Site icon

آخر حوار للدكتور ‏أحمد أبو زيد 2010

حوار – أسامة الرحيمى

 

نقدم لكم آخر حوارات الدكتور‏أحمد أبو زيد و الذي أجراه معه الصحفي أسامة الرحيمي و نشر بجريدة الأهرام بتاريخ 20 أوت 2010.


محاورة عالم جليل بقامة الدكتور أحمد أبو زيد مشقة ومتعة فالتجهيز لها يتطلب مذاكرة ثانوية عامة‏!‏ وقراءة أعماله تشعل الذهن أسئلة وحيرة‏!‏والوقوف علي سيرته يضاعف الإعجاب بتجربته كرائد علم الإنسانيات في الجامعات المصرية والعربية‏ جاب مضارب البدو من إيران إلي المغرب‏,‏ وشغلته الأخلاق الشرقية في الصين والهند لتشابهها مع الصوفية الإسلامية‏,‏ وعايش القبائل الإفريقية‏,‏ فأيقن تمتعها بقيم حضارية أرقي ممن وصموها بالبدائية‏,‏ ونهبوا ثرواتها لقرون‏,‏ وصنعوها واستداروا يبيعونها لهم‏!‏ويحزنه بشدة احتكار دول العالم الأول التكنولوجيا‏,‏ وحرمان الدول الفقيرة منها‏,‏ والتغرير بها بوهم العولمة التي انكشفت سوءاتها لدرجة تنذر بحالة تذمر عامة من فقراء العالم ضد أغنيائه وفق توقعه‏.‏

وبجانب جهوده العلمية الدءوب‏,‏ ظل يحن إلي التمثيل الذي تعلق به إلي آخر سنواته الجامعية‏,‏ وما زال يعشق الموسيقي‏,‏ وتمني لو عمل صحفيا‏,‏ فأشبعت المجلات التي رأس تحريرها شغفه بها‏.‏
تسعون عاما قضاها في الترحال خلف قضايا الإنسان‏,‏ فرادي وقبائل وشعوبا في أنحاء العالم‏,‏ وهو ما جعلني أشعر بأن حواري معه مهما طال سيكون أشبه بصر الفيل في منديل‏.‏
الصحفي: لماذا لا توجد دراسات أنثروبولوجية عن طبائع الإنسان المصري‏,‏ وهل صحيح أن قبوله المهانة وخضوعه بسهولة‏,‏ وتفضيله الصمت من عاداته الطبيعية‏,‏ أم هي صفات جينية‏,‏ وتراكمات تاريخية لا تنبئ عن ملامح نفسية محددة ؟
د. أبو زيد : أعتقد أن هناك خطأ في فهم طبيعة الإنسان المصري وشخصيته‏,‏ فمن الظلم تماما أن نقول إنه سلبي ويقبل الإهانة‏,‏ فهذه مسألة تعود للثقافة السائدة في كافة المجتمعات الزراعية‏,‏ وإنسان هذه المجتمعات ينظر للبعيد وليس تحت قدميه‏,‏ فالزراعة تحتاج لكثير من الصبر‏,‏ وتتجلي كلمة صبر في أسماء الناس بتنويعات مختلفة صابر وصبرية وصابرين وغيرها‏.‏ والحقيقة أن الإنسان المصري يعتز بكرامته وإن لم يظهر هذا‏.‏ أضف إلي هذا ما تعرضت له مصر من احتلالات متعاقبة عبر التاريخ‏,‏ تعرض خلالها شعب مصر لكثير من الإذلال والمهانة‏,‏ خاصة في فترتي المماليك والعثمانيين‏,‏ وآخرها الاستعمار الإنجليزي الذي اعتمد القوي الناعمة في التسلل إلي الإنسان‏,‏ مثل

التعليم‏,‏ وفرق تسد‏,‏ وحتي ثورة يوليو التي بشرت بالديمقراطية وتحولت إلي دكتاتورية ضاغطة قاهرة‏.‏ وبالرغم من هذا كله يظل اعتزاز الإنسان المصري بكرامته شديدا ويظهر في الحالات الفردية لأن النشاط الجماعي محظور عليه‏,‏ وأذكر في الستينات جاء إلينا أساتذة أمريكان ليدرسوا الثقافة المصرية‏,‏ وحكت أمامهم زميلة لنا أن شخصا ألح في طلب المساعدة ووصفته بأنه بلا كرامة‏,‏ فقال لها أستاذ أمريكي‏:‏ لا كرامة مع الفقر‏,‏ لذا أعتقد أن إفقار دول العالم الثالث عمدي لإذلال شعوبها والسيطرة عليهم‏,‏ كما يحدث لمصر الآن‏,‏ والمزاوجة بين السلطة والمال مقصودة‏,‏ ومع ذلك أعتبر الاحتجاجات الأخيرة مهما كانت أسبابها دليلا علي شعور الإنسان المصري بكرامته‏.‏

الصحفي:  هل تظن أن شعوب العالم الثالث سترضخ في النهاية لوحش العولمة وتتركه يفني ثقافاتها ويطمس هوياتها ؟
د. أبو زيد :  لا‏..‏ شعوب العالم الثالث لن ترضخ لحركة العولمة‏,‏ التي انكشفت سوءاتها بعد الانبهار الأول‏,‏ واتضح انها هيمنة وليست عولمة‏,‏ وهيمنة متوحشة‏,‏ وإن استخدمت القوة الناعمة‏,‏ ولا ننسي أن هذه العولمة هي التي جعلت أمريكا تحاول إذلال واخضاع العالم الثالث وبخاصة الدول العربية والاسلامية‏,‏ سياسيا واقتصاديا‏,‏ لذا بدأت تظهر كتابات عن سلبيات العولمة‏,‏ وبدأ العالم الثالث يلتفت لأوضاعه ويقارنها بأوضاع العالم الأول‏,‏ وهناك نوع من التذمر أعتقد أنه سيؤدي لانفجار العالم الثالث ضد العالم الأول‏,‏ ونحن نشهد في رأيي بداية نهاية عصر العولمة‏,‏ كما يتجلي في زيادة النعرات القومية والشعور بالانتماء بالرغم مما يقال عن ضعف الانتماء للأوطان نتيجة للكبت السياسي‏,‏ وأعتقد أن تعالي هذه النعرات رفض للعولمة‏,‏ خاصة الهيمنة الأمريكية التي ترفضها أوروبا نفسها الآن‏.‏

الصحفي: ‏ تؤيد حق العالم الثالث في الاستفادة بتكنولوجيا العالم الأول‏,‏ فكيف يمكن التفرقة بين الملكية الفكرية وديمقراطية الثقافة؟
د. أبو زيد :  هذه النزعة موجودة في إفريقيا أكثر من أي مكان آخر‏,‏ فالأفارقة يرون أن الدول الأوروبية استعمرتهم واستنفدت مواردهم الطبيعية واستغلت طاقتهم البشرية‏,‏ وأثرت بسببهم‏,‏ لذا أصبحت تفكر بطريقة أفضل‏,‏ وحققت حياة أفضل‏,‏ والتعليم الجيد يزيد الرفاهية‏,‏ والتطور التكنولوجي‏,‏ وهذا كله بني بما استولوا عليه من المستعمرات‏,‏ لذا يري الأفارقة أن لهم حقا فيما وصل إليه الغرب من تقدم‏,‏ بينما كانوا هم منشغلين بسبل المعيشة‏,‏ وبما أن العالم الغني استغل قدراتهم الطبيعية‏,‏ واستعبد ملايين الزنوج‏,‏ فمن حقهم الحصول علي المقابل بمنطق الشراكة‏.‏

الصحفي: ‏ لكن العالم الأول يرفض هذا قطعيا‏,‏ وسن قوانين دولية لحماية الملكية الفكرية‏,‏ والتصدي لمن يستغلها دون دفع الثمن‏,‏ فهل يحق للعالم الثالث الاستفادة بالتقدم التكنولوجي من دون استئذان؟
د. أبو زيد :  طبيعي أن يرفض العالم الأول‏,‏ لكن المنطق أنهم ماداموا قد أخذوا‏,‏ فيجب أن يعطوا‏,‏ والغني عادة لا يحب أن يعطي الفقير‏,‏ والثقافة عندي لا وطن لها‏,‏ ويشترك فيها كل البشر‏,‏ ومن حق من لا يعلم أن يحصل علي المعرفة ليحقق إنسانيته‏,‏ وإذا كان الغرب كون معرفته نتيجة استلابه ثروة العالم الثالث‏,‏ فلماذا يحجب عنه المعلومات‏,‏ ويمنعه من الوصول لمستواه‏.‏

الصحفي: ‏ في كتابك سيكولوجية العلاقات بين الجماعات المنشور بسلسلة عالم المعرفة قلت‏:‏ نعيش اليوم موجة من الصراع والكراهية تسود بين الجماعات والقوميات المختلفة‏,‏ تصل ببعضها إلي حد التصريح باستخدام العنف‏,‏ والواقع الآن تجاوز التصريح إلي استخدام العنف بإفراط‏,‏ فهل عنف الأفراد والجماعات ناجم عن عنف الدول أم العكس؟
د. أبو زيد : ‏ الصراع مسألة دائمة منذ بدء الخليقة‏,‏ وأعتقد أن الماركسية وضعت أصبعها علي واحدة من أهم النقاط المميزة في تاريخ الإنسان والعالم‏,‏ والصراع قد يكون مدمرا‏,‏ أو يؤدي إلي النجاح‏,‏ فإذا قام علي التنافس يؤدي في آخر الأمر إلي التفاهم والتعاون‏,‏ فالصراع بين الإنسان والطبيعة؟ والإنسان والحيوان‏,‏ أو القبائل بعضها البعض‏,‏ لا بد أن يصل في النهاية إلي مرحلة تفاهم واتفاق وتهادن‏,‏ وهكذا‏,‏ صراع ثم تفاهم‏,‏ وأعتقد أن العالم لن يصل أبدا إلي مرحلة يسود فيها السلام المطلق‏,‏ فهذه يوتوبيا مجتمع طوباوي‏,‏ وهو لن يتحقق إطلاقا لأنه مخالف للطبيعة الإنسانية‏,‏ إلا إذا وصلت الإنسانية إلي مرحلة الصراع الثقافي‏,‏ ساعتها سيختفي الصراع ويسود السلام رغم مثالية التصور‏.‏

الصحفي: ‏ قبل بضع سنوات توصل المركز القومي للبحوث الجنائية عبر دراسة موسعة إلي أن العرب ينفقون‏5‏ مليارات دولار سنويا علي السحر‏,‏ ويوجد دجال لكل ألف عربي‏,‏ فهل الأمية سبب هذه الظاهرة‏,‏ بجانب الموروث الغيبي‏,‏ والاستعانة بالقوي الخارقة‏,‏ وهل ثمة تأثير للإحباط العام ؟
د. أبو زيد : ‏ سؤال مهم جدا‏,‏ ودراسة المركز القومي هذه تبين خطورة الوضع‏,‏ والواقع أن السحر ليس مسألة مقصورة علي مصر ولا الوطن العربي ولا العالم الإسلامي‏,‏ فهو في كل الثقافات‏,‏ فحتي الآن الخرافة في المجتمعات المتقدمة‏,‏ والمجتمعات العربية تلجأ للسحر كنوع من التعلق بالغيبيات بعد فقدانها الأمل في الواقع المر الذي تعيشه‏,‏ ويمكن القول إن الأسباب اجتماعية واقتصادية‏,‏ فلو تحسن المستوي الاقتصادي للناس‏,‏ وتلقوا تعليما جيدا‏,‏ فسيبتعدون تلقائيا عن السحر‏,‏ لأنه مرتبط بالتفكير الماضوي الغيبي‏,‏ وحينما ينحسر التفكير العلمي يحل التفكير الغيبي‏,‏ صحيح الدين فيه ناحية غيبية‏,‏ لكن الأديان بعيدة عن الخرافات‏,‏ ومن يعجز عن احتمال مصاعب الحياة يلجأ للغيب و السحر‏,‏ والخطورة في انتشار السحر بين الطبقات المثقفة‏,‏ صحيح بعض الناس في مجتمعات أوروبية يزورون مقابر الأولياء‏,‏ ويقدمون النذور‏,‏ إنما بطريقة أقل لأنهم لا يعانون الفقر والمرض والجهل مثلنا‏,‏ وإذا صلحت أحوالنا فسينفض الناس عن الغيبيات الضارة‏.‏

الصحفي: ‏ شاركت في إصدار مجلة تراث الإنسانية في الستينيات‏,‏ وكان مكتوبا عليها‏(‏ سلسلة تتناول بالتعريف والبحث والتحليل روائع الكتب التي أثرت في الحضارة الإنسانية بأقلام الصفوة الممتازة من الأدباء والكتاب والمفكرين‏),‏ فأين نحن الآن من تلك المشاريع الثقافية‏,‏ وصفوة الكتاب‏,‏ ولماذا انهار كل شيء ؟
د. أبو زيد : ‏ ترأست تحرير مجلة تراث الإنسانية لفترة قصيرة بتوجيه الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك‏,‏ وفي السبعينيات حصل تحول في نظرة السلطة للمثقفين‏,‏ والمفارقة أن عبدالقادر حاتم الذي قام في السبعينات بإغلاق المجلات كان هو المشرف عليها في الستينات‏,‏ لأنهم وجدوا أن المثقفين يسببون إزعاجا‏,‏ وكان رئيسا تحريرها قبلي هما زكي نجيب محمود‏,‏ وفؤاد زكريا‏,‏ وأنا خلفتهما بعد عودتي من الكويت‏,‏ وكانت أهميتها أنها تعرف القارئ بنوابغ الفكر العالمي‏,‏ وأهم الكتابات التي صدرت في العالم بمختلف ثقافاته ولغاته لينفتح علي كافة أنواع الفكر‏,‏ وحاولت لاحقا مع الدكتور الشنيطي تبويب الأعداد السابقة حسب الموضوعات واصدارها في شكل موسوعي‏,‏ وجمع أعدادها التي صدرت خلال‏12‏ سنة في أربعة مجلدات‏,‏ لكن عبدالقادر حاتم قال‏:‏ يبقي عملنا إيه‏,‏ إحنا كدة هنساعد المثقفين اللي احنا عايزين نقتلهم خالص‏,‏ وخسرنا ثروة مثل مجلات الرسالة لأحمد حسن الزيات‏,‏ والثقافة وكانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر وأشرف عليها أحمد أمين وطه حسين‏,‏ والكتاب وأشرف عليها د‏.‏عادل الغضبان وكان من الموسوعيين‏,‏ والمجلة التي رأسها يحيي حقي‏,‏ والمسرح والشعر‏,‏ وهذه المجلات كونت أجيالا من مفكري العصر الليبرالي‏.‏

الصحفي: هل يشعرك الواقع الآن بإحباط ؟
د. أبو زيد : ‏ ليس فقط بإحباط‏,‏ بل يشعرني باشمئزاز‏,‏ أعطيك مثالا واحدا‏,‏ جاءتني دكتورة جامعية تجري بحثا للترقية إلي أستاذ مساعد‏,‏ وقالت لي أنا قرأت كتابك عن البنائية‏,‏ وفيه جملة لم أفهمها‏,‏ في الفصل المكتوب عن بارت تقول‏:‏ وانصرف بارت عن التفكير اليساري بعدما كان شيوعيا وسألتني ما معني يساري؟ فقلت لها أنت عضو هيئة تدريس بالجامعة لا تعرفين معني التفكير اليساري‏,‏ فكان ردها مذهلا‏,‏ قالت‏:‏أصلنا ماأخذناهاش‏,‏ وهذا حال أغلب أساتذة الجامعة الآن للأسف‏,‏ ولأن مصر فقدت سماحتها الكزموبوليتانية‏,‏ فقد كان لنا أصدقاء من جاليات كثيرة‏,‏ وكان هذا بمثابة التلاقح الثقافي‏,‏ وأيضا أوقفت جامعاتنا إرسال مبعوثيها للخارج وانغلقت علي نفسها‏,‏ وتكاثرت أعداد الطلاب‏,‏ علي أيامنا كنا‏5‏ في قسم الفلسفة ويدرس لنا‏9‏ من كبار الأساتذة‏,‏ كل طالب له أستاذان تقريبا‏,‏ وعلاقاتنا بهم كانت مباشرة‏,‏ ولم يكن الأساتذة يؤلفون كتبا‏,‏ بل يرشدوننا إلي المراجع المهمة‏,‏ أما الأساتذة الآن فيعدون مذكرات يسمونها الكتاب الجامعي ويحصدون منها الآلاف‏,‏ وما زلت أذكر أول كتاب طبعته في حياتي كان تايلور عميد الإنثروبولوجيين بمطبعة المعارف‏,‏ وأعطوني مائة جنيه وكانت ثروة وقتها‏,‏ وأخيرا سمعت أن أستاذ اجتماع توفي قبل سنوات وترك‏11‏ مليون جنيه من بيع المذكرات‏,‏ وهذا لا يصيبني بالإحباط فقط بل بالقرف‏.‏

الصحفي: ‏ اكتسبت المثابرة من عائلة والدك ذات الأصول الصعيدية‏,‏ وهم رجال مال وأعمال‏,‏ وعشقت الأدب والشعر والموسيقي من عائلة والدتك ذات الجذور التركية‏,‏ فبات تكوينك كوزموبوليتاني مثل مدينتك الإسكندرية‏,‏ فكيف صالحت بين هذه الأشياء؟
د. أبو زيد :  والدتي من أصول تركية لكن أباها كان أزهريا‏,‏ وجدي كان يدرس أصول فقه في المعهد الأزهري في الإسكندرية برأس التين‏,‏ وبجانب كتب الفقه في مكتبته‏,‏ وجدت كتبا كلاسيكية مثل تاريخ ابن خلكان‏,‏ وكتاب الأغاني طبعة ساسي في شارع الأزهر‏,‏ والحيوان للجاحظ‏,‏ والحيوان للدميري‏,‏ وغزليات عمر بن أبي ربيعة‏,‏ ونسخة كاملة من ألف ليلة وليلة‏,‏ ورجوع الشيخ إلي صباه‏,‏ وكتب أدب مترجمة‏,‏ وكان له أصدقاء عميان يعزفون العود والكمان‏,‏ وشيوخ زمان كانوا يحبون الموسيقي‏,‏ ووجدت العديد من اسطوانات الغناء المصري القديم والتواشيح‏,‏ والموسيقي الكلاسيكية‏,‏ وهذا هو المحيط الذي نشأت فيه وشكل وجداني بلا قصد‏,‏ إضافة لتأثير الجاليات الأجنبية‏,‏ والمدرسين الإنجليز والفرنسيين‏,‏ وجدي لأبي كان يستورد الفحم من الخارج‏,‏ لبيعه للسكة الحديد التي كانت تعمل بالفحم آنذاك‏,‏ وورث والدي مهنته‏,‏ واذكر الصراع بينه وبين مستوردي الفحم اليهود في الإسكندرية‏,‏ وعرفت أن الصراع علي المال لايقل عن الصراع علي السلطة والحروب بين الشعوب‏,‏ لكن شيئا في الجينات جعلني أميل إلي جانب أمي‏,‏ فقرأت الفقه‏,‏ والشعر‏,‏ والأدب‏,‏ وعشقت الموسيقي فأمكنني التكييف بين هذه الأشياء‏.‏

الصحفي: ‏ حين تري مليارديرات مصر الآن ألا تندم أنك لم تصبح رجل أعمال منذ البداية ؟
د. أبو زيد : ‏ لماذا أراهم ؟‏!‏ قديما قلت ربنا يكفيني شر أهلي‏,‏ وبعدين أنا رجل‏(‏ كويس وعال‏)‏ الحمد لله‏,‏ منهومان لا يشبعان‏..‏ طالب علم وطالب مال‏,‏ أولاد أعمامي لا يشبعون من الفلوس‏,‏ الله يعطيهم‏,‏ وأنا لا أشبع من العلم‏,‏ وربنا أعطاني الكثير والحمد لله‏.‏

الصحفي: ‏ حصرت تصرفات الإنسان بين الإرادة الانفعالية والإرادة الفاعلة‏,‏ فكيف وفقت أنت بين هاتين الإرادتين في حياتك‏,‏ وهل عرضك تعارضهما أحيانا لأزمات ؟
د. أبو زيد : عادة يتعرض الإنسان لمواقف متعارضة تحتاج لقرار ويضحي فيه بكثير من رغباته‏,‏ والقرار الصائب الذي يمكن الإنسان من التغلب علي نزعاته الشخصية لصالح المجتمع‏,‏ والفضل في تفعيل الإرادة الفاعلة عندي يرجع إلي التربية التي تلقيتها في البيت‏,‏ والأساتذة الذين علمونا في الابتدائي والثانوي‏,‏ وتتلمذنا في الجامعة علي أساتذة كبار‏,‏ مما خلق عندي اهتماما شديدا بتنفيذ الواجب ولو تعارض مع رغباتي‏,‏ والإرادة المنفعلة تنتجها التربية الخاطئة بتلبية رغبات الفرد وإن تعارضت مع المجتمع والجماعة‏,‏ والأم هي المعلم الحقيقي لنا جميعا‏,‏ اعترفنا أو لم نعترف نحن أبناء أمهاتنا‏,‏ نحمل اسم الأب لكن التكوين يرجع للأم‏,‏ فهي تعلمنا تحمل المسئولية وتبلور شخصياتنا المستقلة دون عداء مع المجتمع‏,‏ مما يربي الإرادة الفاعلة‏,‏ وكثيرا ما تنازعتني هذه العواطف‏,‏ لكني عادة كنت أختار ما يلائم قيم المجتمع وأفضله علي أهدافي الشخصية‏,‏ والإرادة الفاعلة تحتاج للقدرة علي تحمل المسئولية‏,‏ وفي عصرنا كان الناس يتحملون مسئوليتهم بلا تردد‏,‏ نتيجة للتربية الصحيحة‏.‏

الصحفي: ‏ ألم يعرضك تعارض الإرادتين لمأزق ؟
د.أبو زيد : ‏ بعدما أنهيت الدكتوراه سنة‏1956‏ عرض علي أستاذي في جامعة أكسفورد العمل بجامعة مانشستر وقال إن الأوضاع غير مستقرة في مصر‏,‏ وسنعطيك مرتبا عاليا جدا‏,‏ وكنت أعرف أن مرتبي حينما أعود إلي مصر لن يتجاوز‏40‏ جنيها‏,‏ صحيح كان مبلغا محترما‏,‏ لكنه لا يقارن بمئات الجنيهات في مانشستر‏,‏ لكني شعوري بواجبي تجاه مصر التي أوفدتني جعلني أنحي استفادتي الشخصية‏,‏ وسنة‏1963‏ كان الدكتور عباس عمار ـ أستاذ الجغرافيا بجامعة القاهرة ووزير الشئون الاجتماعية مع جمال عبدالناصر ـ نائب رئيس مكتب العمل الدولي وسمع عني من أحد أساتذتي في أكسفورد فاتصل برئيس جامعة إسكندرية وطلب منه إعارتي لمكتب العمل الدولي‏,‏ وبعد‏3‏ سنوات انتهت إعارتي‏,‏ فعرض علي أن أستقيل من الجامعة وأظل في جنيف لأنه أنشأ قسما لدراسة المجتمعات القبلية خصيصا لي‏,‏ وهو تخصصي‏,‏ وظللت أنا وزوجتي ليلة كاملة نناقش مسألة العودة لمصر أو الاستمرار في جنيف‏,‏ وفي الصباح قالت لي زوجتي‏:‏ أنت لن تستريح إطلاقا إلا في مصر‏,‏ وأخبرت عباس عمار فقال لي‏:‏ إنت غاوي رمرمة‏,‏ لكنه في ليلة السفر أقام لي حفل عشاء وقال لي‏:‏ هذا قرار حكيم ولو عادت به الأيام وكان نائب مدير مكتب العمل الدولي ويوشك أن يكون المدير ولم يسعفه القدرـ لما تركت مصر علي الإطلاق‏,‏ وهذا يكشف أن الإرادة المنفعلة لم تستجب للإغراءات‏,‏ واستخدمت إرادتي الفاعلة خوفا علي أولادي وأهلي‏,‏ فلم أكن أحب أبدا أن أربي أولادي خارج مصر‏,‏ وقد حرصت علي تعليم أولادي تعليما مصريا في كل المراحل‏.‏

الصحفي: ما أهم ما يستحق إعادة الاكتشاف في شخصيتك الآن؟
د.أبو زيد : ‏ أنني أحببت التمثيل منذ الابتدائي وتعلقت به‏,‏ واشتركت في فرق التمثيل بالجامعة‏,‏ وكان المشرف عليها رجلا اسمه محمد مصطفي سامي وأصبح لاحقا مؤلفا وسيناريست سينمائيا وكتب عدة أفلام‏,‏ وفي المدرسة الثانوية قدمنا مجنون ليلي لأحمد شوقي وليست حزمني يا بابا التي تقدمها فرق الجامعة الآن‏,‏ وكان الممثل الراحل محمود مرسي رحمه الله بطل عروضنا دائما‏,‏ وظللت أهوي التمثيل إلي أن انتهيت من الجامعة‏,‏ وكنت غاوي أعزف كمان وكنا نتعلمه في المدرسة فاشتريت واحدا‏,‏ وأخطأت يوما وأخذته معي إلي البيت‏,‏ فقال لي والدي‏:‏ أنت رايح تتعلم ولا تبقي مزيكاتي وأجبرني علي بيع الكمان‏,‏ وانقطعت صلتي بالموسيقي كعازف‏,‏ لكني ظللت هاويا مخلصا‏,‏ وأيضا كنت أتمني أن أكون صحفيا وهذا تحقق لي بدرجة ما‏,‏ فكنا في الابتدائية نصدر مجلة سنوية‏,‏ وفي ثانوية رأس التين أصدرنا مجلة المدرسة‏,‏ وكان لدينا أستاذ يعلمنا كيف نكتب‏,‏ وكيف نجري الحوارات قبل إنشاء كليات الإعلام وأقسام الصحافة التي ربما كنت أدخلها لو كانت موجودة‏,‏ وقد أشبعت هذه الميول لاحقا بشكل أو بآخر‏,‏ فأنا مستمع جيد جدا للموسيقي خاصة الكلاسيك‏,‏ وحفيدتي شيرين بيانست ماهرة‏,‏ وعزفت في مدن مهمة منها استانبول‏,‏ وأثينا‏,‏ وميونيخ‏,‏ وروما‏,‏ وحققت ما لم أفعله‏,‏ وأيضا أنا كتبت في أفضل المجلات مثل الرسالة‏,‏ والتراث الإنساني‏,‏ وعالم الفكر‏,‏ ومطالعات في العلوم الاجتماعية التابعة لليونسكو‏,‏ والعربي الكويتية‏,‏ فتحقق حلمي الصحفي‏,‏ فالرغبات التي يحلم بها الإنسان وهو صغير يمكنه تحقيقها بإرادته الفاعلة‏.‏

الصحفي: ‏ أفادتك هواية الصحافة المبكرة في كتابة أبحاثك ومقالاتك بسلاسة وبلغة راقية ؟
د. أبو زيد : ‏ حين أصدرنا مجلة عالم الفكر قال لي أستاذ الأدب العربي العراقي محبوبة زوج الشاعرة الشهيرة نازك الملائكة وكانت معه وقتها‏,‏ تعبيرا لا أنساه وهو ان مجلة عالم الفكر مثال للصحافة الأكاديمية وكنت أول مرة أسمع هذا التعبير‏,‏ أي أنني كنت صحفيا بمستوي أكاديمي‏.‏

Exit mobile version