مقاربة أنثروبولوجية لجسد المريض.. المريض يسائل طبيعته

د. زارو عبد الله

في إطار الدراسة السوسيولوجية التي أنجزتها حول المستشفيات بالمغرب ، و من خلال اللقاءات و تعدد الحالات المرضية التي تمكنت من محاورتها، وجدتني ملزما بوضع تساؤلات و استفهامات و تخوفات المرضى الحاملين للأمراض المزمنة و الوراثية و تلك غير القابلة للشفاء موضع تأملات انتروبولوجية. لفتح نقاش حول قضايا الصحة/ المرض،الحياة والموت وارتباطها بالجسد و تصوراتنا للطبيعة الإنسانية. و هي من جهة محاولة لتقديم نظرة مغايرة للمريض عن النظرة الطبية العلاجية و مناسبة لإعادة التفكير في مفاهيم الجسد /المرض/ الطبيعة الإنسانية من جهة أخرى.

أليست المسافة التي تفصل بين قولي أنا مريض وقولي أنا مصاب بمرض هي في العمق المسافة بين قولي أنا جسد، و قولي أنا ممتلك لجسد. بين التصورات التي ترجع تقليديا مصدر الأمراض إلى مؤثرات خارج الجسد (تنتج عن قوى غيبية أو عن الوسط الاجتماعي والبيئي، أو نتيجة لسلوكيات الفرد نفسه) من جهة، و اعتبار أن المرض هو جزء من صيرورة الجسد بفضل اكتشاف بعض الأمراض الوراثية و الجينية. فالتحول الذي يعرفه الوعي الإنساني بالمرض يفرض عليه اليوم أن يعيد التفكير في مفهوم المرض، و أن نراجع تصوراتنا للجسد. ومن خلال الجسد يمكن أن نساءل مفهوم الطبيعة الإنسانية.

كانت النظرة الطبية التقليدية تعتبر المرض نتاج تأثيرات أو لنقل عنف خارجي يتعرض له الجسد، فأصبحت بعض الأمراض اليوم – بفضل تطور علوم الحياة و الهندسة الوراثية التي استطاعت أن تفك الشفرة الجينية للإنسان ـ نتاج الديناميكا الداخلية للخلايا الجسدية.

لا يمكننا أن نفكر في المرض دونما استحضار للمريض. فجسد المريض كان و لا يزال موضوعا لخطابات تأويلية متعددة، تتداخل فيما بينها حسب الثقافات والمعتقدات(سحرية/دينية/علمية). إلا أن مجتمعاتنا المعاصرة الموسومة بهيمنة الخطاب العلمي (الميكروـ بيولوجي و الطب المعاصر) و الذي احتكر سلطة تفسير المرض و معالجة الجسد بفضل التقدم التقني/العلاجي ، فأصبح بإمكان العلوم الطبية أن تدرس المرض في انفصال عن المريض و قيمه الثقافية و المعتقدات التي ينتجها مجتمع المريض حول المرض. نتج عن هذا التحول في التعاطي مع المرض توجه نحو “لا أنسنة” الطب ،عبر تكثيف الأبعاد التنظيمية الطبية، وتعدد المتدخلين(الفرق الطبية). فتم استبدال العلاقة الشخصية الإنسانية طبيب/ مريض في أنظمة العلاج التقليدية بعلاقة تقنية مع المريض.

بالرغم من سيادة التفسير العلموي التقني، فإن المريض لم يعد يكتفي بالأجوبة التي يقدمها الخطاب الطبي عن تساؤلاته، لكونه يقتصر على تقديم فهم علمي لحالته الصحية. كما أن الأجوبة التي يقدمها الخطاب الطبي لا تستحضر ما تتضمنه أسئلة المريض من قلق و حمولات فلسفية وجودية عميقة فهي ليست مجرد أسئلة استفسار تقنية.

لم يعد المرض في دلالاته المعاصرة مجموعة من الأعراض الجسمية التي تقود المريض إلى استشارة الطبيب كما كان عليه الأمر من قبل. فالمرض بالمعنى المعاصر ليس مجرد حادث/مؤقت مأساوي قد يخلخل حياته الاجتماعية/ الاقتصادية ويحدث فيها اضطرابات في بعض لحظات العمر، و يمكن إصلاحها بعد تدخل الطبيب بفضل فاعلية العلاج. لقد أصبحت الأمراض الجديدة (الوراثية/ الجينية) تقود المريض إلى طرح سؤال معنى الحياة ودلالة الجسد الذي يعبر من خلاله تجربة الوجود(الكينونة) بشكل جذري. ففي الحالات الصحية الحرجة يذهب المريض إلى أقصى حد في تساؤلاته المكبوتة: لماذا يصاب الجسد بالمرض؟ وما دلالته الوجودية، ولماذا أنا، ولماذا الآن؟

ترسخ اعتقاد لدى الإنسان بكونه كائنا يسمو على باقي الكائنات في إطار نزعة متمركزة على الذات Égocentrisme أو أنه كائن يتموقع بين الآلهة (التي تمثل الكمال المطلق) والحيوانات (التي تمثل النقص المطلق) . هذا الاعتقاد جعله ينسى أنه وقبل كل شيء كائن حي مثله مثل باقي الكائنات الحية الأخرى، و لا يشكل استثناءا بالنسبة للعضويات الحية الأخرى. أنه جسد مهدد بالمرض ومصيره الفناء. إن خصوصية الإنسان تكمن في كونه الكائن الوحيد الذي يمتلك أفراد نوعه وعيا قبليا بهشاشة هذه الحياة و وجوده، وأنه عاجز جزئيا، من حيث شعوره بالألم ومحكوم بالتوقف نهائيا عن الحياة(الموت).

لقد كشفت بحوث الهندسة الوراثية أن الإنسان يحمل في خلايا جسده مصيره الحتمي. بل وقد يحمل في إحدى الخلايا من خلايا جسده أو مورثاته الجينية استعدادا لكي تعلن عن مرض الجسد في لحظة معينة من العمر، دون أن يمر بالضرورة عن طريق الوعي البشري كما كان الأمر في الحالات المرضية التقليدية ،حيث كان الجسد يعلن عن المرض بلغة الأعراض التي يستشعرها المريض. فالجسد يكون مريضا على مستوى الخلايا أي قبل أن يرتفع الإحساس بالمرض إلى مستوى الشعور. فأصبح بإمكان العلوم الطبية المعاصرة أن تعلن عن مرض الجسد دون أن يشعر أو يحس المريض في الوقت الحاضر بأدنى ألم أو أعراض تدل على أن جسده مريض أو أنه مهدد بالمرض، بمعنى أن الإعلان عن المرض يتم على مستوى المعرفة العلمية. فأصبح الخطاب الطبي/العلمي المعاصر هو المنفذ الضروري لكي نترقب احتمالات مرض جسدنا في المستقبل من خلال فك الشفرة الجينية للإنسان والكشف عن المورثات الممرضة.

بالرغم من التقدم الذي أحرزته المعرفة الطبية يمكن أن نعلن عدم كفاية الأجوبة التي تقدمها العلوم الطبية/البيولوجية، لأنه خطاب يتوجه إلى الحديث عن المرض في أبعاده البيولوجية و ينظر إلى الجسد كموضوع و لا تستحضر أن المريض يساءل جسده الخاص بلغة ميرلوبونتي. إن الفحص الطبي غير كاف والخطاب الطبي من وجهة المريض غير قادر على تقديم إجابة عن تساؤلاته، فما ينتظره المريض لا تعكسه بأمانة المعرفة الطبية.

إن المريض لا يساءل الأطباء والمعارف الطبية التي تجتهد لكي تعثر على أجوبة طبية /علاجية حقيقية و تتميز بالفعالية، فبالرغم من أنه يتوجه إلى مساءلة الطب فإنه يطرح أسئلة تهم طبيعة جسده، علاقته بالعالم و بخالقه (الله)، و هي علاقة تعرف في حالة الإعلان عن المرض انقلابا وتغييرا شاملا. إنها في العمق أسئلة وجودية. إنها في العمق أسئلة فلسفية تتوارى وتختفي و نعمد إلى تجاهلها أمام سيادة الخطاب العلمي الذي يحاول أن يجيب عن إشكالاته العلمية التي هي إشكاليات وتحديات معرفية أمام العقل العلمي الذي يحاول أن يفك أسرار الجسد.

المريض الجديد: مريض بالقوة أو المريض من دون مرض

بالنسبة لما يمكن أن يصطلح عليهم بالمرضى الجدد يكون الجسد في حالة لاشعور أمام المرض، و لا يتم الكشف عن المرض من خلال لغة الأعراض أو الشعور بالألم الذي كان يقودنا تقليديا إلى طلب استشارة الطبيب، وما يقتضيه ذلك من القيام بدور المريض كما تتطلب ذلك الأطر الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع من المجتمعات كما طرحه مؤسس علم اجتماع الصحة ت. بارسونز. لقد أصبحت بعض الأمراض كما بينا منفصلا عن وعي المريض، وبالتالي انفصل المرض عن وضعية المريض، ولو لزمن محدد. فالعلوم البيولوجية وتكنولوجيا الفحص المتطورة تخبرنا بأن جسدنا حاملا للمرض دون أن نكون على وعي بكونه كذلك: أي دون أن نكون مرضى.

إن المرض يكون كامنا و متخفيا في لاشعور الخلايا، في انتظار أن يكشف عن نفسه حين تجتمع العوامل المحفزة لكي يظهر، إنها حالة الأمراض الجينية، أو تلك التي يعتقد أنه يتدخل فيها عامل جيني، كما في حالات أمراض السرطان. فالمريض يبدو كما لو أنه في انتظار مرضه، بل هناك استباق لحالة المرض. يجب أن نكتشف المريض قبل أن يصبح مريضا بالفعل أي قبل إصابته بالمرض، و إخراجه من حالته المرضية حيث يستوطن المرض، لكنه مرض لم يعلن عن نفسه بعد لكنه قادم لا محالة.

لقد أصبح إمكان للمعرفة الطبية المعاصرة أن تخبر المريض بالقوة عن مرضه المستقبلي أي قبل أن يصبح مريضا بالفعل(إذا استعرنا لغة أريسطو)، و بأنه مريض جينيا، و تقوم في بعض الحالات( كما هو الأمر في حالات السرطان) على حمايته قبل أن يستفحل وضعه الصحي ويصبح مريضا بالفعل.

أمام هذا الواقع الطبي الجديد، لم يعد للطب من إستراتيجية لمواجهة احتمالات المرض واستباق المفاجئات إلا اللجوء إلى وضع نظام للوقاية من خلال عيادة الطبيب قصد الكشف المبكر أو الجيني عن الأمراض. فالطب المعاصر يجهد من أجل أن يمنع مشروع المريض من أن يصبح مريضا بالفعل في المستقبل من خلال البحوث في مجال الهندسة الوراثية و تعديل المورثات الممرضة. لكن الطب يبقى عاجزا مكتوف الأيدي أمام الأمراض بالوراثة التي لا يمكن مواجهتها وتغيير صيرورتها البيولوجية.

لا يمكن الاستمرار في الحديث عن المرضى الجدد دون نأخذ بعض الأمثلة من الواقع للكشف عن تغير وتنوع المرض. إن المرض يحيى في إطار العلاقة التي يقيمها المريض بالعالم و بالجسد المتألم. لهذا وجب أن نلج عالم المريض الجديد وليس التفكير فيه من منظور خارجي (العلوم الطبية) فقط. بل الانطلاق من مجموع الحالات المرضية التي يمكن أن تنير رؤيتنا للإشكاليات التي أصبح بفرزها الواقع البيوـ طبي.

يطرح الكشف عن الأسرار التي تحملها المعلومات الوراثية و التي يكون لها أثرا كبيرا في شخصية الفرد وفي علاقته بوسطه. قضايا أخلاقيات البحث العلمي والطبي أمام النقاش الفلسفي. فما أهمية أن نخبر شخصا بأنه سيصاب بمرض خلال عشر أو عشرين سنة المقبل، ما هو أثر ذلك على إسقاطاته ومشاريعه المستقبلية. تطرح بعض الأمراض اليوم مشكلات دقيقة وجد حساسة على الطب وعلم الجينات (الهندسة الوراثية)، ولكن المريض يكون في وضعية بالغة الحساسية ومعقدة بحيث تعجز العلوم الطبية عن أن تقدم أجوبة عن الأسئلة التي يطرحها المريض و المجتمع. هناك أمراض وراثية لا تظهر إلا بعد سن الأربعين مثل مرض هونتينغتن syndrome Huntington، فهذا المرض العصبي يصيب الدماغ. قبل سن الأربعين لا تظهر أي مؤشرات أو أعراض المرض على الشخص الحامل لهذا المورث. يعيش الفرد حياة عادية طبيعية لا تختلف عن حياة أي شخص آخر، ويبدأ المريض بالإحساس بعدم التوازن في الحركة وبعض الهيجان اللاإرادي بالإضافة إلى الهلوسة والهذيان. تكون لهذا المرض نتائج وخيمة تؤدي إلى الموت خلال مدة تتراوح بين خمس وعشرة سنوات من بداية ظهور الأعراض. و أثبتت الأبحاث أن هذا المرض يصيب كلا الجنسين و ينتقل وراثيا عبر أجيال، فهناك أجيال قد تكون حاملة للمرض وأجيال أخرى تصاب بالمرض، و لا يوجد علاج لهذا المرض.

يطرح اكتشاف المورث الحامل للمرض في مثل هذه الحالات مشكلات فلسفية وأخلاقية لها علاقة بمبدأ الحفاظ على الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، و إشكاليات تتعلق بالتشريع في هذا المجال، خاصة وأن الاكتشاف المبكر للمرض الوراثي لا علاقة له بطموحات الطب في تحقيق العلاج والشفاء. وإن الإطلاع على الأسرار التي تحملها المعلومات الوراثية للشخص الحامل يكون له تأثيرا كبيرا في نفسيته و معنويته، و يقوده إلى إعادة التفكير في علاقاته بالوسط المحيط به. فكيف يمكن إخبار الأفراد الحاملين لهذا الجينة؟ ماذا ستقوله العلوم الطبية التي عجزت ولم تستطع بعد أن تقترح علاجا للمصابين به؟ كيف ستنتظم العلاقات الاجتماعية والإنسانية بالنسبة إليهم؟

المريض بالقوة في مواجهة ما يعجز الطب عن إصلاحه

حين يعلن الطبيب عن كوننا مرضى، بالرغم من أن جسدنا لم يشعر به بعد، فمعنى ذلك أن حياتنا قد تصبح غير قابلة للإصلاح، أننا نحمل في جسدنا إعلان مرضنا، و أنه لا يمكن أن نمنع مرضنا. إن المربض يعيش المرض كتدمير وانهيار، من خلال الحرمان من الأنشطة التي تنتج عن المرض و تكون مرفقة مع تدمير العلاقات مع الآخرين بحيث يفقد خلالها مؤهلاته وعلاقاته، ولا يمكنه الحفاظ على هويته، يعمل المريض على إخفاء بكل ما أوتي من قوة وضعه الصحي بل ويذهب إلى حد إنكار وجود المرض بقدر الإمكان. لأن المرض ليس حادثا طارئا يأتي من خارج الجسد بل جزءا ومكونا حميميا في الكائن الحي، يرافقنا فيما كنا نعتقد أنها حالة الصحة، ولتصبح الصحة هي المرض في حالة سباة (نوم). فيما يسود الاعتقاد لدى المريض أنه بإمكان الطبيب أن يعيده إلى حالة الصحة والعافية، ينتظر منه تحقيق الشفاء، لأنه تكرست نظرة إلى الأطباء كسلطة وقوة للتحكم في المرض. للمريض انتظارات كبيرة، لكن ما يستطيع الطبيب أن يعد به مرضاه هو أن يقوم بعلاجات مكثفة. فالقانون يطالب الأطباء باستعمال كل الوسائل الممكنة و لا يلزمه بتحقيق النتائج (العلاج)، و ما يطالب به المريض وينتظره على العكس من ذلك هو تحقيق العلاج أي تحقيق النتائج.

تجربة المرض هته خارج الحوار الذي يقيمه المريض مع الأطباء والمطالب التي يتقدم بها، وخارج الاستجابات التي يمكن أن تقدمها المؤسسات الرعاية الاجتماعية/الصحية لهذه المطالب وتتعلق بمدى قدرة المريض على تحمل المرض بطريقة رواقية.

فالمريض يتقوقع في وحدانية وعزلة تؤدي إلى تغيٌُر عميق في حياته لا يمكن تحميل مسؤوليتها للأطباء؛ فالأدوية والعلاجات المكثفة ليست الملجأ الحقيقي للمريض. فلجوءه إلى الطبيب ليس فقط للمطالبة بالصحة، ولكن من أجل أن يتدخل لإيقاف هذا الانقلاب الذي يتعرض له الجسد. فالمريض يجد صعوبة في احترام المبدأ الذي طرحه الرواقيين.

ما يتجلى من خلال هذا الانتظار الغير المحسوب الذي يطالب به المريض طبيبه، أن المرض هو تعبير عن انقلاب لا يمكن التعامل معه أو تجاوزه أو تجاهله، انقلاب يمس الصحة باعتبارها شرطا لحياة مقبولة. بالرغم من الصعوبات التي تواجهنا في مسار حياتنا العادية، يتبين أن الصحة ليست في متناولنا و لا يمكننا ضمانها، فكل شيء في الطبيعة كما قال الحكيم اليوناني هيرقليطس يحكمه مبدأ التغير والتبدل، ونحن نشعر بالعجز في مواجهة واقع التبدل والتغير هذا الذي يحكم جسدنا.

انطلاقا من الهشاشة النفسية التي يعيشها الفرد في وضعيته كمريض، نفهم لماذا تحمي القوانين المرضى، و يعمل المشرع ورجل القانون من أجل وضع بنيات ومؤسسات لحماية الكرامة الإنسانية. خاصة في الحالات التي يريد فيها الأطباء تجريب علاجات جديدة، فالرهان هو التخوف من أن يصبح المريض فأر تجارب تحت سلطة الطبيب. فحالة المرض دليل على أننا نعيش تبعية لأجسادنا، فأجسادنا هي التي تعيق وتضع صعوبات أمام وضعيتنا ككائنات تريد أن تكون حرة، مستقلة، مكتفية بذاتها. و هو ما يبرر التشريعات و وضع القوانين لحماية المرضى، وتأمين كرامته لحظة انهياره وهو يعيش حالة من الضعف والتبعية التي يفرضها عليه وضعه الجسدي المتآكل.

من خلال المرض تعلن الحياة أنها قصيرة، والمريض هو الذي يحمل إلى الآخرين هذا الإعلان الذي لا يتحكم فيه، إنه حامل رسالة بشكل غير إرادي، إنها تجعلنا نستفيق مما نعيشه من وهم وجنون. فنحن مجانين حين نغتنم كل مناسبة أو عيد لكي نعلن عن “رجائنا و تمنياتنا للجميع بدوام الصحة والعافية”، ونحن مجانين حين نتعلق بهذا الرجاء الميؤوس منه.

مريض في كل تصرفاته

أ ـ خلل في العلاقة مع محيطه

أن المرض ينتج عنه خلل في أفعالنا وتغير في علاقاتنا مع وسطنا، فكل المجهود المستمر الذي يقوم به الكائن الحي هو أن يحافظ على توازنه الداخلي في وسط خارجي دائم التغير والتبدل، فمرضى السكري هم مطالبون بالمحافظة على نسبة محددة من السكر في الدم، بالرغم من عدم استعمالهم أو تناولهم المستمر والدائم للسكريات. أن نحافظ على درجة محددة من حرارة أجسامنا الداخلية بالرغم من أننا نمر من البرودة إلى الحرارة ومن الحرارة إلى البرودة. فلقد دأب الباحثون والمهتمون بحفظ الصحة القدماء أو المعاصرين ( أطباء، علماء اجتماع الصحة…) على تثبيت فكرة أن الصحة توازن. وهو ما يعني أن على الفرد لكي يعيش صحة كاملة أن يتحكم في الإكراهات الناتجة عن إغراءات متطلبات الحياة السوسيو-اقتصادية، بمعنى الحفاظ على جودة الحياة سواء من الناحية الفيزيولوجية أو المعنوية(النفسية) وهو أساس التعريف الذي تقدمه المنظمة العالمية للصحة لمفهوم الصحة.

إن بعض الأمراض لا تأخذ دلالتها كأمراض إلا بالعلاقة مع المحيط، فالوسط هو الذي يعلن أن بعض الأشخاص هم بالفعل مرضى، و الخلل في التفاعل مع الوسط يكتشف من خلالها الشخص أنه مريض. فتسجيل تغيير في العلاقات سواء مع الوسط الاجتماعي أو الطبيعي تظهر باعتبارها مؤشرات على المرض. فالفرد يصبح مريضا لحظة الضعف و عدم قدرته على التكيف مع متطلبات وجوده بشكل مفاجئ.

المريض وسؤال الجسد المتألم

إن التحليل الذي أقدمنا عليه لا يمكن استيعابه وفهمه إلا إذا استطعنا التحرر من التمثلات التي تعتبر المرض كأزمة أو عطب في الآلة/ الجسد. فالمرض يخترق كامل جسد الإنسان، الذي لا يمكن اعتباره مجرد آلة في عطب، فالخلل الذي يعاني منه المريض هو أخطر من أن يكون خللا في الجسد/ الآلة. فالألم يتجلى بالفعل في كل الجسد الذي يعاني صعوبات.

المريض ليس فقط مجرد كائن حي يعاني عطبا، مثلما تكون الآلة عاجزة عن القيام بمهامها التي صنعت من أجلها، فهذه المقارنة قد تكون صالحة بالنسبة للأمراض التي تصيب أعضاء محددة في الجسم (الكبد، الرئة، القلب…) لكن التفكير التجزيئي لجسم الإنسان قد يتناسى تكامل الجسد، بحيث أن التدخل لعلاج عضو يجب أن يستحضر آثاره المباشرة أو الجانبية على بعض الأعضاء. إن الخلل في عضو قد تكون له آثار على باقي الأعضاء، والتي لا يمكن أن نمنعها من أن تعلن تضامنها من خلال البنية العميقة للجسد. فالألم ينتشر من خلال كامل جسد المريض، ويصبح الجسد مهدد بشكل مفاجئ. لنستحضر هذا الميكانيزم المركب، فقد يرفض المريض” في حالة زرع الأعضاء” الأدوية المقدمة له والتي تكون منقذة لحياته. يجب إذن أن نمتلك نظرة شاملة عن المرض لفهم لماذا ينتشر الألم في كل مناحي حياة المريض بكاملها.

المريض وسؤال الموت

في حالة الصحة ينسى الإنسان أن الحياة هي مجموع الوظائف التي تقاوم الموت، بمعنى نسيان أن الحياة هي الاستثناء والموت و الفناء هو القاعدة، مما يجعل واقع الحياة أن تكون مهددة باستمرار. فالدراسات والأبحاث المعاصرة تظهر أن موتنا البيولوجي مبرمج في أنسجتنا وراثيا، ليتم القضاء بشكل نهائي على الاعتقاد الأسطوري/ الوهمي بحياة أبدية. ليس الموت بالنسبة للإنسان على الأقل مجرد حادث بيولوجي بسيط ، لأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يعي أن وجوده محكوم بالموت، إنه الكائن الوحيد الذي يدفعه شعوره بالموت إلى إدراك هشاشة الحياة، ليصبح الموت بذلك مصدرا للقلق الوجودي (واعتبرها بعض الفلاسفة مصدرا للتفلسف)، وهو ما دفع الإنسان إلى معارضتها بالاعتقاد بحياة أخرى، وهو الاعتقاد الذي يشكل العمق الصلب لكل دين.

لقد قلب ديكارت التصورات السابقة لمفهوم الموت، فبعد أن شاع الاعتقاد أن الروح هي أصل الحياة، والموت ينتج عن خروج الروح ومغادرته للجسد، فقد اعتبر ديكارت أن الموت تصيب الجسد و أن “الروح تغادر الجسد لأن الجسد قد مات”، بمعنى أن صيرورة الجسد منفصلة عن الروح. كما حاول أبيقور أن يقنعنا أن ” موتنا لا يعني شيئا بالنسبة إلينا”، فقد اعتمد حجاجا قويا ومقنعا، “ففكرة الموت لا ينبغي أن تحول بيننا وبين السعادة”. لأنه لا ينبغي أن تؤثر الموت علينا، حيث يقول” ما دمنا أحياء فإننا لم نمت بعد، ولما نموت لم نعد أحياء” فهذا التأكيد يبعد عنا شبح الخوف من الموت، لأن الموت ليست تجربة إنسانية معاشة. لكن و إن كانت واقعة موتنا وفناءنا هي تجربة غير معاشة من طرفنا، وفارغة من المعنى بالنسبة إلينا، فإننا على العكس من ذلك نعيش وبألم (عبر الاستبطان) تجربة موت الآخرين( الأقرباء و الأصدقاء) كفقدان.

إن الإنسان يجب أن يهتم بموته ويتحمل موته، لأنه لا أحد سيتحمله بدلا عنه، لهذا يدعونا هيدجر إلى أفق مغاير لما ذهب إليه مفكرون دينيون أمثال باسكال و كيركيغارد، أن نأخذ بجدية موتنا، ليس كحدث قادم وحتمي، ولكن باعتبار أن الموت هو أفق نطل من خلاله على العدم، و إحساس الإنسان بالقلق ناتج عن مواجهة العدم، ندرك آنذاك أنه مقذوف بنا في هذا العالم، كما لا يجب الخلط بين القلق والخوف لذي ينتاب الإنسان من الموت. فالقلق يعكس أن وجودنا لا معنى له و عبث إذا كان من أجل الموت أو موجه به. يجب على الأقل أن نتقبل شرط وجودنا ككائنات فانية تفرض علينا وضعيتنا هذه أن نتحمل مسؤولية حياتنا الخاصة.

المريض و سؤال حفظ الذات

هذا الاستنتاج يقود إلى مساءلة المريض لمعنى حفظ الذات، بحيث تطور لديه الوعي بأن ذلك يفلت منه. نعرف من خلال علم السلوك الحيواني أن كل الكائنات الحية تجهد من أجل حفظ الذات ، والاستمرار على ما هي عليه وأن تظل على ما هي عليه، لكن وضع المريض يعيدنا إلى الخوف الكامن فينا من أن يظل جسدنا في حالة مرض، ويعود بنا إلى نفي شروط وجودنا الجيدة، والتي نجد صعوبة في تحملها. أن يصاب الجسد بالمرض يبدو أنه في العمق ظلم حين يتم تمثله كعقاب في التصورات التقليدية، فهو مواجهة مع الآلام التي تفرض على طبيعتنا، في حين أن طبيعتنا يجب أن تعلمنا كيف وبأي طريقة يمكننا أن نحمي أجسادنا من هذا الألم، فالخلل في وظائف الأعضاء و ما ينتج عنه من خلل في الوظائف الاجتماعية هو أمر صعب التحمل.

سؤال إلى الخالق
ألا يعني تخلي جسدي المريض عني هو ناتج عن تخلي الله عن جسدي؟ بهذا السؤال يمكن للمريض أن يواجهة ديكارت الذي أكد في التأمل السادس أن الله خير مطلق و هو الذي منحني هذه الطبيعة. فالمريض هو من خانه جسده، من تخلى عنه جسده في هذا العالم، و المفارقة هي أن هذا الجسد هو الذي حمله وأدخله إلى العالم( الوجود).

ألا يقودنا هذا التصور إلى تبني نظرة أقرب إلى نظرة ملحمة جلجامش البابلية حيث أن الآلهة تتخلى عن دورها كعناصر فعالة في الحياة اليومية و توجيه مصير الإنسان، تتركه ليواجه الحياة، فهاجس الموت الذي يسكنه هو الذي يمنحه الدافع ليقاوم من أجل الحياة، لأنه أدرك أن الخلود ليس من نصيبه. فالله لا يظهر كما اعتدنا على ذلك متجليا في حركة الطبيعة و ظواهرها وأحداثها، بل بالصيغ التي تتبلور النظرة إلى الأديان الأكثر حداثة، تكتفي بالمراقبة من عالمها السماوي وتحت رعايته ، ولا تتراجع عن سموها وتعاليها بالهبوط إلى عالم الإنسان(الأرضي) وتتركه ليواجه مصيره.

فالمرض لا يعتبر مجرد حادث فيزيولوجي يصيب الجسد، والتي نفهم من خلالها أنه من الصعب عزله، بل يجب أن نعيد النظر إلى المريض الذي يعي آلامه و التغيرات في مصيره. كل هذا يمر من خلال علاقته مع جسده الذي فقد الثقة فيه

من أجل نظرة مغايرة

ألا يعتبر طرحنا لمشكلة إصابة الإنسان بالمرض تعني أننا نعيش خداعا حول طبيعتنا وما نطالبها به. لا يمكن أن نستمر في الإدعاء أن الصحة هي الثابت في طبيعتنا و أن المرض انحراف أو حالة شاذة أو مجرد أعراض، فالمرض هو جزء من هذه الطبيعة التي تشكلنا. إن مرضنا مثل موتنا. لنقذف بأنفسنا في عزلتها ووحدتها وفي وحدة آلامنا، فلا يمكن أن يتهرب الإنسان من مصيره الطبيعي، ولا يمكن أن نغفل عن أننا كائنات/ أجساد فانية.لا يمكننا أن نتهرب من أن الجسد الذي يشكلنا و يتآكل هو جسدنا. في تجربة المرض ندرك أننا غير مالكين لجسدنا. فجسدنا لا يخوننا و لا يتخلى عنا و لهذا لا يمكننا إدانته. لا يمكن أن نطالب أكثر من طبيعتنا، سواء من خلال رفضنا للمرض أو تهربنا منه، فالمريض ينتظر الكثير، ينتظر أن يشتغل جسده بشكل جيد وهو لم يوجد لذلك.

لا يجب علينا أن ننتظر من الله أن يمنحنا الصحة والعافية الدائمة، كما لا يجب أن نطلب من الطبيب أن يعيدها إلينا، فتحت قوة تألمنا وقلقنا الوجودي نوجه نحن المرضى رسائل و استجداءات بدون أن نحصل على جواب. هناك مأساة وفقدان للتوازن في حياة المريض، فقدان التوازن هذا يجعله لا يستطيع تأمين حياة حرة ومستقلة، ففقدان الصحة من خلال ما لا يمكن إصلاحه يكشف أن المرض ليس حالة استثنائية وليس ظاهرة غير عادية، وغير قابلة للتحمل، فالأعضاء تتكلم لغة المرض من خلال رفضها القيام بالمهام التي كانت تقوم بها، وننسى نحن أنها مجرد مهام. نفهم كذلك أننا جميعا مرضى مع وقف التنفيذ، وأن جسدنا سيعبر بالألم عن صعوبات التلاؤم مع العالم. أن تكون مريضا هو بكل بساطة القدرة على مواجهة صيرورة وتحولات الجسد في الزمن. صيرورة بيولوجية التي هي بالأساس صيرورة حياتنا، ولهذا لا ينبغي أن نجعل أجسادنا كموضوع للإدانة و الاحتجاج.

فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي أنه يتألم و أنه مريض. والقدرة على الوعي بالألم هي جزء من التلاؤم النقدي مع الجسد في مجال ما نسميه صحة الإنسان. والصحة هي القدرة على تحمل مسؤولية شخصية أمام المرض، أمام الألم، الضعف، القلق، وأخيرا أمام الموت.

المستشفى العمومي و إعادة الإنتاج الاجتماعي : دراسة مقارنة لثلاثة مستشفيات عمومية جامعة سيدي محمد بن عبدالله كلية الأداب و العلوم الإنسانية . ظهر المهراز. فاس 2005

انّ جسدي ليس أمامي، في مواجهتي، بل أنا جسدي.كما يؤكد ذلك ميرلوبونتي

تعكس هذه الصياغة تقابلا بين تصورين فلسفيين لمفهوم الذات/الأنا و الجسد، فقول أنا ممتلك لجسد تحيلنا إلى تصور ديكارت الذي حافظ على الثنائية التقليدية نفس/جسد من طبيعتين مختلفتين، وأن الأنا جوهر فكري/روحي خالص مستقلّ تمام الاستقلال عن الجسد. و أن الفكر يتحكم في الجسد .

وبين قول “أنا جسد” تحيل إلى تصور سبينوزا الذي أكد وحدتهما. انّ النّفس و الجسد لهما وجود واحد، و ذلك كاتّحاد اللّه و الطّبيعة. اللّه حالّ في الطّبيعة. اللّه يتجلّى في الوجود. و ذلك ما سمّي في الفلسفة بوحدة الوجود Panthéisme التي نجد لها جذورا عند ابن عربي وامتدادا عن هيجل.

لقد استطاع ميرلوبونتي طرح اشكالية الجسد الخاص كإدراك هناك فصل جذريّ بين الذّات التّي تدرك ( هي ذات غير متجسّدة، طبيعتها فكريّة و نفسيّة ). و الجسد كموضوع للإدراك. ويمكن القول أن الفصل بين الجسد المدرك وبين الجسد كموضوع للإدراك هو الذي قاد الفكر إلى ثنائية جسد/روح.

تقيم ملحمة جلجامش مفارقة بين ضعف الإنسان مقارنة بسمو وتعالي الآلهة من خلال المرض، النوم ، النسيان والموت.

مفهوم الدهشة /قلق عند شوبنهاور

يعتبر باسونز مؤسسا لعلم اجتماع الصحة حاول خلال دراسة له أن يكشف عن الأطر الاجتماعية للاعتراف للأفراد بوضعية المريض من خلال وضعه لشبكة من حقوق المريض على المجتمع وواجبات المريض اتجاه المجتمع.

تقوم النظرية التطورية ل لامارك على مبدأ التكيف(التلاؤم) مع الوسط لاستمرار الكائنات والكائن الذي لا يستطيع التكيف ينقرض، وهي على خلاف النظرية التطورية لداروين التي تقوم على مبدأ الصراع و الانتقاء أو الانتخاب الطبيعي، أي البقاء للأصلح.

تدل ملحمة جلجامش أن الإنسان انشغل بسؤال الموت الحتمي منذ القدم، فجلجامش البطل الأسطوري ثلثاه من الآلهة الخالدة وتلته الباقي من البشر الفاني،لأن كما جاء في الملحمة، إن الآلهة قد استأثرت بالحياة وقدرت على البشرية الموت، ولكن أليس هذا من البديهيات لدى جميع البشر؟ بالرغم من كونها من البديهيات على مستوى العقل والمنطق فإنها على مستوى الوجدان الفردي وغريزة الحياة ونزوعه نحو حفظ النوع هي موضع حيرة أليمة في قرارة كل إنسان.

في رسالة وجهها أبيقور إلى أحد طلابه ميميسيس

[11] غالبا ما لا نميز بين الخوف والقلق كإحساسين مختلفين فالقلق ينتج عن إحساس يستبق أحداث محتملة، فهو توتر ناتج عن تحسب لحادث لم يتحقق بعد(الموت هنا). بينما الخوف موضوعه أو سببه حاضر و متحقّق بالفعل.

روني ديكارت التأمل السادس في كتابه الميتافيزيقا.

* د. زارو عبد الله

باحث في العلوم الاجتماعية

لمراسلة الكاتب : A [email protected]

رأيان حول “مقاربة أنثروبولوجية لجسد المريض.. المريض يسائل طبيعته”

  1. أخي الكريم الله يبارك فيكم على المعلومات الجد قيمة، و حقيقة أنا بحاجة الى كم هائل منها لأني بصدد التحضير للدكتوراه.
    و طلبي اليكم سيدي الكريم الرجاء المساعدة في الحصول على معلومات أو توجيه حول الموضوع التالي:
    -الأنتروبولوجيا الاجتماعية و الصحة النفسية-
    فأنا بحاجة كبيرة جدا لمعرفة أهم النظريات و الرواد المهتمين بمثل هذه المواضيع، و أعيد تقديم شكري الكبير لكم على مجهوداتكم القيمة جدا في تنوير و بعث نخبة عربية مثقفة على الصعيدين الاجتماعي و الأنتروبولوجي.
    أنتظر ردكم على بريدي الالكتروني

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.