نقد النموذج الإنقسامي

inkissamia

نقد النموذج الإنقسامي

لطفي الإدريسي

بداية وعلى الرغم طبعا من الانتقادات التي يمكن توجيهها للبراديكم الانقسامي، لابد من الاعتراف – وبكل موضوعية – بأن معظم الأبحاث التي تندرج في إطار هذه الأطروحة، لاتزال إلى حدود الراهن بمثابتة مرجعيةعلمية و أكاديمية بالنسبة لجل الباحثين لوجاهتها – طبعا بعد إخضاعها لمقتضيات النقد العلمي الرصين – فهي تعد مرجعا لا غنى عنه في دراسة تاريخنا الاجتماعي والسياسي. فهي تقدم لنا نفسها كأداة وكنموذج و قالب منهجي و نظري، وبعيدا عن كل حس مشترك و خلفيات الباحثين الإيديولوجية، فهي تضم في فصولها إمكانات هامة على مستوى الرؤية والتحليل، وأيضا معطيات إثنوغرافية دقيقة حول موضوعات ظلت إلى عهد قريب من قبيل الطابوهات المحرمة إجتماعيا التي لا يمكن للباحثين الوطنيين الخوض فيها دون مشاكل: من قبيل موضوع “المؤسسة الملكية”، مع كل من “ريمي لوفو” الفلاح المغربي المدافع عن العرش “جون واتربوري” أمير المؤمنين؛ وموضوعات أخرى ذات حساسية دينية وسياسية أيضا. هذا دون أن ننسى أو نتناسى بأن هناك – وعلى مستوى الواقع- استمرارية ما وبشكل من الأشكال، لبعض البنيات الانقسامية التي ما تزال توجه في العمق وتحكم حقل ممارساتنا السياسية والاجتماعية ولا سيما السلوك الإنتخابي الذي و لا يزال قبليا و عصبيا بإمتياز . ولعل قراءة متأنية لبعض مكونات الحقل السياسي المغربي أو العربي عموما اليوم، من حيث آليات وميكانيزمات اشتغاله وبعض السلوكات السياسية المرتبطة به،إنها لتؤكد بشكل لا يقبل الشك بأن الثقافة السياسية السائدة اليوم، ما تزال تحتفظ بنوع من العلاقة الملتبسة والمتحايلة أيضا، مع بعض مفردات ومضامين من “القاموس الانقسامي”: (القرابة، القبيلة، الزبونية، اللف، العائلة، العار،… )؛ وهذا في حد ذاته يستدعي أكثر من قراءة وتأويل في هذا الإطار. ولعل هذا ما يعزز أكثر مصداقية وقوة هذا النموذج النظري الانقسامي، في تقاطع وتكامل مع نماذج نظرية أخرى بالطبع، في تعميق وترشيد فهمنا لواقعنا الراهن، كواقع لا زال يتأرجح بين سيرورة التحديث ومقاومات التقليد، بين ثقل التاريخ وإكراهات “الهنا والآن” بكل أبعادها وتجلياتها الاجتماعية، السياسية، الثقافية والاقتصادية.
بطبيعة الحال، كل ذلك سوف لن يعفينا من توجيه بعض الانتقادات لهذا النموذج النظري، الذي نرى فيه نموذجا تأسيسيا وتأصيليا لنوع من علاقة القوة والسيطرة بين الغرب الامبريالي وباقي بلدان العالم؛ خاصة منها النامية.
فحسب الباحثة الأنثروبولوجية (ليلى أبو اللغد)، فقد “استدعى الإطار الوظيفي – البنائي للنظرية الانقسامي بداية على الرغم طبعا من الانتقادات التي يمكن توجيهها للبراديكم أو النموذج الانقسامي، لابد من الاعتراف – وبكل موضوعية – بأن معظم الأبحاث التي تندرج في إطار هذه الأطروحة، لاتزال إلى حدود الراهن بمثابتة مرجعية أكاديمية عقلانية ووجيجة بالنسبة لجل الباحثين – طبعا بعد إخضاعها لمقتضيات النقد العلمي الرصين – في تعد مرجعا لا غنى عنه في دراسة تاريخنا الاجتماعي والسياسي. فهي تقدم لنا كأداة وكنموذج نظري، وبعيدا عن كل حس مشترك و خلفياتها الإيديولوجية، فهي تضم في فصولها إمكانات هامة على مستوى الرؤية والتحليل، وأيضا معطيات إثنوغرافية دقيقة حول موضوعات ظلت إلى عهد قريب من قبيل الطابوهات المحرمة إجتماعيا التي لا يمكن للباحثين الوطنيين الخوض فيها دون مشاكل: من قبيل موضوع “المؤسسة الملكية”، مع كل من “ريمي لوفو” “جون واتربوري”؛ وموضوعات أخرى ذات حساسية دينية وسياسية أيضا. هذا دون أن ننسى أو نتناسى بأن هناك – وعلى مستوى الواقع- استمرارية ما وبشكل من الأشكال، لبعض البنيات الانقسامية التي ما تزال توجه في العمق وتحكم حقل ممارساتنا السياسية والاجتماعية ولا سيما البعد الإنتخابي الذي و لا يزال قبليا و عصبيا بإمتياز . ولعل قراءة متأنية لبعض مكونات الحقل السياسي المغربي أو العربي عموما اليوم، من حيث آليات وميكانيزمات اشتغاله وبعض السلوكات السياسية المرتبطة به،إنها لتؤكد بشكل لا يقبل الشك بأن الثقافة السياسية السائدة اليوم، ما تزال تحتفظ بنوع من العلاقة الملتبسة والمتحايلة أيضا، مع بعض مفردات ومضامين من “القاموس الانقسامي”: (القرابة، القبيلة، الزبونية، اللف، العائلة، العار،… )؛ وهذا في حد ذاته يستدعي أكثر من قراءة وتأويل في هذا الإطار. ولعل هذا ما يعزز أكثر مصداقية وقوة هذا النموذج النظري الانقسامي، في تقاطع وتكامل مع نماذج نظرية أخرى بالطبع، في تعميق وترشيد فهمنا لواقعنا الراهن، كواقع لا زال يتأرجح بين سيرورة التحديث ومقاومات التقليد، بين ثقل التاريخ وإكراهات “الهنا والآن” بكل أبعادها وتجلياتها الاجتماعية، السياسية، الثقافية والاقتصادية.
بطبيعة الحال، كل ذلك سوف لن يعفينا من توجيه بعض الانتقادات لهذا النموذج النظري، الذي نرى فيه نموذجا تأسيسيا وتأصيليا لنوع من علاقة القوة والسيطرة بين الغرب الامبريالي وباقي بلدان العالم؛ خاصة منها النامية.ة نوعا من الرفض الصارم من قبل اتجاه الأنثروبولوجيا التأويلية أو الثقافية”(1). وتمثل هذا الموقف بوضوح في آراء كل من (روزن وهلدريد غيرتز)(2) ، ونضيف هنا أيضا كلا من (كليفورد غيرتز) في دراسته حول “السوق كنسق ثقافي بالمغرب”(3)، و (ديل إيكلمان) في دراسته الرائدة حول: “الإسلام بالمغرب”(4)، من دون أن ننسى طبعا دراسة الأستاذ (عبد الله حمودي) المتميزة، حول النسق الثقافي للسلطة بالمجتمعات العربية، ونعني هنا أطروحة “الشيخ والمريد”(5).
فهؤلاء جميعهم، “كانت ردة فعلهم ضد رؤية المجتمع المغربي كمجتمع انقسامي، توازي رفضا نظريا لافتراضات وتأكيدات المنهج البنائي الاجتماعي في التنظير الأنثروبولوجي، لصالح منهج ثقافي وتأويلي”(6). وفي هذا الإطار سعت الباحثة الأمريكية (هلدرد غرتز)، من خلال أبحاثها حول المغرب – خاصة في البحث الذي خصته لـ “معاني القرابة في المجتمع المغربي”(7)- إلى التأكيد على أن نظرية “النسب الانقسامي” تظل قاصرة، بل عاجزة عن سبر أغوار البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي. ففي نظرها، حتى وإن استخدم المغاربة أحيانا “الانقسامية” كمصطلح، فإن مفاهيمهم الأساسية، وتصوراتهم للعلاقات القرابية والجماعية هي في الواقع مختلفة. وفي نفس السياق، فقد سعى الباحث الأنثربولوجي (روزن) إلى تطوير عدد من المفاهيم كبديل عن مفهوم “النسب”؛ معتبرا إياها بمثابة أطر مرجعية لتشكيل الهوية الاجتماعية والثقافية بالنسبة للإنسان المغربي. وقد اقترح في هذا الصدد مفاهيم: (الأصل، الإقامة والقرابة = La parenté ) باعتبارها أسسا مرجعية يمكن للأفراد أن يبحثوا على أساسها عن العلاقات الممكنة، وذلك عندما يشرعون في بناء شبكة من العلاقات الشخصية. وربما في نفس الاتجاه ينبغي أن نفهم دراسة (د. إيكلمان) حول “الزاوية الشرقاوية”(8)، حيث اقترح هذا الباحث مفاهيم ومقولات أخرى بديلة عن مفهوم “العصبية القبلية” لدى ابن خلدون، أو “النسب الانقسامي”. وهذه المفاهيم تشكل في نظره مفاتيح لفهم سلوك وتصرفات المغاربة، اتجاه وضعيات اجتماعية وسياسية مختلفة؛ ويجمل أهمها في: (العار، الحق والحشومة = La pudeur ).
في نفس الاتجاه الأنثروبولوجي دائما، لسنا في حاجة إلى كثير من التفصيل في النقد الذي وجهه الأستاذ عبد الله حمودي للأطروحة الانقسامية، وذلك سواء في أطروحته السالفة الذكر: “الشيخ والمريد” – والتي تؤكد عمق تجذره النظري والمنهجي من داخل “المدرسة التأويلية في الأنثربولوجيا”– أو قبل ذلك، في مقاله الشهير: ” الانقسامية، التراتب الاجتماعي، السلطة السياسية و القداسة”(9). إن ما نستخلصه من كل هذا، هو ذلك الرفض الجذري الذي أبداه (عبد الله حمودي) إزاء نموذج التحليل الانقسامي، خاصة عند (إرنست كلنر) في دراسته الأنثروبولوجية حول قبائل “آيت عطا” وعلاقاتها بـ “زاوية أحنصالة”(10). لقد انتقد (حمودي) أهم استنتاجات (إرنسنت كلنر)، خاصة فيما يتعلق بمبدإ “المساوات الانقسامية” و”الطبيعة المسالمة والمحايدة” للصلحاء وشيوخ الزوايا، كما أكد رفضه التام لفكرة “انفصال القبيلة عن مجال الدولة” – والتي عبر عنها الانقساميون من خلال مقولة “السيبا”، وصراع البربر ضد العرب في شخص المخزن-. وبطبيعة الحال، لا يخفى أن هذه الأطروحة في الأصل، كان قد روج لها – وكما رأينا من قبل – الخطاب الكولونيالي الفرنسي، وذلك في إطار استراتيجية استعمارية معروفة.
لقد حاول (إرنست كلنر) إذن، وحسب (حمودي) دائما، فرض نظريته البسيطة على حالة سوسيو-تاريخية مركبة، مضيفا أنه كان بالإمكان لهذه النظرية أن تلاقي بعض الحظ من النجاح، لو كان الناس في المجتمع المدروس أنفسهم يتمسكون بالإيديولوجية الانقسامية التي يروجون لها ويعيشونها كواقع. لكن، وكما تؤكد الوثائق التاريخية ومعطيات الواقع المعيش، يخلص (عبد الله حمودي) إلى أنه “لا إيديولوجية شيوخ القبائل، ولا النظرية الانقسامية الموازية تصف واقعا فعليا”(11).
لعل هذا ما سبق وأكد عليه الباحث المغربي (بول باسكون P.Pascon )، حين اعتبر بأن القبيلة بالمغرب تشكل “جمعية سياسية مبنية على عوامل اقتصادية، جغرافية، أي علاقات الإنسان بالأرض والطاقة البشرية والثروة الطبيعية لفضاء ما، في مستوى تكنولوجي معين”(12)؛ وليست الأنساب هنا سوى تعبيرا عن إيديولوجيا. أو كما يضيف الأستاذ (عبد الكبير الخطيبي): فمن ارتباط أو تفكك هذه الأنساب، تنبعث حركة للسيطرة متخفية وراء إيديولوجية نسبية، ووراء مساواة مفترضة بين الأجزاء”(13). وبالعودة إلى (بول باسكون)، يمكن أن نستحضر هذا النص الذي يلخص – في اعتقادنا – أهم عناصر نقده للنظرية الانقسامية: “أعتقد أن القبيلة في شمال إفريقيا الحديث (ق. 19 و 20)، ليست تجزيئية إلا حين ننسى وجود عائلات وأنساب في الأسفل، ووجود سلطة المخزن في الأعلى. وهي ليست تجزيئية، لا في المجتمع الصغير micro- société ولا في المجتمع الكبير macro- société . فالتجزيئية في الواقع شكل للهروب أمام مشكل الاستيلاء على السلطة القايدية، فهي وسيط بين النسب والدولة الممركزة”(14).
لقد كان هدف النظرية الانقسامية واضحا إذن، وهو الإيهام بأن المغرب لم يكن قط دولة ممركزة وموحدة، – (وهو نفسه الموقف الذي عبر عنه، صراحة، ابن خلدون من قبل )- وإنما كان عبارة عن مجتمع انقسامي، يقاوم سلطة المخزن ككيان غريب عن جسم هذا المجتمع القبلي / البربري.
لقد ظل الانقساميون بذلك، أوفياء لأطروحة (R. Montagne ) حول “البرابرة والمخزن”(15). بل أكثر من ذلك، قد شكل (ابن خلدون) المرجع الأساس دائما بالنسبة إليهم جميعا: سواء بتأكيده على أهمية “النسب” في تقعيد العلاقات الاجتماعية والسياسية أو في تضخيمه لعوامل “الصراع العصبي”، كصراع بين “البدو” و”الحضر” أو بين “القبيلة” و”الدولة”، أو بنزعه صفة التاريخية (L’historicité) عن المجتمعات المغاربية. ولا شيء يدعو للغرابة أو الاستغراب هنا، أمام الشهادة التي أدلى بها (إرنست كلنر) في حق “معلمه الأول” ابن خلدون، والذي لا يتردد في نعته بالأب المؤسس للخطاب الانقسامي.

لائحة المراجع والإحالات:

– (1) ليلى أبو اللغد: “المجالات النظرية في أنثروبولوجيا العالم العربي”، ترجمة أبو بكر باقادر، مجلة منبر الحوار، العددان (32-33) ربيع وصيف 1994، ص37..
– (2) نفسه، ص ص ( 37-42)؛ لمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى الكتاب المشترك بين كل من (كليفورد غيرتز، هيلدريد غيرتز ولورانس روزن): ” المعنى والنظام بالمجتمع المغربي”؛
– Clifford Geertz ; Hildred Geertz and Lawrence Rosen : « Meaning and order in Moroccan society: Three essays in cultural analysis » ; Cambridge University Press, 1979.
-(77) Ibid ; PP (123-310).
– (3) ديل إيكلمان: ” الإسلام في المغرب”، ترجمة محمد أعفيف، دار توبقال للطباعة والنشر، الطبعة الأولى-الدار البيضاء 1989.
– (4) عبد الله حمودي: ” الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة”، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى- الدار البيضاء 2000.
– (5) ليلى أبو اللغد، مرجع سابق، ص 37.
-(81) Hildred Geertz ; op.cité.
– (6 ديل إيكلمان: ” الإسلام في المغرب”، ترجمة محمد أعفيف، دار توبقال للطباعة والنشر، الطبعة الأولى-الدار البيضاء
– (7 عبد الله حمودي: “الانقسامية والتراتب الاجتماعي والسلطة السياسية والقداسة”، ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق؛ مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط، عدد(11) 1985-(84) Erneste Gelner : « The Saints of Atlas » ; op.cité.
– (8) ليلى أبو اللغد، مرجع سابق، ص 38؛ وللإطلاع بتفصيل على النقد الذي وجهه عبد الله حمودي للأطروحة الانقسامية في شخص (إرنست كلنر)، يمكن الرجوع إلى مقال الباحث حول: “الانقسامية، التراتب الاجتماعي، السلطة السياسية والقداسة”، مرجع سابق.
– (18) عبد الكبير الخطيبي: “النقد المزدوج”، دار العودة، بيروت.
– 11) نفسه، ص 196.
– (10) نفسه، ص 196.

 

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.