم تعبر عن وضع إجتماعي حيث تكون المعايير ضعيفة، متصارعة، أو غائبة، مما يسبب فوضى في المجتمع، وحيث يفقد الأفراد حسهم بالقيم والمعايير المشتركة، مما يؤدي إلى إلتباس في كيفية السلوك والتفكير.

إعتمد روبرت ميرتون[5] (Robert Merton) على مفهوم الأنومي ضمن نظرية التوتر (The strain theory) التي حاولت تفسير الإنحراف. وتبعًا له، يحدث الإنحراف عندما يكون هناك تفاوت بين الأهداف المحددة ثقافيًا، والوسائل الإجتماعية المشروعة لتحقيقها. هذا التوتر بين الهدف والوسيلة يدفع بالبعض لانتهاج سلوك منحرف.

بالطبع، الهدف، الوسيلة، والإنحراف تخضع لثقافة المجتمع، كيف يراها، يعيها، ويعرّفها.

لا بد من التوضيح أن الإنحراف هو أي سلوك يخالف المشهور أو المعتاد، وليس بالضرورة له أن يكون جرميًا! أي أن الإنحراف هو مخالفة لعادات، أعراف أو قوانين المجتمع (وبالحالة الأخيرة فقط يعتبر جرمًا).

الحالة الجرمية متعلقة بمخالفة القوانين المعتمدة ضمن الدولة، ومدى قدرة الدولة على فرضها، وإن كانت أحيانًا الثورات هي حالة إنحراف عن القوانين، فهي خاضعة للتعريف الإجتماعي، ولاحقًا يتم وسمها بالإيجابية أو السلبية تبعًا للمنتصر.

العادات (كما ذكرت في مقالة: مبادئ أساسية 4 – أبعاد الثقافة) هي القواعد التي تشمل الطرق العادية من التفكير، والتصرف، دون أن تحمل قيمة أخلاقية مرتفعة. والإنحراف في هذه الحالة، قد يجابه بنظرة، تقطيبة، أو لا شيء!

الإنحراف عن الأعراف (وهي قواعد ذات حمل أخلاقي كبير) يثير الرفض والإستهجان، وأحيانًا يمكن أن يؤدي إلى فعل جرمي!

أعود وأكرر أن الإنحراف ليس أمرًا سلبيًا بالمطلق، فأي تجديد يعتبر في البداية إنحرافًا، ومن ثم عندما تلتحق فيه الأكثرية يتحول إلى مشهور!

أي أن الإنحراف بتعريفه، خاضع لسياسة الأكثرية، كما للشروط الطبقية، وضمن النظام العولمي أصبح يخضع أيضًا للدولة الإمبريالية الأقوى. فالفعل المقاوم يوسم بالإنحراف، لأنه يؤذي مصالح الإستعمار المتحكم بإطلاق التسميات! والوقوف في وجه الاقتصادي الشره يوصف بالفوضوية (أو الشيوعية في الدول التي ما زالت – تبعًا للدعاية المغرضة – تقرنها بالإلحاد).

ميرتون في دراسته للمجتمع الأمريكي، أوضح أن الإنحراف هو ممؤسس ضمن بنية النظام نفسه! فالحلم الأمريكي كهدف لا يمكن تحقيقه إلا من قبل أقلية (بيضاء أو تتبنى عقيدة الرجل الأبيض)، ويعتمد آخرون وسائل غير مشروعة للوصول إليه، والبقية تنظر لنفسها باحتقار لأن عدم تحقيق الهدف يعني مشكلة فيها لا في المجتمع – ولذا تنتشر برامج التنمية الذاتية بكثافة هناك –!

إقترح ميرتون خمسة أساليب تكيفية لشرح التفاوت:

والصورة التالية توضح ما سبق:

إذا أردنا تطبيق منظور ميرتون على المألوف الذي يعيشه الناس، سنجد لدينا الممتثلون، الذي يعتبرونه الأفضل، ويعتمدون ذات الوسائل لتمريره، مساكنته، وتأكيده!

وهناك المنحرفون عن هذه الإمتثالية، وهم أربعة أنواع:

المألوف، هو ما اعتاده الناس، وهو ليس مقدسًا، هو المشهور، وبسبب شهرته، يعتمده الناس، طائعين، مرغمين، مهادنين، خانعين، حتى يأتي الرافضون، فيقولون لا!

حلقة الرفض للمألوف هي الطبيعية، ومن غير الطبيعي إعتماد المشهور كأساس لحياة معرفية سوية.

كيف يمكن القبول أن المعرفة التي أنتجت في القرون الغابرة، لها القول الفصل في حياتنا الآن؟!

أواقع كهذا يرتجى منه كشف الظلمات أم تكثيفها؟!

﴿… قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ {المائدة/104}﴾




الهوامش:

[1] خليل أحمد خليل، المفاهيم الأساسية في علم الإجتماع، بيروت، دار الحداثة، ط1، 1984، ص 66.

[2] بودون وبوريلو، المعجم النقدي لعلم الإجتماع، ترجمة: سليم حداد، بيروت، مجد، ط1، 1986، ص 25.

[3] جيل فيريول، معجم مصطلحات علم الإجتماع، ترجمة: أنسام الأسعد، بيروت، مكتبة الهلال، ط1، 2011، ص 32.

[4] مجموعة، مشروع المصطلحات الخاصة بالمنظمة العربية للترجمة، بيروت، المنظمة العربية للترجمة،-،-، ص 132.

[5] Merton, Robert K. (1969/1949). Social Theory and Social Structure. New York: Free Press.

———. (1938). “Social Structure and Anomie.” American Sociological Review 3, pp. 672–682.




ملاحظة: نشرتها مسبقًا على مدونتي على هذا الرابط.

Exit mobile version