جيلبير دوران والمتخيل الأنتروبولوجي: الجزء الثاني

الترسيمات الذهنية الأولية:

يستعمل كانط هذا المصطلح في سياق نظريته حول المعرفة كما تبين سابقا، ويعتبره “إجراء عاما للمخيلة لإسناد صورة لتصور”، فبدون هذه الترسيمات تظل المقولات عاجزة عن تجاوز دورها المنطقي. إن دورها، إذن، أساسي بين الصورة والتصور، بين المقولات الذهنية والأشياء التي تعطيها الحواس، لكن استعمال دوران لهذا المصطلح يختلف. صحيح أن دور الترسيمات الذهنية الأولية هو الربط والوصل، إلا أنه ربط بين الحركات الحسية-الحركية اللاشعورية، أي ردود الفعل المهيمنة المشار إليها سابقا، وبين التمثلات. وهذا الفهم، عموما، هو الذي نجده عند بياجي وباشلار من خلال مصطلحي “الرمز الوظيفي” و”الرمز المحرك” على التوالي. ومن ثم، فإن الترسيم الذهني الأولي Le schème هو تعميم دينامي وانفعالي للصورة” وبالتالي، تلعب هذه الترسيمات، المحركة للمتخيل، دورا تأطيريا، بحيث تقوم بدور العمود الفقري الدينامي للمخيلة وتصميمها الوظيفي. وعليه، فهي مسارات وأبعاد تتجسد في تشخيصات ملموسة ومحددة. وعلى سبيل المثال، فإن حركة الوضع العمودي يقابلها شكلان من أشكال الترسيمات الذهنية الأولية

إقرأ المزيدجيلبير دوران والمتخيل الأنتروبولوجي: الجزء الثاني

جيلبير دوران والمتخيل الأنتروبولوجي: الجزء الأول

 

مصطفى النحال

قبل شروعه في بلورة تصور متماسك لدراسة المتخيل، يشير دوران إلى تجنبه لأونطولوجيتين اثنتين هما: ا

1- الأنطولوجيا السيكولوجية التي ليست سوى نزعة روحانية متسترة،

2- الأنطولوجيا الثقافوية التي ليست، بصفة عامة، سوى قناع للموقف السوسيولوجي.

فكلتاهما تختزل المتخيل في تفسير أحادي الجانب، إما في بعده النفسي المرتبط بفلسفة الذات، أو في بعده الثقافي المغرق في نزعته الاجتماعية “الموضوعية”، وكلتاهما تنتهي إلى اختزال الصورة، ومن ثم المتخيل، في نزعة “تشييئية”. والملاحظ أن دوران يقف كثيرا عند جان


إقرأ المزيدجيلبير دوران والمتخيل الأنتروبولوجي: الجزء الأول

الأطروحة الانقسامية بين الإرث الخلدوني والسوسيولوجيا الوضعية

الدكتور محمد جحاح

أستاذ السوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة المولى إسماعيل مكناس

تقديــــــم

تعد الانقسامية بحق، من بين النظريات التي مارست إغراء كبيرا على الباحثين، خاصة المهتمين منهم بمجال المجتمع القروي بالمغرب(1) وشمال إفريقيا. وقد تبدو أهمية هذه النظرية وجاذبيتها أيضا، في طابعها التبسيطي، وفيما تقدمه من قدرة على استيعاب مختلف أشكال ومستويات الحياة الاجتماعية والسياسية، ضمن مقولات أكثر بداهة وأولية من قبيل: مقولة “النسب”. هذه الأخيرة التي تشكل البنية الارتكازية لأي تحليل انقسامي، والمفهوم الذي تتحدد من خلاله وعبره كافة مستويات التنظيم الاجتماعي والسياسي “الانقسامي”؛ بدءا من أصغر وحدة (العائلة)، وانتهاءا بأكبرها وهي (القبيلة).

قد تبدو هذه النظرية إذن، وفي تركيزها الشديد هذا على مفهوم النسب، أقرب إلى نظرية ابن خلدون حول “العصبية القبلية”، لدرجة “يصبح ابن خلدون عندها أب التجزيئين (…. ) خاصة لما يعالج (… ) علاقة الدولة بالمجتمع ومسألة اللاتمركز عند المغاربيين”(2). وهنا بالذات تكمن إحدى أسس الطرح الانقسامي التي لم تأخذ حقها بما يكفي من الدراسة والتحليل.
في الواقع، لا يمكن نفي ذلك التأثير القوي الذي مارسته النظرية الخلدونية هذه حول “العصبية”، ليس فقط على الانقساميين وحدهم، بل أكثر من ذلك على من سبقهم من مؤرخي وإثنوغرافيي الإدارة الكولونيالية الفرنسية. لكن الذي يمكن قوله بخصوص هؤلاء قد ينطبق – إلى حد بعيد – على الانقساميين: فالكل انطلق من “نصوص خلدونية مفصولة عن سياقاتها، أو دون أخرى تعدلها وتنقحها”(3). علاوة على ذلك، نضيف بأن ابن خلدون نفسه – ورغم موضوعيته – قد ظل سجين تطلع سياسي نحو دولة إمبراطورية وسلطة مركزية، وهذا ما لم يتحقق في إطار تجربة الدولة الموحدية ولا المرينية التي خلفتها؛ مما جعله يضخم من واقع التجزئة و”الانقسام” الذي حال دون هذا التطلع(4). ومن هنا أصل رؤيته الانقسامية، التي جعلت (إرنست كلنر) يصفه بالمؤسس الفعلي للخطاب الانقسامي حول المجتمعات المغاربية.
لكن، إذا كانت إحدى أصول الأطروحة الانقسامية تمتد، بشكل أو بآخر، إلى حدود ابن خلدون ونظريته تلك حول “العصبية والدولة” كما صاغها في مقدمته الشهيرة(5)، فإن الأساس النظري والإبستمولوجي – بالمعنى الدقيق للمفهوم – والذي يؤسس لهذه الأطروحة، قد يعود بأصوله إلى السوسيولوجيا الوضعية Sociologie positive خاصة مع إميل دوركهايم E. Durkheim . ونستحضر هنا بالتحديد، ما كتبه هذا الأخير حول المجتمع “القبائلي” بالجزائر، ضمن كتابه الشهير “حول تقسيم العمل الاجتماعي”(6) باعتباره عملا مرجعيا في هذا الإطار. فقد غذى كثيرا تلك النزعة “الانقسامية” التي سرعان ما تم احتضانها ضمن مشروع الأنثروبولوجيا الاجتماعية الأنجلو – سكسونية، خاصة مع الباحث الإنجليزي (إيفانس برتشارد)(7).
إذا كان الباحث الأنثروبولوجي (إيفانس بريتشارد) هو أول من طبق إذن مبادئ التحليل الانقسامي، في إطار دراسات ميدانية حول قبائل “النوير” (Newer) السودانية وقبائل البدو الموالية للزاوية السنوسية بصحراء “برقة” الليبية، فكيف يمكن تقييم محاولات من سبقوه في هذا التوجه الانقسامي: خاصة (إميل دوركايم) و (روبير مونطاني) R.Montagne ، وقبلهم ابن خلدون بالطبع؟ وما مدى مساهماتهم في تشكيل عناصر اقتصاد مفاهيمي، سوف يشكل رأسمالا تأسيسيا للبناء النظري الانقسامي؟ أو بشكل أدق: كيف، وإلى أي حد يمكن الحديث عن نوع من الاستمرارية والتقاطع بين الخطابين “الخلدوني” و “الوضعي” من جهة وبين “الخطاب الانقسامي” حول المجتمعات المغاربية؟ وفي نفس السياق أيضا، ما هي أهم الموضوعات والقضايا التي تركزت حولها اهتمامات الباحثين الانقساميين؟ وما هي أهم الانتقادات التي يمكننا توجيهها لهم في هذا الإطار؟
-Iابن خلدون والتأسيس للخطاب الانقسامي حول المجتمعات المغاربية.
في مقال له تحت عنوان “العرب والبربر في مختبر التاريخ الاستعماري”، شدد الأستاذ (بنسالم حميش) كثيرا على ما اعتبره – بشكل من الأشكال- علاقة تأسيسية بين كل من الأطروحتين: الكولونيالية “الفرنسية”، والانقسامية “الأنجلو-سكسونية” من جهة، وبين نظرية ابن خلدون حول “العصبية والدولة” من جهة ثانية(8). فقد كان تعاطي هؤلاء مع المتن الخلدوني تعاطيا انتقائيا، بحيث تم التركيز على عناصر من

إقرأ المزيدالأطروحة الانقسامية بين الإرث الخلدوني والسوسيولوجيا الوضعية

الخيمـة: أدواتها وقيمها الرمزية بين الماضي والحاضر

دراسة أنثروبولوجية في الزيبان وجنوب الأوراس

ملخص رسالة ماجستير في الأنثروبولوجيا بالمركز الجامعي خنشلة

تقديم :سليم درنوني*

إشراف: أ. د. بورايو عبد الحميد

خيمة

المقـــــــــــــــــــــــــــدمة

إن ما يميز حياة البدو هو الحل والترحال وعدم الإستقرار بالمكان، ذلك أن الموارد التي يتعاملون معها في حياتهم ومعيشتهم تتحرك في الزمان والمكان، إنهم يتعاملون مع الحيوان الذي يتحرك وبتنقل في المكان، ومع النبات الذي يتحرك في الزمان، فتطلب ذلك مسكنا قابلا بدوره للحركة والإنتقال. وكانت الخيمة من بين الوسائل التي تحقق للبدو التكيف مع هذا النمط من الحياة، إنها أهم أداة تلائم حياة التنقل والترحال، ليس للبدو فقط بل لكل من يمارس حياة التنقل والترحال. تعتبر الخيمة إذن من بين الرموز التي ترمز إلى الرعي والترحال في البوادي، وركن هام من أركان الحياة البدوية، لها مراسيمها وطقوسها، كما تحمل قيما رمزية لها دلالاتها ومعانيها. وقد تشكلت حولها تقاليد وإنتاجات ثقافية وفنية ثرية ومتنوعة ، أصبحت حيزا رمزيا وفضاء للذاكرة وعلامة على مجموعة قيم سامية. في حاجة إلى الإستحضار والرصد والبحث والإكتشاف.

وتحتل الخيمة من الناحية الثقافية مكانة خاصة، ليس لأنها مذكورة في القرآن:) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (. بل ولما لها أيضا من ارتباط بتاريخ المجتمع المغاربي، فهي تعبر عن وجوده الحضاري، كما تعبر عن استمراريته وصيرورته، بل وفي بعض الأحيان تعتبر شكلا من أشكال التعبير عن الهوية.

إن الدراسة الأنثروبولوجية للخيمة ولقيمها الرمزية التي ترتبط بها تكشف لنا عن هذا الفضاء الثقافي المتنقل في المواسم، عبر المناطق الصحراوية والجبلية. كما يبين لنا هذا النوع من الدراسات أيضا العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الناشئة عن فضاء الخيمة، فهم وتفسير ظاهرة استمرار النسق القيمي البدوي داخل الفضاءات الحضرية.

إقرأ المزيدالخيمـة: أدواتها وقيمها الرمزية بين الماضي والحاضر

“القفازة”(الشطارة) أو المفهوم الجديد للنجاح

أ. زين الدين خرشي*

القفازة

مقدمة:
أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماعنا لكلمة “القفازة” أو لإحدى المقولات -المروج لها في مجتمعنا- المتضمنة لها على شاكلة “إقفز تعيش”، هو الانتشار الواسع الذي يعرفه استعمال هذه المفردة اللغز. الشيء الذي يدفعنا للتساؤل عن ما هي “القفازة”؟ ما هو مضمونها؟ ما هي دلالاتها الاجتماعية؟ لماذا هذا الربط “المنطقي” بين العيش والقفازة؟ من هو الشخص القافز؟ … هي أسئلة، تتطلب الإجابة عنها تجاوز مرحلة الوصف -التي لابد منها كخطوة أولى للفهم والإحاطة– إلى البحث في “القفازة” باعتبارها ظاهرة اجتماعية تستوعب مجموعة من القيم والسلوكات. وذلك من خلال وضعها في السياق المجتمعي العام الذي ظهرت ونمت فيه وربطها بمختلف أبعاده الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية.
إن أهمية دراسة قيمة وسلوك “القفازة” في المجتمع الجزائري تكمن في طابعها الخاص، الذي يتأكد لنا من خلال مؤشرين رئيسيين. الأول هو أنها من القوة والحضور عند معظم شرائح المجتمع (على اختلاف الفئات العمرية) لدرجة أنها صارت لوحدها مرادفا لمكانة اجتماعية مميزة. فالشخص القافز هو الشخص الذي يتحلّى بمجموعة من القيم والسلوكات المحددة (فهو: فحل، راجل، فاهم، عارف بخبايا الحياة والمجتمع، مرن في تعاملاته وعلاقاته، يخرج من المواقف الصعبة بسهولة تامة، يستغل كل الفرص الممنوحة له …الخ)، التي تمكنه من تحقيق وبلوغ الهدف السامي وهو النجاح في الحياة (إذن هي سلوك هادف و عقلاني؟). أما المؤشر الثاني فهو كونها تلعب دورا مركزيا في دينامية التغير القيمي في المجتمع الجزائري عن طريق “شرعنتها” و”تبريرها” لوجود مجموعة أخرى من القيم، بأن توفر لها شروط الانتقال من نطاق المحرم (اجتماعيا وأخلاقيا) إلى نطاق المسموح به والمقبول.

1. تحديد مفهوم القفازة:
لغة: بالرغم من أن مفردة “القفازة” هي كلمة دارجة يشيع استعمالها في اللهجة الجزائرية -وبذلك حاملة لمضامين، ومعبرة عن دلالات اجتماعية وثقافية خاصة بهذا المجتمع-، إلا أن أصلها اللغوي مستمد من العربية الفصحى، فـكلمة:”القفازة” مشتقة من الفعل “قفز”،

إقرأ المزيد“القفازة”(الشطارة) أو المفهوم الجديد للنجاح