مفهوم الجيل: وجهة نظر أنثروبولوجية

3 -MJ-100%.tif

مختارمروفل*

  بداية أود أن أشير إلى أن ورقتي هي ذات طابع تمهيدي أولي مفتوح، الغرض منها هو الوقوف على بعض الطروحات والمفاهيم والنصوص، ذات الصلة بالمعرفة الأنثروبولوجية  قبل التأصيل للموضوع والتعرض إلى بعض مراجعه وإحالاته، وتحليل مقولاته ومفاهيمه فانه لا بد – وعلى طريقة الأنثروبولوجيين -، من الحديث على ما يعرف باسم الحدث المؤسس L’événement fondateur، أو حتى  باسم المركز النشط بحسب تعبير C. Geertz  والذي يمنح قدرا من الملموسية ومن الصورة المادية التي تفرزها الوقائع الاجتماعية، وترد في شكل روايات وأحداث اعتباطية، التي لا يتشكل ولا يتكون المجال اليومي إلا منها و بها.

  أسوق في هذا المضمار رواية، أنقلها من كتاب Comprendre les jeunes  الذي صدر سنة 2004 تحت إشراف كل من E.Dechavanne, O. Galland, F. Dubet  حيث يورد هذا الأخير في نصه المعنون ” la querelle du jeunisme  “، القصة التالية  يقول الكاتب متحدثا، “Roberto Saggani  عامل إداري في السادسة والأربعين من عمره  أبيض الشعر أنيق المظهر، كان ذات مرة بصحبة فتاة شابة في وقت متأخر

  من الليل، توقف في طريقه عند إحدى الدكاكين ليشتري سجائر، فجأة هب نحوه مجموعة من الشباب فأوجعوه ضربا، إنهم -يقول الكاتب في وصفه-، ” مصطادو الكهول les chasseurs de vieux، يحتقرون كل من هو كهل، فعندما يجن الليل تتشكل العصب وتنظم الفرق من أجل اصطياد الكهول، شعارهم في ذلك ” السن جريمة “، لكن R.Saggani  ليس بالمسن الهرم، فلقد استطاع أن ينفذ بجلده هاربا من المجموعة التي تطارده فهو لم يستطع أن يفلت منها إلا بعد بعدما ألقى بنفسه في النهر، حينئذ توقفت المجموعة عن مطاردته، وانكفأت لتبحث عن كهل آخر تلاحقه في المدينة “(1).

  إذا ما أردنا التنقيب عن العمق الأنثروبولوجي لمثل هذه الحادثة، فانه بإمكاننا القول أن ثمة ” عطل ” ما استجد على مستوى العلاقة التي تربط في ما بين الأجيال، فالفوارق العمرية هنا والصراع على خلفية السن، مؤشرات ذات مضامين سوسيولوجية دالة، بإمكاننا أن ننقل عن G. Balandier إيضاحا وتفسيرا يندرج في ذات السياق، حيث يذكرG. Balandier  في كتابه Anthropo-logique التالي، ” إن المجتمعات المسماة بالمتقدمة والمنظمة على أعلى مستوى، المفتوحة على التحضير السريع والتغير المستمر، تعرف اليوم أزمة مواصلة واستمرار، ذلك أن الأوساط الإجتماعية والفضاءات الثقافية حديثة التشكل، أدت إلى ضعف العلاقات في ما بين الأفراد، والتي كان يفترض أن تكون “طبيعية ” وليست نتيجة إكراهات وضغوط أدت إلى تراجع الأطر التقليدية، من تنشئة وعائلة  وجماعة ومحيط قريب، حيث فقدت فعاليتها وأنتجت قطائع عمرية “(2).

  شرحا منا وتعقيبا على نص Balandier نقول، أن الكاتب يضع موضوعة الأجيال ضمن الرؤية المقارنة، التي تقارن العتيق بالحديث والطبيعي بالاصطناعي، فالقطائع العمرية بحسب تعبيره هي وليدة ” التقدم ” والتحديث، والذي من جملة مفرداتها نجد العقلنة وتعميق تقسيم العمل والتفرع والتخصص فيه، فالعطل الذي ينتاب التدفق

  والتلاحق الطبيعيين للأجيال، يرجع سببه بالأساس إلى هذا التحول، لكن ألا يعتري هذا الطرح شيء من النمطية ومن المثالية؟، ألا يتساوق مع فكرة البيان الشيوعي التي تذكرنا بفكرة الصراع الطبقي، الذي بدأ في الوقت الذي حلت فيه ” الجماعة البدائية ” ؟.

    في الحقيقة كلنا يعرف أن الانتماء إلى المجتمعات الطبقية، لم يتحقق أبدا على الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة، فما جدوى إذا الحديث عن المجتمع وكأنه مهيكل من مجموعات متجانسة عمريا قوامها العناصر المعاصرة، في حقيقة الأمر إن التوجه الأنثربولوجي القاعدي للموضوع، يفضل البعد التركيبي l’imbrication في ما بين” الأشكال الفيضية والأشكال الفر دانية ”  L. Dumont (3)، أي بمعنى أنه لا يمكن عزل العلاقات الاجتماعية القديمة عن العلاقات و البنى الراهنة، والتي هي في ذات الوقت على صلة مع العلاقات الممهدة للبنا المستقبلية، لكن هذا الاستنتاج الشامل والمتوازن المتوصل إليه لم يأتي إلا بعد دراسات ميدانية جزئية سبقته، كلها دارت رحاها من حيث توصيف إشكالية الأجيال، إما بتبني نموذج التتابع والتواصل تارة، أو تبني نموذج القطائع والفواصل تارة أخرى، لنسلط الضوء على هذه الأعمال، ونرى كيف يشخص أصحابها الروابط التي تنشأ في ما بين الأجيال.

1-نموذج التتابع:

  هذا النموذج يعد أكثر بساطة وأقل إثارة للجدل، وذلك لاعتماده على مؤشر كوني ألا وهو مؤشر السن يمثل هذا الاتجاه الباحث البريطاني، R.Lowie حيث كتب في ذلك كتابا أسماه primitive society والذي ترجم إلى الفرنسية سنة 1935 تحت عنوان traité de la sociologie primitive، تتلخص فكرة الكاتب في الرؤية التالية ” يعد عامل السن مؤشرا محددا لكل حياة اجتماعية، إنه عامل تبعية يربط المجموعة المتقدمة بالمجموعة المتأخرة  منها تبعية الإنسان الصغير بتبعية الإنسان الكبير، يليها بعد ذلك تبعية إجتماعية ناشئة عن تنشئة إجتماعية، تنقل له فيها الشيفرات والنماذج والقيم الاجتماعية

  المسيطرة (..) بالمختصر المفيد إن ” سلطة الآباء ” على الأبناء هي سلطة طبيعية، نابعة عن مشروعية الإنتاج البيولوجي و الاجتماعي للجيل الجديد ” (4).

2-نموذج التناحر:

  يمثل هذا الاتجاه الباحث الألماني H. CHurtz الذي ينظر إلى المجتمع، على أنه جسم مجزأ ومقسم إلى فئات عمرية، تمنحه الديناميكية والنشاط العميق، ” إن الفواصل الاجتماعية هاته، هي من ينشأ منها التعارض و الاستقطاب، الحاصل في ما بين الفوارق الجيلية، وهي بحسب الكاتب على نوعين اثنين، أولا فوارق و قطائع خاصة بالجنس، ثانيا فوارق وقطائع خاصة بالجيل، الأولى تتعلق بمكانة النساء داخل المجموعات القرابية ومكانتها الهامشية ضمن المجموعات الأخرى، عند هذه النقطة الأخيرة، يلاحظ أن ” الجمعيات النسوية ”  ماهية في حقيقتها، إلا ” تقليدا هزيلا ” للجمعيات الذكورية المحضة، ما يعني أن مجتمع النساء هو ارتداد هش وهزيل تابع لمجتمع الرجال، للإشارة فان هذه الجزئية المتصلة بالفوارق الجنسية، يمكن إدراجها تحت نظام القرابة، أي بمعنى أن صورة اللامساواة والسيطرة في شكلها العام الحاصلة في ما بين الجنسين، نابعة أساسا من النظام المجتمعي، القائم على توزيع وحداته وفق طبقات جنسانية وفوارق عمرية، فيعزل النساء عن الرجال ويحولهن إلى قيمة وسائلية لا أكثر ولا أقل.

  لكن لا يتم ذلك إلا ضمن معالجة اجتماعية معقدة، تتصل بمجتمع الذكور ذاته، بحيث يتراتبون وفق النظام الذي يسمح بالإستفادة، من النساء والأشياء والسلطة والرموز وعليه فإن فكرة اللامساواة هنا هي على درجتين اثنتين، تسهم في إنتاج الأزواج التالية: التهميش/الاندماج، القرابة/التراتبية، السلطة/التبعية، كل ذلك من أجل اكتمال البناءات المتداولة والسائدة في ما بين الجنسين، وبالتالي تكون الأولى جنسانية تؤدي بشكل طبيعي إلى الثانية المتمثلة في الجيلية.

3-الفوارق و القطائع الخاصة بالجيل:

  هي فوارق ذات طابع اجتماعي تراتبي، فوضعية الوالد le géniteur الشرعية تمنح للأب كامل الشرعية في الدخول إلى المجتمع والمشاركة في إنتاج الجيل الموالي، يعزز هذا المعنى ما ذكره Skunner عن المجتمع Mossi بإفريقيا، بحيث يفصل لنا المسألة على النحو التالي قائلا ” أن التناحر الذي ينشب في ما بين الأب والابن، نابع عن ثقة الأب أن تقدم إبنه إجتماعيا لا يمر إلا بعد موته، وأن ترقية الثاني تنشأ بعد انمحاء الأول فالإبن ليس أمامه (سواء تم ذلك بوعي أو من دون وعي منه)، سوى تمني زوال الوالد، فالآباء الموسين هم أكثر الآباء حساسية لفكرة تعويضهم بأبنائهم، فيبدون اشتياقا ورغبة وأملا في تقدم أبنائهم شريطة أن يكبروا، بهذا المعنى فإن مكانة الكبار في المجتمع الموسي تتحول إلى قانون لكنه بمستويين متمايزين، الأول يكرس زوج الأب/الابن مدعوما بالقبول المطلق من قبل الأبناء  الثانية قائمة على نموذج الكبار/الصغار، التبعية هنا تكون فيه للمتناحرين من الجيلين في شكل متوافق، يأخذ فيه الكبار مكانة الآباء نسبيا، لكن دونما إقصاء لمن هم أقل سنا وذلك لإكتمالهم إجتماعيا.

    لقد كان لـ Schutz فضل السبق في الكشف على العلاقات الاجتماعية الأصلية وعن إستمرارها تحت التراكم المتواصل للتاريخ، وعن حكمها في الأنساق الرمزية والأنساق الخاصة بالعلاقات البيئية، في ما بين الأشخاص والمجموعات .

4-نقد و تحفظ:

  يرفض R. Lowie هذا المخطط إجمالا ويعتبره مواربا ومعزولا، ويطرح بدله نموذجا ثلاثيا، فيرى أن المجتمعات بإفريقيا السوداء les sociétés négro-africaines تنظم بحسب الفئات العمرية وفق الترتيب التالي،1-جيل الآباء، 2-جيل الأبناء 3-جيل الأطفال كجيل ما دون المجتمع infra sociale وهو في طور التحضير، G. Dumézil

  في الكتاب الذي صدر سنة 1971، تحت إشراف D. Paulme والذي يحمل عنوان  classes et associations d’Age en Afrique de l’Ouest، نبه إلى أن نظام الفئات العمرية الثلاثة، يتجاوب تماما مع نظام السلطات الثلاثة المكرس بداخل هذه المجتمعات وهو كالآتي، السلطة العليا و السلطة الوسطي ثم السلطة السفلى(5).

  لكن نظام الطبقات العمرية هذا، وبحسب التحقيقات الميدانية بإفريقيا، تذكر أنه لا يتم نقلا عن S.N Eisenstadt إلا بعد تكوين يخضع للإجراءات طقوسية، تعالج مسألة البلوغ والإنتقال إلى مكانة سن النضج، عملية يطلق عليها Nadel اسم ” مدرسة التمدينécole de civisme”، فعملية الترقية لا تقتصر فقط على السن الفيزيقي وحسب، إنما أيضا تخضع لسن الاجتماعي، الذي يدرج ضمنه نظام الطقوس والرموز والمعايير.

  الحديث على الفئات العمرية وتنشئة الأفراد ثم إعادة إنتاجهم، يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن دراسة M. Mead, Stady of the génération ففي حديثها عن الفوارق في ما بين الأجيال coupure des générations، اقترحت الكاتبة ثلاثة وجوه ثقافية الوجه الأول يتمثل في الجيل اللاحق الذي يأخذ كل شيء من عند الجيل الذي سبقه، الوجه الثاني تخوض فيه مختلف الأجيال تجربتها الخاصة بها، مع احتفاظها على قدر من التبعية للجيل السابق عنها، الصنف الثالث، يتعلق بعلاقات مقلوبة أو معكوسة كأن يفرض الشباب معرفتهم الناتجة تجاربهم وتصوراتهم ومشاريعهم، الصنف الثالث هذا غير مسبوق، عرفته وتعرفه المجتمعات المرهونة بالتحول السريع، بحيث أنتج ” ثورة ثقافية حقيقية”  (6) .

  إن مخطط M. Mead كالذي سبقت الإشارة إليه– الثنائي منه والثلاثي – لفت انتباهنا إلى مبدأ التراتبيات، وذلك بدأ من التجمعات الدون الإنسانية infra humaine أو الدون الإجتماعية، يقدم نفسه كناظم وكمبدأ للتناحر، فالتربية تباين وتنظم وذلك من منطلق التعارض والإختلاف.

على سبيل الخلاصة:

  إن السن والجنس عاملين أوليين طبيعيين وتكوينيين، يحتاج إليهما كل مجتمع في مساره البنائي، لذلك تعد التنشئة الجنسانية التي تخضع لسلطة ونفوذ الكهول والكبار بشكل عام ويضبط أبجدياتها نظام الطقوس والرموز، آلية مشروعة تتم من خلال علاقات الزواج – ذلك أن علاقات المتعة الحرة تعد مضادة للمجتمع – الذي لا يقصد منه الإشباع الغريزي وحسب، إنما أيضا مراقبة رهانات المجتمع من قبل الكبار، بتعبير آخر إن رابطة الزواج تعمل على تحويل الرابطة الجنسانية إلى رابطة مجتمعية .

الهوامش :

1) DUBET F, GALLAND O, DESCHAVANNE (dir.) , «Comprendre les jeunes» Comprendre, revue de philosophie et de sciences sociales, no 5, octobre 2004

2) BALANDIER G, 1974, Anthropo-Logiques, PUF, Paris.

3) Dumont (L), 1983, Homo hierarchicus, Essai sur l’individualisme,    une perspective anthropologique sur l’idéologie moderne, Paris, Edition. Seuil,

 بالإمكان مراجعة ذات المصطلح في ديمون لوي ، 2006 مقالات في الفردنة منظور أنثر وبولوجي للأيديولوجية الحديثة، ترجمة د. بدر الدين عركوكي، مركز دراسات الوحدة العربية: ط1، بيروت.

(4 R. Lowie, 1936, traité de la sociologie primitive, Paris, Payot.

(5 PAULME D, 1971, classes et associations d’Age en Afrique de l’Ouest, Paris, Pion.

(6 M. Mead, 1971, Le fossé des générations, Paris, Denoël Gonthier.

المراجع باللغة العربية:

ديمون لوي ، 2006 مقالات في الفردنة منظور أنثر وبولوجي للأيديولوجية الحديثة، ترجمة د. بدر الدين عركوكي، مركز دراسات الوحدة العربية: ط1، بيروت.

المراجع باللغة الأجنبية:

BALANDIER G, 1974, Anthropo-Logiques, PUF, Paris

DUBET F, GALLAND O, DESCHAVANNE (dir.), « Comprendre les jeunes », Comprendre, Revue de Philosophie et de sciences sociales, N 5, octobre 2004.

Dumont (L), 1983, Homo hierarchicus, Essai sur l’individualisme, une                             perspective anthropologique sur l’idéologie moderne, Paris, Edition le                  seuil, 267P.

Lowie R, 1936, traité de la sociologie primitive, Paris, Payot.

Mead M, 1971, Le fossé des générations, Paris, Denoël Gonthier.

PAULME D, 1971, classes et associations d’Age en Afrique de l’Ouest, Paris, Pion.

*أستاذ بقسم علم الاجتماع جامعة معسكر، و باحث متعاقد

بالمركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (CRASC ) بوهران.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.