Site icon

الأنثروبولوجيا في العصر القديم

.

يجمع معظم علماء الاجتماع والأنثربولوجيا، على أنّ الرحلة التي قام بها المصريون القدماء في عام 1493 قبل الميلاد إلى بلاد بونت (الصومال حالياً)بهدف التبادل التجاري، تعدّ من أقدم الرحلات التاريخية في التعارف بين الشعوب. وقد كانت الرحلة مؤلّفة من خمسة مراكب، على متن كلّ منها /31/ راكباً، وذلك بهدف تسويق بضائعهم النفيسة التي شملت البخور والعطور .ونتج عن هذه الرحلة اتصال المصريين القدماء بأقزام أفريقيا. وتأكيداً لإقامة علاقات معهم فيما بعد، فقد صوّرت النقوش في معبد الدير البحري، استقبال ملك وملكة بلاد / بونت / لمبعوث مصري .
1-عند الإغريق (اليونانيين القدماء ):
يعدّ المؤرخ الإغريقي (اليوناني) هيرودوتس ، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان رحالة محبّاً للأسفار، أول من صوّر أحلام الشعوب وعاداتهم وطرح فكرة وجود تنوّع وفوارق فيما بينها، من حيث النواحي السلالية والثقافية واللغوية والدينية. ولذلك، يعتبره معظم مؤرّخي الأنثربولوجيا الباحث الأنثروبولوجي الأوّل في التاريخ .


فهو أول من قام بجمع معلومات وصفيّة دقيقة عن عدد كبير من الشعوب غير الأوروبية (حوالي خمسين شعباً )، حيث تناول بالتفصيل تقاليدهم وعاداتهم، وملامحهم الجسميّة وأصولهم السلالية إضافة إلى أنّه قدّم وصفاً دقيقاً لمصر وأحوالها وشعبها، وهو قائل العبارة الشهيرة : “مصر هبة النيل ” .
وممّا يقوله في عادات المصريين القدماء : ” إنّه في غير المصريين، يطلق كهنة الآلهة شعورهم، أمّا في مصر فيحلقونها. ويقضي العرف عند سائر الشعوب، بأن يحلق أقارب المصاب رؤوسهم في أثناء الحداد، ولكن المصريين إذا نزلت بساحتهم محنة الموت، فإنّهم يطلقون شعر الرأس واللحية .
وأمّا عن المقارنة بين بعض العادات الإغريقية والليبية، فيقول : ” يبدو أنّ ثوب أثينا ودرعها وتماثيلها، نقلها الإغريق عن النساء الليبيات. غير أنّ لباس الليبيات جلدي، وأنّ عذبات دروعهن المصنوعة من جلد الماعز ليست ثعابين، بل هي مصنوعة من سيور جلد الحيوان. وأما ما عدا ذلك، فإنّ الثوب والدرع في الحاليتين سواء .. ومن الليبيين تعلّم الإغريق كيف يقودون العربات ذات الخيول الأربعة .
واستناداً إلى هذه الإسهامات المبكرة والجادة، يعتقد الكثيرون من علماء الأنثروبولوجيا، أنّ منهج هيرودوتس في وصف ثقافات الشعوب وحياتهم وبعض نظمهم الاجتماعية، ينطوي على بعض أساسيات المنهج (الأثنوجرافي) المتعارف عليه في العصر الحاضر باسم (علم الشعوب) .
وكذلك نجد أنّ أرسطو (348- 322 ق.م) كان من أوائل الذين وضعوا بعض أوليات الفكر التطوّري للكائنات الحيّة، وذلك من خلال ملاحظاته وتأمّلاته في التركيبات البيولوجية وتطوّرها في الحيوان .. كما ينسب إليه أيضاً، توجيه الفكر نحو وصف نشأة الحكومات وتحليل أشكالها وأفضلها، الأمر الذي يعتبر مساهمة مبدئية وهامة في دراسة النظم الاجتماعية والإنسانية.
إنّ الدارس أعمال الفلاسفة اليونانيين يصل إلى معلومة طريفة وذات صلة بالفكر الأنثروبولوجي، وهي: أنّ اليونانيين أخذوا الكثير من الحضارات التي سبقتهم، حيث امتزجت فلسفتهم بالحضارة المصرية القديمة، وتمخّض عنها ما يعرف باسم ” الحضارة الهيليلنية ” تلك الحضارة التي سادت وازدهرت في القرون الثلاثة السابقة للميلاد.
وعلى الرغم من هذا الطابع الفلسفي الذي يناقض – إلى حدّ ما – ما تتّجه إليه الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية (علم الاجتماع)من دراسة ما هو قائم، لا ما يجب أن تكون عليه الأحوال الاجتماعية والثقافية، فإنّ فضل الفكر الفلسفي اليوناني، ولا سيّما عند كبار فلاسفتهم، لا يمكن التقليل من شأنه أبداً.
2- عند الرومان :
امتدّ عصر الإمبراطورية الرومانية حوالي ستة قرون، تابع خلالها الرومان ما طرحه اليونانيون من مسائل وأفكار حول بناء المجتمعات الإنسانية وطبيعتها، وتفسير التباين والاختلاف فيما بينها.. ولكنّهم لم يأخذوا بالنماذج المثالية/ المجرّدة للحياة الإنسانية، بل وجّهوا دراساتهم نحو الواقع الملموس والمحسوس. ومع ذلك، لا يجد الأنثروبولوجيون في الفكر الروماني ما يمكن اعتباره كإسهامات أصيلة في نشأة علم مستقلّ لدراسة الشعوب وثقافاتهم، أو تقاليد راسخة لمثل هذه الدراسات .
ولكن، يمكن أن يستثنى من ذلك، أشعار / كاروس لوكرتيوس / التي احتوت على بعض الأفكار الاجتماعية الهامة. فقد تناول موضوعات عدّة عرضها في ستة أبواب رئيسة، ضمنّها أفكاره ونظرياته عن المادة وحركة الأجرام السماوية وشكلها، وتكوين العالم .. وخصّص الباب السادس لعرض فكرتي : التطوّر والتقدّم، حيث تحدّث عن الإنسان الأوّل والعقد الاجتماعي، ونظامي الملكية والحكومة، ونشأة اللغة، إضافة إلى مناقشة العادات والتقاليد والفنون والأزياء والموسيقى .
وقد رأى بعض الأنثروبولوجيين، أنّ /لوكرتيوس / استطاع أن يتصوّر مسار البشرية في عصور حجرية ثمّ برونزية، ثمّ حديدية .. بينما رأى بعضهم الآخر في فكر لوكرتيوس، تطابقاً مع فكر لويس مورجان ,أحد أعلام الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر. وذلك من حيث رؤية التقدّم والانتقال من مرحلة إلى أخرى، في إطار حدوث طفرات مادية، وإن كان مردّها في النهاية إلى عمليات وابتكارات عقلية .
وإذا استثنينا أشعار / لوكرتيوس / هذه وما احتوتها من أفكار تتعلّق بطبيعة الكون ونشأة الإنسان وتطوّره، فإنّه من الصعوبة بمكان أن تنسب نشأة علم الأنثروبولوجيا إلى الفكر الروماني القديم، كما هي الحال عند الإغريقيين .
وعلى الرغم من أنّ الرومان اهتموا بالواقع، من حيث ربط السلالات البشرية بإمكانية التقدّم الاجتماعي والحركة الحضارية، فقد وجدوا في أنفسهم امتيازاً وأفضلية على الشعوب الأخرى. فكان الروماني فوق غيره بحكم القانون، حتى أنّ الرومان إذا أرادوا أن يرفعوا من قدر إنسان أو شأن سلالة، أصدرت الدولة قراراً بمنح الجنسية الرومانية لأي منهما ويبدو أنّ هذا الاتجاه العنصري، وجد في معظم الحضارات القديمة، ولا سيّما الحضارات الشرقية : الإغريقية والرومانية والصينية .
3-عند الصينيين القدماء:
يعتقد بعض المؤرّخين، ولا سيّما الأنثروبولوجيون منهم، أنّه على الرغم من اهتمام الصينيين القدماء بالحضارة الرومانية وتقديرها، فلم يجدوا فيها ما ينافس حضارتهم.
كان الصينيون القدماء يشعرون بالأمن والهدوء داخل حدود بلادهم، وكانوا مكتفين ذاتياً من الناحية الاقتصادية المعاشية، حتى أن تجارتهم الخارجية انحصرت فقط في تبادل السلع والمنافع، من دون أن يكون لها تأثيرات ثقافية عميقة. فلم يعبأ الصينيون في القديم بالثقافات الأخرى خارج حدودهم، ومع ذلك، لم يخلُ تاريخهم من بعض الكتابات الوصفية لعادات الجماعات البربرية، والتي كانت تتّسم بالازدراء والاحتقار.
وهذا الاتّجاه نابع من نظرة الصينيين القدماء العنصرية، إذ كانوا يعتقدون – كالرومان – أنّهم أفضل الخلق، وأنّه لا وجود لأيّة حضارة أو فضيلة خارج جنسهم، بل كانوا يرون أنّهم لا يحتاجون إلى غيرهم في شيء .. ولكي يؤكّد ملوكهم هذا الواقع، أقاموا ” سور الصين العظيم ” حتى لا تدنّس أرضهم بأقدام الآخرين.
ولذلك، اهتمّ فلاسفة الصين القدماء، بالأخلاق وشؤون المجتمعات البشرية، من خلال الاتجاهات الواقعية العملية في دراسة أمور الحياة الإنسانية ومعالجتها، لأنّ معرفة الأنماط السلوكية التي ترتبط بالبناء الاجتماعي، في أي مجتمع، تسهم في تقديم الدليل الواضح على التراث الثقافي لهذا المجتمع، والذي يكشف بالتالي عن طرائق التعامل فيما بينهم من جهة، ويحدّد أفضل الطرائق للتعامل معهم من جهة أخرى. وهذا ما يفيد الباحثين في العلوم الأخرى، ولا سيّما تلك التي تعنى بالإنسان.

Exit mobile version