مقدمة فى البناء الاجتماعي للمجتمع السودانى

muzamil

 مقدمة فى البناء الاجتماعي للمجتمع السودانى

مزمل محمد على  عقاب*

إن مفهوم البناء الاجتماعي لم يظهر في الوجود إلا بعد تلك المحاضرة الشهيرة التي ألقاها الأستاذ “براون” بعنوان البناء الاجتماعي.

وعرّف البناء الاجتماعي بأنه العلاقات والروابط الاجتماعية المتبادلة بين الأشخاص والعلاقات بين الزمر الاجتماعية، أي أن البناء يدرس العلاقات القائمة بين الزمر الاجتماعية والعلاقات بين الأشخاص أو العلاقات الثنائية التي تقوم كجزء من شبكة واسعة، من العلاقات الاجتماعية، والتي ترتكز أصلاً على العلاقات الثنائية.

وبهذا المفهوم يدخل “براون” في البناء الاجتماعي العلاقات الثنائية والعلاقات بين الزمر الاجتماعية التي تتمتع بدرجة عالية من الثبات والاستمرار([1]).

وقد أثار تعريف “براون” للبناء الاجتماعي، مشكلات فيما يتعلق بين البناء الواقعي والصور البنائية، وهي التفرقة التي اضطر إلى إيجادها بعد أن أدخل في تحديد ذلك البناء كل العلاقات التي تقوم بين الأشخاص في المجتمع، على اختلاف مدى ما تتمتع به تلك العلاقات من خصائص الاستمرار والثبات، وبغض النظر عما إذا كانت تلك العلاقات تربط بين أفراد أو جماعات([2]).

ولكن إذا نظرنا إلى هذا التعريف نجد واسع وفضفاض فقد وسع “براون” في معنى البناء بحيث يشمل كل أنواع العلاقات الاجتماعية في الحياة اليومية بما فيها العلاقات الثنائية، وهذه النظرة الواسعة لا تُفرق بين العلاقات التي تؤلف جزء جوهرياً في البناء وتلك التي يمكن إغفالها دون أن تؤثر في فهم البناء الاجتماعي.

وقد أدى ذلك الغموض الذي أحاط بالتعريف إلى أن يقتصر “برنشارد” في دراسة البناء الاجتماعي على تلك العلاقات التي تقوم بين الجماعات التي تتمتع بدرجة عالية من الثبات والاستمرار في المجتمع كالقبائل والعشائر

وكانت المادة المستمدة عن “النوير” تعطي أساساً حقلياً، لهذا.

ولم يخصص “برتشارد” مؤلفاً خاصاً لتحديد مصطلح البناء الاجتماعي ولكنه في الصفحات الأخيرة من كتابه “النوير” ثم في نهاية المحاضرة الأولى من سلسلة المحاضرات التي ظهرت في مؤلفه عن “الأنثربولوجيا الاجتماعية” ويلاحظ أنه عرف البناء بأنه لابد من وجود درجة معينة من الاتساق والاطراد في المجتمع وإلا استحال على أعضائه العيش معاً، فالناس لا يستطيعون في الواقع الانصراف إلى شئونهم إلا لأنهم يعرفون نوع السلوك الذي يترقبه الآخرون منهم وكذلك نوع التصرفات التي يتوقعونها هم أنفسهم من الآخرين في مختلف مواقف الحياة الاجتماعية، كما أنهم ينظمون نشاطهم تبعاً لقواعد مرسومة وحسب قيم معينة، متعارف عليها؛ فهم يستطيعون التنبؤ والتكهن بالأحداث؛ وبذلك يمكنهم ترتيب حياتهم بأن نتلكم عنه، على أنه نسق أو بناء يعيش فيه أفراد يتولون على مستلزماته واستخدام كلمة بناء بهذا المعنى يتضمن وجود نوع من التماسك والتوافق بين أجزائه، هذا إلى الحد الذي يمكن معه تجنب التناقض الصارخ أو الصراع المكشوف وأنه يتمتع بدرجة من الديمومة والبقاء أكبر مما تُحظى به معظم الأشياء العابرة والسريعة في الحياة الإنسانية([3]).

وبهذا حدد “برنشارد” العناصر الأساسية التي تدخل في تكوين معنى البناء الاجتماعي فهو أدخل العلاقات التي تقوم بين الزمر الاجتماعية؛ والتي تتمتع بدرجة عالية من البقاء في الوجود، كالوحدة القبلية، وعلى ذلك يخرج من مفهوم البناء العلاقات السريعة والجماعات التي لا تستمر في الوجود إلا فترة زمنية قصيرة مثل العلاقات الثنائية التي تقوم بين الأفراد فهي علاقات سريعة التغير والتحول، فالأصدقاء قد يصبحون أعداء في مواقف التناقض الاقتصادي، وبذلك يختلف “برنشارد” في معنى البناء الاجتماعي.

فنجد “ريتشارد” ينكر مفهوم العلاقات الثنائية في تكوين البناء الاجتماعي ولا يُعتبر الزمر الاجتماعية الصغيرة جزء من البناء الاجتماعي، فالأسرة لا تعتبر جماعة بنائية ولكن الجماعات الكبيرة المتماسكة مثل العشيرة أو القبيلة أو البدنة، تدخل في التعريف لأنها تستمر في الوجود أجيالاً طويلة، وإن أصابها التغير وهي مع هذا التغير تظل محتفظة بكيانها([4]).

ويرد “برنشارد” أن مفهوم البناء الاجتماعي يتطلب ارتباط الجماعات ببعضها البعض، بحيث تؤلف نسقاً واحداً متماسكاً.

ونخلص مما سبق إلى تحديد تعريف “برنشارد” للبناء الاجتماعي هو نسق من الأبنية المنفصلة المتمايزة؛ والتي تقوم بينها علاقات تبادلية، مثل العلاقات القرابية والسياسية والاقتصادية، فهذه العلاقات تعطي المجتمع وحدته البنائية.

.. ونكتفي بهذا التعريف الموجز لمعنى البناء الاجتماعي، وفيما يلي نستعرض أهم خصائص البناء الاجتماعي([5]).

أولاً: نجد أن البناء الاجتماعي يتكون من أنماط من العلاقات الاجتماعية وتوجد العلاقات بين شخصين على الأقل أو مجموعة من أشخاص بينهم توافق أو تعارض في المصالح.

ثانياً: يمتاز البناء الاجتماعي بأنه نسيج متشابك الأجزاء؛ فالبناء الاجتماعي كما أسلفنا يتكون من أنماط العلاقات الاجتماعية التي توجد على ثلاثة أقسام وهي التجمعات أو الجماعات التي يتكون منها المجتمع؛النظم الاجتماعية التي تُمثل الجهاز الذي يحافظ على استمرارية البناء، والمراكز الاجتماعية التي يستغلها الأشخاص والأدوار الاجتماعية التي يقومون بها من خلال المراكز الاجتماعية؛

وكل هذه الأقسام تدرس عن طريق استخدام المنهج الكلي الذي يغطي كل أجزاء البناء الاجتماعي.كذلك من خصائصه أنه مستقر، ولكنه ليس جامد، فلا يمكن لأي بناء اجتماعي أن يقوم بوظيفته في الحفاظ على تماسك المجتمع، إلا إذا ظل هذا المجتمع قائماً لفترة طويلة من الزمن تكفي لظهور هذا البناء وتضمن استمراره.

 

أشكال الاسرة فى المجتمع السودانى

إن البناء الاجتماعي الكلي العام- لأي مجتمع- يتضمن عدداً من الأبنية أو الأنساق الفرعية Sub-system الداخلة في تكوينه، وبذلك يمكن أن نتلكم عن النسق القرابي أو النسق الاقتصادي أو النسق السياسي أو غيره من الأنساق.

ويتخذ السلوك والتصرفات الاجتماعية داخل نطاق هذا النسق شكل النظم الاجتماعية كالزواج والعائلة والرئاسة؛ وحين نتكلم عن وظائف هذه النظم، فإننا نقصد الدور الذي يؤديه في صيانة البناء والمحافظة عليه([6]).

وسنتناول فيما يلي النسق الاجتماعي للمجتمع السوداني، ونبدأ تناولنا بالتطرق إلى أشكال الأسرة في المجتمع السوداني.

من المعروف أن المجتمع السوداني يمتاز بوجود أنماط متعددة الأسر، فهناك الأسرة النووية والأسرة الممتدة.

ونجد أن الأسرة النووية  التي تضم الزوج والزوجة وأبناؤها المبارين فقط، وهي أسرة صغيرة تنطوي على خاصية مزدوجة، فالزوج والزوجة ينتمي كلاً منهم إلى أسرتين في نفس الوقت، فالأب يشغل مكانة الابن في أسرته الأصلية وفي أسرته النووية يلعب دور الزوج، وتتسع دوائر العلاقات القرابية من خلال انتشار الأسر النووية، كما تتنوع المكانة الاجتماعية والدور الاجتماعي من خلال الخاصية المزدوجة.

وهذا النمط آخذ في الزوال نسبة لأن المحارم الدينية تقف حائلاً دون التزاوج بين الأصول (الآباء والأمهات) من الفروع، وحول التزاوج بين الفروع (الأخوات والإخوة) كما أن الزواج يتطلب مكان مستقل، وليس مشترك كما هو الحال عند الأسر النووية.

كذلك يوجد نمط الأسرة الممتدة  وهو نمط يجمع بين عائلتين صغيرتين أو أكثر، بشرط أن يكون الزوج أو الزوجة مشترك في أكثر من أسرة صغيرة واحدة.

وهذا النظام نجده محدود، وهذا النمط من الأسر يتكون من عدة أسر نووية، تعيش معاً في وحدة اجتماعية وسكن مشترك وفي معيشة مشتركة وتظهر فيه مشكلات وخلافات بين الزوجات “عقدة الضرائر” بسبب ما ينشأ بين الزوجات من الغيرة وتوزيع الأعمال، وهذا النمط من الأسر نجد سائر في قبائل غرب السودان في دارفور وكردفان، حيث أن الزوج يتزوج بأكثر من امرأة، لأجل المساعدة في الزراعة، فهي تلعب دوراً فاعلاً في الزراعة، وهذا النمط في جبال النوبة.

كذلك نجد نمط آخر من أنماط الأسر في السودان، وهو ما يُعرف بنظام الأسرة الممتدة، وهي تتكون من جيلين فأكثر، حيث يعتبر الجيل الثاني امتداداً للجيل الأول؛ وتعني الأسرة الممتدة كذلك، وجود عائلتين صغيرتين على الأقل تعيشان معاً في مكان واحد، في معيشة مشتركة؛ وتضم الآباء والأبناء والأحفاد، كما تضم الأعمام والأخوال أو بنات وأبناء العمومة والخئولة. وهذا النمط من أكثر الأنماط الأسرية سيادة في المجتمع السوداني خصوصاً في المناطق الريفية.

وإذا تناولنا خصائص الأسرة الممتدة في السودان نجدها؛ تمتاز بأن الأسرة الممتدة تضمن أسرتين نوويتين أو أكثر، تجمعهم رابطة القرابة الأموية الحاصبة، ويشتركون معاً في سكن واحد مشع يطلق عليه اسم “الحوش” كناية عن اتساع المكان والسكن، ويعيشون معيشة واحدة، ويظهر ذلك بوضوح في المجتمعات الريفية، ويسود بينهم التعاون الاقتصادي في المعيشة اليومية.

أحياناً تضم الأسرة الممتدة، عائلات متعددة الزوجات أو أسر نووية تابعة لها وتستمر الأسرة الممتدة أجيالاً طويلة؛ وتضم الأبناء والأحفادن ويصبح عددهم يفوق الخمسين عضو؛ ويظهر هذا النمط في مناطق شمال السودان لاسيما منطقة دنقلا وعطبرة وشندي.

هذا بخصوص الأسر، أما إذا انتقلنا بالحديث إلى الزواج، نجد أن المرأة تحتل مكانة أدنى من الرجل في الناحيتين الاجتماعية والقانونية على السواء.

فالمرأة تذهب بعد الزواج للإقامة في بيت أسرة زوجها؛ بحيث تنقطع صلتها أو تكاد مع أسرتها التي نشأت وتربت فيها، وهناك بعض الشواهد التي تؤكد مدى انتماء الزوجة الجديدة لأسرة زوجها وانفصالها عن أسرتها.

ونجد أن الأسرة السودانية تُصر على تزويج أبناؤها بأفراد يماثلونهم في العقيدة الإسلامية، وفي عضوية الجماعة العرقية، وفي المكانة الاقتصادية والاجتماعية بمعناها الواسع “الزواج المفضل” وإن دخلت بعض التغيرات وأصبحت النظرة المادية السائدة عند الاختيار في الزواج، فغالباً ما تنحاز الأسرة (للعريس) الثري مادياً.

وإذا رجعنا إلى الزواج المفضل، نجد تنفيذه يكون بدقة وبصورة أكثر صرامة نتيجة ضغوط الوالد والوالدة؛ والزواج المفضل غالباً الزواج بين أبناء العمومة أو الخئولة المتوازية.

مع تغير الأوضاع الاقتصادية، أصبح الزواج بابن العم موضة قديمة، وإن كان هنالك البعض الذي مازال يتشدد في ذلك، لكن بعض الشباب يرفضون ذلك، إلا أننا نجد الشباب مع ذلك، يحرصون على مراعاة قاعدة تفضيل الزواج من بنت العم؛ فما زال العم يرجع إلى ابن أخيه قبل أن يوافق على خطبتها لشخص “غريب” وذلك لأن ابن عمها هو صاحب الحق الأول فيها.

وهذا النظام لا يستند إلى أسس دينية واسعة في القرآن والسنة، إنما هو نظام اجتماعي، بمعنى الكلمة، أي أنه ثمرة ظروف وأوضاع اجتماعية اقتصادية، هي التي فرضته ولعل العوامل الاقتصادية بالذات هي الدافع الأول والرئيس في هذا النظام، الذي لم يعد من اليسير تغييره بشكل مفاجئ بين يوم وليلة فأهم تلك الاعتبارات الاقتصادية أن ذلك النظام يمنع انتقال ثروة الأسرة إلى خارج نطاق الأسرة.

ومما يؤكد ذلك في حال زواج البنت من “شخص غريب” يدفع المهر، وينخفض إذا كان الزوج ابن العم، وخلاف ذلك نجد الأسرة تُغالي في رفع المهر من العريس “الغريب” ليس لأجل احتياجها الفعلي للمهر، إنما حاجز يحول دون خروج البنت من أسرتها، وخلاف ذلك النمط الزواجي، نجد أنماط أخرى… ومع تغير الأوضاع وحركة التطور الاجتماعي قلل من دور الأب والأسرة في عملية الزواج، وأصبح الزواج بالرضا هو السائد بين الشباب في المجتمع السوداني.

 

الهوامش:

([1])بروفسير صموئيل باسليوس، محاضرات في البناء الاجتماعي، مطبوعات ج القاهرة- الخرطوم، 1988م.

([2]) محمد عبده محجوب: الاتجاه السوسيوانثربولوجي في دراسة المجتمع، مكتبة مطبوعات الكويت، 1984م، ص 24.

([3]) أ. برنشارد: الانثروبولجيا الاجتماعية، ترجمة أحمد أبو زيد، منشأة المعارف، 1960م، ص 142.

([4]) بروفيسور صموئيل باسيوليوس، سلسلة محاضرات فى البناء الاجتماعى، سبق ذكره.

([5]) علي المكاوي: الأنثربولوجيا الاجتماعية، مكتبة شمس المعارف، الطبعة الأولى، 1989م، ص 22، ص23، ص24.

([6]) المكاوي: الأنثربولوجيا الاجتماعية، المرجع اعلاه، ص4.

 

-*مزمل محمد على  عقاب. باحث ومحاضر في الأنثروبولوجيا النفسية

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.