نحو نظريّة اجتماعيّة للهاتف المحمول

د.أحمد محمد صالح

منذ أكثر من عشرين عاما تضطرني ظروف العمل إلى السفر الى جنوب مصر ، بطريقة منتظمة ودورية ، ومن مقعدي الدائم المجاور لنافذة القطار تقابل الكثير كصحبة سفر ، وهم عادة من أساتذة الجامعات ، ورجال القضاء والنيابة ، والمحاماة والزراعة والري ، والشرطة والجيش ، و كانت مصر بمشاكلها دائما هى موضوع حديث السفر ، وتغير الموقف الآن ، وأصبح الكل مشغولا بالمحمول ! وأصبح السفر معاناة ، فبدلا من الاستمتاع بقراءة كتاب ، أو حديث مثمر ، او النوم استعدادا للعمل ، سيطرت أجراس التليفون المحمول على الموقف ، ولا تمضى دقيقة الا وتسمع رنينا ، ومحادثات بصوت مرتفع ، فهذا غزل ، وذاك غضب وثورة ، وتلك تحية باردة ، وانتهكت الخصوصية ! وضحكت من الدراسة الإيطالية الأخيرة التى نشرتها الأنباء حول الهاتف المحمول الذى كشف عن 90 بالمائة من حالات الخيانة الزوجية في إيطاليا في الفترة الأخيرة ! وتشير الدراسة إلى أن الإيطاليين لديهم هواتف محمولة أكثر من أي جنسية أوروبية أخرى .

وشغلني المنظور الاجتماعي للتليفون المحمول او ” سوسولوجيا المحمول ” ، واليوم نستكملها من منظور الإنثربولوجيا من خلال عدة دراسات قيمة منشورة مثل دراسة Hans Geser فى جامعة زيروخ Zürich ، فى سبتمبر عام 2003 تحت عنوان نحو نظرية اجتماعية للتليفون المحمول ، ودراسات Mathews Joe المنشورة عام 2001 فى لوس انجلوس حول تأثير المحمول داخل محيط الجامعة ، وبحوث Nilsson Andreas وآخرون فى السويد عام 2001 حول التليفون المحمول كوسيط اتصالي ، ودراسات Ling Rich فى النرويج عام 2000 حول تاثير انتشار المحمول بين مراهقين المدارس ، وتأثير المحمول على المؤسسات الاجتماعية فى أوربا ، ودراسات كثيرة أخرى فى أوربا وأمريكا ، وكلها دراسات منشورة في مجلات ومؤتمرات علمية على الإنترنت ، وأستمتعت بقراءة تلك الدراسات ، وخرجت منها بمعرفة افتتاحية حول سيسولوجيا التليفون المحمول ، نقدمها للقارئ فى عجالة. .

– منظور أنثروبولوجي

منذ فجر الإنسانية من ملايين السّنوات, كان تطوّر ونشوء الحياة على الأرض مقيدا دائما بعاملين مادّيّين متوافقين بدرجة كبيرة : الأول هو التجاور الفيزيقي ، وهو شرط مسبق للكائنات الحية لبدء العلاقات التفاعلية ، والحفاظ عليها . الثاني هو الإقامة فى أماكن المستقرة ، وكانت ضرورية لتنمية وتطوير أشكال وأنماط اتصال اكثر تعقيدا وتعاونا .

القيد الأول تضمن تنوعات كثيرة من أشكال ومظاهر وسلوكيات حياة , تحدث أساسا بطرق متميزة فى الفضاء الفيزيقي . وهذا يعنى بالمفاهيم الإجرائية ان هناك علاقة قوية موجودة بين الموقع المكانى ، وانتشار منظومة متكاملة من سلالات وأجناس معينه ! وعلى المستوى البشرى ، تظهر التمايزات العنصرية واللغوية والعرقية ، واختلافات اخرى بطول الخطوط الجغرافية ، علاوة على أهمية تلك التمايزات بين التجمعات القائمة على الاتصال المواجهى لصيانة التجمعات والمؤسسات الاجتماعية لإشباع الحاجات السيكولوجية و الفسيولوجية الفردية.

والقيد الثانى يمكن إثباته بسهولة بالملاحظات التجريبية العملية المنتظمة ، حيث نجد مستويات متقدمة من التكافل والاتكال المتبادل والتنظيم بين الكائنات الحية التى تعايشت فقط لفترات طويلة فى نفس الأماكن الفيزيقية ، بالطبع يحدث أيضا تفاعل واسع الانتشار خلال الحركة الانتقالية ، لقطعان الظباء ، وأسراب الطيور ، وتجمعات الأسماك ، لكنهم يميلون إلى تكوين هياكل منفصلة بسيطة إلى حد ما لا تقارن بالمجتمعات الواسعة والتفصيلية التى تميز النحل الساكن و النمل ، او الحيوانات المتطورة مثل القردة . على مستوى المجتمعات البشرية يمكن ان نلاحظ باقتناع نفس الانتظام ، بالمقارنة بين السكان الرحل من البدو والسكان المستقرين من الزراع ، فزيادة استقرار المستوطنات جعل من الممكن زراعة البساتين فى الفترة الحجرية من تاريخ الإنسانية ، و خلق بدوره شروط مواتية لظهور وانبثاق هياكل تنظيمية أكثر تعقيدا تفرق وتوزع الأدوار المهنية ، وتطورت أنماط الزراعة المستقرة فى الوديان المروية فى مصر والهند وبلاد النهرين ، وخلقت شروطا مسبقة لقيام حضارات أكثر تمدنا . وفى الأوقات الأكثر حداثة ، فى المجتمعات الصناعية حيث المصانع المنظمة بإحكام ، والكثافة السكانية المرتفعة فى المدن ، ظهر مرة ثانية ان إنجاز المستويات العليا من التعقيد الاجتماعي أعتمد تماما على التجاور الفيزيقي ، والإقامة المستقرة .

والتأثيرات المعوقة لتلك العوامل الفيزيقية (التجاور الفيزيقي ، والإقامة المستقرة) ، تزيد اثناء التطور البيولوجي والاجتماعي والثقافي ، لأنها تتصادم اكثر فأكثر ببعض النتائج الأخرى لنفس هذا التطور ، مثل زيادة حركة الانتقال المكاني ، وتصاعد القدرات على الاتصال بالآخر . وهكذا فالحيوانات اكثر تأثرا من النبات ! لأنها تملك وسائل الاتصال ، ولأن حاجاتها للقرب الفيزيقي ، والاستقرار والسكون تصطدم مع معظم القيم الأخرى المطلوبة للاستمرار فى الحياة والتكيف النشط مثل قيمة التحرك والانتقال ! وفى الحقيقة المغزى الوظيفى للتحرك والانتقال يمكن تجريده بالحقائق الآتية : 1-أثناء التحرك والانتقال ، تتقلص الاتصالات الصريحة الغير متحفظة ، ويمكن ان تتوقف تماما 2- مجرد الحركة الجسدية تظهر المسافات أو الفراغات المكانية ، التى تتصادم مع صيانة العلاقات الاتصالية الصريحة . وبسبب تلك المعضلات الخطيرة ، كان يجب إيجاد حلول وسيطة توفيقية وقد تكون مؤلمة بتوفير الحفاظ على الاتصال الداخلى الجماعى ، من خلال تحرك الجموع بالكامل معا ، و اقتصار الاتصالات على المناسبات المحدودة النادرة ، او بالأحرى عندما يجتمع السكان بكثافة فى أماكن معينة ، ومعايرة شفرات وأكواد الاتصال ، وتبسيط الرسائل بطريقة متوافقة مع ظروف الحركة ومتغيرات التوزيع المكاني . وعلى المستوى البشرى مثل هذه التناقضات تزداد تضخما بقدر ما عند المقارنة مع الحيوانات ! حيث زادت بشكل لا يصدق الاتصالات الصريحة غير المتحفظة ، والقائمة أساسا على الاتصال اللفظى اللغوى ، وسهل التوزيع المكانى بدرجة كبيرة تعميم قدرات التحويل والتكييف الثقافى ، فمنذ العصور الحجرية انتشر الناس بخفة تقريبا على كل سطح الكرة الأرضية ، وزادت واتسعت القدرة على الانتقال والتحرك من خلال تقنيات الاتصالات والمواصلات المتقدمة ، حتى انها عمقت آثار المبادئ التى تكلمنا عنها سابقا . وبينما سهلت الزيادة فى الكثافة السكانية الاتصالات الأولية بين الأشخاص من خلال تدعيم القرب والتجاور المكانى ، توحدت رموز الاتصال فى التحركات والانتقالات ، لأن كلما يمشى الأفراد فى الشوارع ، او يقودون سياراتهم فى الطرق ، او يبحرون بالسفن او بالطائرات، او يسافرون بالقطارات ، فهم دائما محاصرون ومقيدون بأوامر مرور عامة تمتاز أنها موحدة الأكواد والرموز الاتصالية التي لا تختلف من مكان للآخر .

ولا شك ان ندرة الاتصالات المحلية لم تمنع الناس من تأسيس اتصالات وروابط تضامن بين الأشخاص ، وروابط تعاون بين المجموعات المحلية البعيدة جغرافيا( على سبيل المثال الزواج من الغرباء ) . و تملك الثقافات الأكثر تقدما عناصر اجتماعية محلية منوعة تعتمد على العضوية او الانتماء الشخصي أكثر من اعتمادها على عوامل إقليمية ، مثل الجمعيات الخيرية ، القبائل والعشائر ، المجموعات العرقية ، النخب الإقطاعية ، والحركات المهنية والدينية . وعلى ذلك فالتفاعلات والتطورات الداخلية لكل التجمعات الاتصالية المحلية لا تستطيع الاعتماد على وسائط اتصاليه بدائية ، التى تعتمد عليها كل الحياة الاجتماعية التى أسست على التفاعل المستمر بين الأشخاص ، بل يجب بدلا من ذلك ان يكون على أساسين أخريين ، اما على أساس نزعة سيكولوجية ، يذوب فيها المشاركين مثل المشاعر الدينية ، و مشاعر الحب ، و الانتساب لهوية معينة ، أو على أساس مادة تبريريه مغرضة او وثائق مكتوبة مثل : الشعارات ، العبادات ، روابط قانونية ملزمة ومعلنة العضوية .

وفى مجتمعاتنا العصرية ، مألوف فيها بدرجة كبيرة ، العيش فى حياة مميزة بالاختلافات والتناقضات المؤلمة والمتواصلة بين البعد الاجتماعي ، والبعد المكاني . ومن جهة أخرى تسمح المجتمعات العصرية بالقرب المكاني والتجاور الشديد بين كتل الجماهير الغير مباليين بالآخرين مثل المدن المزدحمة ، المستودعات والمتاجر ، والحافلات وغيرها ، وفى نفس الوقت يجب على تلك الكتل ان تقبل بشدة المسافة المكانية مع اهم رفاقهم : الأحبة فى البيت ومع الزملاء المهنيين البعيدين . وبالتأكيد تليفون الخط الأرضي أزال شرط التجاور الفيزيقى , لكن من جهة أخرى قد قوى ودعم وصان الحاجة إلى الإقامة فى أماكن معينة . وفى ظروف تحرك وانتقال الأفراد يتوفر فقط القدرة على الاتصال والتفاعل وجها للوجه ، مثل الجلوس فى نفس مقصورة القطار ، او التجاور فى مقعد الطائرة او الباص ، وهنا يجب عليهم ان يصلوا البيت أو المكتب لكل يتواصلوا مع متحدثين بعيدين ! وتكنولوجيات الاتصال اللاسلكي هى فعلا اصل كل المبتكرات التكنولوجية التى تجعل الاتصالات متوافقة مع قابلية التحرك المكاني . والجدير بالملاحظة ان هذه القابلية للحركة اول ما أدركت ، كانت فى أجهزة الإرسال مثل الراديو والتليفزيون ، وان بقيت فى تلك الأجهزة ساكنة وتحت سيطرة قيادة من النخبة المميزة القليلة جدا ، سواء كانوا أفرادا او نظم حكومية .

المعنى السوسولوجي للمحمول

ومن هذا المنظور الارتقائي الواسع جدا فأن المعنى السوسولوجي في واقع التليفون المحمول اليوم ، هو تفويض الناس بالمشاركة فى الاتصالات والتفاعلات بدون قيود الشرطيين الأساسيين ، وهما التجاور الفيزيقي ، والثبات والاستقرار المكاني . واستجابة لتلك للحاجات الاجتماعية الراسخة بشدة فى النفس البشرية ، ليس بمستغرب ان ينتشر الهاتف المحمول فى كل إنحاء العالم فى سرعة مثيرة ولاهثة ! في الحقيقة, هناك أسبابا مقنعة لافتراض أن المحمول مرغوبًا على حد سواء في كلّ المجتمعات و الثّقافات وتحت كافة الشروط الثقافيّة ، والاجتماعيّة والاقتصاديّة .لكنّ في نفس الوقت, هذا التّحرر من القيود فى قبول المحمول ، كان على حساب على الاتّصالات الثّنائيّة القائمة على المواجهة , مع زيادة الشّكوك عن الحالات الموضوعية للظّروف البيئيّة للرفاق المتّصلين .

ومنذ أواخر القرن الـ 19 حتى السنوات الحالية ، لقي التليفون اهتماما ضئيلا جدا من علوم الاجتماع ، والأعلام . ولم تبذل جهودا كبيرة لدراسة ومعرفة تأثيراته العديدة على المجالات المتنوعة للحياة الاجتماعية . ولم تطور نظرية اجتماعية متكاملة فيما يتعلق بوظائف ونتائج التليفون عامة ! لذلك ليس بمستغرب أن يثير التليفون المحمول حماس أقل ، من قبل البحاث والمفكرين بالمقارنة بالاهتمام الذى أثارته الإنترنت .

و في المنظور النّظريّ لمانويل كاستيلز Manuel Castells ، وهو عالم اجتماع مشهور فى جامعة بيريكللى من اصل أسباني ، اهتم في السنوات الأخيرة بالتأثيرات الاجتماعية لثورة المعلومات ، وقال :”ان الإنترنت أعطت مكانة ضخمة كمبتكر وإبداع جديد ، ولها حساباتها وأبعادها وتداعياتها ، بينما أهملت التسهيلات التي قدمها التليفون المحمول فى مجملها”. ونزعم هنا ان هذة الرؤية تتجاهل حقائق أساسية تظهرها المقارنة بين المحمول من جهة و تكنولوجيات الكمبيوتر الشخصي والإنترنت من جهة أخرى ، حيث نجد التليفون المحمول ، هذه الأيام يستعمل من قبل طبقة أوسع من السكان حول العالم ، وله تأثيراته الاجتماعية على كثير من مستعمليه ، وأنهم جميعا جاهزون ومستعدون أن ينفقوا مبالغ مالية كبيرة على فواتير التّليفون الشّهريّة ، اكثر من تلك التي ينفقونها على خدمات الكمبيوتر ومزوّدات الإنترنت .

والإنتاج الكبير والواسع وبالجملة لأجهزة التليفونات المحمولة الرخيصة الثمن ، باعد من أهتمام الباحثين بالتلفون المحمول ، ربما لأنه يبدو كتكنولوجيا عادية بالمقارنة بالأعماق الغامضة فى فضاء الإنترنت ، ومع ذلك فأن الموجة الأولى من أدوات الاتصال المحمولة ، و التى على وشك الانتهاء ، سوف تؤدى إلى تحولات جوهرية بالتأكيد في فهم الأفراد لأنفسهم وللعالم ، وبالتالي سوف تغيير الطريقة التي نبنى بها جميعا العالم .

ومن أهم التأثيرات الرئيسية للهاتف المحمول ، هو قدرته على تضمين ودمج جماهير السكان فى الدول الأقل نموا فى النصف الجنوبي من الكرة الأرضية ، وهم عادة أميون جزئيا ، و لم يمتلكوا ابدا فى حياتهم وسائل لشراء كمبيوتر ، ، ولم يوصل لهم حتى الآن شبكات تقليدية لتليفونات الخط الأرضي ! وهو ما نلاحظه في مصر مثلا بين سكان عشوائيات المدن والريف حيث الأمية ، ينتشر المحمول بين أيدي الجميع !

وفى دراسة تجريبية حديثة بالاتّحاد الدّوليّ للمواصلات السّلكيّة و اللاسلكيّة ITU زوّدتنا بالدّليل المدهش حول الكيفية التى ساهم فيها الهاتف المحمول في تضييق فجوة رقمية بعمر قرن في استخدام التّليفون بدرجة كبيرة بين دول متقدّمة و دول أقلّ نموًّا . حيث تظهر الإحصائيات عام 2001 ان حوالي 100 دولة بينهم الكثير من أفريقيا امتلكت تليفونات محمولة أكبر بكثير من تليفونات الخطوط الأرضية ، وامتلكت تكنولوجيا الهاتف المحمول اكثر من تكنولوجيا الكمبيوتر في ربط سكّان أقل تميزا إلى مجال المعلومات الرقمية . ( تقرير تطوير تكنولوجيا الاتّصالات العالميّ 2002 ) .

إن العالم لم يعرف اختراعا انتشر استخدامه بالسرعة التي انتشرت بها أجهزة المحمول، والتي تجاوز عددها المليارى جهاز ! و ستتضاعف خلال العامين القادمين ! وفى دراسة حديثة نشرت نتائجها منذ شهور لجامعة بيركلى بولاية كاليفورنيا الأمريكية كشفت الدراسة عن ان 98% من المعلومات حول العالم، تنتقل عبر التليفونات ، سواء الثابت او المحمول ، وفى هذا الصدد تجد الإشارة الى ان المواطنين الأوربيين يتبادلون 30 مليار رسالة قصيرة “اس ام اس ” عبر التليفون المحمول فى كل شهر ، هذا ومن المتوقع اتصال 90 مليون كمبيوتر بدون سلك بشبكة الإنترنت خلال السنوات الخمس القادمة وسيؤدى كل هذا الى زيادة التحميل على الشبكة وإطالة مدة التصفح.

ولوحظ ان الانتشار الجغرافي وتّطوّر تكنولوجيا الهاتف المحمول تتباين بحدة بين الدّول الصناعية المتقدمة , فعندما تقارن الأنماط المعتادة التي تحكم معظم الفروع التّكنولوجيّة الأخرى ، تظهر مفارقات وتغييرات حادة ، فاليابان نموذجيًّا تبنت تكنولوجيات اللاسلكي مبكرا عن أوربا بحوالي سنة و نصف , و أوروبّا أيضا بكرت حوالي سنة و نصف أو نحو ذلك قبل الولايات المتّحدة !

وهناك اتفاق واسع بين المهتمين والبحاث ان أجهزة التليفون المحمول ممكن ان تكون بديلا وعوضا عن أجهزة الكمبيوتر الشخصية المكتبية الثابتة او أجهزة الكمبيوتر المحمولة المتنقلة ، لأنها أجهزة متعددة الوسائط وقادرة أن تنقل الصّوت, والرّسائل النّصّيّة, والصّور, والنّغمات, والتّطبيقات و أي شيء آخر إذا شفّر في الشّكل الرّقمي ،ّ وأفادت الإحصائيات التي صدرت مؤخرا بأن مستخدمي الهواتف المحمولة في بريطانيا يقومون بتحميل مزيد من صفحات الإنترنت على هواتفهم المحمولة. وقالت رابطة بيانات المحمول (إم دي إيه) إن مستخدمي المحمول يتصفحون نحو 25.5 مليون صفحة في اليوم عبر خدمة تصفح الإنترنت على الهاتف المحمول (الواب). وساهمت الصفحات الخاصة بنغمات الهاتف والأخبار والصفحات التي تساعد في الوصول إلى أقرب ملهى أو سينما، في زيادة تصفح الإنترنت عبر الهاتف المحمول.

وأكثر من ذلك نجد فاعلية المحمول المتعدد الوسائط عندما يتوحد مع الحجم والوزن الصغير المتناقص ، والحاجة القليلة إلى الطاقة ، والثمن الرخيص ، علاوة على بساطة وسهولة الاستعمال كل ذلك جعل من الممكن ان ُيسْتَخْدَم المحمول من قبل الأطفال الأصغر, والنّاس الأمّيين أو المعاقين و السّكّان المهمشين الغير قادرين على التوافق مع مصطلحات الكمبيوتر . وأثناء المائة سنة الأولى من تاريخ التليفون الأرضي ، كان التليفون وسيلة اتصال مقصورة إلى حد ما على الطبقات العليا من المجتمع ، ولم تكن ممكنة بسهولة للطبقات الدنيا ، والنساء ، والفلاحين ، ومجموعات الشباب او الأجيال الصغيرة السن ، حتى في أمريكا, وأيضًا في أوروبّا, هذا الاستعمال المقيّد كان النتيجة الرئيسية للاحتكارات الخاصّة أو العامّة التي نجحت في الحفاظ على الأسعار الباهظة بشكل تعجيزيّ, خاصّة لمكالمات المسافة الأطول .

وفى المراحل المبكرة فى تاريخ الهاتف المحمول ، اقتصر استخدامه على النخبة ، وللأغراض المهنية ، وبين ذكور الطبقة العليا ! لكن تحت التأثير المشترك للتقدم التكنولوجى من ناحية ، والتحرير الأقتصادي من ناحية أخرى ، انخفضت اسعار المكالمات التليفون الأرضي بشكل مثير ، واصبحت مستقلة تقريبا عن المسافة الجغرافية ، واصبح الهاتف المحمول أحد الآلات الصريحة للاتصال الموجودة فى كل مكان . ويتوقع هذا العام 2005 ان يبلغ مجموع التليفونات المحمولة التى تستعمل فى العالم اكبر بكثير من عدد أجهزة الكمبيوتر والتليفزيون .

المحمول للجميع

وبينما يستخدم الجميع الهواتف المحمولة ، تظهر تلك التكنولوجيا جانبا جديدا هو تساوى كل الناس فى استخدام الهاتف المحمول ، بصرف النظر عن العمر ، والجنس ، والخلفية الثقافية ، والثروة ، والدخل ، او الوضع الطبقى . على سبيل المثال, الدّراسات النّرويجيّة تظهر أن الهواتف المحمولة تُتَبَنَّى بالتّساوي بين الجنسين، و من قبل الأطفال من كلّ الخلفيّات الاجتماعيّة, و أنّ المحمول اخترق تقريبا كل جماعات العمر الأصغر بالكامل ، لهذا يتصف الهاتف المحمول تكنولوجيا بوظائف متكاملة ومعممة بدرجة كبيرة ، فهو على سبيل المثال يساوى الاختلافات بين الأولاد والبنات ، فهو مختلف عن معظم التكنولوجيات الأخرى ، مثل الموتوسيكلات او الدرجات النارية التى تميل إلى إبراز الاختلافات الجنسية بدلا من الحد منها ، وينتشر تبنى المحمول بصرف النظر عن التعليم ، والجذور الاجتماعية ، فهو يسد على الأقل بعض الفجوات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة ، فالتليفون المحمول وصل للجميع ، وأضحى استخدام الرسائل القصيرة للتليفون المحمول وسيلة اتصال شائعة بين سكان الكرة الأرضية وخاصة الشباب، يستخدمها الناس لتبادل النكات والمعلومات والأرصاد الجوية واليانصيب والأوراق المالية ونقل التهاني في الأعياد وتحديد مواعيد وأماكن اللقاءات. وتقول أرقام هيئات الاتصالات الصينية إن عدد الرسائل القصيرة للموبايل يتجاوز 60 مليارا سنويا، أي سُدس الرقم في العالم، ويشير تحليل مستخدمي هذه الرسائل إلى أن الشباب بين سن خمسة عشر وخمس وعشرين عاما هم الفئة الأكثر استخداما للرسائل القصيرة، بمعدل 2-5 رسائل يوميا. وقد أوجدت الرسائل القصيرة ظاهرة ثقافية جديدة في الصين غير مسبوقة ، وأزعم انها منتشرة فى العالم اليوم ، يسمونها “ثقافة الأصابع” التي تؤثر تأثيرا بالغا في حياة الفرد اليومية نتيجة نمط الاتصال الجديد .

وامتلاك الموبايل، أو المحمول كما يحلو للبعض، جسد الاختلاف بين الثقافتين الشرقية والغربية؛ ففي الغرب يشترون الموبايل بالسعر الذي يتناسب مع الغرض منه في مجال الاتصالات النقالة، ولا يطلبون في المحمول إمكانيات لا يريدونها. في الشرق كما يحدث فى مصر والصين مثلا يشترون الموبايل تقليدا للآخرين ومن أجل المظهر، لكن منى سليمان صاحبة رسالة الماجستير التي قرأنا عنها كانت تظن أن عددا كبيرا من مستعملي المحمول في مصر يستخدمونه في ‘المنظرة’. لكن الإجابات أكدت العكس. غير أنها تعود لتشير الي أن الامر يحتاج الي دراسة أعمق . وإن كان هذا لا ينفي أن البعض يشتري الموبايل لأغراض تجارية ضرورية، ومن هؤلاء الفلاحين الصينيين الذين يعتمدون على المحمول في إجراء الاتصالات الخاصة بأعمالهم في الزراعة وتربية المواشي , خاصة مع زيادة معرفة الفلاحين لأهمية معلومات السوق ، وحاجاتهم للاتصال بالغرباء للعمل فى المدن الكبيرة .

وفي قرى بنجلاديش التي يهيمن عليها الرجال لا يتم الاتصال بالعالم الخارجي إلا عن طريق سيدات المحمول، حيث لا توجد خطوط هاتف أرضية في شهاب ازبور التي تبعد 150 كيلومتراً شرق داكا العاصمة. لكن الاتصالات في هذه القرية الصغيرة ومناطق ريفية أخرى نائية تطورت دفعة واحدة من دواب البريد الى الهواتف المحمولة. و بنجلادش عدد سكانها 130 مليون نسمة ، و 80 في المائة منهم يعيشون في الريف الذي يعتبر واحد من مناطق العالم الأقل انتشارا لمعدلات الهواتف في العالم بمتوسط ثلاثة هواتف لكل الف شخص ، ومع ذلك يوجد بها الآن 125 مليون هاتف محمول تديرها أربع شركات فقط من القطاع الخاص ، والتى تعرض الهواتف في حزمة منخفضة السعر على نساء القرى اللاتي يعرفن الآن باسم “سيدات المحمول” في ظاهرة اجتماعية جديدة، وتسجل الهواتف بأسماء النساء فقط ، ولكن يمكن للازواج والاولاد استخدامها في خدمة للجمهور مقابل بضع تكات للمكالمة الواحدة. ويصبح وجود هاتف واحد فى العائلة مصدرا لتجارة عائلية في قرى عديدة تحقق عائداً مقداره 10آلاف تكا ( 170دولاراً) في الشهر ، وهو مبلغ كبير في بنجلادش الفقيرة ، حيث يبلغ متوسط دخل الفرد 368 دولاراً سنوياً. وبفضل عائدات المحمول تمكن كثيرون من اصلاح بيوتهم، وفي القرى التي بها كهرباء استطاعوا شراء اجهزة تلفزيون ملونة وبرادات، بل ان بعضهم ارسل أولاده الى مدارس في المدن حيث يحظون ايضاً بخدمات صحية على أيدي أطباء متخصصين. كما يستطيع الآن المقاولون الذين يوردون عمالاً الى الخارج العمل في بيوتهم بواسطة المحمول. كما تؤمن خدمة الهاتف المحمول عمليات إرسال تحويلات مالية من عمال بالخارج إلى أهاليهم في بنجلاديش ، وبذلك لا يتعرضون لعمليات الغش التي يقوم بها عملاء غسيل الأموال الذين كانوا يستولون على جزء من هذه الحوالات مستغلين أمية أصحابها.

التغييرات فى استخدامات المحمول

تظهر دراسات كثيرة أن هناك تمدد وتوسع وظيفى فى سلوكيات استخدامات الهاتف المحمول, لأنّ المستخدمين تدريجيًّا يغيّرون العادات و يتعلّمون استعمال التّقنيّة الجديدة فى تشكيلة متنامية من الأغراض ، و في سلسلة متّسعة من الأوضاع . وفي دراسة زمنية بين مستخدمين جدد للهاتف محمول, وجد Palen/Salzman and Youngs عام ( 2001 ) أن المواطنين يبدءون بمفاهيم وتصورات ضيّقة إلى حدّ ما حول استخدمات المحمول التى يحتاجون لها , لكنّ إلى حدّ بعيد تكبّر و تتوسع تلك الاستخدامات مع مرور الزمن ! و يبدو أن هناك اتّجاهات واسعةً نحو توسيع استعمال واستخدام المحمول من حالات الطّوارئ المجرّدة إلى الحالات الرّوتينيّة و من الاتصالات المعيّنة الآلية إلى الاتّصالات المعبّرة والاكثر انتشارا . و يشير معظم الأفراد كدافع ابتدائي ّ لتبنّي الهاتف المحمول, إلى الوظائف الآلية : على سبيل المثال الاطمئنان على الأحبّة, أو المطالبة بالمساعدة في حالات الطّوارئ مثل حوادث الشّارع . و تخيل المستخدمون الأوّلّون للمحمول أنهم سيستخدمون التّليفون المحمول فقط في الأوضاع غير الرّوتينيّة الخاصّة, وليس كأداة موجودة في كلّ مكان في حياتهم اليوميّة .لكنّ في الوقت المناسب, حدثت تّغييرات نّموذجيّة في استخدام الهاتف المحمول، ويمكن أن نلاحظ الاتى : 1- ان التليفونات المحمولة غزت وسيطرت تماما على السلوك الروتينى اليومي لكل مستوياته ، وعلى كافة الأوقات. فالتبنى للتكنولوجيا الجديدة ، هو فى الأصل سعى لحل مشكلة معينة ، فالأمن فى حالة الحوادث الفجائية يوجه التفاعل فى هذا الموقف نحو الدائرة الخاصة للفرد ، وربما نحو ممثلي مؤسسات الطوارئ . وبينما يصبح الاستعمال وملكية التليفون المحمول روتينية ، وتظهر تنسيق بين استعمالات المحمول المتنوعة فى كافة المواقف اليومية ، فان استعمالات المحمول تحركت من غير العادى او فوق العادة والمفاجئ إلى المتوقع والعادى الروتيني 2-هناك زيادة واهتمام ملحوظ فى تزيين وتجميل نداءات المحمول ، بحيث تصبح غير آلية ، وتؤدى وظيفة اجتماعية وعاطفية ، مثل إظهار القلق ، التضامن ، الالتزام ، الإفصاح بالقرب ، الإشفاق ، التعاطف والحب . وباختصار ، اصبح من الشائع جدا ان يعجز المستخدمين عن توقع أنماط استعمالهم المقبلة للمحمول بطريقة سليمة . وكان أنتشار تليفون الخط الأرضي فى نهاية القرن الـ 19 اتبع تقريبا أنماط مشابهة إلى حد ما . ففى دراسة فيشر 1992 حيث برر المتبنين الأوائل لتليفون الخط الأرضى تبنيهم لتلك التكنولوجيا الجديدة لأسباب متعلقة بالأمان والتجارة ، وليس لأى فوائد اجتماعية ، لكن التليفون استخدم على نطاق واسع لأغراض وأهداف اجتماعية متل المؤانسة الاجتماعية منذ البدايات المبكرة لعام 1910 ! ومع ذلك, فالطبيعة المكملة الإيجابيّة لمكالمات الهاتف المحمول كثيرة ، وتختلف بوضوح عن الاستعمال التّقليديّ للتليفونات المثبّتة, حيث تدلّ معظم المكالمات على وجود بعض المشاكل الناشئة حديثًا بدون حلّ حتّى الآن ، ويجب ان تُنَاقَش، على اعتبار توفر المحمول فى كل مكان لإرسال وتلقى المكالمات ، فهو أشبه بالاتصال الواقف وجها للوجه ، حيث تكون الإشارات معبّرة بدرجة كبيرة ، و محادثات الاعتناء شائعةً جدًّا ، فالاتّصال بالمحمول لا يستهدف أصلا نّقل معلومات معيّنة أو توجيه المستلمين إلى أفعال معيّنة, لكنّ فقط من أجل التّعبير عن المحبّة و تأكيد أن العلاقات تتواجد و ستستمرّ في المستقبل ، فمجرد رنين المحمول يعتبر إشارة كافية على حدوث اتصال ، وعلامة على الرغبة فى التواصل بصرف النظر عما وصل فعلا من مضمون الرسالة ! فالمكالمات التّليفونيّة تذكرة ترابط قويّة ، عُكِسَ مشاعر الإحباط التى نشعر بها حين لا نجد أيّ رسالة على أجهزة الردّ التلقائي فى التليفون الثابتّ ، فهذا يعني أنّ لا أحد أراد التّكلّم معنا أو أراد أن يُعَاود الاتصال بنا !

الحاجة لدراسات اجتماعية

وعلى الرغم من ان ملكية التليفون المحمول كلية الوجود ، ومتجانسة ، وعلى كافة قطاعات السكان ، حيث تختفى قيمة المحمول كرمز للوجاهة والمكانة الاجتماعية ، فان الهواتف المحمولة ربما مازالت تبرز التفاوتات الاجتماعية ، بقدر أنماط الاستعمالات الواقعية ، التى ترتبط بإحكام بالأغراض المتنوعة للأفعال الاجتماعية فى المواقف المختلفة ، وأيضا بالأوضاع المختلفة للعلاقات والأدوار الاجتماعية . على المستوى النظرى ، هذا الوضع يستدعى تطور مفاهيم تحليلية تفصيلية ، ودراسة الرموز الملائمة لفهم الاختلافات الرئيسية فى أنماط استعمالات المحمول ، علاوة على المعانى الرمزية المتنوعة المنسوبة للهواتف المحمولة ، مثل رسائل المستخدمين . وعلى المستوى المنهجي تظهر الحاجة لدراسات مسحية , واستخدام مناهج الإثنوجرافيا , لتقييم مثل هذه المتغيّرات بطريقة تجريبيّة ، وبطرق كمّيهّ و نوعيّة .

ومن المنظور الكمّيّ, فالمفهوم البسيط لمقدار او كمية استخدام الهاتف المحمول ينتج عنه تصوّر متعدّد الأبعاد يكشف على الأقلّ ثلاثة متغيرات مستقلّة :1-كثافة الاستخدام الذى يعكس غالبا كيفية الاستعمال من حيث عدد المرات الاستعمال ، والوقت الذى يستغرقه فى الاستعمال بصرف النظر عن طبيعة الاستخدامات المختلفة التى يستخدم فيها المحمول 2-عرض الاستخدام الذى يعبر غالبا عدد الناس الذين يوجه لهم المكالمات ، وعدد الذين يتلقى منهم المكالمات 3- نوعية وتعددية الاستخدام وتقيس الاستعمالات المختلفة التى يستخدم فيها المحمول ، او المواقف المختلفة التى يستخدم فيها ، بصرف النظر عن كيفية تكرار تلك الاستخدامات.

وبينما يكون البرهان التجريبي المجمع حتى الآن بدراسات كمية منهجية هو بالأحرى مقيد ومحصور بالمستقبل ، فأن بناء نظرية اجتماعية للمحمول حاليا ، معتمد بشدة على دراسات عديدة تعتمد على طرق نوعية مثل طرق بحث الإثنوجرافيا ، ومقالات انطباعية تزودنا بفرضيات مقنعة قائمة على قصص مثيرة . ومع ذلك, فالتركيب التمهيديّ لهذه المادّة غير المتبلورة يبدو مثمرًا لكي يطوّر تعميمات أكثر نظرية ، وفروض تُخْتَبَر في بحوث تجريبية فى المستقبل. وحتى الآن لا يرى التليفون المحمول مبدئيا من قبل الباحثين كعامل تصميم سببى ، لكنّ إلى حدّ ما كأداة مزوّدة بمجموعة من القدرات العمليّة المعيّنة التي قد توظف تحت شروط السيسولوجية او السيكولوجية المتنوعة . لهذا, يجب عند بناء النظرية أن يركّز ليس أصلاً على التّأثيرات السّببيّة أو النّتائج المحدّدة لاستخدام الهاتف المحمول, لكنّ بوجهٍ عامّ أكثر على عواقبه وتداعياته وتضميناته فقدراته العمليّة المعيّنة تّسهل أو تعيق أساليب متنوّعة للسّلوك الاجتماعيّ, كالتّفاعلات و العلاقات, وتخلق ظّروف بيئيّة جديدة تجرى تحتها النّظم الاجتماعيّة التّقليديّة .

رأي واحد حول “نحو نظريّة اجتماعيّة للهاتف المحمول”

  1. دكتور /
    اشكرك جزيل الشكر والعرفان والتقدير والاحترام على هذا العرض الجميل والمميز والممتع
    انا طالب دكتوراة في الاعلام وابحث عن موضوع يربط بين التكنولوجيا الحديثة للأتصال والعلوم الاجتماعية , ارجو المساعدة ولك فائق التقدير والاحترام
    محمد علي

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.