البدائية

Primitive

درجت بعض فروع علم الاجتماع على إمضاء (البدائية) مرحلة طبيعية في تاريخ الوجود الإنساني، ونشأت في هذا النطاق مصفوفة من النظريات والرؤى التي تبحث في المجتمع البدائي، سواء على صعيد بداياته التأريخية وجذوره الزمنية أم على صعيد حقيقة وجوهر المنهاج الحياتي والعقلي لهذا المجتمع.

ويعتمد باحثوا هذه القضية في صياغة رؤيتهم العلمية عن البدائية ومجتمعها على أقوام متواجدين على هذه الأرض يعتبرونها تحاكي أو تطابق المجتمع الانساني في بداياته التأريخية السحيقة، فضلاً عن استيحاء بعض الآثار المادية التي تركها الانسان، وهو يمارس حياته الأولى، علماً أن هذه البحوث تتخذ من الانسان العاقل الذي يرجع تأريخه ـ كما يقولون ـ إلى 000ر20 سنة، بأنه بداية الكائن الإنساني الحالي، وإن مرحلة البدائية التي يتحدثون عنها تندرج ضمن المساحة التأريخية للإنسان العاقل.

لقد تظافرت علوم الاجتماع الغربية على التعامل مع (البدائية) كحقيقة أولية لابدّ منها، وكان للماركسية الدور الأكبر في تكريس هذا التصور، وقد أفاضت في طرح التصورات والأفكار حول المرحلة البدائية للمجتمع البشري.

ـ عقبات المنهج:

على أن هذا التسالم القبلي اصطدم بجملة عقبات بعد مراجعة نقدية شاملة لقضية البدائية ومجتمعها ومرحلتها.

والعقبة الأولى ذات بعد منهجي:

إن الباحثين هنا يستندون في دراساتهم واستنتاجاتهم إلى معلومات يجمعونها أو يسمعونها عن (أقوام) معاصرة يعدونها بدائية سلفاً، وبالمقارنة بين عاداتها وتقاليدها وأنماط سلوكها، يصممون نظرياتهم عن البدائية وملابساتها.

إن أساسيات هذا المنهج لا تتمتع بالمتانة العلمية والرصانة المنطقية، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: إن هذا المنهج ينطلق من موضوعةٍ يصعُبُ إقرارها مسبَّقاً وهي تحتاج إلى إثبات علمي، وتتجسد هذه الموضوعة في اعتبار بعض الأقوام نماذج بدائية، ولكن اختيار (الأقوام) في الكونغو والأمازون واستراليا، وإخضاعها لحكم أو عنوان اجتماعي أنثروبولوجي هو في حد ذاته عملية غير مقبولة، لأنها نوع من الحكم الأولي في مسألةٍ معقدة للغاية.

ثانياً: ليس هناك من دليل ينفي إمكانية انحدار هذه المجتمعات عن سابقةٍ أرقى نمطاً في السلوك ونماذج الحياة، ثم تحولت إلى ما عليه بفعل عوامل معينة. إن مثل هذه الإثارة تزيد من مصاعب هذا المنهج وتطالبه بمزيد من الإيضاح حول عملية الإخضاع هذه، فهي ولا ريب ذات طابع قسري.

ـ ثالثاً: إن أكثر هؤلاء العلماء يمضون مدة زمنية محدودة مع هذه الأقوام، ثم ينطلقون في وضع رؤية عملية شاملة عن البدائية وقضاياها!! وفيهم مَن كان يعتمد على المعلومات التي تنقل إليه بالمراسلة مثل (مورجان) الذي استند كارل ماركس إلى كتابه وبحوثه في تفسير المرحلة البدائية.

وفي الحقيقة إن مثل هذه الجهود ليست كافية ـ عملياً ـ في تأسيس نظرية رصينة عن أخطر قضية تتعلق بطبيعة الانسان وماضيه وروحه وفطرته، خاصة وإن التعميم في الظواهر الاجتماعية يتعرض إلى نقد حاد من داخله.

ـ رابعاً: إن أسلوب المقارنة بين العادات والتقاليد والأفكار بين المجتمعات والأقوام التي تعبر (بدائية) أضحى أسلوباً قديماً وغير مقبول لدى الأنثروبولوجي الحديث، وترتكز المقارنة لديه على العادات في صلتها بنسق اجتماعي معين، وذلك لأن العادات قد تتحد أو تتشابه في مظهرها، إلا أنها تختلف اختلافاً واضحاً من ناحية وظيفتها الاجتماعية، وأن لكل منها جذر يتصل بكل مجتمع قائم بنفسه.

إن أسلوب المقارنة بين العادات وإلحاق بعضها ببعض على أساس الأسبقية الزمنية من خلال تعدد المجتمعات يُعتبر منهج سطحي، يتناسى قوة الفكر والتأمل لدى الإنسان.

ـ عقبات التعريف:

ولكن المشكلة لم تتوقف عند حدود المنهج بل تتعداه إلى مسألة أخرى، فقد تساءل علماء الأنثروبولوجيا الجدد عن معنى (البدائية)، فليس من المعقول أن تتأسس علوم حول موضوع مجهول التعريف، فلابد وهذه الحال أن نوفر تعريفاً دقيقاً للبدائية، حتى يمكن الولوج إلى دراستها كظاهرة وتاريخ ومجتمع.

وقد تعددت التعاريف هنا بشكل مذهل، ونحن هنا نستعرض قسماً منها:

1 ـ الفجاجة، انعدام التطور،تدني التوعية.

2 ـ عدم كفاية الوسائل بالنسبة للأهداف.

3 ـ البساطة وعدم التمايز أو النقيض العام للعقيدة.

4 ـ نقطة في الزمان مبكرة أو أولى.

5 ـ ما هو أصلي أو قديم.

6 ـ إشارة إلى مجتمعات ساحقة في القدم.

7 ـ مجتمعات معاصرة تعتمد على الصيد والزراعة واقتصاد (إقطع ـ إحرق).

8 ـ اللاكتابة.

9 ـ إشارة إلى مجتمعات تفتقد الجانب التكنولوجي.

10 ـ كل الشعوب التي هي خارج نطاق المدنية الغربية.

11 ـ مجتمعات لا تمتلك تراثاً مكتوباً.

12 ـ مجتمعات فاقدة للوثائق التاريخية.

13 ـ مجتمعات ذات صبغة دينية.

14 ـ مجتمعات تقوم العلاقات فيها على أساس القربى والدم.

15 ـ مجتمعات تطورها متوقف.

16 ـ مجتمعات معزولة عن العالم.

17 ـ مجتمعات صغيرة عن العالم.

18 ـ مجتمعات وحشية.

19 ـ مجتمعات أصيلة، أي لم تختلف مع غيرها.

20 ـ مجتمعات يتعارض قانونها مع القانون الأوروبي.

21 ـ مجتمعات شعبية.

22 ـ مجتمعات تضفي على كل نواحي الطبيعة صفات روحية.

هذه بعض التعريفات العامة التي يطلقها الكتاب الاجتماعيون الغربيون على البدائية والمجتمع البدائي حتى قال أحدهم: ((اصطلاح البدائية هو الاصطلاح الأساسي في علم الأنثروبولوجيا، وأنه الاصطلاح الذي يدور حوله هذا الحقل من حقول المعرفة، ومع ذلك فإنه اصطلاح يستعصي على التعريف … ))، وعلى تعبير أنثروبولوجي آخر ((لقد أصبح الانسان البدائي شخصية أسطورية تقريباً في التراث المكتوب لمعظم اللغات الأوروبية .. )) فقد غدا هذا الانسان كالمشجب يعلقون عليه أنواعاً كثيرة من الآراء.

وعليه، فإن اصطلاح البدائية واسع الاستعمال في الأعمال التقويمية ذات الصبغة العامة، وأن المعاني المرتبطة به تصف بالغموض والتضارب.

وقد لاحظ الباحثون على جملة التعريفات السابقة المفارقات التالية:

أولاً: إن بعض الكتاب يربطون بكلمة البدائية معاني البساطة، القدم، التدني السافر، ويوحون بأنها شيء غير مرغوب فيه، مع أن بعضاً آخر، يتحدث عن صفات جيدة مثل: الإحساس القوي بالأمان الشخصي، أو مثل: العلاقات الاجتماعية القائمة أساساً على آصرة القربى، أو مثل: التعاون من أجل تحقيق الأهداف المشتركة.

ثانياً: إن العديد من هذه المعاني إلى جانب تنوعها وانعدام الصلة بينها، تُستخدم بإهمال وتضارب فيما بينها.

ثالثاً: إن بعض الكتاب يستعملون الاصطلاح بحكم العادة الاجتماعية السائدة.

وأخيراً: إن استخدام كلمة البدائي بالذات لا يُقدم أي ميزة فكرية أو تحليلية … إن استخدام كلمة بدائي لم يُعِنّا على إيجاد نظرية أو نظريات معينة محددة في علم الانسان وتأريخه الحضاري، بل العكس يشكل عائقاً دون هذا الجهد.

ـ الأسطورة:

ويأتي في هذا السياق الحديث عن الأسطورة في علم الأنثروبولوجيا الحديث، فالأسطورة تعني خواء من الفكر في أكثر أدبيات علماء الاجتماع والتاريخ سابقاً، وتُسمى أسطورة لأنها خيال لا ينطوي على واقع، أو لأنها تتنافى مع ما وصل إليه العلم!!

ولكن هذا التهوين للأسطورة فَقَدَ هيبتَهُ أخيراً، لأنها تعبر عن جهد عقلي جدي في تفسير الأشياء، أي أنها أصيلة في تيار المجهود العقلي والفكري للإنسان، وليست مزحة أو تسلية أو خيال، وكما يقول ليفي شتراوس: ((إن أصالة التفكير الأسطوري تكمن في كونه تفكيراً مفهومياً، بل الأسطورة لا تعني سوى العقل البشري الذي يضعها مستعيناً في ذلك بالعالم، وإن الأساطير تعكس لنا صورة محسوسة للعالم، وأنها قد تصل إلى بُنية المعادلة شبه الرياضية)). ويحاول شتراوس أن يحول الأسطورة على قطعة موسيقية، ومن المعلوم أن الموسيقى تنسيق ونِسَب وعلائق متوازنة، ويؤكد شتراوس في مكان آخر إن الأسطورة ((لغة من الدرجة الثانية تتجلى، لا انطلاقاً من عناصر منعزلة بل انطلاقاً من تأليفات لابد من العمل على وصف نشاطها أو سيرها الوظيفي))، بل إن الفكر العلمي والأسطوري ـ إذا جاز هذا التعبير ـ منضبطان بنسق منطقي واحد.

ولكن لماذا الهجوم على الأسطورة ما دامت نظرية نيوتن بالضوء تعتبر أسطورة قياساً إلى ما طرحه مجدداً انشتاين في هذا المجال؟

فالأسطورة من هذا المنطلق تعني نظرية عملية ولكنها خاطئة، فهي علم ولكنه غير متطابق مع الواقع بشكل من الأشكال، وتحويل الأسطورة إلى رمز هي من إضافات التاريخ بعد أن أخفقت الأسطورة في تفسير الواقع على أثر كشوفات ومعلومات جديدة.

فالأسطورة إذن محاولة كشف، محاولة تعليل وتفسير، مثلها مثل العلم.

ـ ثورة في الموضوع:

وفي غمرة هذه التحولات المفصلية في موضوعات علوم الأنثروبولوجيا، وما حصل في نفس المفاهيم من نقلات نوعية في الفهم والتفسير .. تتحدث أفكار عملاقة عن ضرورة إحداث ثورة في ذات موضوع الأنثروبولوجيا وبعض العلوم الاجتماعية الأخرى.

يقول لويس ممفرود في كتابه (أسطورة الآلة): ((لقد ارتكب الأنثروبولوجيون جريمة نكراء في حق ما قبل التأريخ عندما اعتبروا إن الأشياء المادية (العظام والحجارة بوجه خاص) البرهان الوحيد الذي يمكن قبوله عملياً على فعاليات الانسان البدائي، فالطقوس الدينية واللغة والتنظيم الاجتماعي التي لم تترك أي أثر مادي وعلى الرغم من حضورها المستمر في كل حضارة، لكن بلا شك أهم ما أنتجه الانسان بدء من أولى المراحل، فلقد كان هذا الانسان يسعى إلى صياغة (أنا) انسانية متعالية على (أناه) الحيوانية، وذلك بصُنع الرموز التي يمكن أن يستمدها من إمكاناته الخاصة كأحلامه وأصواته وانحناءات جسده)).

ويرى هذا الباحث الشاب: إن الكثير من عناصر الثقافة الإنسانية كانت متقدمة على صناعاته واختراعاته التكنولوجية، فمن الأمثلة الحاضرة نرى شعوب بوشيمان الاسترالية تمتلك تكنولوجيا غارقة في البدائية، لكن احتفالاتها الدينية منظمة تنظيماً عائلياً إلى درجة قصوى وتملك لغة غنية جداً، ومن الأمثلة القديمة نرى إن المصريين والعراقيين يخترعون فنّ الكتابة الرمزي، فيما لا يزالون يستعملون العصي للحفر، علماً إن لغاتهم كانت وسائل متقنة ومعقدة.

لقد أساء الإنسان إلى نفسه عندما سمى نوعه أو عندما أطلق على (أناه) اسم حيوان صانع الآلات، وترك مذخورهُ من الفكر والأسطورة والرمز.

ولهذا يدعو البعض إلى تأسيس أنثروبولوجيا جديدة تتولى التراث الفكري للإنسان الغابر، وليس أدواته الحجرية فحسب، والوصول إلى ذلك التراث ليس مستحيلاً رغم أنه صعب.

ـ نتائج مختصرة:

من هذا العرض الموجز يمكننا أن نلخص النتائج التالية:

أولاً: إن البدائية مصطلح قلق، ولا يمكن أن نعتمد على هذه الكلمة دونما تحديد.

ثانياً: لم يتمكن علماء الأنثروبولوجيا الجدد إلى تحديد دقيق وواضح لمعنى البدائية ثم الرجل البدائي وأخيراً المجتمع البدائي.

ثالثاً: إن الإنسان البدائي يفكر كما نفكر نحن، وهو محكوم بنفس النسقية المنطقية التي تخضع لها عملية تفكيرنا.

رابعاً: إن الأسطورة مفهوم وعلم، وتنطوي على محاولة جادة لتفسير الأشياء ولكنها قد تخفق.

خامساً: إن الإنسان يستبق إنجازاته التكنولوجية بإنجازات تأملية وعقلية وثقافية تتصل برؤيته عن الوجود.

سادساً: والمطلوب الآن من علماء الأنثروبولوجيا أن يولوا اهتماماً أكثر مساحة وتركيزاً للجنبة العقلية والثقافية على صعيد تاريخ الانسان.

هذه أهم النتائج التي يمكن أن نرتبها على جملة المقدمات السالفة، وجوهر النتائج يعطي حصيلة خطيرة مهمة، وهي إن الإنسان بدأ حياته واعياً ومدركاً ومتأملاً، وأن قوة الخلق التأملي والتكنولوجي طارئة أو جاءت بعد تطور حصلت في ذات الإنسان، فهو مخلوق مفكر وصانع في الأساس.

رأيان حول “البدائية”

  1. لدين ;

    كما رأينا شعر دوركايم بالحاجة للتركيز على التجليات المادية للحقائق الاجتماعية غير المادية. مثلا ً القانون في( تقسيم العمل) ومعدلات الانتحار في (الانتحار ) لكن في كتابه (الأشكال الأولية للحياة الدينية) شعر دوركايم بالراحة الكافية لمناقشة الحقائق الاجتماعية غير المادية، خاصة الدين، بصورة أكثر مباشرة. في الحقيقة الدين هو الحقيقة الاجتماعية غير المادية المطلقة ودراسته اتاحت له إلقاء المزيد من الضوء على كل نسقه النظرى.
    بالرغم من أن البحث الوارد في ( الأشكال الأولية…) ليس لدوركايم، لكنه شعر أنه من الضروري وضع تفكيره عن الدين في معلومات منشورة. المصدر الأساسي لتلك المعلومات دراسات عن قبيلة الارونتا الأسترالية البدائية. شعر دوركايم أنه من الأهمية دراسة الدين داخل ذلك الإطار البدائي لعدة أسباب. أولا ً، كان يرى أنه من السهل التعمق في الطبيعة الأساسية للدين في إطار بدائي وليس في مجتمع حديث. الأشكال الدينية في المجتمع البدائي يمكن ” توضيحها في كل صفائها وتحتاج فقط إلى مجهود بسيط لعرضها “. ثانياً، الأنساق الأيدلوجية للأديان البدائية أقل نمواً من الأديان الحديثة ويصاحب ذلك وجود تشويش أقل. وقد ذكر دوركايم ” أن ما هو ثانوي وليس أساسى لم يغط بعد المكونات الأساسية. كل شئ مختزل إلا ما لا يمكن الاستغناء عنه، إلى الذى بدونه لا يمكن أن يكون هنالك دين ” ثالثاً، في حين أن الدين في المجتمع الحديث يأخذ أشكالاً مختلفة ففي المجتمع البدائي نجد ” انسجاماً فكرياً وأخلاقياً” . لذلك يمكن دراسة الدين في المجتمع البدائي في أكثر صوره نقاء ً. أخيراً بالرغم من أن دوركايم درس الدين البدائي لكن ذلك ليس بسبب اهتمامه بالدين البدائي في نفسه، بل درسه من أجل أن “يصل إلى فهم للطبيعة الدينية للأديان وليوضح بذلك جزءًا مهماً وأساسياً من الإنسانية” أكثر تحديداً، درس دوركايم الدين البدائي ليلقى الضوء على الدين في المجتمع الحديث.
    بما أن الدين في المجتمع البدائي منسجم وشامل، يمكننا أن نقول أن ذ لك الدين يعادل الضمير الجمعي. أي أن الدين في المجتمع البدائي هو أخلاق جمعية شاملة لكن كلما تطور المجتمع وأصبح أكثر تخصصاً كلما احتل الدين نطاقاً أضيق. وبدل أن يكون ضميراً جمعياً في المجتمع الحديث أصبح الدين أحد التمثلات الجمعية. وفى حين أنه يعبر عن بعض المشاعر الجمعية فإن مؤسسات أخرى مثل (القانون والعلم) أخذت تعبر عن جوانب أخرى من الأخلاقية الجمعية. بالرغم من أن دوركايم يرى أن الدين أصبح يحتل نطاقاً ضيقاً ، لكنه أقر أن معظم إن لم يكن كل التمثلات الجمعية في المجتمع الحديث يرجع أصلها إلى الدين الشامل في المجتمع البدائي.

    المقدس والمدنس:

    السؤال الأساسي بالنسبة لدوركايم كان عن مصدر الدين الحديث. وبما أن التخصص والغطاء الايدولوجى يجعل من الصعب دراسة جذور الدين في المجتمع الحديث مباشرة، تناول دوركايم الموضوع في إطار المجتمع البدائي. السؤال هو من أين أتى الدين البدائي والحديث ؟.
    منطلقاً من موقفه المنهجي الأساسي أن الحقيقة الاجتماعية تسببها حقيقة اجتماعية أخرى، خلص دوركايم إلى أن المجتمع هو مصدر الدين. المجتمع من خلال أفراده يخلق الدين من خلال تعريفه لظواهر معينة بأنها مقدسة وأخرى بأنها مدنسة. تلك الجوانب من الواقع الاجتماعي التى تعرّف على أنها مقدسة، تلك التى تعزل وتعتبر من المحرمات تكَّون أساس الدين. ما تبقى يعتبر مدنساً، تلك هى جوانب الحياة اليومية، العامة، النفعية والدنيوية. المقدس يؤدى إلى سلوك يحتوى على التقديس، الاحترام، الغموض، الرهبة والشرف. الاحترام الذى ينسب لظواهر معينة ينقلها من المدنس إلى المقدس .
    التمييز بين المقدس والمدنس وارتفاع بعض ظواهر الحياة الاجتماعية إلى المستوى المقدس ضروري ولكن ليس كافيا ً لتطور الدين. ولابد من توفر ثلاثة ظروف أخرى. أولا ً ، يجب أن يتطور نسق من المعتقدات الدينية. والمعتقدات ” هى التمثلات التى تعبر عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقاتها مع بعضها البعض أو مع الأشياء المدنسة ” . ثانيا ،ً من الضروري أيضا وجود نسق من الطقوس ” هذه هى قوانين السلوك التى تصف كيف يلائم الإنسان نفسه في وجود الأشياء المقدسة ” أخيراً يحتاج الدين إلى كنيسة، أو مجتمع أخلاقي. التداخل بين المقدس، المعتقدات، الطقوس والكنيسة قاد دور كايم إلى تعريف الدين كما يلي ” الدين نسق موحد من المعتقدات والممارسات تجاه الأشياء المقدسة، أي الأشياء التى تعتبر محرمة – المعتقدات والممارسات التى تتوحد في مجتمع أخلاقي واحد يعرف بالكنيسة وكل الذين يلتزمون بذلك ”

    الطوطمية :

    رؤية دوركايم أن المجتمع هو مصدر الدين شكلت دراسته للطوطمية وسط الأرونتا في أستراليا. الطوطمية هي نسق ديني تعتبر فيه بعض الأشياء خاصة الحيوانات والنباتات مقدسة، وترمز للعشيرة. واعتبر دوركايم أن الطوطمية هى الشكل الأكثر بدائية وبساطة للدين ويوازيها شكل بدائي من التنظيم الاجتماعي ذلكم هو العشيرة . إذا تمكن دوركايم من توضيح كيف أن العشيرة هى مصدر الطوطمية، يكون بإمكانه إثبات حجته أن المجتمع هو منبع الدين . فيما يلي عرض لحجة دوركايم ” الدين الذى يرتبط مباشرة بالنسق الاجتماعي ويتفوق على كل ما سواه في بساطته يمكن اعتباره أكثر الأديان التي نعرفها أولية. وإذا نجحنا في اكتشاف أصل المعتقدات التى حللناها سابقاً، سيكون بإمكاننا في نفس الوقت اكتشاف الأسباب التي تؤدى إلى نشوء المشاعر الدينية لدى الإنسان “.
    بالرغم من أنه يمكن أن يكون للعشيرة أكثر من طوطم واحد، فإن دوركايم لا يعتبر ذلك سلسلة من المعتقدات المنفصلة وغير المترابطة حول حيوانات أو نباتات محددة، وإنما أعتبرها نسقاً مترابطاً من الأفكار تعطى العشيرة تمثيلاً كاملاً عن العالم. ليس النبات أو الحيوان هو مصدر الطوطمية، إنه فقط يمثل ذلك المصدر. الطواطم هى التمثيل المادي للقوى غير المادية فيها. وتلك القوى غير المادية ليست أكثر من الضمير الجمعي للمجتمع ” الطوطمية دين، ليس بتلك الحيوانات أو بتصورات الناس، وإنما بتلك القوى المجهولة وغير الشخصية، موجودة في كل تلك الكيانات لكنها ليست ممتزجة بأي منهما. الأفراد يموتون والأجيال تذهب ويأتي غيرها لكن هذه القوى تبقى دائماً حية كما هى. إنها تنفخ الحياة في أجيال اليوم مثلما فعلت بأجيال الأمس وكما ستفعل بأجيال الغد “.
    الطوطمية خاصة والدين بشكل عام مشتقان من الأخلاق الجمعية، وهى في نفسها قوى غير شخصية. إنها ليست سلسلة من النباتات، الحيوانات والأرواح فقط .

    الانفعال الجمعي :

    الضمير الجمعي هو مصدر الدين كما يرى دوركايم، لكن من أين يأتي الضمير الجمعي نفسه ؟ في نظر دوركايم إنه يأتي من مصدر واحد هو المجتمع. في الحالة البدائية التى درسها دوركايم يعنى هذا أن العشيرة هى المصدر المطلق للدين. لقد كان دوركايم صريحاً حول هذه النقطة عندما ذكر ” إن القوى الدينية ليست أكثر من القوى الجمعية والمجهولة للعشيرة ” ففي حين أننا ربما نوافق على أن العشيرة هى مصدر الطوطمية يبقى السؤال كيف تخلق العشيرة الطوطمية. تقع الإجابة في مكون أساسي من مستودع مفاهيم دوركايم وإن كان لم يناقش بشكل كاف، ذلك هو الانفعال الجمعي .
    مفهوم الانفعال الجمعي لم يوضح جيداً في أي من أعمال دوركايم بما في ذلك (الأشكال الأولية للحياة الدينية ) ويبدو أنه كان في ذهنه وبشكل عام اللحظات الكبرى في التاريخ التى أمكن فيها للجماعة تحقيق مستويات عليا من الرقى والتي تقود بدورها إلى تغيرات كبرى في بنية المجتمع. الإصلاح الديني وعصر النهضة في أوروبا نماذج لفترات تاريخية كان فيها للانفعال الجمعي أثر مشهود على بنية المجتمع. ذكر دوركايم أن الدين ينشأ من الانفعال الجمعي ” إنه وسط هذه البيئات الاجتماعية المنفعلة ومن هذا الانفعال نفسه يبدو أن الدين يولد ” وخلال فترات الانفعال الجمعي يخلق أفراد العشيرة الطوطمية .
    باختصار، الطوطمية هى التمثيل الرمزي للضمير الجمعي والضمير الجمعي بدوره يأتي من المجتمع لذلك فإن المجتمع هو مصدر الضمير الجمعي والطوطمية…

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.